105

ابن حنبل حياته وعصره – آراؤه وفقهه

ابن حنبل حياته وعصره – آراؤه وفقهه

والملوك لا يستغنون عن الناس، ولذلك سئل من الناس؟ فقال العلماء، ومن الملوك؟ فقال الزهاد، ومن السفلة؟ فقال الذين يعيشون بدينهم(١).

هذا هو ابن المبارك الذي حاول أحمد لقاءه، والأخذ عنه، فلم تواته الأحوال ولم تمكنه السن، وهذا الذي كان يشبه به أحمد، كما بينا في صدر كلامنا، وقد رأيت أن أحمد قد وجد فيه السجايا التي اشتهر بها أحمد من بعده، فالجود والزهد، والعيش بالقليل، والابتعاد عن الملوك، وعدم جعل الدين سبيلاً للرزق، وعدم الدنية في الدين، كل هذه كانت في أحمد بمنزلة السجايا، وهي في ابن المبارك كذلك، فهو أستاذه وإن لم يلقه.

١٠٧ - ونحن إذ نذكر هؤلاء الذين لم يلقهم، لا نغمط حق الذين التقى بهم، لأنهم كانوا من الزهادة والورع والعناية بالسنة، والابتعاد عن البدع، ما جعلهم أسوة لأحمد وقد سنوا له الطريق، وهم نقلة علم أولئك الذين غابوا عنه، ولم يرهم، ولم يلتق بهم، فسفيان بن عيينة، وأبو بكر بن عياش، ووكيع بن الجراح، وعبد الرحمن بن محمد ويحيى بن سعيد القطان، وغير كثير، كل هؤلاء كانوا أساتذة لأحمد، وكان لهم فضل من الورع والتقى، وكل أنار له السبيل.

ولكن ذكرنا سفيان الثوري، وصاحبه، لأن الإمام أحمد قد كان يشبه في أخلاقه بهما، ولأنه كان كما تدل أقواله وسيرته، وروايته يميل كل الميل إليهما، فلا بد أنه اتخذ منهما مثالاً عالياً، استقام على منهاجه، وبينه وبينهما من المشاكلة النفسية، ما تجعل علمهما وخلقهما يسريان إليه، والتأثر بالمثل العالية، لا يقل عن التأثر بالموقف، بل يزيد، لأنه يوجد الميل والنزوع، والاتجاه دائماً.

(١) الحلية ج ٨ ص ١٩٦.

104