وتفصيل ذلك أن «الأحد» عرف ذاته وتأملها، فكان «العقل» من هذا التأمل، وإن العقل يعقل الأحد فهو أحد مثله، وإن كان دونه في مرتبة الوحدانية، ثم يعقل ذاته فينشأ من عقله لذاته عقل دونه وهو «النفس» ... أو هو القوة الخالقة التي أبدعت هذه المحسوسات.
ومن البديه أن صدور الجسم من الجسم ينقصه ويخرج شيئا منه ينتقل من المعطي إلى الآخذ فينقص بانتقاله. أما صدور الفكرة من العقل فلا تنقصه ولا تجرده من شيء فيه، وعلى هذا المثال نفهم صدور العقل عن «الأحد» الذي لا يعتريه نقص بحال من الأحوال.
والنفس - وهي المرتبة الثالثة في الوجود عند أفلوطين - تتجه إلى العقل فتنسجم معه في مقام التجريد والتنزيه، وتتجه إلى «الهيولى» فتبتعد عن التجريد والتنزيه؛ ولهذا تخلق الأجسام وتضفي عليها الصور على سبيل التذكر لما كانت تتأمله، وهي في عالم القدرة الكاملة أو عالم الصور المجردة. فهذه المحسوسات، وهي كالظلال للمعقولات قبل أن تبرزها النفس في عالم المحسوسات، أو هي كأطياف الحالم وهو يستعيد بالرؤيا ما كان يبصره بالعيان.
فالمحسوسات كلها أوهام وأحلام، وكلها غشاء باطل يزداد بعدا من الحقيقة كلما ابتعد من العقل وانحدر في اتصاله بالهيولى طبقة دون طبقة، فإن العقل دون «الأحد» والنفس دون العقل، والمحسوسات دون النفس، وهكذا تهبط الموجودات طبقة بعد طبقة حتى تنحدر إلى «الهيولى» التي لا نفس معها، وهي معدن الشر في العالم؛ لأنها سلب محض يحتاج أبدا إلى الخلق: وهو الإيجاد أو الإيجاب.
النفس
وقد صدرت النفس الفردية من النفس الكلية، ولها كالنفس الكلية التي صدرت منها اتجاهات. فهي باتجاهها إلى النفس الكلية إلهية صافية، وباتجاهها إلى المحسوسات والأجساد حيوانية شهوية. وليست النفس عند أفلوطين ملازمة للجسد كما يقول أرسطو، بل هي جوهر منفصل عنه سابق له كالمثل الأفلاطونية، فلا تقبل الفناء، ولا يحصرها الزمان أو المكان، وهي تصدر من النفس الكلية اضطرارا كما صدرت النفس الكلية من العقل الأول. مستجيبة لطبيعة الإصدار في ذلك العقل، وللشوق الهيولاني الذي يترفع بالهيولى إلى منزلة المحسوسات فالمعقولات.
الشر
والشر في العالم هو «الهيولى» لأنها سالبة تنزل بالمعقولات والروحيات التي تلابسها. ولا محيد عن الشر مع وجود الهيولى وقدمها وضرورة الملابسة بينها وبين العقل والنفس في دور من أدوارها. وعلى النفس أن تجاهدها وتنتصر عليها وعلى شهواتها، فإن أفلحت عادت إلى النفس الكلية خالصة مخلصة، وإن لم تفلح عادت إلى الجسد مرة أخرى، ولقيت في كل مرة جزاءها على الذنوب التي اقترفتها في حياتها الجسدية الماضية. ويجري الجزاء دقة بدقة على سنة العين بالعين والسن بالسن والجروح قصاص. فمن قتل أمه مثلا يعود إلى الحياة الجسدية امرأة ويقتله ابنه تكفيرا عن ذنبه وإبراء له من وصمته التي تلزمه ملابسة الهيولى حتى يتطهر منها.
الحرية الإنسانية
ولا حرية للإنسان كما رأيت؛ لأن وجوده ضرورة يستلزمها الصدور وملابسة الهيولى. ولكنه يقاوم تلك الضرورة بجهاد الشهوات، فيترقى من مرتبة التأمل إلى مرتبة الكشف، وينتقل من شتات الحس إلى استجماع العقل إلى وحدة «الأحد» ورضوان الكمال، فتجزيه ضرورة الارتقاء عن ضرورة الانحدار. ولا محل بينهما لشيء من الاختيار، وإن قال به أفلوطين في بعض الأحيان. •••
অজানা পৃষ্ঠা