ابن حنبل حياته وعصره – آراؤه وفقهه
ابن حنبل حياته وعصره – آراؤه وفقهه
ويجب أن نذكر في هذا المقام أنه لم يكن كل الذين يحضرون راغبين في علم أحمد، بل منهم من كان يذم به، ومنهم من كان يريد أن يتعظ به، ومنهم من كان يجيء، ليعرف حال ذلك الرجل الغريب، وينظر إلى هديه وخلقه وأدبه، ولقد جاء في المناقب لابن الجوزي عن بعض معاصريه أنه قال: ((اختلفت إلى أبي عبدالله أحمد بن حنبل اثنتي عشرة سنة، وهو يقرأ المسند على أولاده فما كتبت منه حديثاً واحداً، وإنما كنت أميل إلى هديه وأخلاقه وآدابه))(١).
٣٧- ويظهر أنه كان له مجلسان للدرس والتحديث (أحدهما) في منزله يحدث فيه خاصة تلاميذه وأولاده، والثاني في المسجد يحضر إليه العامة والتلاميذ، وقد رأينا كيف كان يذكر بعضهم أن درسه يبلغ من يحضره خمسة آلاف، وأن خمسمائة فقط هم الذين يكتبون أي نحو عشر الحاضرين الذين ينقلون عنه الحديث، ويروونه، وهم الخاصة من تلاميذه والمستمعين إليه، وخاصة الخاصة من تلاميذه هم الذين كانوا يذهبون إلى بيته ويتلقون عنه مع أولاده وأهله.
وقد كان وقت درسه في المسجد بعد العصر كما جاء في تاريخ الذهبي، ولعله كان يختار ذلك الوقت؛ لأنه قبل عتمة الليل، وبعد وهج النهار، ولأنه وقت راحة لأكثر الناس، فيتيسر لهم أن يحضروا؛ ولأنه وقت صفاء النفس، وفراغها من مشاغل الحياة، واضطرابها؛ فيكون الحديث أو الإفتاء، والنفس مستجمعة مقبلة، لا كليلة مدبرة، والدرس عند إقبال النفس أعمق أثراً فيها، وأكثر شيوعاً في نواحيها.
٣٨- ويلاحظ في درس أحمد ثلاثة أمور جعلت له أثراً في النفوس جيداً، وهذه الأمور هي:
أولاً: أنه كان يسود مجلسه الوقار والسكينة مع تواضع واطمئنان نفسي، ولم يكن الوقار في مجلس علمه وحده.
كان في كل مجالسه، لا يمزح ولا يلهو، لأن اللهو في جملته باطل، ولأن كل مزحة مجة من العقل، وقد علم مخالطوه منه ذلك، فكانوا لا يمزحون في حضرته قط
(١) المناقب لابن الجوزي ص ٢١٠
36