كان محيي الدين على الصفاء الأول، وعلى الطهارة الأولى، عندما دخل خلوته، فتولاه ربه من بدايته، وفتح له خزائن مننه وعلمه، وأفاض عليه من هباته، ومد له سلما من الصفاء يعرج فيه قلبه إلى معارج الملأ الأعلى.
ولكن المتصوف المختار المصطفى، وإن لم يكن في حاجة إلى العلوم العقلية والنظرية، فهو في ضرورة لا تجادل إلى المرشد المربي، إلى الشيخ الذي يملكه ليسعده، ويصوغه ليجليه ويحليه صفاء ونورا.
مكانة الشيخ في الطريق
وللشيخ في التصوف مكانة عليا، فهو للطريق كالفنار للماء، لا يهتدي السائر إلا به، ولا يرشد إلا بنوره، إنه غير المعلم العقلي، والمربي المدرسي؛ فوظائفه فوق التعليم والتلقين؛ مراقبة القلب والخواطر والواردات. أو كما يقول محيي الدين: يعرف من مريده موارد حركاته ومصادرها، وعلوم الخواطر مذمومها ومحمودها، ويعرف الأنفاس والنظرة، ويعرف ما لهما وما يحتويان عليه من الخير الذي يرضي الله، ومن الشر الذي يسخط الله، ويعرف العلل والأدوية، ويعرف الأزمنة والألسن، والأمكنة والأغذية، وما يصلح المزاج وما يفسده، والفرق بين الكشف الحقيقي والكشف الخيالي، ويعلم التجلي الإلهي، ويعلم التربية وانتقال المريدين من الطفولة إلى الشباب إلى الكهولة، ويعلم متى يترك التحكم في طبيعة المريد، ويحكم في عقله، ومتى يصدق المريد خواطره، ويعلم ما للنفس من الأحكام، وما للشيطان من الأحكام، ويعلم الحجب التي تعصم الإنسان من إلقاء الشيطان في قلبه، ويعلم ما تكنه نفس المريد مما لا يشعر به المريد، ويفرق للمريد إذا فتح عليه في باطنه بين الفتح الروحاني وبين الفتح الإلهي، ويعلم بالشم أهل الطريق الذين يصلحون له من الذين لا يصلحون، ويعلم التحلية التي يحلي بها نفوس المريدين الذين هم عرائس الحق.
فهم أدباء الله العالمون بآداب الحضرة وما تستحقه من الحرمة، والجامع لمقامهم. إن الشيخ عبارة عمن جمع جميع ما يحتاج إليه المريد السالك في حال تربيته وكشفه، إلى أن ينتهي إلى الأهلية للشيخوخة، وجميع ما يحتاج إليه المريد إذا مرض خاطره وقلبه بشبهة وقعت له لا يعرف صحتها من سقمها، وحرمة الحق في حرمة الشيخ، وعقوقه في عقوقه.
ذلك هو جماع ما يمكن أن يقال عن مكانة الشيوخ في طريق الله؛ فهم أساتذة تلك الجامعة الربانية وأطباؤها، ولا بد للمريد السائر على الصراط الأعظم من أن يلجأ إليهم حتى تعصمه حكمتهم من الزلل، فطريق التصوف ليس طريقا سلطانيا هينا سهلا، إنه لطريق المزالق والشباك، والمحن والمهالك، والصبر والمجاهدة المرة، التي لا يقدر عليها إلا أهل الفتوة والقوة، والمناعة الروحية، والعظمة القلبية والعقلية، وفوق هذا وذاك: الاجتباء، والاصطفاء، والمحبة، والرضاء.
ولهذا خرج محيي الدين من خلوته، فقد نهل من العلم المصفى ما أذهل به ابن رشد، وما حير به أئمة عصره، ولكن التربية غير العلم، والطبيب غير المعلم، خرج ينشد الدليل والقائد، وحامل المصباح.
الخضر وشيوخه في الطريق
وكان أول شيوخه في الطريق الإمام أبو العباس العريني، أحد فحول أصحاب الأحوال والأنفاس، وطبق عليه شيخه شرعة الطريق، غير عابئ ولا ملتفت إلى علوم محيي الدين ومعارفه؛ ولهذا كان يجمح محيي الدين أحيانا، بل ويتمرد على ما اصطلح عليه من تسليم المريد المطلق لشيخه وهاديه لوثوقه من علمه وتمكنه من معارفه.
ولكن عناية الله - وهي سر هؤلاء الرجال، وهي الدعامة الأولى التي ترتكز عليها حياتهم، وتتلون بها شخصياتهم - قيضت له إمام شيوخ الطريق كافة الولي الخفي، الذي شهد له القرآن بأنه أوتي من لدن ربه علما لم يطقه موسى النبي، قيضت له الخضر؛ فأرشده وكفكف من غرب نفسه ورده إلى شيخه. يقول محيي الدين: «وذلك أن شيخنا أبا العباس العريني جرت بيني وبينه مسألة في حق شخص، كان قد بشر بظهوره رسول الله - صلوات الله عليه - فقال لي: هو فلان ابن فلان. وسمى لي شخصا أعرفه باسمه وما رأيته، فتوقفت فيه ولم آخذ بالقبول؛ لكوني على بصيرة في أمره؛ فتأذى الشيخ في باطنه، ولم أشعر بذلك فإني كنت في بداية أمري، فانصرفت عنه إلى منزلي، ولما كنت في الطريق بسوق الحنة بإشبيلية لقيني شخص لا أعرفه، فسلم علي ابتداء سلام محب مشفق، وقال لي: يا محمد، سلم إلى الشيخ مقاله فيما ذكر لك عن فلان، وسمى لي الشخص الذي ذكره أبو العباس؛ فقلت له: نعم. وعلمت ما أراد، ورجعت من حيني إلى شيخي؛ لأعرفه بما جرى، فعندما دخلت عليه كلمني قبل أن أكلمه. قال لي: يا أبا عبد الله، أحتاج معك إذا ذكرت لك مسألة يقف خاطرك عن قبولها إلى أن الخضر يتعرض إليك، ويقول: سلم لفلان فيما ذكره لك، ومن أين يتفق لك هذا في كل مسألة تسمعها مني فتتوقف؟ قلت: أهو الخضر؟ قال: نعم. قلت: إن باب التوبة مفتوح. فقال: وقبول التوبة واقع. فلما كان بعد مدة رأيت شيخي قد رجع إلى قولي في تلك المسألة، وقال لي: إني كنت على غلط في تلك المسألة؛ فقلت له: يا سيدي، علمت الساعة أن الخضر ما أوصاني إلا بالتسليم، وما عرفني بأنك مصيب في تلك الحالة؛ ولكن التسليم واجب.»
অজানা পৃষ্ঠা