وأن ما ذهبت إليه الفلسفة من شرح للسنن الكونية، وتمثيل لقدرة الله - سبحانه - وآياته في خلقه، لا تتعارض مع الدين، بل تؤيده وتدعمه.
وقد قال محيي الدين في البداية: نعم، ففرح ابن رشد، ثم استدرك محيي الدين، فقال: لا، فحزن ابن رشد، وأراد توضيحا، فقال: ... هل وجدتم الأمر في الكشف والفيض هو ما أعطاه النظر؟ فقال محيي الدين: نعم ولا.
نعم؛ لأن العقل قد يهدي إلى الله، ويدرك ويلمس أسرار الكون، ولكن العقل المجرد مع وصوله إلى تلك القمة، ينحدر وينزلق ويضل في المتشابهات، فضلا عن ابتعاده عن التعبد والتطهر، وتحلله من الكمالات الخلقية والشرعية.
والعقل المجرد، ليس له قيد يعصمه، ولا حد يتفق عليه بين العقول، التي تتطاير حول المعارف مع الريح في شتى الاتجاهات والغايات؛ ولذلك قال له محيي الدين: وبين نعم ولا، تطير الأرواح.
ولم يكن هذا الاجتماع فاصلا بين الرجلين العظيمين، ولا بين المدرستين المتناظرتين؛ فسعى ابن رشد إلى لقاء آخر مع الصبي، الذي كبر بالخلوة، وتعلم في الجلوة، وتفوق وما بقل وجهه ولا طر شاربه.
يقول محيي الدين: وطلب ابن رشد من أبي بعد هذا الاجتماع أن يلتقي بنا ليعرض ما عنده علينا، لنرى هل هو يوافق أم يخالف، فإنه كان من أرباب الفكر والنظر العقلي، فشكر الله الذي كان في زمان رأى فيه من دخل خلوته جاهلا، وخرج مثل هذا الخروج، من غير درس ولا بحث، ولا مطالعة ولا قراءة. وقال: «هذه حالة أثبتناها وما رأينا لها أربابا؛ فالحمد لله الذي أنا في زمان فيه واحد من أربابها، الفاتحين مغاليق أبوابها، والحمد لله الذي خصني برؤيته.»
ولم يسفر اجتماعهما الثاني عن نتيجة ترضي ابن رشد، ولكن الرجلين أحب كل منهما الآخر وأجله وأكبره .
ولم ينكر ابن رشد على محيي الدين علومه الكشفية، ولا طريقته في المعرفة والتلقي. بل حمد الله الذي من عليه؛ فأوجده في زمان فيه مثل محيي الدين، الذي دخل الخلوة جاهلا وخرج منها إماما مرشدا.
ولقد أطمع هذا الإيمان والحب محيي الدين في هداية ابن رشد، وجذبه إلى نطاق المتصوفة الراشدين؛ فأراد أن يجتمع به مرة ثالثة، وأعد عدة اللقاء، وهيأ الجو لما ينشد ويريد، ولكن الله أراد غير ما يريد.
يقول ابن عربي: «ولكن قبل أن ألتقي به أراه الله - تعالى - لي في منظر قد ضرب بينه وبيني حجاب رقيق، فكنت أنظر إليه منه ولا يبصرني؛ فعلمت أنه غير مراد لما نحن عليه، فما اجتمعت به حتى درج في سنة خمس وتسعين وخمسمائة بمدينة مراكش، ونقل إلى قرطبة ودفن بها.»
অজানা পৃষ্ঠা