قد تفاجئون إذا قلت لكم إن الاطمئنان إلى شفاعة الشافعين ، إنما هو شرك واضح مبين ، بل هو ضلال سواء كان هؤلاء الشفعاء من الملائكه أو من النبيين ، وسواء كان الشفيع كما تظن من المقربين أو من الشهداء والصديقين ، وكيف لا وكلهم لا يعلمون عن العباد شيئا ، بل لا يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا فكيف يكون لهم العلم المحيط بما اختفى ، إن هذا هو ما اختص به الله دون سواه قال تعالى (له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى ?6? وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى ?7? الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى ?8?) طه 6-8.
إذا كان ما قلته قد أفزعكم ، إذا كان ما صرحت به قد أزعجكم فلنعد إلى الموضوع بهدوء معكم ، ولنبدأ من حيث نستطيع أن نصل إلى الحقيقة المصيبة ونستكشف المعاني العميقة في هذه القضية،، لنبدأ من معرفة معنى كلمة (شفيع) في اللغة ، إنه اسم بمعنى السبب الذي يتوصل به إلى سواه من الأحداث التي تراد أو هو الوسيلة التي تتخذ وسيطة بين المريد والمراد،، فأنت قد تتوسل إلى الماء ، لتشرب بالدلو إن كان في بئر ، أو بكاس إن كان في قدر ، أو بيدك إن كان في الأرض أو بشفتيك إن كان على يدك ، وتريد أن تشرب، ألا ترى كم توسلت إلى أسباب لتشرب ، كل هؤلاء شفعاء لك عند ربك ليصل الماء إلى فمك ، ثم أن الماء بحد ذاته سبب للارتواء الذي تريد ، فهو شفيع لك عند ربك لترتوي ، إذا شاء ربك لك الارتواء. إذا لكل تلك الأسباب المتوالية أن تؤدي مهمتها من البداية حتى يصل الماء إلى فمك ، هل تظن أن الأمر انتهى هنا ، كلا بل لابد أن يأذن الله للسانك أن يذوق الماء ، ويطعم ويشم الماء ثم يستسيغ الماء ، ثم يأذن للبلعوم أن يبلع الماء ، إلى ما ورائه من الأعضاء ، ثم يأذن للمعدة أن تهضم وتقبل الماء ، ثم يأذن للأمعاء وبقية أجزاء الهضم أن تنشر الماء إلى الجسد المتتابع الظامئ ، ثم يأذن للجسد الظامئ أن يقبل ويتفاعل وأن ينتفع بالماء ، ثم يأذن لأجهزة الشعور والإدراك المحيطة أن تشعر أن الجسم قد ارتوى ، وأن تدرك أن الماء قد أدى المهمة التي شرب لها ،وعند ذلك يكون الماء قد أصبح السبب الظاهر الذي أرواك ، وهو الشفيع الظاهر الواصل إلى المشاعر والإدراك. لكن قل لي هل الماء أنت أنزلته ، هل أنت أجريته على الأرض معينا ، هل أنت حفظته في الأرض ينابيع ، ثم هل البئر هي التي أهدته إليك ، وهل الدلو هو الذي رفعه ، وهل يدك هي التي أوصلته إلى فمك ، وهل فمك هو الذي ذاق وهضم ، وهل بقية أعضائك المتداولة للماء ، عملت ذلك الإرواء والاكتفاء ، والشعور الجميل بالهناء هل هي التي عملت ذلك بعلم منها ، وهل هي التي أشعرتك بالارتواء وهل كان ذلك بقدرتها ، كلا بل كل ذلك لم يتم إلا بإذن الله لكل الأسباب المتوالية مجتمعة ، وهو الذي دبر الأمر من البداية ، حتى وصل إليك بصورة ممتعة ، فكل الأسباب عملت بإذنه وعلمه ، وكل الوسائل تيسرت وتدبرت بقوته وحكمه ، وكل النتائج توفرت برحمته ، وكل المنافع تأكدت بإذنه وتدبيره ونعمته ، فهو السبب الأول والأخير ، وهو السبب الظاهر والباطن ، وهو الشفيع الحق بلا جدال ، وهكذا ندرك أن كل الشفعاء ، ما كانوا مؤثرين لولا الإذن من ذي الجلال ،، وهكذا فلندرك ما معنى الشفيع فهو السبب ، والأسباب كثيرة لا تحصى . بل أن الشفيع أو السبب متنوع الأنواع والأجناس في الظاهر والخفاء فكل الأشياء من حولنا شفعاء وأسباب لحياتنا ،وكل الأجرام والأحياء في الأرض والسماء أسباب لقيام حياتنا ، ولكن بإذن الله ربنا فهو الذي يسخر ، وهو الذي يدبر ، ولو شاء لما أذن وأمر (قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون ) القصص 71 .
وإذا كانت كل الأسباب أسبابا للإنسان ، فإن الإنسان بحد ذاته سبب وشفيع لسواه من الأشياء والأجناس وهو لا يدري ، بل شفيع لبعضه البعض ، ( نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون) الزخرف 32 . وعلى هذا فإن الإنسان قد يكون شفيعا لسواه باختياره وقد يكون بدون اختياره ، وهو في الحالة الثانية مسخر ومسير وهو في الأولى مختار لكنه مع ذلك مختبر ، وهو في حالة الإحسان والإساءة يثاب ويؤجر بما يستحق وبما اختاره الله وقدر، وهكذا فإن الإنسان يكون سببا لأخيه الإنسان ، فينال مع أخيه نصيبا من الإحسان ، الذي ناله أخوه بسببه ، وينال حظا من الإساءة التي وصلت إلى أخيه بسببه ، وإن شفاعته مطلوبة محسوبة ، وهي بأمر الله مقدرة مكتوبة ، ولهذا قال تعالى (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتا) النساء 85 .وإذا عرفنا أن معنى كلمة مقيت في آخر الآية هو الحفيظ أو المقتدر أو الشهيد ، فإن الختام يعني أن كل شفاعة من إنسان لإنسان لا تعني أن الإنسان هو الذي أجراها ، ولكن الله هو الذي دبرها ويسرها وهو على فعله شهيد ، فهو حفيظ محيط ، فلا يفوته ولا يغيب عنه بل يسجله ويعلمه ويكتبه ويحكمه ، فلا قدرة للإنسان أن يعمل شيئا دون إذن الله وأقداره ، وكيفلا وهو كما يقول (وكان الله على كل شيء مقيتا) أي مقتدر ، فهو الذي أقدرك يا شفيع الحسنه ، وهو الذي أقدرك يا شفيع السيئة ، وهو عليكما الشهيد والحفيظ ، وإذا فالفعل فعل الله والشفيع هو الله ، والشفاعة منه ، وإذا كان هذا هو علم الإنسان أمام أخيه الإنسان ، وأمام اتخاذه أسبابا ، ليتوصل بها إلى أي شأن فإن هذا يعني أن لا فعل لأحد ، إلا الله ولا سبب يفيد أو يضرإلا بإذن الله وتيسيره ، وأن الشفاعة لا تعني إلا سببا هيئه الله وأذن به وأن الله يجعل الإنسان سببا للعمل والتأثير ،
ولكن المؤثر والعامل هو الله وعليه فإن كل صناعة وزراعة ، وبناء وهدم ، إنما قام به الإنسان كسبب ، هيئه الله ، وبهذا يقول تعالى (وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون ?41? وخلقنا لهم من مثله ما يركبون ?42?) يس 41/42 فلقد أسند الخلق إليه ، مع أن صناعة الفلك والسفن ، هي بيد الإنسان وقال على لسان إبراهيم عليه السلام ، مخاطبا قومه الذين يعبدون الأصنام (إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا )العنكبوت 17 فسمى نحتهم للأصنام خلقا ، وأسنده إليهم ، لكنه في آية أخرى يقول في نفس الموضوع (قال أتعبدون ما تنحتون ?95? والله خلقكم وما تعملون ?96?) الصافات 95/96
ولو تأملنا كثيرا في الآيات ، لوجدنا أن الله ينسب الفعل إلى الناس ولكنه في نفس الوقت يعيد الفعل إليه وحده ، فلتقرأ ما فعلة فرعون حين خرج موسى مع قومه من مصر (فأرسل فرعون في المدائن حاشرين ?53? إن هؤلاء لشرذمة قليلون ?54? وإنهم لنا لغائظون ?55? وإنا لجميع حاذرون) الشعراء 53-55 فها هنا الله ينسب حشر الناس إلى فرعون ، ولكنه عقب ذلك بقوله (فأخرجناهم من جنات وعيون?57? وكنوز ومقام كريم?58?) الشعراء 57/58 إن الله يسند الإخراج إليه وحده ، وما كان حشر فرعون للناس ، إلا سببا وشفيعا لتنفيذ إرادة الله ، وتحقيق فعله ، فهو الفاعل الحقيقي ، والشفيع الحق ، حتى مع المسلمين يقول الله عنهم وعلى لسانهم (قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون) التوبة 52 فالمعذب هو الله ولكن الأسباب متعددة ، لأنه هو المسير والمدبر لها والشفيع المنفذ ، بل ويقول في نفس القول وفي أية قالها موجها الخطاب للمسلمين ، يأمرهم بقتال الناقضين للعهود من الكفار (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين) التوبة 14 فالعذاب هو عذاب الله ، والمعذب هو الله ، ولكن المسلمين يد القدرة وسبب الإرادة ، وهكذا يريد الله أن يكون أمام الأعين لكل فعل سببا ظاهريا ، ولكن السبب الحقيقي هو الله فلا تقل أنا انتصرت أو نصرت ولا عذبت ولا شفيت أحدا ، ولا أخزيت فلانا ، أو صنعت حلا،، فالناصر والمعذب والشافي والمخزي هو الله لا سواه ، ولو استعرضنا الآيات لطال المقال ، ولكني سأدخل إلى عمق الموضوع وسيتضح لكم أن الله هو الشفيع ، ولكي يتجلى لنا الأمر بوضوح ولكي نصل إلى الهدف الصحيح ، تعالوا نقسم آيات الشفاعة إلى قسمين رتيبين في القرآن.
القسم الأول
الشفاعة في الحياة الدنيا
القسم الأول من الآيات هو الذي يتحدث عن الشفاعة في الحياة الدنيا إنها التي يوضح لنا الله فيها أن كل ما تتوهمه سببا أو شفيعا هو وهم وظن لا يغني عن الحق شيئا ، وأن الشفيع الحق والسبب الأصل هو الله الذي يدبر الأشياء ، وأمام هذا الوهم الساذج والظن الساذج توجه الناس إلى الأسباب ليعبدوها ، فمنهم من عبد الشمس والنجوم ومنهم من عبد الليل والبحر ، ومنهم من عبد الملائكة والجن ومنهم من عبد البقر أو بعض الحيوانات الضارة أو النافعة .المهم أن الناس توجهوا إلى الأسباب ليعبدوها كالأرباب ، فما ظنوه ينفع عبدوه لنيل نفعه ، وما ظنوه يضر عبدوه ليجنبهم ضرره وما ظنوه مقرب إلى الله كالملائكة عبدوه ، لنيل وساطته وشفاعته وبهذا الوهم نقرأ في أسماء آلهة قوم نوح نفس المعاني التي يوضحها كبارهم لصغارهم ، وينصحونهم بالاستحسان بها ،
لأن لديها ما يطمحون من الأمان (وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا) فهذا هو الله الذي يمنحهم الود والأمان والحنان ( ولا سواعا ) وهذا هو الإله الذي يبادلهم ويساويهم المنافع ، فهم يعبدونه ، ليستفيد منهم العبادة ويستفيدوا منه الإفادة ( ولا يغوث ) وهذا هو الإله الذي يغيثهم بما يحتاجون ويرفع عنهم ما يشكون ، ومع هذا فإن لهم إلها يعيق عنهم ما يتوقعون من الشر، ولكنه لا يعطي شيئا ، وهو قولهم ( ويعوق ) وأخيرا (ونسرا) وهو إله القوه والعلو ، فهو يمنحهم القوة والسمو ويجلب لهم العلم بما يغيب ، ويكشف لهم أسرار الغد البعيد والقريب ، فهم في عبادته في أمان مما يفاجئهم ، وفي منعة مما يخيفهم ، وفي علو على ما يحيط بهم؟.
وعلى هذا الأساس انطلق الملأ من قوم محمد ينصحون أصحابهم بالتمسك بالآلهة التي تحمي وتصون وعدم الاعتماد على الإله الذي يدعو إليه محمد الأمين (وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد) ص 6 وقبلها قالوا (أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب) الأية: 5]إن هذا هو الوهم الذي سقط فيه الإنسان ، واستمسك به ، ونسى ربه الوهاب ، بل إنهم إذا رأوا الرسول يشعرون بالذعر لأنه يدعوهم إلى التخلي عما يظنونه يحمي ويصون (وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا ?41? إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها ) الفرقان 41/42 لكن الله يؤكد لهم أن هذا هو الضلال الحقيقي فيقول في ختام الآية (وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا) الأية: 42 (أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا ?43? أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا ) الفرقان 43/44.
অজানা পৃষ্ঠা