وكان من عقائد أوريجين أن التمييز بين الخير والشر فطرة في كل موجود عاقل يدرك ويختار، ولا استثناء في ذلك للشياطين عامة، ولا لرئيسهم الأكبر إبليس، فهم لم يخلقوا منحرفين مضللين، ولكنهم انحرفوا وضلوا بما داخلهم من الكبرياء والتمرد والحسد، فغلبتهم الشقوة، وعز عليهم أن يستمعوا لنداء الخير والمحبة والسلام، فأقبلوا على الشر وأمامهم سبيل الصلاح يمضون فيه لو سلست له قيادتهم، ورفعوا عن أعينهم تلك الغشاوة التي وضعوها عليها بأيديهم، ولا بد لهذا الضلال من نهاية بعد زوال المحنة وانقضاء التجربة التي يبتلى بها العالم آخر الزمان.
ولما أراد أوريجين أن يقدر للشيطان مصيره في نهاية العالم لم يتبع أقوال المتنبئين وأصحاب الرؤى، بل اتبع النصوص القديمة وفسرها على هدي الحكمة الحديثة في عصره، ولم تكن في عصره حكمة أحب إليه من الحكمة الرواقية التي تلقاها اليونان قديما من الهند، وبثوا فيها من عقائد فيلسوفهم فيثاغوراس قبسا يقربها إلى العلم وأدب السلوك.
فقد وجد «أوريجين» في عصره قصصا دينيا مستفيضا عن وقائع الشيطان مع الملائكة، ومصيره بعد الهزيمة الحاسمة في آخر الزمان، وفي هذه القصص ملاحم الحرب بين ميخائيل رئيس الملائكة وإبليس رئيس الشياطين، وأطوار القتال الذي يدور سجالا بين الفريقين، ويؤسر فيه بعض الشياطين فيحبسون في باطن الأرض، أو يقيدون بالأغلال حتى الموعد الأخير.
وتروي هذه القصص أخبارا عن الشياطين والملائكة المطرودين الذين لا يستطيعون الصعود إلى السماء، أو الذين يصعدون إليها فيرتدون عنها خوفا من الرجوم الإلهية، فمقامهم بعد ذلك عند السماء الثانية أو في مغاور الأرض، يتحصنون بها من هجمات الملائكة الصالحين والقديسين المقربين، ثم تنشب الملحمة الأخيرة قبل القيامة وبعد ظهور المسيح الأول بألف سنة، فيذهب أهل النار إلى النار، ويرتفع أهل النعيم إلى النعيم .
أما «أوريجين » فنهاية العالم عنده هي نهاية الدورة الكونية التي اعتقدها الهنود من قبل، ثم اعتقدها الرواقيون بعدهم، وفرضوا لها آدابا من آداب السلوك تكفل لمن يسلكها أن ينجو من الكارثة الكونية مطهرا من شوائب الحياة الأرضية، فيخلص إلى الوجود الحق في آفاق عليين.
وستنتهي الدورة الكونية وتتطهر الخلائق بالنار الأبدية، ويبطل الفناء، ويموت الموت، فلا خطيئة ولا عقاب في عالم لا موت فيه، ويتعذر - طبعا وعقلا - أن يبقى الشيطان على شره بعد زوال معدنه، وخلاص العالم من الموت الذي ابتلاهم به من طريق الخطيئة، ومن الجائز ألا يتم الخلاص والتطهير على درجة واحدة، بل يأتي تباعا على درجات مترقيات، ولكنه لا يكون متى أتى إلا كما ينبغي أن يكون بلا موت ولا خطيئة ولا عقاب.
ونكتفي بما لخصناه من شروح أوريجين وفروضه في التعريف بالشيطان، أو التعريف «بالشيطانيات» على الأصح؛ لأنه قد جعل هذا التعريف بابا من أبواب الدراسة اشتهر في الأزمنة الأخيرة باسم «الديمنولوجي» أي علم الشيطانيات، ولكننا لا ننتقل منه إلى ما بعده دون أن نلاحظ على هذه التعريفات ملاحظة جديرة بالتوقف لديها فيما روى عن القرن الثالث للميلاد على التخصيص، ففي ذلك العهد المريب لم تكن في العالم عقيدة غير المسيحية توحي إلى المؤمن بها مثل هذه الثقة بالأمور المغيبة في أدق الجزئيات.
وذلك هو سر قوتها وارتياح النفوس إليها بين ظلمات الحيرة والريبة التي رانت على المذاهب جميعا، وتركتها لمعتقديها أشبه شيء بالسلوى التي يرجى بها الفراغ، ولا تمضي مع الجد خطوة إلا عادت إلى اللعب خطوات، وقد كان أشبه المذاهب بالجد في ذلك العصر مذهب المعرفيين “Gnostics”
الذي كان في حقيقته عنوانا لكل مذهب يرد على الخاطر في تلك الآونة؛ إذ كانت المعرفة ألوانا، وكانت ألوان الوسائل التي تطلب بها لا تقل عن ألوانها.
ومنها - فيما نحن بصدده من حديث الشيطان - معرفة الخبرة باللذات والرذائل المحرمة؛ لأن الجهل بها يسلب طلاب المعرفة حظا يتاح للجاهل ولا ينبغي لهم أن يتجنبوه، وقد أباحت طائفة من هؤلاء المعرفيين عبادة الشيطان مع أصحاب النحل التي كانت تعبده وتتقرب إليه باستباحة الرذائل والأرجاس، وتسميها المعرفة بالنور من طريق المعرفة بالظلام، ولم تنقض فترة طويلة على هذه النحل المتفرقة حتى تجمعت منها نحلة كبيرة أوشكت أن تعم القارة الأوروبية، من أقصاها شرقا إلى أقصاها غربا في القرون الوسطى، وبقيت منها - كما تقدم - بقية إلى أوائل القرن العشرين.
অজানা পৃষ্ঠা