12 «ومن فساد الظنون ظن من رأى أن النار تتحرك إلى فوق بالقسر، والأرض تتحرك إلى أسفل بالقسر، وكيف والأعظم يتحرك أسرع، خصوصا ظن من يظن من هؤلاء أن هذا القسر ضغط، وأن النار تعلو الهواء، والهواء يعلو الماء، والماء يعلو الأرض بسبب ضغط الكثيف للطيف من فوق، وكيف والاندفاع من الضغط يكون خلاف جهة الضاغط لا نحوه، ويكون انضغاط الأعظم أبطأ؟ فبين من هذا غلط من ظن أن الأجسام كلها تهوي إلى أسفل، ولكن الأكثف يضغط الألطف.»
ومن المتعذر أن تعرض بأوضح مما صنع علماء القرن الحادي عشر هؤلاء نظرية الضغط الجوي والضغط المائي، التي قام على اكتشافها مجد علماء القرن السابع عشر، وإنا لنأسف - حرصا على مجد ابن سينا - أن نحقق أنه أنكر صحة هذا الرأي متبعا تعليم أرسطو القائل: إن الخفيف يذهب إلى فوق وإن الثقيل يذهب إلى أسفل على أنهما مكاناهما الطبيعيان.
ثم إن فكرة المكان الطبيعي في فلسفة ابن سينا أدت إلى النتيجة الغريبة بعض الغرابة القائلة: «إن العالم واحد، وإنه لا يمكن التعدد.»
13
وسبب ذلك «أنه لا يمكن أن يكون لجسم واحد مكانان طبيعيان؛ فإذن الأجسام المتشابهة الصور والقوى حيزها الطبيعي واحد ووجهتها الطبيعية واحدة، فبين من هذا أنه لا يكون أرضان في وسطين من عالمين، وناران في أفقين محيطين من عالمين.»
وهناك مسألة مشهورة في القرون الوسطى، حتى علم القرن السابع عشر، وهي مسألة الخلاء، وقد تناولها ابن سينا بتفصيل، يزودنا بمثال ممتع عن حال المنهاج السكلاسي في ذلك العصر؛ وذلك أن ابن سينا يزعم أنه يثبت استحالة وجود الخلاء، وإليك مجملا لبرهانه: بدأ فيلسوفنا قوله:
14 «وأقول: أولا، إنه إن فرض خلاء خال، فليس هو لا شيئا محضا، بل هو ذات وكم وجوهر؛ لأن كل خلاء خال يفرض، فقد يوجد خلاء آخر أقل منه وأكثر، ويوجد متجزئا في ذاته، والمعدوم واللاشيء ليس يوجد هكذا، فليس الخلاء لا شيئا، وأيضا كل ما كان كذلك فهو كم؛ فالخلاء كم، وكل كم فإما منفصل وإما متصل، والخلاء ليس بمنفصل؛ لأن كل منفصل فإما أن يكون الانفصال عرضا له أو يكون لذاته منفصلا، وكل ما عرض له الانفصال فهو متصل بالطبع، وإن كان منفصلا لذاته فهو عديم الحد المشترك بين أجزائه، وكل ما كان كذلك فكل واحد من أجزائه لا ينقسم، وكلما كان كذلك فليس يمكن أن يقبل في ذاته متصل الأجزاء؛ فإذن الخلاء ليس بمنفصل الذات، فهو إذن متصل الذات. كيف لا وقد يفرض مطابقا للملاء في مقداره؟! وكلما كان كذلك فهو مطابق للمتصل، وكل ما طابق المتصل فهو متصل؛ فالخلاء إذن متصل، وأيضا الخلاء ثابت الذات متصل الأجزاء منحازها في جهات، وكل ما كان كذلك فهو كم ذو وضع.»
ويتابع ابن سينا هذا البرهان مثبتا أن الخلاء إذا كان موجودا فإنه يكون ذا مسافة، حائزا للأبعاد الثلاثة، قابلا للقياس بالذات، ثم يوضح كون «الخلاء ليس له مادة»؛ وذلك لأن «كل قابل للانفصال فله مادة؛ فإذن الخلاء لا ينفصل»، ثم يشرع في نقاش طويل حول امتناع التداخل لا يخلو من إمتاع.
وذلك أن الجسمين - كالمكعبين المتساويين - يمتنع تداخلهما؛ أي يستحيل استغراق كل واحد منهما الآخر، ويبحث ابن سينا عن كون هذا الامتناع واقعا بين المادتين من الجسمين، أو بين البعدين، أو بين البعد والمادة، أو بين كل واحد منهما مع كل واحد منهما، فينتهي إلى تمانع البعدين عن التداخل.
وهذا البرهان الذي هو على شيء من الجدوبة قد عرض على شكل أكثر سهولة في رسالة «عيون الحكمة»
অজানা পৃষ্ঠা