وقف يوما هذا الإمبراطور - الذي حسبه الناس خالدا - على أكمة أشرف منها على سبعة شعوب تتناحر، وما كان يدري أيمتد حكمه إلى آخر العالم أم يقف عند نصف العالم، فمر به عزرائيل، وبلمسة من طرف جناحه دفع به إلى عباب الأقيانوس الفسيح.
وبلغ دوي سقوطه آذان الدول المنطرحة على أسرة الاحتضار، فجلست تقاوم أوجاعها، ومد الملوك راحاتهم المتقلصة، فاقتسموا أوروبا، واتخذوا من وشاح القيصر مرقعات يستترون بها.
يوصل المسافر السير بالسرى، ويقتحم الحر والقر ووجهته مقر عياله، دون أن يشعر بثقل السهد، أو يبالي بما يحدق به من أخطار إلى أن يستقر بين أهله ويجلس أمام الموقد. حينئذ يحل عليه التعب، فلا يجد في عضلاته من القوة ما يستعين به على الزحف إلى مرقده. وما كانت فرنسا حينذاك إلا مثل هذا المسافر حين مات قيصرها فترملت، شعرت فجأة بما أثخنها من جراح، فسقطت لا تعي، واستغرقت في نومها حتى حسبها ملوكها الشيوخ ميتة، فطرحوا عليها الأكفان البيضاء.
ورجع الجيش القديم، فلولا أرهقها العياء، وعلا المشيب مفارقها، فعادت الأنوار تشع حزينة في باحات القصور المقفرة.
حينئذ أقبل رجال الإمبراطورية الذين جابوا الأقطار وملئوها دما على نسائهم الشاحبات، وقبلوهن متحدثين عن الغرام القديم، وتحولوا إلى مياه الغدران ينظرون فيها إلى وجوههم وقد خددها الهرم، فتذكروا أبناءهم وهم يقتربون إلى الحين الذي يذكر الإنسان فيه من يغمض له أجفانه.
وخرج الأبناء من المدارس، وإذ لم يجدوا لا سيوفا ولا دروعا ولا فرسانا، أجالوا الطرف مفتشين عن آبائهم، فقيل لهم إن الحرب قد انقضى عهدها؛ لأن القيصر قد مات، وإن صورتي ولنكتن وبلوخر معلقتان على جدران السفارات، وقد كتب تحت كل منهما: «مخلص العالم».
في ذلك الحين ربضت على أطلال العالم القديم شبيبة تتنازعها الهموم، وكان كل هؤلاء الشبان نقطا من الدماء المحرقة التي غمرت وجه الأرض، ولدوا في أحضان الحروب للحروب، وراودت أحلامهم طوال خمس عشرة سنة ثلوج موسكو وشمس الأهرام. وما كانوا خرجوا من مدائنهم، ولكن قيل لهم: إن أبواب كل من هذه المدائن تقود إلى عاصمة من عواصم أوروبا. لقد كان العالم بأسره ماثلا في خيال تلك الشبيبة، ولكنها كانت تجيل أبصارها على الأرض والسماء والطرق، فتراها كلها مقفرة خالية، ولا تسمع إلا رنين أجراس الكنائس تقرع الهواء من بعيد.
واجتازت الحقول أشباح ناحلة تتخطر على مهل ساحبة أردانها السود.
وطرقت الأشباح أبوابا أخرى لتبرز للسكان أوراقا أخلقها الزمان، وتأمرهم بإخلاء منازلهم، وانفرجت الحدود المقفلة عن رهط المهاجرين الذين هرعوا إلى فرنسا، ولم تزل على وجوههم آثار ما نزل من الخوف منذ عشرين سنة، وساد الصخب وعلا الضجيج، فدهش العالم لميتة واحدة تستجلب مثل هذا العدد الغفير من الغربان.
وجلس ملك فرنسا على عرشه وهو يقلب نظره في رياش قصره؛ خشية أن يكون قد تبقى عليه أثر من شارات الأمجاد البائدة ، فتألب حوله رهط الممالئين يمد بعضهم يد الاستجداء، فينفحهم بالمال، ويقدم البعض الآخر له صليبا فينحني مقبلا هذا الصليب.
অজানা পৃষ্ঠা