بل لقد تعرض محيي الدين لمحنة أشد، بل لمؤامرة من تلك المؤامرات التي تدبر تحت أجنحة الظلمات، والتي طالما أودت بالعلماء ورجال الإيمان، وطالما جرحت أئمة الفكر والهدى، مؤامرة بدأت في حياته، ثم جرت في أعقابه ولاحقته إلى يومنا.
يقول الشعراني في مقدمة اليواقيت: «إن أفاقا من أهل اليمن غير واضح العقيدة، اسمه ابن الخياط، كتب مسائل في درج وأرسلها إلى العلماء بسائر أنحاء العالم الإسلامي، وقال: هذه عقائد الشيخ محيي الدين. وذكر فيها عقائد زائفة، ومسائل خارقة لإجماع المسلمين، وخدع العلماء ووقع كثير منهم في الشرك، فكتبوا بحسب السؤال وشنعوا على من يعتقد ذلك من غير تثبت، والشيخ عن ذلك بمعزل.»
ويعقب الفيروز آبادي على حادثة ابن الخياط قائلا: «فلا أدري أوجد ابن الخياط تلك المسائل في كتاب مدسوس على الشيخ، أو فهمها هو من كلام الشيخ على خلاف مراده، أو ابتكرها من عند نفسه؟»
وإنه للون من أعجب ألوان التشهير، يتفق تماما مع أحدث أساليب الدعاية الحديثة، وما ألفناه من الأقلام المأجورة المعاصرة، التي تطلقها الأمم لتنال من خصومها، ومن أفكارهم ومذاهبهم، بالتلفيق والاختراع والتمويه.
ولا عجب إذا رأينا الكثير من العلماء الذين وجه إليهم السؤال من ابن الخياط، وقد وقعوا في الشرك الذي نصب لهم بمهارة ودهاء؛ فقد رأوا بين أيديهم مسائل خطيرة تمس الدين، وما انعقد عليه الرأي بالإجماع؛ فملئوا الدنيا صياحا وتشهيرا، ولا يزال صياحهم وتشهيرهم تحمله أجنحة التاريخ، وتقذف به إلى الأذهان.
ويحدثنا الشعراني أيضا، فيقول: «إنه عندما أخذ في تأليف مختصر للفتوحات، رأى فيها أشياء كثيرة، لا تتفق مع ما عليه أهل السنة والجماعة؛ فحذفها وتوقف فيها.» ثم يقول: «لم أزل كذلك أظن أن المواضيع التي حذفتها غير ثابتة عن الشيخ محيي الدين، حتى قدم علينا الأخ العالم الشريف الشيخ شمس الدين محمد بن السيد أبي الطيب المدني، المتوفى سنة 955ه، فذاكرته في ذلك، فأخرج لي نسخة من الفتوحات التي قابلها على النسخة التي عليها خط الشيخ محيي الدين نفسه «بقونيه»؛ فلم أر فيها شيئا مما توقفت فيه وحذفته؛ فعلمت أن النسخ التي في مصر الآن كلها كتبت عن النسخة التي دسوا على الشيخ فيها ما يخالف عقائد أهل السنة والجماعة، كما وقع له ذلك في كتاب الفصوص وغيره.»
والشعراني وهو من أخلص تلامذة محيي الدين، وهو من أكبر من كتبوا عنه وترجموا له، يقرر هنا في صراحة لا تقبل الجدل: أن كل ما في الفتوحات مخالفا لعقائد أهل السنة والجماعة، قد دس على محيي الدين، وأن محيي الدين ضحية لمؤامرة دنيئة، سلاح الخصوم فيها: التلفيق والتزييف.
ويتابع الشعراني بحثه فيقول: «إنه لمقتنع كل الاقتناع بأن خصوم محيي الدين أضافوا إلى مؤلفاته زيادات كبيرة وأنطقوه بما لم يقله؛ ليصرفوا الجمهور عن حسن الظن به.»
ونحن ولا شك أمام حادث خطير من أحداث التاريخ، يجب أن تجتمع له عصبة من أولي القدرة والإيمان لدراسته وبحثه، وصون هذا التراث الإسلامي العظيم من التشويه الزائف الخطير المتعمد.
ويرى كثير من رجال التاريخ وأهل الرأي: أن الزائف في الفتوحات والفصوص وغيرهما من كتب محيي الدين، لم يتوله خصومه من رجال الفقه ولا من أهل السنة؛ وإنما تولى أثمه بعض رجال الباطنية، الذين عجزوا عن الجهر بآرائهم، فأضافوها إلى محيي الدين؛ لإيمانهم بأن شخصيته الجبارة بمكانتها وجلالها كفيلة بحماية تلك الآراء، أو تدعيمها وتقويتها.
অজানা পৃষ্ঠা