هذه مسامرة الشيخ السيد محمد الخضر بن الحسين، أحد المدرسين بجامع الزيتونة الأعظم، والمدرس بالقسم الخامس من المدرسة الصادقية، ألقاها بنادي جمعية قدماء تلامذة الصادقية مساء يوم السبت 17 في ربيع الثاني سنة 1324 وهو يومئذ القاضي بمدينة بنزرت.
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، الحمد لله الذي خلق فسوى، وجعل التمايز في مقام الكرامة بالتقوى، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد الذي أنقذنا من ذلة الشقاء، وخلع علينا لباس العزة عند اللقاء، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
أيها الفضلاء: إن لكل شيء سببا، ولكل غرض باعثة، والذي أخذ بيدي إلى هذا المنتدى الأدبي، وبعث عزيمتي إلى تحرير ما سنلقي عليكم بيانه أن صديقنا السيد خير الله - رئيس هذه الجمعية (جمعية قدماء تلامذة الصادقية) - خيل له ظنه الجميل أني صاحب مكانة في انتخاب جواهر الأسمار وتآليفها، على وجه يكون أقرب إلى القبول وأدعى إلى التأثير، فخاطبني على أن أضع مسامرة تنطبق على الخطة التي رسمتها الجمعية لنفسها، وأقدمها هدية إلى مسامعكم الزكية بلسان عربي وأسلوب حكيم.
تلقيت ذلك الخطاب بواسطة صحيفة من صديقي النحرير الشيخ السيد محمد الطاهر بن عاشور - رئيس هذه الحفلة الجامعة - أرسل بها إلي، حيث طوحت بي طوائح القضاء المحتوم، فاستوقفت له خاطري وقفة المتردد، واستلفت له نظري لفتة المتروي لما يرد على فكري من القضايا التي لم تبق لي مثقال ذرة من الوقت شاغرا، والشواغل التي من شأنها إذا لبست فكرة ذهبت بها في جانب يبعد عن ناحية هذا الغرض بمراحل واسعة؛ فمتى قلبته في هذا الميدان أخشى أن تقيده حبسة أو يثنيه جماح، ولا سيما حين يلج به الغوص في بعض المواضيع التي يبعد شأوها ويعلو مرتقاها.
لبثت في هذا التردد أمدا غير بعيد، فإذا أمنية تنازعني في نفسي، ولطالما نظرت إليها بعين المشوق المستهام، إن هي إلا ابتغاء الدخول في صف فتية من إخواني الأدباء كنت أسايرهم إذا أعنقوا في الآداب، وأشد كفي بعرى مرافقتهم التي ألفتها قديما، ولبثت فيها من عمري سنين، فأكره شديدا أن أسل يدي من رابطتهم، وأحجم عن مجاراتهم ما اهتديت لذلك سبيلا.
تحركت هذه الأمنية وقويت داعيتها، فأرتني الأمر قريب المأخذ، سهل التناول، حتى تخيلته موضوعا على طرف الثمام، فانقلب ذلك التردد من حينه حادي سمع ومطاوعة. وعند التفاهم مع الرئيس في موضوع المسامرة وقع الاختيار على مبحث الحرية في الإسلام. سنحت لي من بين الشواغل فرصة فانتهزتها، وأقبلت ببصري على سماء الإسلامية أقلبه في مطالعها يمينا ويسارا، وأطالع من دلائلها الصادقة ظواهر وأسرارا، حتى استضاء لي من نجومها هدى، وتنفس لي من مشارقها صباح مبين. ثم قصدت إلى سيرة الخلفاء الراشدين، وقبضت من أثرها قبضة أضفت إليها قوادح أنظار هي في الحقيقة خادمة لها، ومساعدة على إبرازها في هيئة تشملها نظرة واحدة، وإليكم مساق حديثها.
لا يمتري أحد فيما تناجيه به حاسة وجدانه من الميل إلى هذه الحياة، والحرص على استطالة أمدها؛ ومن ها هنا اشتدت به الحاجة إلى السعي في مطالبها، والتعلق بأسبابها من الغذاء والكساء والمسكن وما شاكلها، فيقتحم الإنسان المصاعب، ويعاني الشدائد في طلبها، ولا يثبطه عنها ما هو موضوع في طبيعته من الميل إلى الكسل والراحة.
وقد يجري على مخيلته اشتباه: هل الولوع بالحياة الدنيا يكون للذاتها وطبيعتها؟ أو للغايات التي يحرزها في مضمارها، والمآرب التي يتصيدها بحبالتها؟ فيدعوه هذا الالتباس إلى حركة فكرية يستنتج من وراء تدافعها أن النفوس الناطقة إنما أولعت بحب هذه الحياة، وشغفت بلذة عيشها من جهة اعتبارها مسرحا للأماني وموطنا للمساعي التي تجتني من غايتها ثمرا لذيذا، لا بالنظر لحقيقتها التي تشاركها فيها سائر الحيوانات، وهي الصفة التي تقتضي الحس والحركة.
ولا تظهر صحة هذا الاستنتاج جليا إلا بمشاهدة آثار النفوس العالية، ووضعها على محك النظر والاعتبار، فإن مدافعتها في صيانة أعراضها وحماية أموالها أو القانون الكافل بحقوقها لا تقصر عن درجة الدفاع للفوز بحياتها؛ وما ذاك إلا لما ينطوي في عقيدتها من أن كل هذه الحقائق سلاح تجاهد به في سبيل ترقياتها المدنية وسعادتها الخالصة.
অজানা পৃষ্ঠা