فالمنطق هو الصناعة النظرية التي تعرف أنه من أي الصور والمواد يكون الحد الصحيح، الذي يسمى بالحقيقة حدا، والقياس الصحيح، الذي يسمى بالحقيقة برهانا، وتعرف أنه عن أي الصور والمواد يكون الحد الإقناعي، الذي يسمى رسما، وعن أي الصور والمواد يكون القياس الإقناعي، الذي يسمى ما قوي منه وأوقع تصديقا شبيها باليقين جدليا، وما ضعف منه وأوقع ظنا غالبا خطابيا، وتعرف أنه عن أي صورة ومادة يكون الحد الفاسد، وعن أي صورة ومادة يكون القياس الفاسد، الذي يسمى مغالطيا وسوفسطائيا، وهو الذي يتراءى أنه برهاني أو جدلي، ولا يكون كذلك، وأنه عن أي صورة ومادة يكون القياس الذي لا يوقع تصديقا البتة، ولكن تخييلا يرغب النفس في شيء، أو ينفرها ويقززها، أو يبسطها، أو يقبضها، وهو القياس الشعري.
فهذه فائدة صناعة المنطق، ونسبتها إلى الروية نسبة النحو إلى الكلام، والعروض إلى الشعر، لكن الفطرة السليمة والذوق السليم ربما أغنيا عن تعلم النحو والعروض، وليس شيء من الفطر الإنسانية بمستغن في استعمال الروية عن التقدم بإعداد هذه الآلة، إلا أن يكون إنسانا مؤيدا من عند الله تعالى.»
وليلاحظ من هذه الديباجة مقدار الأهمية، التي يعلقها ابن سينا على الحد، وكيف قابل به القياس، عادا إياهما معا وسيلتين أساسيتين لفن المنطق، وتدل هذه الحال على اتساع الفكرة التي كونها عن هذا الفن، وهي ملاحظة تقوى - كذلك - باكتراثه لإدخال دراسة مختلف درجات اليقين، ودراسة جميع طرق الإقناع من البرهان الصارم حتى الإيحاء الشعري، إلى موضوع المنطق.
ومع أن ابن سينا فرض في «الإشارات» عين الغرض لهذا العلم، فإنه عرفه على وجه أجف وأوجز، حيث ترى الحدود التي أراد حصره فيها أحسن مما هناك، فقد قال في الإشارات:
3 «المراد من المنطق أن تكون عند الإنسان آلة قانونية، تعصمه مراعاتها عن أن يضل في فكره.»
ويظهر من هذا البيان أن قيمة المنطق عند ابن سينا أقل إيجابية منها سلبية؛ فلا تقوم وظيفة المنطق على كشف الحقيقة، فهذا من شأن خصائص الحواس والذهن الفعالة. وأما شأن المنطق، فيتجلى في وضع قوانين لممارسة هذه الخصائص وعصمتها من الضلال. وليست القوة الفاعلة التي تحصل على الحقيقة في القانون مطلقا، بل في الذهن الذي يرقبها، وهي ليست في الآلة، بل في العقل الذي ينتفع بها. وإذا أردنا أن نضيف وصفا إلى وصف مؤلفنا، قلنا: ليست الفروسة هي التي تحمل الفارس من مكان إلى آخر، بل الفرس، وإنما الفروسة تنفع الفارس في قيادة الفرس، وكذلك ينفع المنطق الإنسان في قيادة عقله ويعصمه من الزلات، ومع ذلك، فإن هذا الوصف في الانتقال يوجد عند ابن سينا نفسه، فقد ختم تعريفه في «الإشارات» بقوله: «فالمنطق، علم يتعلم منه ضروب الانتقالات من أمور حاصلة في ذهن الإنسان إلى أمور مستحصلة.»
4
وقد يكون من الممتع - من ناحية تاريخ التعليم الفلسفي - أن يصر على تقسيمات المنطق الذي لنا بالبيان السابق فكرة عنه، فمع أن أنواع المنطق لابن سينا قد كتبت بوضوح كبير، فإنها قسمت إلى فصول كثيرة، لا يبدو ترتيبها جليا أول وهلة، وكان فاتيه قد شعر بهذا النقص، فعرض في ترجمته تقسيما كثير الإحكام؛
5
وذلك أنه لاحظ أهمية ما أقام المؤلف من مقابلة بين الحد والقياس، فقسم الكتاب إلى ثلاث رسائل: إحداها في القياس، والثانية في الحد، والثالثة في السوفسطائية. ثم استند إلى التفريق بين المادة والصورة، فأتى بتقسيم فرعي لهذه الرسائل وفق ما للقياس والحد والسوفسطائية من مادة وصورة، فهذا الترتيب مما يرتضيه الذهن بعض الرضا، ولكن بما أنه غير جلي لدى ابن سينا، الذي ما كان ليرتبك في وسمه بسمة الوضوح لو أرادها، فإننا لا نرى وجوب الارتباط في ذلك.
অজানা পৃষ্ঠা