ابن حنبل حياته وعصره – آراؤه وفقهه
ابن حنبل حياته وعصره – آراؤه وفقهه
الأحاديث كلها، وإسنادها بطرائقها، ولكنه إذا حدث لا يحدث إلا من كتاب، أي مما كتب ونقل، خشية أن يضل عقله فينسى، فيحرف كلم الرسول عن موضعه، وذلك من فرط التقوى، وليستمسك بالعروة الوثقى التي كان عليها بعض السلف الصالح الذين كانوا لا يحدثون خشية أن يشبه لهم، كما ظنوا أنه يشبه لغيرهم.
والأخبار متضافرة بقوة حفظ أحمد، وكثرة حفظه، حتى إنه كان لا يدون الإسناد أحيانًا اعتمادًا على حفظه لها، ويدون الأحاديث دائمًا، ويحفظها، ولكن لا ينطق بها إلا إذا قرأها مما كتب كما نوهنا، حتى إنه لو سأله سائل عن حديث يحفظه بحث عنه في كتبه، ثم قرأه مما كتب، يروى أنه سأله رجل من أهل مرو عن حديث، فأمر ابنه عبد الله أن يحضر له كتاب الفوائد ليبحث عن الحديث فيه، ولكنه لم يجد، فقام بنفسه، وأحضر الكتاب، وكان عدة أجزاء، وقعد يطلب الحديث، وجاءه رجل يطلب الحديث وقال له تعلمني مما علمك الله، فدخل إلى منزله، وأخرج كتب الحديث، وجعل يملي عليه، ثم يقول للرجل اقرأ ما كتبت(١).
فأحمد مع جودة حفظه، وقوة واعيته، كان لا يعتمد على ذاكرته، بل يدون كل ما يسمع، وإذا أدلى بالحديث لا يدلى إلا مما يدون مع وعي تام، وحفظ عظيم - الأمر الثاني - الذي يجب التنبيه إليه قبل ترك الكلام في طلبه العلم، هو نوع العلم الذي كان يطلبه، ولا شك أن الذي كان يحتفي به، ويهتم بطلبه هو الحديث وآثار الرسول صلى الله عليه وسلم، وفتاوى أصحابه وآثارهم العلمية، وما كانوا يجتهدون من مسائل، فيحفظ كل ذلك، ويتفهمه، ويعرف مراميه، وغاياته، ويهتدي بذلك الهدى الكريم
٢٨ - ولكن هل معنى ذلك أن علم أحمد كان مقصورًا على الرواية لا يعدوها أي أنه كان لا يطلب غيرها ولا يتعرف سواها، هذا هو موضع النظر، وموضع الدراسة، وسيكون له مكان من الفحص في صدر الكلام في فقهه، ولكن ونحن الآن في مقام ما كان يطلبه من العلم يجب أن نشير إشارة تكون تمهيدًا، لما سنبينه في موضعه من القول إن شاء الله تعالى، لقد نوهنا إلى أن أحمد توجه في صدر شبابه
(١) المناقب لابن الجوزي ص ١٩٠، ١٩١
27