مولده ونشأته
هو محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن عبد الله الحاتمي، من ولد عبد الله بن حاتم أخي عدي بن حاتم، من قبيلة طيئ مهد النبوغ والتفوق العقلي في جاهليتها وإسلامها، يكنى أبا بكر ويلقب بمحيي الدين، ويعرف بالحاتمي وبابن عربي لدى أهل المشرق، تفريقا بينه وبين القاضي أبي بكر بن العربي، وبابن العربي لدى المغاربة. وكما يسمي هو نفسه في كتبه، ويعرف في الأندلس بابن سراقة، ويصعد به نسب خئولته إلى الأنصار.
وقد وهبه الله للدنيا في ليلة خالدة في تاريخ الإسلام، ليلة تتجدد ذكراها كلما نطق مسلم بكلمة التوحيد وهتاف الإيمان؛ إذ كان مولده في يوم الإثنين سابع عشر من رمضان عام 560ه في «مرسية» - بضم الميم وسكون الراء وكسر السين - أي: في الشهر الذي أنزل فيه القرآن وهبط وحي السماء، وفي اليوم المماثل ليوم الفتح والنصر، يوم بدر الأغر الميمون، ولد تحت ظلال تلك الذكرى؛ فكان فتحا ونصرا.
ومرسية مهبط مولده بلد إسلامي، أنشأه المسلمون في الأندلس في أيام الأمويين، وهي في شرق الأندلس، إحدى مفاتن الجزيرة الخضراء بكثرة المنازه والبساتين ودور العلم ومساجد الطاعة والعبادة.
وهو سليل أسرة عريقة في العلم والتقوى، عراقتها في الحروب والنضال، كان جده الأعلى عبد الله الحاتمي أحد قادة الحروب والفتوحات، وكان جده الأدنى أحد قضاة الأندلس وعلمائها، وكان أبوه علي بن محمد من أئمة الفقه والحديث، ومن أعلام الزهد والتقوى والتصوف. ولنترك محيي الدين يحدثنا عن أبيه، فقد وصف لنا في الجزء الأول من الفتوحات أحوال الأولياء بعد مماتهم، فمن كان عبدا خالصا لربه في الأولى، كان في الثانية ملكا له جاهه وسيادته، ومن كان معرضا زاهدا في مظاهرها؛ فلا يحجبه الموت ولا ينال منه الفناء عند صعود روحه إلى خالقها، فمن صفات صاحب هذا المقام: أن من نظر في وجهه وهو ميت يقول فيه: حي. ثم يقول: «ولقد رأيت ذلك لوالدي - رحمه الله - فإنا دفناه على شك مما كان عليه في وجهه من صورة الأحياء، ومما كان عليه من سكون عروقه وانقطاع نفسه من صورة الأموات، وكان قبل أن يموت بخمسة عشر يوما أخبرني بموته، وأنه يموت يوم الأربعاء، وكذلك كان، فلما كان يوم موته، وكان مريضا شديد المرض، استوى قاعدا غير مستند، وقال: ... يا ولدي، اليوم يكون الرحيل واللقاء. فقلت له: كتب الله سلامتك في سفرك هذا، وبارك لك في لقائك. ففرح بذلك، وقال لي: جزاك الله يا ولدي عني خيرا، فكل ما كنت أسمعه منك ولا أعرفه، وربما كنت أنكر بعضه، هو ذا أنا أشهده، ثم ظهرت على جبينه لمعة بيضاء تخالف لون جسده من غير سوء، لها نور يتلألأ، فشعر بها الوالد، ثم إن تلك اللمعة انتشرت على وجهه إلى أن عمت بدنه. فقبلت يده وودعته وخرجت من عنده، وقلت له: أنا أسير إلى المسجد الجامع إلى أن يأتيني نعيك؛ فقال لي: رح ولا تترك أحدا يدخل علي، وجمع أهله وبناته، فلما جاء الظهر جاءني نعيه، فجئت إليه، فوجدته على حالة يشك الناظر فيه بين الموت والحياة، وعلى تلك الحالة دفناه، وكان له مشهد عظيم؛ فسبحان من يختص برحمته من يشاء، فصاحب هذا المقام حياته وموته سواء.»
هذا هو النبع الأبوي الزكي، الذي أنجب محيي الدين، أما نبعه من حيث خئولته، فهو سليل الأنصار الأطهار، الذين لا يسلكون فجا إلا سلكه الرسول - صلوات الله عليه - معهم، ولنترك محيي الدين أيضا يحدثنا عن خاله الصوفي صاحب الأحوال والأنفاس: «كان خالي أبو مسلم الخولاني يقوم الليل، فإذا أدركه الإعياء ضرب رجليه قائلا: أنتما أحق بالضرب من دابتي، أيظن أصحاب محمد - صلوات الله عليه - أن يفوزوا به دوننا، والله لأزاحمنهم عليه، حتى يعلموا أنهم خلفوا من بعدهم رجالا.»
1
وهكذا درج محيي الدين بين بيت والده، ودار خاله، في جو عامر بنور التقوى ، فيه سباق حار نحو الشرفات العليا للإيمان، وفيه عزمات لرجال أقوياء، ينشدون نصرا وفوزا في محاريب الهدى والطاعة.
وانتقل والده إلى إشبيلية، إلى حاكمها السلطان محمد بن سعد، وهي عاصمة من عواصم الحضارة والعلم في الأندلس، وفيها شب محيي الدين ودرج، وما كان لسانه يبين، حتى دفع به والده إلى أبي بكر بن خلف عميد الفقهاء، فقرأ عليه القرآن الكريم بالسبع في كتاب الكافي، فما أتم العاشرة من عمره حتى كان مبرزا في القراءات، ملهما في المعاني والإشارات، ثم أسلمه والده إلى طائفة من رجال الحديث والفقه، يذكرهم لنا الإمام شمس الدين بن مسدي في روايته عن محيي الدين؛ إذ يقول: «كان جميل الجملة والتفصيل، محصلا لفنون العلم أخص تحصيل، وله في الأدب الشأو الذي لا يلحق، والتقدم الذي لا يسبق، سمع في بلاده في شبابه الباكر، من ابن زرقون، والحافظ بن الجد، وأبي الوليد الحضرمي، والشيخ أبي الحسن بن نصر ...»
ثم لا يذكر لنا التاريخ بعد ذلك شيئا عن شباب محيي الدين، ولا عن شيوخه، ومقدار ما حصل من العلوم والفنون. ولكن محيي الدين أرخ نفسه وجلا حياته، فهو يذكر لنا في الفتوحات: أنه قد أعرض عن العلم والشيوخ، وأنه قد اتجه بروحه إلى محاريب الله، ومهابط إلهامه، إلى التفكر في خلق السموات والأرض، وإلى الذكر الدائم المطهر الملهم.
অজানা পৃষ্ঠা