ويعقب محيي الدين على ذي النون فيقول: «ومن صفاتهم - رضي الله عنهم - النحول، وهو نعت يتعلق بأجسامهم تعلقه بأرواحهم.
فأما تعلقه بلطائفهم، فإن أرواح المحبين وإن لطفت عن إدراك الحواس، ولطفت عن تصوير الخيال، فإن الحب يلطفها لطافة السراب لمعنى أذكره؛ وذلك أن السراب يحسبه الظمآن ماء؛ وذلك لظمئه، لولا ذلك ما حسبه ماء؛ لأن الماء موضع حاجته، فيلجأ إليه لكونه مطلوبه ومحبوبه؛ لما فيه من سر الحياة، فإذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده عوضا عن الماء؛ فالمحب يجد عند كل شيء يقصده الله - سبحانه، فكما أنه - تعالى - يمكر بالعبد من حيث لا يشعر، كذلك يعتني بالعبد في الالتجاء والرجوع إليه والاعتماد عليه، بقطع الأسباب عنه عندما يبديها إليه من حيث لا يشعر، فيجد الله دائما عند فقد الماء المتخيل له في السراب، وهو رجوعه إلى الله لما تقطعت به الأسباب، وانغلقت دون مطلوبه الأبواب، ورجع إلى من بيده ملكوت كل شيء، وهو كان المطلوب به من الله، هذا فعله مع أحبائه يردهم إليه اضطرارا واختيارا بقطعهم من مطامع الدنيا، وبتقطع الأسباب دونهم؛ فكل شيء يطلبونه من الدنيا سراب.
وأما نحول أجسامهم فهو ما يتعلق به الحس من تغير ألوانهم، وذهاب لحوم أبدانهم؛ لاستيلاء الفكر عليهم في أداء ما كلفهم المحبوب مما افترضه عليهم، فبذلوا المجهود ليتصفوا بالوفاء بالعهود؛ إذ كانوا عاهدوا الله على ذلك، وعقدوا عليه في إيمانهم به وبرسوله، وسمعوه يقول آمرا:
يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ، وقال:
وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا
فهذا سبب نحول أجسامهم.
ومن نعوتهم أيضا الذبول، وهو نعت صحيح لأرواحهم وأجسادهم: أما في أجسامهم فسببه ترك ملاذ الأطعمة الشهية الدسمة، وهي مستلذة للنفوس؛ لأنهم رأوا أن الحبيب كلفهم القيام بين يديه ومناجاته ليلا عند تجليه ونوم النائمين، ورأوا أن الطعام يخدر الحواس، ويدفع إلى النوم، فهجروه ليكمل قيامهم بين يدي محبوبهم، فحقق الله لهم غايتهم بإعانتهم على ذلك.
وأما ذبول أرواحهم، فإن لهم نعيما بالمعارف والعلوم؛ لأن لهم نسبة بحبهم إلى أرواح الملأ الأعلى، وأرواح الملأ الأعلى ذابلة؛ ذلة وحبا. وفي الخبر أن إسرافيل - عليه السلام - وهو من أرفع الأرواح العلوية، يتضاءل في نفسه كل يوم لاستيلاء عظمة الله - تعالى - على قلبه سبعين مرة، حتى يصير كالنقطة المتوهمة.
ومن صفات المحبين: الغرام وهو الاستهلاك والفناء في المحبوب، بملازمة الذلة والكمد. قال - تعالى:
إن عذابها كان غراما
অজানা পৃষ্ঠা