مقدمة
بقلم مي
أراني راغبة في تقديم الطبعة الجديدة بكلمة تشير إلى كيفية تعريب هذا الكتاب، وتوضح السبب الذي حملني على استبدال اسمه الأصلي «الحب الألماني»
Deutsche Liebe
باسم «ابتسامات ودموع» الذي عرف به لدى قراء العربية. وأن أشرح ما يتناول هذه الطبعة من تغير يبدو في كل جملة تقريبا، ومن زيادة أتيت بها في صفحات كثيرة من أغلب الفصول.
على أني لا أكاد أذكر الترجمة الأولى إلا ويأخذ محيطي بالتلاشي، ويسقط القلم من يدي لأحدق في الصحيفة البيضاء كأنها آلة سحرية تستهوي الوسيط وتسطو عليه أسرارها. ولا يطول حتى تنتقش عليها صورة المكان الذي أظلتني يومذاك سماؤه ودوت حولي أصواته. هاك حفيف الأوراق، وتصفيق الأجنحة، وتغريد الأطيار على الغصون. ألا فاصغ إلى وقع أقدام السائرين في الطرق الحمراء الضيقة المتلوية بين أشجار الصنوبر صعودا إلى قمة أشرفت على المرتفعات والمنخفضات يسرة ويمنة، شرقا وغربا. وانظر جانبا إلى صنين وقد أثقلت ذروته ثلوج حولها انعكاس الأشعة ثغرا نورانيا يسر إلى صدر الفضاء بما توصله إليه أصداء الغبراء من شكاية وتأوه. تنبثق من جانبه سلسلة آكام تتساند مستديرة، مستطيلة، ناشزة، وتظل في انتقاص وتصاغر على انسجام وحسن دراية حتى تسجد بواقي الصخور منها على الشاطئ. كأن أعالي صنين أنفذتها برسالة إلى البحر لتعود بالجواب عليها . والبحر، آه! ترى ماذا يقول ذلك الأزرق الأفيح المائج بهدوء ودلال، كأنه أرجوحة الأثير تهزها أيادي آلهة الهواء لتنوم فيها طفلا عجيبا دهشت بجماله السماوات وافتتنت الأرضين بغرامه؟
نعم، ها أنا ذا في ظهور الشوير بلبنان، ذلك المصيف الهنيء. نحن في صميم القيظ وقد تقاطر المصطافون حتى ضاقت بهم المنازل والفنادق. والجماعات التي تباينت أفرادها علما وتهذيبا وارتقاء، وتنافرت عادات ومشارب وأطماعا، ها هي تعيش تحت سقف واحد، وتتبع في أمور جمة نظاما فردا وضع لضيوف النزل جميعا. ومن هذا الاجتماع بالغرباء، ومحاذاتهم أياما وأسابيع وشهورا، والجلوس وإياهم حول مائدة واحدة مرة بعد مرة، وحدة تنشأ وتتثبت بالتكرار، فضلا عن خبرة موفورة لدرس أخلاق الناس، وتمرين ميسور في أساليب المعاملة والإرضاء.
بيد أني بعد الأحاديث المسلية والضحك والائتناس أظل شاعرة بفراغ واسع، أظل متسائلة ماذا يعرف أولئك المتنادمون المتسامرون المغتابون، بعضهم من بعض، أظل تائقة إلى الوحدة والاختلاء تحت أشجار الحرج الصغير. لذلك سعيت في أن يبنى لي هذا الكوخ الضيق من خشب الغصون ويسقف بالأعشاب اليابسة، وليس في داخله من حطام الدنيا سوى مقعد وطاولة نضدت عليها كتب قليلة. وإنما دعي كوخي «الكوخ الأخضر» لأني جللت جدرانه من الداخل بنسيج أخضر. عدا عن أفنان مخضوضبة حنت عليه، وخضرة غضة أحدقت به من كل جانب. هنا تعرفت بمكس مولر وبكتابه الجميل. تعرفت به في الخلوة لأن الأرواح الكبيرة تنكمش في المحافل العادية ولا تتجلى إلا في العزلة لمن كان على استعداد لتلقي فيض بهائها.
كنت شرعت أدرس الألمانية في القاهرة إبان الشتاء ولم ينلني منها سوى عشرين درسا أو أكثر قليلا. ولما تزودت بالكتب قبيل الرحيل أضفت إلى حقيبتي كتابا ألمانيا لا غير، هو «الحب الألماني» هذا. وقد وقع عليه اختياري لأن السيدة البروسية التي تتلمذت لها ذكرته ممتدحة أسلوب مكس مولر المشبع فكرا ومعرفة على سهولته ورشاقته. ونسبت هذه الرشاقة وتلك السهولة إلى كون المؤلف شاعرا بفطرته ووراثته رغم اشتهاره بالعلم والبحث، وإلى كونه إنجليزيا بوالدته كما صار بعدئذ إنجليزيا بزوجته وباستيطانه إنجلترا أعواما طوالا، فكان له من إجادة اللغة الإنجليزية ومعالجتها والتأليف فيها مساعد قوي في تجريد جملته الألمانية من التطويل والصعوبة والإبهام الملازم لها غالبا عند كتاب الألمان، لا سيما العلماء والفلاسفة.
أنشأت أتصفح الكتاب في عزلة «الكوخ الأخضر» ولم أفرغ من الفصل الأول حتى تملكتني روحه الشعرية الفلسفية وأرهفت ذهني، فتمكنت من الإحاطة بالمعنى العام وإن فاتني من معنى المفردات كثير. وما أتيت عليه إلا وعدت أراجع قراءته مرات حتى ابتهجت بمحاسنه نفسي المنفردة. وعلى قصر باعي بالعربية التي كنت نشرت فيها مقالات قلائل، ومع أني لم يكن لدي معجم ألماني، استعنت بالقلم والقرطاس لأرسم بلغتي تلك الخطوط البديعة، ولو كان لي مقدرة مكس مولر الفكرية والإنشائية لما أفصحت عن حركات النفس بسواها. وقد قال لي أحد الأدباء عندما نشرت «ابتسامات ودموع» في ذيل «المحروسة» في الشتاء التالي، قال: «أسائل ذاتي ساعة أقرأ ذيل «المحروسة» أأنت ناقلة مكس مولر إلى العربية أم هو ناقلك إلى الألمانية؟» في هذه الكلمة، التي تخال تملقا للوهلة الأولى، حقيقة أولية هي كل قوة الكاتب الوجداني الذي إنما نحكم له بالتفوق لأنه أحسن التعبير، ليس عما يشعر به هو الكاتب، بل عما نشعر به نحن القراء. وكيف لا نحكم له بذلك وهو الغريب الجاهل أسرار قلوبنا قد اطلع على خفايانا وبسطها لنا وللعالمين. وكتاب «ابتسامات ودموع» من هذا القبيل آية سحر وبراعة، لا يقصر على الوصف، بل هو مهبط وحي للنفوس الحساسة. •••
অজানা পৃষ্ঠা