إن من خرج في صبيحة بليلة بغض إهابه من باب سري تدفع مزلاجه يد محبوبة، فمشى بخطواته الحائرة إلى حيث لا يدري، فاجتاز مجتمع الناس ولم يسمع صوت صديق يناديه، واتجه إلى مكان منعزل ضاحكا باكيا دون أن يعلم ما يضحكه وما يبكيه، ومسح وجهه بكفه مستنشقا آثار ما عبق عليه من عبير، ونسي فجأة جميع ما أتاه على الأرض إلى ذلك الحين. إن من وجه خطابه إلى الأشجار النائمة على جانب طريقه، وما يرفرف عليها من أطيار، ثم رأى نفسه بين الناس مضيعا رشده في حبوره، فجثا شاكرا ربه على ما أنعم عليه، لهو هو العاشق، وله أن يموت غير متذمر من القضاء؛ لأنه امتلك المرأة التي يحبها.
الجزء الرابع
الفصل الأول
علي أن أقص الآن ما آل إليه غرامي وما طرأ على نفسي من تغيير بالرغم من عجزي عن تعليله، ولكنها الحقيقة آليت ألا أكتمها.
وما كان مضى على استسلام مدام بيارسون لي أكثر من يومين، وكنت خرجت من الحمام في الساعة الحادية عشرة ليلا، وسرت أجتاز المنتزه قاصدا بيتها وقد استولى علي المرح حتى جعلني أقفز على الطريق قفزا ويداي ممدودتان نحو السماء.
ووجدت بريجيت واقفة على قمة السلم مسندة ذراعها إلى عارضته وأمامها شمعة تتقد، وقد كانت في انتظاري، فما لمحتني حتى سارعت إلى لقياي، وما مضت لحظة حتى كنا في غرفتها وقد أوصدنا الباب علينا.
وبدأت تعرض علي ما بدلت من زي شعرها مجاراة لذوقي، وتشير إلى إطار أسود نزعته عن الجدار لأنني رأيته قاتما محزنا، وإلى ما وضعت من الأزهار في جوانب الغرفة، وأخذت تسرد علي ما فعلت إذ كانت تشهد عذابي، مؤكدة لي أنها أرادت مرارا مبارحة البلاد هربا من غرامها، ولجأت إلى كل حيطة تقيها مني، واستشارت عمتها ومركانسون والكاهن، وأنها كانت حلفت أن تموت ولا تستسلم، وعادت تذكر من كلماتي ولفتاتي ما جعل كل هذا الحذر هباء. وكانت ترفق كل قسم من اعترافاتها بقبلة تلقيها على وجهي، وكنت أبديت استحساني لبعض ما في غرفتها من التحف، فأصرت على إعطائي إياها لأضعها على رف غرفتي، وطلبت مني أن أضع لها منهاجا تسير عليه في حياتها اليومية؛ لأن ما يهمها في الحياة إنما هو رضاي، فما تعبأ بأقوال الناس، وصرحت لي بأنها كانت فيما مضى تعللت بالقيل والقال، فما كان ذلك إلا بقصد إبعادي عنها. أما الآن فهي تصم أذنيها عن كل صخب، ولا تسمع إلا لهاتف قلبها يحدو بها إلى التمتع بالسعادة؛ إذ إنها بلغت الثلاثين وما يفسح العمر لها مجالا طويلا للتنعم بحبي لها، كانت تقول هذا ثم تسألني: هل ستحبني طويلا؟ أصادقة هذه الكلمات العذبة التي أسكرتني بها؟
وتعود عاتبة علي لتأخري في الحضور إليها، وتنتقد العطر الذي يفوح مني، فتراه حينا قويا، وآونة ضعيفا، ثم تقول إنها ألقت الخفين عن رجليها لأرى أن بياضهما يضاهي بياض يديها، ثم تستدرك قائلة: إنها ليست جميلة، وتتمنى لو أن لها أضعاف هذا الجمال، وقد كانت على مثل ما تتمنى وهي في الخامسة عشرة من سنيها.
وكانت تتكلم وهي تخطر في الغرفة يطير بها المرح، ويشعل خديها الغرام، فكأنما لم تكن تعلم ما يجب أن تقول وأن تفعل لتهب روحها وجسدها وكل مالها.
وكنت مستلقيا على المقعد أستمع إلى أقوالها فأشعر عند كل عبارة من عباراتها أن ساعة سوداء من ساعات حياتي الماضية تنفصل عني، فكنت أتطلع إلى كوكب السعادة يطل من الأفق علي وكأنني شجرة جرى في أعراقها نسغ الحياة، فهي تنفض أوراقها الجافة لتكتسي خضرة جديدة.
অজানা পৃষ্ঠা