قال السائق في صوت حزين: الحالة خطر.
تحسست البرقية في جيبي وقلت: نعم. الحالة خطر.
قاطعتنا السيدة الكبيرة في المقعد الخلفي وقالت: صلوا على النبي. إن شاء الله ربنا يخزيهم وينصرنا عليهم.
صاح السائق: ربنا ينصرك يا حاجة.
قالت السيدة الكبيرة: البنت يا عيني فرحها الليلة.
اعترضت السيدة الصغيرة قائلة يا ماما. فهتف السائق: ربنا يتمم بخير ونشرب الشربات.
أظلم الطريق تماما فلم نعد نرى إلا ما يسلط عليه ضوء المصباح. الأشجار وأعمدة التليفون تفر بجانبنا مذعورة، ولفحات البرد تهب على وجوهنا فننكمش في ثيابنا. هل تحسين يا أمي الآن بالبرد أم تراك جسدا باردا ملقى على فراش بارد. ما أشد خجلي من هذه الأفكار! لكن أبي هو المسئول عن كل ذلك. لو أنه قال الكلمة الواضحة لأراحني. ثم ماذا أفعل لو وجدت السرادق أمامي؟ هل أملك أن أدخله وأواجه الناس وأصافحهم؟ هل ستسعفني عيني بالبكاء أم سأتجمد كما حدث لي عندما مات عمي ومت من الخجل أمام الأغراب الذين امتلأ بهم البيت؟ وماذا يفعل أبي حين يراني؟ هل تراه الآن إلى جانب أمي؟ أم في السرادق يتلقى العزاء ويشرف على توزيع القهوة وترتيب مكان يبيت فيه الضيوف؟ هل سيعانقني ويبكي أم سأسبقه أنا إلى البكاء وأرتمي على صدره؟ وكيف يا ترى يبدو الآن منظره منذ أن رأيته آخر مرة منذ شهور؟
آه يا أمي! لا بد أن أبي ما يزال كما هو من ثلاثة آلاف سنة، من أربعة، من خمسة وستة آلاف، يخرج كل صباح إلى الحقل ويعود إلى الكوخ، يتزوج ويخلف الأولاد، ينام هو وهم والجاموس والدواجن تحت سقف واحد. العمدة وشيخ البلد، صاحب الأرض وكاهن المعبد، ممثل السلطة وجناب اللورد، أفندينا في القصر العالي والملك الإله في القصر الكبير، الشقاء يا أمي كما هو، والصبر عليه كما هو. آه لو وجدتك حية، لو وجدت فيك النفس، إذن لحكيت لك كما كنت تحكين لي في ليالي الشتاء، لحكيت لك كل ما أعرف، كل ما نسيت. وسيجلس أبي على الحصيرة ويسبح بحمد الله ويستمع إلي. سقط فرعون وسدنة المعبد، اندحر بطليموس والإمبراطور، ذهب الخليفة والمملوك، زال الباشا والبك، انهزم راعي الهكسوس ونفقت خيول الفرس، امتص التراب دم فارس الصليب وغمر الطمي أطباق الجثث البيضاء والسمراء والسود. وبقيت يا أمي كما كنت، وبقي أبي كما هو؛ الهدمة الزرقاء على جسده، كسرة الخبز في يده، طعم المش على لسانه، الرمد في عينيه والنكتة على شفتيه، يضحك على حكامه المتوحشين، ينتصر على ظلمته ولو بعد حين؛ لأنه يا حبيبتي لا يستحق الظلم من الخالق ولا من المخلوق.
قال السائق: الحمد لله.
سألت: وصلنا؟
অজানা পৃষ্ঠা