لا يؤخذ العقل الساذج مأخذ الدهشة إذا سمع اليوم أن الكون كله عدد، وأن طبيعة العالم المحسوس من طبيعة الفكر المجرد، أو طبيعة المعنى الغني عن التجسيم.
ولكن كيف كان موقع هذا القول عنده حين سمع قبل نيف وعشرين قرنا أن الوجود كله عدد، وأن «الكلمة» أصل كل شيء، كما قال بعض الفلاسفة اليونان نقلا عمن تقدمهم من الكهنة والمفكرين؟
كيف كان موقع هذا القول عنده حين سمع باللوجوس “Logos”
لأول مرة؟ وحين سمع معها أو قبلها بالنسب الهندسية التي تتفرق موجودات الكون المادي كلها فلا تتمخض عن شيء سواها؟
كان هذا كلاما أشبه بالتخريف، أو هو التخريف عينه، وظل أناس من المطلعين إلى عصر الذرة يسمعونه فلا يصفونه بأكثر من أنه هراء، ولم يكن قول من الأقوال أبعد في الشطط عند جمهرة الناس من إحالة هذه الموجودات إلى فكرة خالصة، أو إلى عدد لا يعرفون معه ما هو المعدود.
وقد كان حقا من الإعجاز في التفكير أن يستطيع عقل قبل خمسة وعشرين قرنا أن يشف تلك الشفافية بهذه الأجسام ذات الأوزان والأحجام.
كان إعجازا لو كان معوله كله على الطفرة من الحس واللمس إلى التفكير المجرد أو الصوفية الرياضية، ولكنه في الواقع لم يكن كله طفرة من هذا القبيل، وقد ننظر إلى خطواته القريبة عيانا إذا تذكرنا تاريخ السحر، وفهمنا منه ذلك التضامن في البديهة الإنسانية بين ملكة التشخيص والرمز، وملكة التجريد والتعميم.
كان الناس يفهمون من عمل الساحر منذ آلاف السنين أنه يحرك الطبيعة وعناصرها بكلمة يعرفها، وبأعداد مقدسة يوفق بينها فتعمل في القوى العلوية والسفلية عملها.
كان بتلك الكلمة يبطل الأحجام والأوزان، ويجعلها في يديه كالهواء أو أخف من الهواء، وكان يلقي الكلمة أو يجمع العدد فيحرك الجبال، ويزلزل الأوتاد، ويطير بالأجسام، وينفذ إلى ما وراء الحجاب، ولا يبتعد منه بعيد أو يتعسر عليه عسير.
ولم يكن أصحاب العقيدة في السحر فلاسفة يجردون الأجسام وينظرون من ورائها إلى الحقائق في العقل الإلهي، أو في عقل من العقول العليا، ولكنهم كانوا أناسا حسيين واقعيين يفهمون أن الساحر يعمل بالكلمة ما يعمله كل منهم حين يأمر إنسانا مثله فيطيعه، وغاية ما هنالك أن الساحر يأمر بالكلمة أرواحا واعية، وأن الطبيعة كلها أرواح.
অজানা পৃষ্ঠা