وذلك كله شبيه بأخلاق الشيخ الرئيس، ومعهود أعماله، ووثبات همته في طلب المعرفة والتفوق فيها على النظراء، وما كان مطلب من مطالب العلم على عهده ليتوفر عليه ثلاث سنوات، دون أن يوفي فيه على الغاية ويتمكن بين أساطينه وثقاته. فلا جرم يقول مفتخرا بالبلاغة في بعض شعره:
أما البلاغة فاسأل بي الخبير بها
أنا اللسان قديما والزمان فم
وهو فخر لا ينفرد فيه بالشهادة لنفسه؛ لأنها شهادة يزكيها أبناء زمانه وتقوم الأدلة عليها من شعره ونثره، ويرشحه لاستحقاقها أنه حفظ القرآن قبل العاشرة من عمره، وانطبع لسانه على فصاحته من باكر صباه، ثم أضاف إليه ما أضاف من محصول الآداب العربية والفارسية، فحق له أن يلقب بين الفلاسفة بالفيلسوف الأديب، وإن كان الأدب وحده لا يرتفع به إلى مثل مكانه في زمرة الحكماء.
فلو حسب الشعر وحده لابن سينا لحسب به بين أوساط الشعراء ولو تفرغ له لعله كان بالغا منه فوق هذه المرتبة الوسطى أو معدودا في الرعيل الأول بين أدباء المشرق من الأرومة الفارسية، ولكنه لم يخلق للشعر على ما نرى، فلم يخطئ في النصيب الذي أعطاه إياه من وقته، ولم يكن يعطيه من وقته إلا بمقدار تسلية المتسلي وتفكهة الحكيم وبطالة المشغول.
ومن هنا جاءته في شعره مزية غير مقصودة: وهي أنه استغنى عن التكسب به أو عن نظمه في الأغراض المفتعلة، فكان ينظمه فيما يحسه من أحوال حياته، وكان شعره كله دالا عليه في مختلف حالاته، مطبوعا بطابع مزاجه ودخيلة شعوره، متصلا بأسلوب تفكيره وطريقته في النظر إلى الأمور.
فكان الرجل محسودا مزاحما في ميدان الغلبة والطموح، فإذا شكا حسد الحاسدين قال:
عجب لقوم يحسدون فضائلي
ما بين عيابي إلى عذالي
عتبوا علي فضلي وذموا حكمتي
অজানা পৃষ্ঠা