نعم إن كل فرد مؤمن بهذا القرآن، وكل أمة تؤمن بهذا القرآن وتعمل به وتتخذه خلقها ودليلها الحق، يجب أن تستعيذ برب الفلق، من الكفر والكافرين؛ فإنهم كما قال الله وصدق (شر ما خلق).هم شر ما خلق في ذاتهم، وفي ذرات أجسادهم؛ لأنهم بلا عقول وإذا تجرد الإنسان من عقله فلا يمكن أن تستفيد منه الحياة بل تتضرر، إنهم جرثومة مدمرة، وجمرة مستعرة، في جسد الحياة المزهرة، فلا معيذ منهم إلا الذي فلق الحياة والنور والحق، فالق الحب والنوى في أعماق الثرى، فالق الإصباح والضياء في آفاق الفضاء، فالق الهدى في قلوب المؤمنين الأتقياء.
وكما أن أولئك الكافرين هم شر ما خلق الله في ذواتهم، فإنهم شر ما خلق الله في أعمالهم وسعيهم، فهم ضالون ويحسبون أنهم يحسنون، وهم فاسدون مفسدون، ويزعمون أنهم مصلحون، وهم جاهلون غافلون، ويظنون أنهم علماء مبدعون، وهم ضرر على الحياة ويتوهمون أنهم أصحاب الحياة، فهم مغرورون بالدنيا، مستكبرون عن الهدى؛ ولهذا فهم يتآمرون على الحياة، ويرمون الشر في ظلمات الدجى ضد من اهتدى، ويدلسون الشرور الماحقة، تحت جناح الظلمات والليالي الغاسقة؛ على حياة الناس الذين قلوبهم للنور عاشقة.
ولهذا جاء بعد ذلك عنهم ما يوضح هذه الحقيقة فيقول الله: (ومن شر غاسق إذا وقب). إن الغاسق هو الذي يختبئ في الظلام ، ويختفي في الغسق ليدبر الضرر بالمؤمنين والحق، ولينصر الباطل بإصرار أحمق، وينشر الشر في كل مجال ومرفق. فاسق إنه فاسق، يترقب كل ظلام غاسق؛ ليغير فيه على كل نور مشرق، وليطفئ فيه كل ضياء متألق. إنه للحق محارب، ولهدمه واقب، ولكل صالح ناقب، ولكل سليم ثاقب، يغير على الخير ليمنعه، ويثب إلى الشر ليشيعه، وهو بالشر والباطل يسعى، ويحسب أنه يحسن صنعا، فهو في ضلال وخسران، وهو عدو للحياة والنور والإيمان، وهو مخاصم للجمال والإحسان.
إن الخلق العظيم هو خلق القرآن الحكيم، والجاهل محارب لكل عقل سليم، ويكره الوئام، وينصر الخصام، ويتآمر على حياة السلام، وهذا هو عدو القرآن وأهل القرآن، وهو يفرق من الفرقان، ويهوى الظلام والطغيان، فالاستعاذة من شره واجب على كل ذي لب، فأهل الألباب هم المستهدفون لكل واقب مرتاب، فالكافر غاسق خطر، يحبذ الشر المستطر، ضد أهل التذكر والتفكر، لآيات القرآن والذكر المنير، وضد كل من تدبر آيات الله العليم القدير.
فيا لهذا النوع من البشر، كم يحملون من شر وخطر، لكل من تذكر آيات الله وتدبر، فلتستعذ منهم برب الفلق، فهو بهم أبصر وأخبر، وهو عليهم أقدر، فهو الذي خلق وهو الذي صور، وهو الملجأ والمستنصر، إن الخلق العظيم هو خلق القرآن الحكيم، ومن جهل العلم والخلق السليم؛ فإنه يعاديه ويفر من صراطه المستقيم، ولا غرو فإن من كذب بالقرآن المبين، فإن سلوكه مشين، كما يصفه رب العالمين: (ولا تطع كل حلاف مهين(10) هماز مشاء بنميم(11)مناع للخير معتد أثيم(12)عتل بعد ذلك زنيم(13)أن كان ذا مال وبنين(14)إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين(15)) [سورة القلم].
هذا هو خلق أعداء القرآن المكذبين بالحق والبيان، فالبعد عنهم والاستعاذة منهم مسلك كل المؤمنين، ولا معيذ منهم إلا رب العالمين، فهم يتآمرون في الظلام الغاسق، بشكل لازب، وكل واحد منهم على الخير واقب، وللنور مغالب، لكنه هو المغلوب بالله الغلاب، المعيذ الناصر لأولي الألباب، فبه نستعيذ من كل غاسق إذا وقب، ولو استعرضنا القرآن لوجدنا هذا النوع من الناس موجودون في كل زمان؛ فلقد تآمروا على الرسول صالح (وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون(48)قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون(49)) [سورة النمل]. لكن الله كان معيذا لرسوله ولمن معه من المؤمنين من مكر الماكرين (ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون(50)فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين(51)) [سورة النمل].
ولقد تآمروا على المسيح: (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين(54)إذ قال الله ياعيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا.. ) إلى آخر الآيات من 54 إلى 56 [سورة آل عمران]. ولقد تآمروا على موسى: (وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون) [الأعراف:127].
ولقد تآمروا على محمد والمؤمنين معه: (وإذ قالت طائفة منهم ياأهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا) [الأحزاب:13]. (لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا) [المنافقون:7]. هذا بعض تآمر المنافقين على القرآن وأهل القرآن، أما اليهود فقد تآمروا بجهل مشين على الرسول ومن معه من المؤمنين وظنوا أن الله لا يعلم ما يعملون مع أنهم أهل كتاب يعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء (أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون) [البقرة:77]. نعم لقد جاء قبل ذلك عن هؤلاء اليهود: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون) [البقرة:76]. ويتواصل التامر بينهم:(وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون) [آل عمران: 72]. كأنهم يظنون أن الله لا يعلم هذا العمل الفاسق والتآمر الغاسق، ولهذا فهم يواصلون الأقوال والله يسمع: (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا) [آل عمران:181]. (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين) [المائدة:64].
نعم إنهم مفسدون، ولهذا استحقوا الغضب واللعن من الله، وإن الله لا يحبهم، وكيف لا وهم يتآمرون على الحق ورسول الحق، ويكرهون الهدى ورب الهدى، فهم لا يحبون إلا الهوى؛ (يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم) [المائدة:41].
هذه بعض إشارات من الآيات التي تتناول تآمر الكفر والكافرين على أهل القرآن من المؤمنين. إنها تجسد معنى العمل في الظلام الغاسق في قوله تعالى: (ومن شر غاسق إذا وقب). ولو استسقينا الآيات لطال المقال، ولكن إذا كنت أيها القارئ لهذا المقال ممن تفهم القرآن وتحب أهل القرآن فارجع إلى السور التالية لتجد القضية واضحة وغير خافية؛ إنها البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال والتوبة والنور والأحزاب ومحمد والفتح والحجرات. ومع كل هذه السور فإن الجزء الثامن والعشرون من القرآن الذي يبدأ بسورة المجادلة وينتهي بالتحريم مكرس لتسجيل هذا النوع من التآمر المشين اللئيم من قبل الكافرين والمنافقين ضد حملة القرآن من المؤمنين ، وضد الرسول الأمين. وكلها تدور في الغسق المظلم، وتظن أن الفاسق إذا وقب سيطفئ النور الذي في صدور المؤمنين وبه يذهب؛ (ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون).
অজানা পৃষ্ঠা