17

ابن حنبل حياته وعصره – آراؤه وفقهه

ابن حنبل حياته وعصره – آراؤه وفقهه

من عمره. ولقد قامت أمه على تربيته في ظل الباقي من أسرة أبيه، ولم يتركه أباه كلا يطلب المعونة، بل ترك له ببغداد عقارًا يسكنه، وآخر يغل له غلة قليلة وهي تعطيه الكفاف من العيش، ولم تعطه رافغ العيش ولينه وبسط الرزق، ويساره، فاجتمع له بتلك الغلة الضئيلة أسباب الاستغناء عما في أيدي الناس.

١٤- اجتمع لأحمد بهذا النسب، وبهذه الحال التي آل إليها أمره، وهو صبي في المهد، وبما كان له من نزوع نفسي من بعد خمسة أمور لم تجتمع لشخص إلا سارت به إلى العلا، والسمو النفسي، والبعد عن سفساف الأمور، والاتجاه إلى معاليها، تلك الأمور هي: شرف النسب والحسب، واليتم الذي ينشئه منذ جر الصبا معتمدًا على نفسه وتدبيره وبلائه، وحال من الفقر غير المقدع لا تستخذي به النفس، فلا يبطرها النعيم، ولا تصاب بطراوة الترف، ولا تذلها المتربة، ولا تلقي المتربة أنفها في الرغام، ومع هذه الخصال قناعة ونزوع إلى العلا الفكري بتقوى الله سبحانه وتعالى، وعدم الشعور بقوة لسواه، والتقى كل هذا بعقل ذكي، وفكر ألمعي.

وكان في هذا كشيخه الشافعي، نسب رفيع، ويتم، وحال من الفقر الذي يجد فيه الكفاف، ولا يستخذي بالحاجة، وهمة عالية، ونفس أبية، وعقل ذكي أريب ولقد تشابهت نشأة التلميذ والأستاذ تشابهًا غريبًا، فكلاهما كان بهذه الأحوال التي ذكرناها، وكلاهما كانت له أم ترأمه وتدفعه إلى العلا، وتكنف مواهبه لتزكو وتنمو ولا تجعلها تنطفئ أو تخبو.

١٥- وإن ما قلناه هنالك في تأثير هذه الأحوال في نفس الشافعي وتربيته نقوله هنا، ولقد قلنا هنالك إن النشأة الفقيرة مع النسب الرفيع تجعل الناشئ ينشأ على خلق قويم، ومسلك كريم، إن انتفت الموانع، ولم يكن ثمة شذوذ، ذلك بأن علو النسب يجعل الناشئ منذ نعومة أظفاره يتجه إلى معالي الأمور، ويتجافى عن سفسافها، ويترفع عن الدنايا، فلا يصيب الفقر نفسه بذل، ولا يتطامن عن ضعة، ولا يرضى بالدنية، ويسعى إلى المجد بهمة وجلد؛ ليرفع خسيسة الفقر،

16