ما يقول الفلكيون عندما يتنبئون عن مرور مذنب في ساعة معينة، وهو الكوكب التائه في الأفلاك؟ ما يقول علماء الطبيعة عندما يرون حيوانات سابحة في قطرة ماء؟ أيعتقدون بأنهم هم مخترعو ما يتجلى لهم، وأن مرصدهم ومجهودهم يضعان للكون نواميسه؟
ما قال في نفسه - يا ترى - من وضع أول شرعة للناس عندما فتش عن حجر يضعه أساسا لبناء المجتمع، فهتف به هاتف من أعماق أحشائه يقول له: إن الحق للقوة؟ أمن أوجد العدل هو هذا المشرع يا ترى؟ وهل اخترع العار أول رجل اقتطف الثمر من أرض جاره وأخفاه تحت ردائه ملتفتا يمينا وشمالا وقد دب الرعب في قلبه؟ وما قولك في صاحب الحقل الذي سرقت أثماره فحرم نتاج جهوده؟ يلتقي السارق فلا يرفع عليه يدا، بل يشمله بعفوه ويقول له: إليك بما تريد من أثمار حقلي، فيرد الشر بالخير، ثم يرفع رأسه إلى السماء شاعرا بارتجاف في قلبه، وبدموع في عينيه، وبخشوع يطوي ركبتيه. أترى هذا الرجل أول من اخترع فضيلة المعروف؟
يا الله! لقد سمعت أذناي امرأة تكلمني بالحب ثم تخونني، وسمعت أيضا رجلا يكلمني عن الصداقة وهو يشير إلي بالانغماس في حمأة الدنس، ورأت عيناي امرأة تستخرط في البكاء ثم تطمع في مؤاساتي بعضلات ساقها، وهذه التوراة التي تحمل اسم الله ترد على سؤالي قائلة: «من يدري؟ وأية أهمية لكل هذه الأمور؟»
وسارعت إلى غرفتي المفتوحة أنظر إلى الفضاء الفسيح الباهت في وجومه صارخا: أصحيح أن العدم وراءك؟ أجب أيها الفضاء، أفليس فيك شيء سوى الأوهام تدفع بها إلى صدري وقد مددت إليك ذراعي؟
وكان الصمت العميق يسود جميع ما تطل نافذتي عليه.
ومر طير بجناحيه السوداوين ذاهبا في الهواء بصراخ يشبه الأنين ، فاتبعته بعيني وهو يمرق كالسهم إلى الأفق البعيد، ثم مرت فتاة صغيرة في الشارع وهي تغني.
الفصل الثامن
ومع هذا فقد أبت نفسي أن تستسلم لحياة اللهو والاستهتار؛ إذ كنت أتمثلها حالكة مفجعة، فقررت أن أحاول اجتنابها، وهكذا اقتحمت كثيرا من الآلام، وساورتني مرهقات الأحلام. ولو لم يكن غير حرارة الشباب ما يحول دون شفائي لكفتني أوجاعا وجهادا، فقد كنت أنى توجهت بلا عمل يشغل نفسي لا أفكر إلا في النساء، وإذا نظرت إلى إحداهن شعرت بهزة أنتفض لها انتفاضا، ولكم أفقت من نومي وجسدي يتصبب عرقا، فأترامى على جدران غرفتي بشهيق مختنق يطلب الهواء!
لقد كان من خير ما أسعدت به، وقلما يسعد الشبان بمثله، أنني أسلمت عفتي للحب، غير أن هذا الحظ قضى علي بأن أشرك طوال حياتي كل شهواتي بعاطفة الغرام، وذلك ما كان يدفع بي إلى الهلاك، فكنت وقد تسلط علي التفكير المستمر بالمرأة لا أملك خيالي من الجموح ليلا ونهارا في مآزق الحب الضلول، وفي مهاوي خيانة النساء.
امتنع علي أن أتصور إمكان الوصال بلا حب، فكنت لا أرعوي عن التفكير في المرأة قاطعا الرجاء من وجود الحب الصحيح، وذهبت الآلام في نفسي مذهبا أورثني شيئا من الخبل، فكنت أشتهي تارة أن أعذب جسدي أسوة بالرهبان لأميت شهواتي، وتارة أريد أن أندفع إلى الشارع أو الحقول أو أي مكان آخر لأنطرح على قدمي أول امرأة أصادفها مقسما لها أنني أحبها حبا أبديا.
অজানা পৃষ্ঠা