وما كانت هذه المرة الأولى التي تلجأ فيها بريجيت إلى تأنيبي، ولكم وجهت إلي جارح الكلام في ثورة غضبها! ولكن ما قالت في عراكنا الأخير لم يكن صادرا عن كبرياء جريحة، بل كان بيانا عن حقائق تمخض بها القلب طويلا، فما انبثقت منه حتى مزقته تمزيقا، وقد رأيت كل ما يحوط بنا من أحوال، وما أبديته من رفضي الرحيل معها يمنع تسرب أي أمل إلي.
فتيقنت أن بريجيت لن تقوى على إنالتي عفوها حتى ولو غالبت نفسها واستفزتها إليه، وما كان هذا الوسن العميق الذي سادها كأنه نوع من الموت لجأت إليه طبيعتها لتجاوز الألم حدوده فيها إلا برهانا على صدق يأسي من عودتها إلي، فإن سكوتها فجأة بعد هذا التدفق في بيانها، وهذه العذوبة التي تجلت على ملامحها عند ثواب رشدها ورجوعها إلى الحياة حزينة مروعة، وحتى هذه القبلة التي رنت كصدى لقبلتي، كل هذا كان يؤذن بأن الدهر قد سكن بيننا، وأن حبل وصلنا قد انبت إلى الأبد بين يدي.
وكنت أتفرس فيها وهي ممددة في وسن العياء المرهق، فأتيقن بأنني إذا عدت إلى ما سبب هذه الغيبوبة بعد أن تفيق منها، فسأدفع بها إلى الرقدة التي لا انتباهة بعدها، وسمعت الساعة تدق في سكون الليل فشعرت بأن الساعة المنقضية تتوارى طاوية معها حياتي.
وما أردت أن أستنجد بأحد، فأوقدت المصباح الصغير وشخصت إلى إشعاعه الضئيل يذهب بددا في الظلمة كذهاب خطرات أفكاري التائهة الحائرة.
وما كنت فكرت حتى اليوم في إمكان فقد بريجيت، بالرغم من أنني صممت مائة مرة على هجرها، ويعلم كل من ابتلي بالعشق قيمة مثل هذا العزم في ساعات اليأس، أو في دقائق الغضب، وما ينقطع المحب عن الوله بمعشوقته ما دام واثقا من حبها له، وهكذا كنت أنا، ولكنني لأول مرة شعرت بأن قضاء لا يرد ينتصب مفرقا بينها وبيني، فانهدت قواي وأحنيت الرأس قرب سريرها وقد أدركت مدى شقوتي، ولكن شعوري المتخدر لم يكن يقيس مدى آلامها؛ لأن روحي كانت تتراجع مرتاعة أمام ما يقتحمه تفكيري.
وقلت لنفسي: هذا ما أردته أنا لك؛ فقد انقطع كل رجاء في بقائك مع من تحبين. أنا لا أريد قتل هذه المرأة؛ فلا مناص لي إذن من هجرها، وذلك ما صممت عليه وسأحققه غدا.
وذهبت في تفكيري على هذا النمط دون أن أحاكم نفسي على ما جنت، ودون أن ألتفت إلى ما ورائي وإلى ما أمامي، فنسيت سميث وما كنت لأتميز السبب الذي قادني إلى هذا الموقف، وانحصر كل همي في التفكير لأعلم بأية عربة سأغادر المدينة في الصباح.
ومر علي زمن طويل وأنا على هذا السكون الغريب، فكنت كرجل أصيب بطعنة خنجر فلا يحس أولا بغير صقيع النصل، حتى إذا سار بضع خطوات في طريقه يقف مندهشا وقد زاغت عيناه، فيتساءل عما ألم به، وينفتح جرحه دافقا على مهل أوائل قطرات دمه، فلا يلبث أن يرى الأرض تخضب بالأحمر القاني، وملاك الموت يقبض عليه، فيهزه الروع فجأة ويسقط مصعوقا على الحضيض.
وكنت كمثل هذا الجريح ساكنا، والداهية الدهماء تحدجني بأنظارها وتتقدم إلي.
وبدأت أردد بصوت خافت الخطاب الذي وجهته بريجيت إلي وأنا أدور في الغرفة ، معدا ما كانت الوصيفة تعده لها، فكنت أتفرس في وجهها، ثم أذهب لألصق جبيني على زجاج النافذة ناظرا إلى وجه السماء المتجهم بالغيوم.
অজানা পৃষ্ঠা