وكنت أجلس أحيانا على مقعد منفرد في قاعات المراقص، فأنظر إلى النساء يتمايلن بأثوابهن الحمراء والزرقاء والبيضاء، وقد عرين المعاصم وضفرن الشعور كأنهن الحور يسكرهن النور في أجواء التناسق والجمال، فكنت أقول في نفسي: ما أروع هذه الزهرات تقطف وتستنشق! وما ستكون كلمة هذه الأقحوانات الأخيرة إذا ما نثرت وريقاتها واحدة واحدة لتستنطقها سرها. إنها لتقول لك: قليلا ثم قليلا، ثم لا أحبك حتى ولو قليلا.
تلك هي حقيقة العالم، تلك هي نهاية ابتساماتك، أيتها الأزهار.
على هذا الشفير المروع تتمايلن بأوشحتكن المزيفة بالأزهار، أيتها الراقصات، وعلى هذه الحقيقة الشنعاء تتمايلن كألمها على رءوس أرجلكن الصغيرات.
وكان ديجنه لا يفتأ يقول لي: والله ما رأيت سواك من ينظر بجد إلى كل هذه الأمور. إنك ترفع عقيرتك شاكيا لفراغ الحق من شرابه، وإذا فرغ الحق ففي الأقبية من الشراب دنان، وإذا فرغت الدنان فالروابي مكسوة بالكروم تعتصر لتملأها. اتخذ لك من الكلام المعسول صنارة، وتقدم إلى نهر السلوان متصيدا فيه امرأة جميلة تلهو بها، حتى إذا أفلتت من يدك لا يفوتك اصطياد سواها. تمتع بالحب الذي تتوق إليه بكل جوارحك، ولا تضيع أيام شبابك، ولو كنت أنا مكانك لكنت اختطفت ملكة بدلا من التلهي بدرس التشريح . هذه هي النصائح التي كنت أسمعها في كل حين، وعندما كان يحين زمن الرقاد كنت أتلفع بردائي وقلبي يتفجر ألما، فأهرع إلى سريري لأجثو أمامه باكيا مصليا ضاربا على هذا القلب كما كان غاليله يضرب الأرض قائلا: ومع هذا فإنها تتحرك ...
الفصل التاسع
وكنت وصلت إلى أشد المهاوي ظلاما عندما دفعني اليأس وثورة الشباب إلى فعلة قررت اتجاه حياتي.
كنت كتبت إلى عشيقتي أنني لا أريد أن أراها بعد، فقمت بما عاهدت النفس عليه، غير أنني ما امتنعت من تمضية الليالي تحت نافذتها جالسا على مقعد أمام بابها؛ لأراها تلوح لي كالخيال من حين إلى حين بين منفرجات ستائرها.
وبينما كنت في إحدى الليالي جالسا على عادتي وقد تملك الألم كل مشاعري، رأيت عاملا يسير على الطريق في ساعة متأخرة وهو يترنح سكرا، ويتمتم بكلمات لا تفهم تتخللها هتافات نشوة وحبور، ووقف هذا العامل بغتة وأطلق صوته مترنما، ثم عاود السير ورجلاه تقودانه تارة إلى يمين الطريق، وتارة إلى شمالها، حتى بلغ مقعدا مواجها لمقعدي أمام بيت آخر فانطرح عليه، وبعد أن تقلب برهة على ساعديه استغرق في الكرى.
وكان الشارع مقفرا، والهواء الجاف يهب على الأرض فيثير غبارها، وكان القمر في كبد السماء الصافية، يرسل أشعته الفضية على الرجل النائم، ولم يكن هنالك أحد سوانا، أنا والنائم الثمل، الذي لم يكن يشعر بوجودي وهو يتوسد الحجر القاسي كأنه على فراش وثير، وشعرت بأن حال هذا الرجل زادت في آلامي، فتمكنت من مبارحة مكاني الذي ما كنت لأبرحه، وما كنت لأستفيد من وجودي به لأطرق الباب، حتى ولو أغريت على ذلك بمملكة وتاج، وذهبت إلى قرب هذا الرجل النائم أتفرس فيه وأقول في نفسي: ما أعمق نومه! لا ريب أن رقاد هذا الرجل لا يقلقه شيء من الأحلام، ولعل زوجته تفتح في هذه الساعة لجار لها باب المسكن الوضيع.
إن أثواب هذا الإنسان عبارة عن أطمار بالية، وقد نحل خداه، وتجعدت يداه، فمن يكون هذا المخلوق إن لم يكن واحدا ممن لا يجدون كل يوم كسرة خبز يقتاتون بها، فهو إن نهض غدا من نومه ستعاوده جميع همومه، وتجتاحه جميع مصائبه، ولكنه هذا المساء كان يملك دريهمات مكنته من الدخول إلى حانة، فابتاع النسيان لأوجاعه. لقد ربح هذا الرجل في مدى أسبوع ما أناله ليلة رقاد هنيء، ولعله حرم بذلك أطفاله عشاء ليلتهم، ولكنه الآن بمأمن من آلامه، فلرفيقته أن تخدعه، ولصديقه أن يلج مسكنه الحقير كاللص، بل لي أنا إذا شئت أن أضرب على كتفه لأقول له: إن عدوا يهدد حياته، وإن النيران تلتهم مسكنه، فإنه لينقلب على جنبه الآخر ويعود مستغرقا في نومه.
অজানা পৃষ্ঠা