وتعود الآيات إلى الإنفاق وينادي الله المؤمنين أن يغتنموا الفرصة قبل أن يكونوا ظالمين، فالله هو الرزاق وهم مستخلفون، (أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون) [البقرة:254].إن عدم الإنفاق كفر وظلم للنفس مبين، وإن عدم الإنفاق يعني عدم اليقين برب العالمين، ولهذا كان من المناسب أن تأتي هنا آية الكرسي بما فيها من وصف لله العلي العظيم، ثم يعقبها التأكيد على أن الدين اختيار لا إكراه، ومن اختار الطاغوت وهي الدنيا كان في ضلال وظلمات، ثم النار مصيره والمبات، لأنه نسي الله الباقي الذي يحيي ويميت وكل شيء سواه فاني، ولذلك يؤكد هذه الحقيقة في حكاية الذي أماته الله مائة عام فأيقن بعد بعثه أن الله على كل شيء قدير، ثم حكاية إبراهيم عن إحياء الموتى حتى علم أن الله عزيز حكيم، وعلى حرارة هذا الإيمان وصدق هذا اليقين تعود الآيات إلى وصف الإنفاق والمنفقين في سبيل الله، وهي غير الإنفاق في مجال الصدقة التي سبقت. إن هذه الآيات تتناول موضوع الإنفاق الذي يشغل الأيدي العاملة وينقذ المساكين والفقراء من الحاجة والمسكن ، فالإنفاق ينمو ويتضاعف والمجتمع يسعد وبرحمة الله يحف، فمثلهم (كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة) وهذا أقل صورة المضاعفة بل إن الله يضاعف لمن يشاء بحسب نيته وصدقه، والله واسع عليم، فلا يخفى عليه شيء ولا يظلم المنفق أي شيء بل يضاعف ويفي وله أضعاف ما أنفق في الدنيا والأخرى، فهو كجنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين أما المنافق الذي يمن ويؤذي فإنه كصفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا، وتستمر الأمثال للمتق المحسن والمنافق الذي يمن حتى تصل الآيات إلى قوله: (الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) [البقرة:274].
من هو الذي ينفق بالليل والنهار وسرا وعلانية؟. إنما هو الذي ينفق أمواله في سبيل الله فيقيم المشاريع الصناعية والزراعية والعلاجية والتعليمية يفيد الناس ويبيع لهم بأسعار مناسبة وبأرباح غير مبالغة، وهو يقدم لهم السلعة الجيدة والمتقنة الزكية والنقية من كل غش أو نقصان أو سوء ومع ذلك فهو يشغل الأيدي العاملة وينصفهم في الأجور ويرعاهم في كل حال ولا يمن عليهم ولا يكلفهم بما لا يجوز من الأعمال ولا يطلب منهم منافع تخرج عن نطاق المهمات، وتتجاوز نصوص العقد والاختصاصات، كالتصويت في الانتخابات، أو الشهادة له زورا في الخصومات، كلا فهو يتعامل معهم كمتعاقدين يفي لهم ويفون له في حدود ما تعاقدوا عليه كل في مجال عمله، بلا مجاملة ولا مماطلة فلا يأكل من خلالهم أموالا باطلة ولا يحملهم ما لا يطيقون احتماله، إنهم في أمن معه وسرور وهو معهم سعيد مجبور، وربحه موفور، وحقه وحقهم مضمون وهدفهم جميعا (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون).
ولتأكيد هذا المعنى الذي أوضحته لكم والذي توضحه الآيات وبه تحكم؛ تأتي الآيات التي تصور النقيض من هذا المسلك وتصف الطريق المهلك، وهي آيات الربا فإذا بها تعلن (وأحل الله البيع وحرم الربا)، وإن آكل الربا لا ينمو حتى ينتكس كالذي يتخبطه الشيطان من المس، وكيف لا والله يقول: (يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم) فآكل الربا مكروه وفاعل الصدقات محبوب، وشتان ما بين الاثنين فذلك كفار أثيم، وهذا مؤمن بالله العظيم، ولهذا فإن الله يؤذن آكلي الربا بحرب من الله ورسوله، وينصحهم بالتوبة بل بالتيسير بل بالعفو عن المعسر، واحتساب ذلك صدقة تنفعه حين لا ينفع مال ولا بنون، ولهذا يختم الآيات بقوله: (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ) [البقرة:281].وهنا تنتهي آيات الأموال المتبادلة، والأموال التي تنفق لتشغيل الأيدي العاملة، لتبدأ آيات تنظيم الدنيا بين الناس وتنظيم التجارة التي تدار بين الناس حاضرة، فتؤكد أن الشهادة لازمة والكتابة واجبة، وأن الشهود والكتاب محروسون من الضرر والتخويف المهين فإن فعل المؤمنون ذلك فإنه فسق عن الدين وعن هدى الله الذي علمهم والله بكل شيء عليم. فليحذر المؤمنون من الانحراف عن الحق والانجراف للهوى وليتقوا الله وليتبعوا الهدى، والله يعلم السر وأخفى، وكيف لا وهو يقول: (لله ما في السماوات وما في الأرض) فله تدبير كل شيء وحي، والناس أهم شيء، فهل يتركهم الله القادر؟ كل بل هو يخص الأعمال والخواطر. (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير) [البقرة:284].وإذن فالإيمان بالله وبما أنزل هو السبيل الآمن للمؤمن الذي يذكر الله فيوجل.
وبهذا فإن الله يعلن أن هذا هو شأن الرسول، وشأن من اتبعه وآمن معه، وعلى سبيل الله استمر فيها يعمل ويقول. إنها الآيات التي تؤكد البدايات، وتعلن أن السورة متواصلة الأحكام متتالية الآيات، بلا انفصام، لأنها من الله العالم: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ) [البقرة:285]. لقد سمعوا الكتاب والأحكام وأعلنوا الطاعة والالتزام، وطلبوا الغفران من ربهم الغفور، وكيف لا وإليه المصير وهو العليم بهم والبصير، بل هو اللطيف الخبير؛ لأنه (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) ورغم ذلك فإنهم يواصلون الدعاء ويعلنون الافتقار إلى الله لأنه المولى (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) [البقرة: 286].إن هذا هو غاية الأمل لمن اتقى ولمن بهذا الكتاب اهتدى، وهذا هو أسمى المطمح لمن آمن بالله مع الرسول واستقام على نفس السبيل، وهذا هو المآب الذي يتطلع إليه أولوا الألباب فالله مولاهم في الدارين وهو الناصر في الدنيا ويوم الدين إنه الله رب العالمين.
وبعد: هل اتضح بعد هذا العرض الطويل والبيان الكامل عن أسلوب التنزيل؟ هل اتضح لكم أن القرآن تنزل سورا وأن كل سورة كانت تتلى على الرسول كاملة، وأن آياتها متواصلة بلا انقطاع، وأن البيان فيها كامل الشعاع، لعل ذلك قد اتضح، وعن المراد أفصح، لقد حاولت الإيضاح بقدر الإمكان، ولقد أطلت مع أن الإطالة مملولة لدى أهل البيان. لكني إن أطلت في البقرة، فسوف تكون الأمثلة في بقية السور مختصرة، لقد أردت هنا أن أضع الأنموذج الأمثل، ليكون نبراسا لما يتلوه، وليكون دليلا لما يقفوه.
عسى أن ننال جميعا بذلك العلم بأسلوب تنزيل القرآن، ونكون على بينة من الأمر وبرهان، فإن ذلك شأن الباحث في كل زمان ومكان، فهو يميل للإتقان وينجذب للإحسان، ويجب أن يفيد الإنسان، ويفوز برخاء ربه الرحمن، وبقبول ما يعمله مهما كثر أو هان، وأن قبول القليل هو الفوز بالكثير، وأن الكثير المحيط هو البوار المبير، فنقول كما قال إبراهيم: (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم).هل القرآن تنزل سورا أم آيات متفرقات- الجزء الاول ¶ لعل من المهم أن نحدد من خلال القرآن كيف تنزل القرآن هل كان يتنزل آيات متفرقة ومع قضايا الأفراد متفقة؟ لعل هذا الرأي لا يتفق مع صريح آيات القرآن ولا يليق بجلال الرحمن الذي يعلم ما يكون وما كان ويعلم حاضر وماضي ومستقبل الإنسان. نعم إن من يعلم السر وأخفى، وما يأتي وما مضى، ويعلم ما في الأرض وما في السماء، وما تحت الثرى، لا يصح أن يعامل معاملة عاقل الحي الذي يفني السكان بحكمه فيما يطرأ من الأعمال ويواجه كل حدث بانفعال ويغير موقفه مع الأحوال. كلا إن معاملة الله بهذا الأسلوب محال فهو الله ذو الكمال المطلق والجلال، وهو ذو العرش المجيد، الفعال لما يريد (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون)، فسبحان الله عما يصفون، هو (الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم)، وبه كل شيء يقوم وعلى هذا فإن القرآن لا بد أن ينزل بطريقة تليق بالعليم الحكيم، ولا بد أن يلقى على الرسول بأسلوب أسمى مما يتوهمه الواهمون وما يتصورون، (إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون). ¶ أليس هو الذي يصف نفسه بقوله: (وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور* ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) [الملك: 13-14]. (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء* هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم) [آل عمران: 5-6].(وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون) [الأنعام:3].وعليه فهو يعلم ما سيكون كما علم ما كان، وبالتالي فهو بعلمه ينزل القرآن، ولا يتوقف إنزال الآيات على حركة الإنسان ولا على أحداث الزمان؛ كيف وهو خالق الإنسان والزمان. وهكذا تكون هذه الصفات لله سبحانه وتعالى تالية لكل حديث عن القرآن في سور القرآن فهو يقول في أول سورة آل عمران: (الم(1)الله لا إله إلا هو الحي القيوم(2)نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل(3)من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام) [آل عمران: 1-4].ثم تأتي الآيات التي أوردناها أولا وهي: (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء* هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم) ويقول في أول سورة طه: (طه(1)ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى(2)إلا تذكرة لمن يخشى(3)تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا(4)الرحمان على العرش استوى(5)له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى(6)وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى(7)الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى) [طه: 1-8].وكذلك جاء في آخر سورة الحشر، فبعد الحديث عن القرآن يورد عددا من أسمائه الحسنى التي تدل على العلم والتدبير فقال تعالى: (هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمان الرحيم) .. إلى آخر السورة. وهكذا هو الحال في أول سورة الرعد، وأول سورة السجدة، وأول سورة غافر، وأول سورة الشورى وفي آخرها، وأول سورة هود، وأول سورة يونس، وأول سورة آل عمران وكذلك سواها، ولكي لا أطيل السرد للسور فقد قال تعالى في سورة النمل مخاطبا النبي المرسل: (وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم ) [النمل:6]، وختمها بقوله: (وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون) [النمل:93]. ¶ لا أريد من سرد هذه الآيات ولا من تعداد هذه السور أن تمر عليها أيها القارئ مرور العابر، ولكن أن تقرأنها قراءة المتدبر المتذكر؛ حتى لا تكون ممن قال الله عنهم: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) [محمد:24]، (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) [النساء:82].وبعد؛ فماذا عساه أن يقول القارئ بعد هذه المقدمة الطويلة؟! لعله سيقول: ماذا تريد بهذا الكلام أمام هذا "موضوع إنزال آيات القرآن"؟ لكني أريد أن أقول إن الله الذي هذه صفاته، وذلك شأنه، وهو الله العليم بكل شيء وخالق كل شيء، والقدير على كل شيء ، إن من هذا شأنه لا يصح أن تقول أمام قرآنه - سبحانه سبحانه وتعالى علوا كبيرا - أن يثيره شيء أو حدث ليلقي علينا الآيات، وحاشاه أن يملي عليه إنسان وهذا هو الذي يجرده من العلم والقدرة، وينكر اختصاصه بالعزة والحكمة وباللطف والخبرة، وبتدبير كل مجرة وذرة وإحاطته علما بكل شيء وإحصائه علما لعمل كل حي، وكيف لا وهو الحي الذي لا يموت، ولا يعجزه شيء ولا يفوت (عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين) [سبأ:3]. فأين تذهبون؟، وكيف تجعلون القرآن عضين؟ ها أنذا دعوتكم إلى الذهاب إلى صراط يليق بالله ذي الجلال، ينزه الله ربكم عن الانفعال، ويقدره حق قدره، ويفرده وحده بالعلم والقدرة. كيف وقد أوضح لنا هو في القرآن كيف أنزل القرآن، وبين ذلك بأوضح بيان، ولم يدع مجالا للشك والظنون، بل وضع الأدلة التي تقود إلى اليقين. وها هي الأدلة أضعها بين يديكم وعلى مختلف الدلالات الصريحة. ¶ ولنبدأ المشوار من أول السور الكبار، إنها سورة البقرة، ففيها الدليل والبرهان الذي يدلنا كيف أنزل القرآن. يقول الله تعالى في الآية 23: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين) [البقرة:23]. أسمعتم ماذا قال الله؟. لقد طلب من الناس أن يأتوا بسورة، ولم يقل بآية. إذن فالقرآن كان يتنزل سورا وليس آيات.لا تتعجلوا ولا تنزعجوا فالمشوار ابتدأ فتريثوا حتى نصل إلى المنتهى. تعالوا معي إلى سورة أخرى لنجد أن إنزال القرآن سورا كان قضية معروفة معهودة بين النبي ومن معه من المؤمنين بل ومن يعاصره من المنافقين فكلهم كانوا للسور ينتظرون، ولإنزالها كاملة يعهدون، وبهذا كانوا يتحدون، في جدهم أو في سخريتهم بما يسمعون. وفي سورة التوبة الدليل الذي يقطع كل ريبة، فلنسمع كيف يسجل الله كلام المنافقين المستهترين وكيف يرد عليهم ويصفهم بالكافرين، يقول تعالى: (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون) [التوبة:64]. ماذا قالوا؟ ماذا حذروا؟ ماذا حددوا؟ لقد قالوا وحذروا وحددوا تنزل سورة، نعم سورة، هكذا قال المنافقون. ومعنى هذا أن المعنى أن المعهود بين النبي وبين الناس أن القرآن إنما كان يتنزل سورا وليس هناك أسلوب سوى هذا ظاهرا. ثم قد يقال: إن هذا بحسب الغالب ولكن الأغلب أن الإنزال كان بالآيات.. ¶ ولكن لا تتعجلوا فلنتأمل ولنواصل وإلى منتصف السورة ننتقل لنجد إنزال السور ثانيا بشكل متأصل، يقول الله في الآية 86 وهو حديث عن المنافقين (وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين) [التوبة:86].أسمعتم ما يقوله الله؟؟ لقد سجل هنا عادته وسنته في إنزال القرآن، فقال (وإذا أنزلت سورة). إذن فهي سنة وعادة استنها الله وثبتها في إنزاله القرآن، ولهذا عهدها الناس أجمعون حتى المنافقون، فإذا هم بإنزال السور يتحدثون، ومنها يحذرون. إذن فهي سنة لم تختلف، وطريقة مألوفة لم تنحرف، ولهذا فسنجدها تلوح في آخر السورة واضحة لمن بالحق يعترف، فلنقرأ: (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون * وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون) [التوبة:124-125].لنتأمل الآيتين نجد أن العبارات يلوح منها أن الناس كانوا يعتادون إنزال السور، وينتظرون منها ما يجد من الخبر، فالمؤمن يستبشر والكافر يسخر، فإذا المؤمن يزداد بالسورة إيمانا ، وإذا الكافر يزداد بها خسرانا، وهكذا كانت كل سورة تحدث أثرا واضحا في الفريقين المتضادين، وكلاهما كان ينتظر ما يستجد من الذكر المبين. ¶ وعلى هذا نستطيع أن نؤكد أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان كلما نزلت سورة عليه من ربه يزداد بها اطمئنان قلبه، ثم يهب لإبلاغها على الناس باهتمام ورغبة فيجمعهم إليه متسع بالرغبة والرهبة، ويتلوا عليهم ما تلقاه ويفيض عليهم بحبه، فإذا هم فريقان منهم من يسخر، ومنهم من يستبشر، منهم من يستنير، ومنهم من يلج في الكفور. بل إن الفريق المريض ينسحب من الاجتماع، وينصرف عن الاستماع، ويفر إلى دنيا اللهو والمتاع. وهذا ما توضحه الآية التالية بكل وضوح وتصور حالة المنافقين في الاجتماع، فلنقرأ: (وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد). أنظروا إلى هذا التصوير الدقيق. إنه يرسم لنا حالة فريق من المرضى ينظر بعضهم إلى بعض في زحمة الاجتماع، في قلق يشير بعضهم إلى بعض إشارات الضيق والحزن متسائلا (هل يراكم من أحد) فإذا تأكدوا أن المؤمنين مشغولين عنهم بالاستماع والخشوع للقرآن، قرروا الخروج من الاجتماع وانصروفا إلى شأن آخر غير القرآن، وهذا ما يخبرنا الله به بقوله بعد ذلك: (ثم انصرفوا) ثم ماذا؟ ها هو يدعو عليهم ويدفعهم بما يستحقون فيختم الآية بقوله: (صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون) [التوبة:127]. ¶ إذن فهكذا كان حال الناس عند إنزال القرآن وهكذا أسلوب إنزاله في كل آن، إنه يتنزل سورا والنبي يدعو الناس لإبلاغهم ما نزل وعليهم يقرأ، فإذا فرغ من التلاوة انفض الاجتماع وقد ترك أثرين مختلفين: أثر من النور والإيمان للمؤمنين، وأثر من الكفر والخسران للمنافقين. بل إن منهم من ينفض قبل أن تقضى تلاوة السورة ويتسلل بأشنع صورة، فإذا هم فعلا أولوا قلوب مصروفة عن الحق مختوم عليها بختم النفاق، وبهذا كانوا واستمروا قوم لا يفقهون، إن المنافقين هم الفاسقون. وبهذا تدرك أن القرآن يسجل الحالة بأدق صورة، وتوقن أن القرآن كان يتنزل سورة سورة، ويجمع إليه كل حاضر من المؤمنين ليستمع جديد التنزيل ليزداد إيمانا ويستنير له السبيل. ¶ وإذا كان نزول القرآن سورا أمرا معهودا للمنافقين كما عرفنا من الآيات فإنه كذلك، أو معهود للمؤمنين. وها هو يتضح جليا في حديثهم فيما بينهم وفي معرض تمنياتهم اليومية، فنجدهم يرجون من الله ما يزيدهم ثباتا، فلنسمع حديثهم كما يحكيه الله: (ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم) [محمد:20].أليس في حديث المؤمنين الذي ينقله إلينا رب العالمين ما يؤكد لنا أن القرآن كان يتنزل سورا؟ وأن هذا أمر معهود للنبي وللمؤمنين، بل ولكل المعاصرين للوحي وللنبوة من المنافقين والكافرين؟ إنه أمر عهدوه من الله وعليه عودهم الله فهم لا يتحدثون إلا عن سور تتنزل، ولا يرجون إلا سورا توحى وترتل، ولا يحذر المنافقون إلا سورة تكشف ما في قلوبهم. إذن فالأمر واضح بين الجميع، والقضية معهودة لدى المعرض والسميع، ولدى المنافق والمطيع. ¶ هذا وللعلم فإن السورتين التي أخذنا منها الآيات الدالة على دعوانا هما سورة التوبة وسورة محمد، وهما سورتان مدنيتان، والمدينة هي التي بدأ فيها التشريع والأحكام التي تخص العلاقات بين الناس وتنظيم الحياة على أقوى الأساس. وهذا حال يدعو إلى التساؤلات وإلى إيضاح مختلف القضايا والحالات من خلال إنزال عدد بسيط من الآيات تخص قضية معينة أو بعض التساؤلات ولكن الأمر لم يكن كذلك، بل إنه رغم ذلك الداعي إلى إنزال آيات ظل القرآن يتنزل سورا تحيط بكل القضايا بدون انتظار لما يحدث من أحوال وبدون انفعال بما يتجدد من الأفعال أو ما يتردد من سؤال. ¶ كيف لا والله يعلم كل حال؟ وفعل وسؤال، ويدري بما نخفي وما نعلن من الأعمال، وما ننطق به أو نكتمه من الأقوال، فلا يحتاج إلى من ينبهه إلى الإنزال، ولا هو محتاج ما يدعوه لإيضاح أمر أو إشكال، هو هو المحيط بكل شيء علما، والحفيظ على كل شيء والأحسن حكما، وبهذه الصفات والأسماء الحسنى، أنزل القرآن المبين، الذي هو ذكر للعالمين، فيه بيان لكل شيء، وبه يسعد كل حي. فكل سورة تحمل إلى الناس علما شاملا، وبيانا كاملا، وتجيب من كان سائلا، وتوضح السبيل لمن كان عاملا، فلا يخفى على الله شيء في الأرض ولا في السماء. (أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين) ¶ وبعد: ألم يتقرر لديكم أيها القراء أن القرآن كان يتنزل سورا؟. بلى، فإن أردتم أن نزيد الموضوع يقينا ونورا، فلنقرأ ما ورد في سورة يونس: (وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين [يونس:37]). فهو منزل من رب العالمين الذي لا يخفى عليه منا شيء أينما نكون، فهو المنزل القرآن المبين، وهو خير الحاكمين، فكيف يرتاب المفسدون؟ (أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين [يونس:38])لقد أكد هنا أن الافتراء محال، ورد على المفترين بأوضح المقال، فقال: (فأتوا بسورة مثله) لقد أكد أن الإنزال إنما هو سور كاملة ولذلك فهو يتحداهم أن يأتوا بسورة مثله كاملة البيان بلا إيهام، واضحة البداية والختام، تسرد الأحداث والأحكام، بإتقان وإحكام، بلا اختلاف ولا تقصير، ولا خفاء ولا اضطراب مثير، كلا لا يمكن أن يكون ذلك الكمال إلا من الله العليم الخبير. ولهذا فإن الله يفتتح سورة هود بهذا الافتتاح المثير المنير: (الر .. كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير [هود:1]). فهو كتاب منزل بإحكام، مفصل السور بالتمام واهتمام، وهو يتنزل بآيات متعددة لا بآية واحدة، وكيف لا وهو (من لدن حكيم خبير)، فهو الذي لا يقول ولا يفعل إلا الحكمة والكمال، وهو الخبير الذي يعلم ما يحتاج الخلق قبل السؤال. فكيف يحتاج إلى من ينبهه إلى ما يقال؟ كلا إن هذا هو الخبال، الذي لا يليق بذي الجلال، ولهذا كأنه يفند المكذبين ويندد بالمفترين، ويعرض أقوالهم المرتابة بأسلوب مهين، فيقول: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين [هود:13]). إن المدعين على النبي أنه افترى القرآن، مدعوون للإتيان بمثله ، بعشر سور مثله في الكمال والجمال والإحكام، وبالتفصيل والتبيين الذي يزيل الإبهام، هل تستطيعون؟ ؟ كلا لا يقدرون حتى ولو دعوا كل أنصارهم من الخلق وافتروا جميعا على الحق، إنهم غير قادرين، فهم لا يستجيبون. وكيف يستجيبون وهم عاجزون؟ ولهذا فإن القرآن هو الحق الذي أنزله الله، وهو الله الحق بالحق، وهو يقول الحق، ويهدي إلى الحق، فمن ذا الذي يستطيع أن يتسجيب لأن يقول مثل قول الله الحق؟ لم يستجب أحد، ولا أحد نطق، ولهذا قال الله مخاطبا كل مؤمن في كل زمان: (فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون [هود:14]). ¶ وهكذا يتأكد أن القرآن نزل سورا، وأن المعهود لدى الجميع أنه يتنزل من الله سورا مرتلة، ، لا كلمات منفصلة، كلا فالله الحكيم الخبير هو الذي أنزله. والآن وقد اتضح الدليل القطعي الذي يدل دلالة مطابقة على ما أردناه فإن لنا دليلا آخرا يدل دلالة ضمنية على ما أوردناه، ذلك هو قوله تعالى في سورة القيامة: (لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرءانه * فإذا قرأناه فاتبع قرءانه * ثم إن علينا بيانه) [القيامة:19].أربع آيات تدل دلالة واضحة على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يحرك لسانه بالقرآن عند تنزله، لعله يحفظ ما يتلى عليه، ولعله يستجمع ما يلقى عليه.إن في هذا دليلا على أن القرآن كان يتنزل سورا عليه فهو يحاول أن يلحق التلاوة بتحريك لسانه، أما لو كان يتنزل آيات معدودة أو آية واحدة لما احتاج إلى هذا العناء والمكابدة، ولما دعاه الله إلى هذا السلوك وأرشده؛ لأن المعروف أن الآيات أو الآية تحفظ بسرعة ولا تحتاج إلى متابعة ومسارعة، ولقد عهدنا العرب في زمن النبي وفي قبله يحفظون القصائد الكاملة والمقاطع والأبيات المتعددة بلا عسر، ويروونها على الناس بيسر فكيف لا يحفظ النبي وهو العربي الفصيح اللسان، المتمرس بالبيان؟ فكيف بالفتى القرشي الذي فاق على الأقران؟ ¶ إذن فالقرآن كان يتنزل سورا كاملة، ولهذا كان النبي يحرك لسانه ليمسك بالآيات المتواصلة، ويجمع الفواصل المرتلة، فنهاه ربه عن هذه المحاولة وطمأنه بأن ربه الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، سيتولى جمع القرآن في قلب رسوله المكرم وسيقرن بين آياته في قلبه حتى تستقر السورة وتطبع فيه بقدرة ربه، (إن علينا جمعه وقرآنه) عليه وحده الجمع والقرن بين الآيات التي تكون السور، فإذا انتهت تلاوة السورة، وقرنت الآية بالآية، وأصبحت كاملة وبلغت النهاية، فما على النبي إلا أن يتبع هذا القرآن الذي قرنه الله في قلبه بإتقان (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) وهكذا لا ينتهي النبي من غمرة الوحي حتى تكون السورة قد حلت في قلبه كاملة الآيات، محفوظة الجمل والكلمات، مرسومة الحروف والشكلات، واضحة الدلالات. فما عليه إلا اتباع ما أملي، وإلا تبليغ ما ملي، بشكل مبين جلي. وكيف لا والله يعطف على ذلك بثم للدلالة على علو مرتبة ما يليها من الشأن، فيقول: (ثم إن علينا بيانه). نعم إن على الله وحده البيان لمحمد ولمن استمع القرآن، فإذا هو نور يتلألأ للقلوب، وإذا هو ينير أولي الألباب. وإذن فإن الحقيقة تشع من آيات سورة القيامة بأوضح الدلالة، وتعلن أن القرآن كان ينزل سورا كاملة. ولقد تأكد هذا في سورة طه، حيث يقول الله: (وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا) [طه: 113]. فهو عربي مبين، وهو متنوع التصريف والتلوين، ليكون هاديا للمتقين، وعلما للمتذكرين، ولا يمكن أن يكون القرآن هكذا إلا إذا تنزل بما يبين، وهذا لا يتم إلا بسور كاملة تحتوي على البيان الكامل، وتفصح عن الكلام الحافل، بكامل البيان، وشامل العرفان، أما أن يقطع إلى آيات متباعدة، أو يمزق التنزيل على آية واحدة، فهذا لا يليق بأصحاب البيان، ولا يتفق مع أساليبه المتعاهدة. ¶ فكيف نسلم لشاعر جاهلي أنه لا يمكن أن يمزق القصيدة ولا يفرق أبياتها؛ لأن هذا أمر معيب عليه، ثم نلصق هذا العيب بالله وندعي أن القرآن تنزل ممزقا من لديه ، إن القول بأن القرآن تنزل ممزق الآيات والفواصل متباعد البيان مقطع الكلام غير متواصل، إن هذا لا يليق بالله الكامل. ولهذا فإنه يعلن تعاليه عن هذا الواهم الغافل فيقول عقب الآية السابقة: (فتعالى الله الملك الحق). نعم إنه يتعالى عن الخلق، فهو العالم الحق والملك الحق، فلا يمكن أن ينزل القرآن إلا بما هو أليق، ولا يمكن أن يمزق. ولهذا يكمل الآية فيقول: (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما) [طه:114].إنه تكرير للنهي الموجه الجانبي وتحديد للوحي بأنه قرآن متكامل البنيان، متتابع الفواصل، يتنزل سورا كاملة تتلى من البداية إلى النهاية بشكل متواصل. ¶ وإذن فعلى الرسول أن يتلقى القرآن الذي يملى غير عجول وعليه الإقبال على القرآن وأن يصغي باستسلام حتى يقضى ما يتلى عليه وأن يسأل الاستزادة من علم الله الوسيع، ويستنير به وينير كل من تلقاه بقلب سميع ففيه البيان والعلم للمتقين ولن يكون في القرآن علما من علم رب العالمين، إلا إذا كان منزلا سورا تبين. فلننزه القرآن من أن يكون عضين، وليتنزه الله من أن ينزل ما لا يستبين، سبحان الله عما يصفون. ¶ وبعد: فإذا أردتم أن نستدل على ما ذهبنا إليه بطريق آخر، فلنعد إلى نفس السور فإن نصوصها تفصح عن الدليل بنور يبهر . إنه نور يسطع، ومن سورة النور يطلع النور، فلتقرأنها من أولها لتستنير: بسم الله الرحمن الرحيم (سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون) أسمعتم الخبير؟ إن الله نور السماوات والأرض يعلن الخبر فيقول: (سورة أنزلناها وفرضناها)، فهل بعد هذا البيان من عالم الغيب والشهادة تقولون أن القرآن مقطع الإنزال على آية آية؟؟ كلا إن النص يعلن أن القرآن أنزل سورا فيها الآيات بنور الله متكاملة البيان، من البداية حتى النهاية. ¶ فالسورة تبدأ ولا يتوقف تدفقها حتى تنتهي، وهكذا كان يتلقاها النبي من الرحمن فنجد أن ما يتلى عليه قط طبع في قلبه بشكل لا يقبل النسيان. ثم لنقرأ قوله تعالى بعد ذلك: (وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون). وهذا هو الحق فالبيان لا يأتي في كل حال، من كلام مقطع الأوصال بلا اتصال، بل بآيات تتواصل بلا انفصال، حتى تفي بالغرض الذي يريده ذو الجلال. كما أن التذكر لا يتوفر بكلام مقطع مبتور، بل بكلام متواصل الألفاظ والمعاني يليق بالله العليم القدير. ¶ وبعد: فلعل سورة النور قد أنارت لنا الطريق بأقوى دليل، وقطعت كل قول في أسلوب التنزيل، وكيف لا وهو من الله العظيم الجليل؟! ولهذا؛ فلأنه يصف نفسه في السورة (الله نور السماوات والأرض)؛ فهل في النور انقطاع؟؟ كلا بل هو متصل يملأ الأصقاع. ثم إن الله يصف نوره بقوله: (مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم) [النور:35]. إن النور متكامل شامل، ولكل ذرة في الوجود واصل، وكل الخلق من منهله ناهل. وهو من القوة والوضوح، بحيث يصل الأعماق قبل السطوح، ويتخلخل في الباطن قبل الظاهر، وينير الأبصار والبصائر، ويضيء العزير قبل البصير، ويبهج العيون ويشرح الصدور، إنه باختصار كما يقول الله: (نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ). ومشيئته تبع علمه، فمن علم الله أنه مؤمن متذكر، وأنه مسبح مستغفر، هداه إلى نوره، وجعله من عباده المهتدين الناعمين بخيره. ومن علم الله أنه أعمى مستكبر، مستغن عن ربه مستنفر، صرف عنه الهدى والنور وجعله في (ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها). إنه منقطع عن الله نور السماوات والأرض، بعيد عن ربه مشغول بالقرض، فكيف يصله النور؟! وهو في الضلال مغمور، وكيف يجعل الله له سبيلا إلى النور؟! كلا: لقد علم الله أنه نافر كفور، فلم يجعل له نصيبا من عطاء ربه الغزير، (ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور)، وأنى يكون له نور وقد انفصل عن نور السماوات والأرض. ¶ وهكذا فإن الله العليم، يهدي إلى نوره القلب السليم، ويصرفه عن الكفور الأثيم، (ويضرب الله الأمثال للناس). فلقد ضرب لنا المثل على نوره، وأعلمنا أنه يصل إلى كل شيء وإلى كل ذرة، بصورة واضحة منيرة. وهكذا جاء القرآن واضح النور، ساطع الضوء يشرح الصدور، ويبدد الديجور، وينير سبيل كل المستجيبين لله العليم القدير، وأنه بالاستجابة لجدير، والطاعة والاتباع لهداه خير كثير. إن العلم كله له، والهدى هداه، ومن اهتدى بسوى الله تاه. ولهذا يختم الآية بقوله: (والله بكل شيء عليم). ومن هذا شأنه وهذه صفته فهو الهادي إلى الصراط المستقيم، وهداه هو الهدى وعلمه هو العلم الذي به الحياة تصلح وتستقيم، ويسعد به كل قلب سليم، وكل سمع وسامع كريم. ¶ وبعد: أليس الآيات تنزل كاملة متوالية في كل سورة من البداية حتى النهاية بلا انقطاع؟؟ بلى بلى هذا هو الحق بلا نزاع. ولأجل هذا جاء من الله التأكيد على أن السورة هذه آيات متوالية حتى النهاية، فقال في الآية 34 منها: (ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين)، وكرر هذا التأكيد في الآية 46 منها فقال: (لقد أنزلنا آيات مبينات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم). فهل الهدى إلى صراط مستقيم يتم بآيات مقطعة الإنزال؟، وهل البيان في الكلام العام يتم بكلمات مقطعة الأوصال؟، فكيف بكلام الله العلام!! ¶ وهل التقطع إلا لغو لا ترضاه الأفهام ولا يليق بالعقول؟، فكيف ترضاه لربنا الجليل؟، إنه الحق والحق يقول: (فتعالى الله) عن القول الغامض العي، وقد لقب الآيات في كل شيء، وكان القرآن هو قمة البيان الذي يعجز كل ناطق حي، فلتكن على يقين بأنه تنزل سورا كاملة لها بداية ولها نهاية تحيط بموضوعها، وتفصح عن أغراضها، بما لا يدع مجالا للغواية، وبما يزيد الناس علما ودراية، ويهديهم إلى أسمى غاية.وبعد فإن سورة النور قد أنارت لنا السبيل، وقطعت كل قول بأقوى دليل، وبالنص الذي لا يحمل التأويل. ¶ هل تريدون المزيد من الأدلة؟، على أن السور كانت تتنزل كاملة؟.لنقرأ بعضها فإن البعض يدل على الكل ويكشف عن الصور، وينسف كل ارتياب، ويسترشد به أولوا الألباب. لنبدأ من البقرة، فإن الدلالة فيها واضحة مقررة. ولنقرأ: (الم(1)ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين(2)الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون(3)والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون(4)أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) [البقرة:1-5].ماذا أفادت الآيات؟. أفادت أن المتقين هم الذين يؤمنون بالغيب، ويؤمنون بما أنزل على محمد وبما أنزل على الأنبياء من قبله. وإذن فهم لهم صفات خاصة، منها الإيمان بكل ما أنزل، ولكل من أرسل. أليس هذا هو بعض ما تقرر هنا؟.بلى. ¶ انتقلوا إلى آخر السورة تجدوا آخرها يتصل بأولها، ومنتهاها يؤكد مبتدأها، وأن الموضوع متصل الآيات، متتابع الدلالات، لا ينفصل ولا يتمزق، ولكن يتوالى ويوثق. ولنقرأ الختام، ففيه القول الفصل الذي يقطع كل الأوهام: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) [البقرة:286].ألم يؤكد هنا ما أثبته هناك؟، ألم يعلن هنا ما أعلنه هناك؟. بلى. ¶ وها هم المؤمنون يتبعون الرسول في الإيمان بما أنزل الله، وها هم كلهم يؤمنون بالله وملائكته "إنه الإيمان بالغيب"، وهي صفة هامة كما كانت هناك هي الصفة الهامة الأولى من صفات المتقين. ثم مع الإيمان بالله وملائكته كأنهم يؤمنون بكتب الله ورسله إيمانا بالتساوي مع الإيمان بالرسول الخاتم، لا فرق بين أحد من الرسل سواء تأخر أو تقدم. وبعد الإخبار من الله بأن الرسول آمن والمؤمنون آمنوا بذلك، ها هم يعلنون بلسان واحد الاستماع لما أنزل الله والطاعة (وقالوا سمعنا وأطعنا)، وإذا كان هذا هو شأنهم وهذا هو سبيلهم، فماذا يريدون به؟.إنهم يريدون المغفرة من ربهم لا سوى، فإن هذا هو المطلب الهام والأثير، لدى المؤمنين بالحق المنير. وكيف لا يطلبون هذا المطلب من ربهم العليم القدير؟، وهو الذي إليه وحده المصير (وإليك المصير)، فهو محاسبهم على العمل الصغير والكبير، فهو لا يخفى عليه شيء ولو تضمير، وهو العليم بذات الصدور، فالمصير إليه خطير، إذا لم يكن بالإيمان بالله ورسله هو الشفيع للعبد الصغير، وهو النور في لقاء ربه الكبير. وهكذا يكون هؤلاء هم الذين يهديهم كما وصفهم الله في الآيات الأولى بقوله: (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) [البقرة:5]. ¶ إذن فالموضوع واحد، والبداية والختام تنطلق من غرض واحد، وعلى الإيمان تؤكد، وللطريق الحق تحدد، وهو تكليف لا يصعب على المؤمن الموحد؛ لأنه تكليف من الله الذي يدعو إلى دار السلام، ويعلم قدرة العباد في كل المهام، فلا يكلف إلا بما يستطيعه الإنسان، في كل زمان وفي كل مكان. ولهذا قال: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) [البقرة:286].وهي حقيقة لا تشك فيها ولا ترتاب؛ لأنه قول الله الغفور الوهاب (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)، ومع أن المؤمنين يعلمون هذه الحقيقة فإنهم يتوجهون إلى ربهم داعين مستعيين، ولمولاهم خاشعين مستسلمين، فيقولون: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) [البقرة:286].وهكذا تنتهي السورة بهذا الدعاء العميق الذي يعلن فيه المؤمنون عجزهم عن الوفاء إلا بعون ربهم، ويرجون فيه أن يجنبهم ما وقع فيه المنافقون بكذبهم، ولا ما وقع فيه أهل الكتاب من قبل من عدم التمسك بكتاب ربهم.ثم وأخيرا يعلن المؤمنون أن الله ربهم ومولاهم وبالتالي فإنه المدعو بنصرهم على القوم الكافرون، وإنه لدعاء يعيدنا إلى بدايات السورة التي وصفت المؤمنين مع هؤلاء الأنواع من الناس بالتفصيل، فالكافرون لا يؤمنون، فقلوبهم عليها وعلى أسماعهم ختم وأبصارهم عليها غشاوة، فهم معادون للإيمان بصورة واضحة بلا غشاوة، أما المنافقون من أهل الكتاب ومن الأعراب فهم موصوفون بصفات الكذب والخداع، والادعاء الذي يدعو إلى الاقتناع، ولكنه ادعاء يكذبه الله ويفضح، وعن طواياهم يكشف ويفصح، فإذا هم يشترون الضلالة بالهدى فهو شراء لا يربح، وهم في ظلمات من كل اتجاه تحيط بهم، وهم صم بكم عمي في دينهم، فلا يرجعون إلى الصواب، ولا يسلكون مع أولي الألباب. بل يستمرون في طريق الهلاك والتباب، ويتمسكون بالارتياب، لكن الله بهم عليم خبير، ولو شاء لذهب بكل مداركهم فهو على كل شيء قدير، وإذن فإن الناس مدعوون إلى طريق الخير والسلام، والارتفاع إلى أعلا مقام، إنهم مدعوون إلى قوله تعالى: (ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) [البقرة:21].فعبادة الله الخالق هي ميثاق الخلق للإنسان، وهي مهمته في كل زمان ومكان، وبالعبادة يرتقي إلى التقوى التي تجعله في مصاف عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا. ¶ ولكن كيف يهتدي إلى هذا المقام؟. إن السبيل إلى ذلك هو ما أنزله الله على عبده من الكتاب والإيمان بما فيه بلا ارتياب، فذلك مرتقى أولي الألباب، وإلا فإن النار للكافرين المآب، وهكذا تكون الآيات من البداية إلى النهاية، فالسورة تدور حول هذا الموضوع الهام، الذي يرفع الإنسان إلى أعلى مقام، ولهذا كانت السورة حافلة بمختلف آيات الأحكام، لتنظيم حياة الناس على أحسن نظام، ولتدلهم على الطريق الحق المبين، الذي يدخلهم في اسلم كافة في الدنيا ويوم الدين، ويوصلهم إلى الفوز برضوان رب العالمين، فهل بعد هذا يقال أن السورة نزلت مقطعة الأوصال؟، موزعة الآيات بلا اتصال؟. كلا: بل السورة نزلت كاملة وبأحكام مفصلة متصلة، وآيات متواصلة. وكيف لا والله علام الغيوب يعلم ما كان وما يكون، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو معنا أينما كنا، ولهذا فهو في السورة يسأل الناس سؤال استعجاب، ليؤكد غفلة الناس عن ربهم واتخاذهم من دونه الأرباب، فيقول: (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون) [البقرة:28].فالأرض هو سخرها وهو لنا عليها سبر، وهو الذي للأمر دبر، ولكل خلق هدى وقدر، وللأرزاق بسط وقدر، وإليه الخلق كله يضطر، وهو يجيب المضطر، بل ويعلم سؤال كل مخلوق قبل السؤال، فيأتيه الرزق في كل حال، من ربه ذي الجلال، فهو المحيط بكل شيء علما، وهو الذي يصورنا في الأرحام كيف يشاء.وبهذه الصفات العظيمة لله العليم، تنزل القرآن الحكيم، وتوالت أحكام السورة بتواصل مستقيم، بلا تفريق ولا تقسيم. ¶ فمن ذا يستبعد ذلك على الله!! وهو الذي يصف نفسه بقوله: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم) [البقرة:255].هكذا هو الله ذو العلم والقدرة، فلتقدره حق قدره، ولنوقن أن القرآن تنزل بالأسلوب الذي يليق بمن أنزل، وأن سوره كانت كاملة تنزل. ولنعد إلى سورة البقرة لنستوضح هذه الحقيقة المقررة ولنبدأ من أول السورة: إن الله يأمر الناس في الآية 21 بقوله: (ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) [البقرة:21].إن هنا يبدأ سؤال وهو: هل يمكن أن يأمر الله الناس أن يعبدوا ربهم دون أن يوضح لهم كيف يعبدون؟ وماذا يعملون حتى يكونوا من المتقين؟. كلا وحاشا. إذن: فإن السورة قد بينت وأوضحت، وبالأحكام والشعائر والمعاملات حفلت، ولقد توالت فيها الآيات بأسلوب جميل منير، يستسغي ويشرح الصدور، ويصلح ويزكي الناس مدى الدهور، ويحدد لهم معالم السلام في المسير. ¶ ولو أردنا أن نستعرض ما ورد في السورة من الأحكام والواجبات، وشعائر الدين والمعاملات الدنيوية لطال المقال، ولكنا سنشير إليها باقتضاب، ونتلمس تواصلها بدون إسهاب، ولنبدأ من حيث الأمر بالعبادة، فلقد أعقب الأمر للناس بعابدة ربهم، استبعاد أن يكون ما أنزل الله على عبده يواجه بارتيابهم، فإذا أصروا على الارتياب فليأتوا بسورة من مثل القرآن، فيها الوضوح والبيان، إنهم لا يستطيعون، فهم إذن لن يفعلوا، وإذن فإن عليهم أن يكونوا بالقرآن مؤمنين، وإلا فليتقوا النار التي أعدت للكافرين، كما أن الجنة أعدت للمؤمنين، وتتواصل الآيات حتى تنتهي بالآية 29 التي سبقت هنا والتي تذكرنا بأنه خلق لنا الأرض والسماوات، وهنا كان من المناسب أن يذكرنا ببداية الإنسان على الأرض، ولنعرف أن الإنسان طارئ عليها مخلوق لغرض، فكانت آيات الخليفة وحوارها مع الملائكة، ثم آيات أمرهم بالسجود لآدم وامتثالهم للأمر في حين استكبر إبليس وكفر فإذا هو يعلن نفسه عدوا لآدم من البداية وسيظل معه حتى النهاية يغوي ويضل ويردي ويزل، ولقد كانت البداية في الجنة الأولى التي أبيح لآدم فيها أن يأكل رغدا ولما زل خرج من الجنة وهبط من مقام الحياة الآمنة إلى مستقر الحياة المؤقتة إلى حين المقدرة المتاع للبشر أجمعين فلهم فيها الحياة والموت وهم فيها بعضهم لبعض عدو مدى الزمان، وهم في خوف وأحزان، ولا ينجو من هذا إلا من اتقى وعمل صالحا بإيمان، ولا يكون هذا إلا بهدى من الله الذي كتب على نفسه أن يرسل الرسل وينزل البيان، (قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون* والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) [البقرة :38-39]. ¶ وهكذا بدأت المسيرة وجاء الهدى وجاءت الرسل بالبينات المنيرة ولهذا كان من المناسب أن ترد الآيات التي تذكر بني إسرائيل بعهودهم مع الله وتدعوهم إلى الإيمان بما أنزل الله على محمد عبد الله وهو مصدق لما مهعم وجاءهم مع موسى وعيسى من عند الله، وتذكرهم بالرجوع إلى الله ، ولعل في هذا إنذارا لنا لنكون على وفاء مع الله وتقوى وإلا كنا مثل بني إسرائيل، ألم يكن الله قد فضلهم على العالمين بحمل رسالة الدين، وها هو الله يحملنا حمل القرآن للعالمين، فلنكن في حمله جادين ومجاهدين، وفي إبلاغه مخلصين، وفي العمل به صادقين، لنكون من الصالحين، وإلا كنا مع الذين غضب الله عليهم وكانوا من الخاسرين، وحلت بهم لعنة اللاعنين، فلنحذر ولنعمل صالحا ولنف بالعهد ليكون عملنا مفلحا، ولتضح لنا التحذير والنذير توالت آيات بني إسرائيل حتى تصل إىل الآية (150) من السورة. وكلها تفصح عناد بني إسرائيل مع المرسلين وتكذيبهم بالآيات والارتياب في الدين، واللجاج في كل حجاج، وتحريف الآيات النازلة عليهم وكتابة الكتاب بأيديهم بما يتفق مع هواهم وادعائهم بأن هذا كتاب ربهم، واتباعهم الشياطين في تعلم السحر ونسبة ذلك إلى سليمان، ثم تعلمهم ما يتفرق به الزوجان، واستمرارهم في اتباع ما يضر الإنسان ولا يرضي الله الرحمن، فكانوا بذلك مستحقين الذلة والغضب والهوان، والعذاب في الدنيا ويم الدين، وخلودهم في لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. ومع ذلك فهم يدعون أن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة، ويفترون على الله أن الجنة لهم محدودة، وأن الدخول لهم دون الناس، وأنهم أولياء لله دون الناس، لكن الله يكذبهم ويدفع زورهم، ويدفعهم بأن ملتهم هي أهوائهم، ويفند دعواهم أنهم أتباع إبراهيم ، ويؤكد أن إبراهيم ليس يهوديا ولا نصرانيا ولكنه إمام المسلمين وأنه لم يكن من المشركين، وكلهم يكابرون وهم يعلمون، أو هم لا يعلمون؛ لأنهم يجهلون ما عندهم من الكتاب المبين، بل لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون، وهكذا يؤكد الله أن المسلمين هم المتبعون لكل المرسلين والمؤمنون بما أنزله الله عليهم أجمعين، وأن من لم يؤمن بذلك فإنه كافر أثيم، ولا ينفعه أنه من نسل إبراهيم، فالأنساب لا تنفع ولا ترفع ولكن المهتدي هو من آمن واتبع، وإذن فلكل إنسان مع عمل وعليه يسأل (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون ) [البقرة:141].وهكذا تبين الآيات بأن بني إسرائيل عاطلون من العلم رغم الادعاء ، بعيدون عن الهدى ، ضالون عن سبيل الأنبياء، متبعون للهوى. وبهذا حرفوا الكتاب ولا يزالون منه في ارتياب، ولهم الذلة والعذاب. ¶ فهل بعد هذا يسير المؤمنون بالقرآن، على هذا الأسلوب المهان؟! لا بد لمن يقرأ القرآن ويؤمن بما فيه أن يتبع هدى الله ولا يرتاب فيه وأن يجاهده في الله ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة وينفق في سبيل الله ليكون على الطريق الحق سائر، وعلى هدى من الله مستنير البصاير. وعلى هذا الأساس بدأت الآيات تتوالى بالأحكام والواجبات، وتوضح سبيل الله الحق في الشعائر والمعاملات، وتضع المعالم الواضحة للأعمال الصالحات، وتعد من استقام برحمة الله وبالنصر والثبات، ثم بالنعيم والجنات، وذلك هو الفوز العظيم، الذي يعمل له العاملون، وعلى هذا الأمل الحق الجميل، والوعد الصادق من الله الجليل.. [اقرأ الآيات من 105 إلى 140]. ¶ إن حملة الدين من المسلمين هم أمة الأنبياء والمرسلين، والإسلام دين الله الحق، الذي يدين به كل الخلق، ولقد خسر من عنه فسق، فليسر المسلمون عليه في ثبات، وها هي الطريق واضحة المعالم بالأحكام والآيات، المنظمة للعلاقات أحسن نظام، الهادية إلى السلام. ولذلك بدأت الأحكام تتوالى وتتلألأ على الطريق، فإذا بالقبلة التي ارتضاها الله تحدد، ويرضاها الرسول محمد، ومن اتبع محمد، وما هذه القبلة إلا المسجد الحرام الذي رفع قواعده إبراهيم وإسماعيل، وهما يدعوان الله بأن يستقيما على الإسلام، وأن تكون ذريتهما ومن اتبعهما على الإسلام، وأن يبعث فيهم رسولا يعلمهم ويخرجهم من الظلام، وإذن فهي القبلة التي توحد الاتجاه، وتلم الشمل إلى الله، وهي التي تتجه إليها الصلاة من كل اتجاه، ولا يشذ عنها إلا الغواه، لا حجة له إلا اتباع هواه، ولهذا يؤكد الله على هذا الاتجاه الذي ارتضاه فقال للمرة الثالثة: (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون ) [البقرة:150]. ¶ فالقبلة هذه إتمام للنعمة واتباع هدى الله هو الهدى الذي به تتم النعمة، وكيف لا وهي وجهة يعلم الله أنها الحق، والجدير بها هو الدين الحق، ومن به آمن وصدق؟؟وكما أنعم الله على الناس بالدين أنعم عليهم بالقبلة التي توحد وجهة الموحدين ولتأكيد هذا فإن الله يسوي بينها وبين إرسال الرسول فيقول: (كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ) [البقرة:151].وهكذا يتواصل التعليم والتزكية وتأتي الآيات للمؤمنين بعلم من الله لم يكونوا به يعلمون من قبل هذه، وما العلم إلا هذه الأحكام والواجبات التي تتواصل في الآيات حتى نهاية السورة. ¶ وكما توحدت القبلة والاتجاه في الصلاة فإنه لا بد أن تتوحد الوجهة في الحياة لتكون كلها صلاة ويكون للناس إمام يؤمهم إلى النجاة، إنه لهو الرسول والكتاب، فالرسول هو الباب والكتاب، والرسول هو الطريق السليم والنور والصواب، السائر إلى غير المآب، فليبادر إلى بيانه أولوا الألباب، وإلا كانوا سائرين إلى العذاب، كما يقول الله منزلا للكتاب: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون*إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم ) [البقرة:159-160].ولكي يبين العلماء الكتاب للناس فلا بد من معرفة الله حق معرفته وتقديره حق قدره فلا يجعلون له شريكا في ملكه ولا في حكمه فهو الإله الحق والرب الذي خلق: (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمان الرحيم) [البقرة:163].ولتأكيد هذه الحقيقة فإن الذين يعقلون يتفكرون في خلق الله رب العالمين وتدبيره لكل المخلوقين: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون) [البقرة:164]. ¶ وإذا كان الله هو الخالق المدبر والمصرف لكل شيء والمسير والهادي والمقدر والممسك والمسخر فإنه هو الرب الذي لا يشاركه أحد في تدبيره وعلمه، وهو الذي يحب ويعبد ويجاب ويحمد ويهاب ويقصد، فمن ادعى أنه ند لله أو اتخذ له ندا فقد ضل وفي العذاب تردى، وعلى هذا الأساس فإن على الناس أن لا يتبعوا المضلين، وليكونوا في الأرض مهتدين بهدى الله، آكلين مما سخره حلالا طيبا، حامدين شاكرين ما أعطاه، ولا يتبعوا الشيطان فإنه العدو المبين، الداعي إلى الفحشاء والطغيان، والجهل بما أنزل الرحمن، وذلك هو الخسران، الذي يجعل الإنسان أضل من الحيوان. ¶ وأمام هذه الدعوة للناس فإن على المؤمنين العابدين لله أن يعرفوا الحرام والحلال، وها هو البيان يأتيهم من ذي الجلال، (ياأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون* إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم) [البقرة:172-173].وعلى هذا الطريق الواضح فليمض موكب العلم والإيمان، ويهتدى بهدى الرحمن، ولا يكتم ما أنزله الله من البيان، فإن فعل المؤمنون ذلك واشتروا متاع الدنيا والسلطان، فإن الذي اشتروه إنما هو النار والخسران، لقد علموا بالحق فآثروا الباطل والبوار، فما أصبرهم على النار، (ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد ) [البقرة:176]. ¶ إن ورود الكتاب هنا بالألف واللام يدل على أنها للعهد فالمراد ذلك الكتاب الذي بدأت به السورة، إذن فالآيات متواصلة يلي بعضها بعضا حتى النهاية، وهكذا تستمر الآيات من هنا متوالية، فتبدأ أولا بالآية 177 والتي تجمل ما ينفصل بعدها من الأحكام وتوجز ما يأتي بعدها من المهام، فإذا هي تشير إلى أهم منابع البر عند الله العلام. يقول الله : (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب). ليس الدين بالمظاهر الفارغة والشعارات الجوفاء وليس الاتجاه إلى جهة معينة هو التقوى، فالله هو المقصود لا سوى، ولهذا يواصل بيان البر بقوله: (ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين ) إن الإيمان بهذه هو البداية ولكن يجب أن تجسد بأعمال صادقة صالحة النية ولهذا قال الحق: (وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ) [البقرة:177]. وهكذا تجمل الآية أهم الأحكام والواجبات والمهمات الصالحات، المنطلقة من الإيمان بالله والملائكة والكتاب والنبوات، وبهذا تصبح مسيرة المؤمن متصلة بميسر المرسلين فالأنبياء هم أمة المؤمن والله هو رب الجميع وهم له عابدون، والصالحات من الأعمال هي سمة الجميع، فهم أمة واحدة والله ربهم وهم له تقاة هم الصادقون. ¶ وبهذه الروح المؤمنة والعزيمة الموقنة والقلوب الذاكرة لله وبه مطمئنة، تمضي المسيرة إلى حياة السلام والأمن في الدنيا وإلى رحمة الله ثم الجنة من خلال الأحكام والواجبات، والفروض والمهمات، التي تجملها وتبينها ما يلي من الآيات حتى آخر السورة المختومة بتلك الدعوات المعروفات، التي يلهج بها كل مؤمن في كل الحالات، إنها الآية التي تختم بقوله تعالى: (واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ).إنها الآية الأخيرة من السورة [286]، إن هذا هو نتاج الأعمال، ومرتجى النساء والرجال، فالعفو والمغفرة والرحمة، هي الغاية الهامة، والمطمح الأسمى لكل مؤمن ومؤمنة، وعلى هذا الأمل، والمطمح الأجل، تتوالى آيات الأحكام والعمل بعد الآية [177] السابقة، فإذا بنا أمام آيات الديات في القتلى (ولكم في القصاص حياة ياأولي الألباب) ثم آيات الوصية للوالدين والأقربين، والإصلاح بين الخائفين من الجانفين، ثم تبدأ آيات الصيام وأحكامه، وصفة الصيام وأيامه، ورخصة الإفطار في المرض والسفر والوفاء بالقضاء والتزامه، وبيان شأن ليل الصيام وقيامه، والعكوف في المساجد وحرامه، ثم بيان أحكام التعامل في الأموال، وتحريم أكلها بالباطل في كل حال، وتحريم استخدامها في كل أموال الناس، فذلك من أسوأ الأعمال، ثم عودة إلى بيان البر من جديد باقتضاب، والأمر بإتيان البيوت من الأبواب، وفي كل ذلك تكون التقوى هي الغاية لأولي الألباب، وقد عرفنا في أول السورة أن التقوى هي الصفة التي يتصف بها من يهتدون بهذا الكتاب، وتستمر هذه الصفة مع ما يلي الأحكام حتى في القتال التي تأتي أحكامه هنا بصفة تجعل المؤمن ينتصر لله لا لنفسه ويقاتل لرد العدوان لا للانتقام ولإقامة الدين لا لاقتناء المغانم والأموال بل إن المال ينفقه المؤمن المحسن في سبيل الله، فإن لم ينفق فقد ألقى بماله إلى التهلكه وبلا ثمن لأنه أنفقه بغير وجه الله: (وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ) [البقرة:195].وهل هناك أسمى للمؤمن من أن ينال بالمال حب الله ذي الجلال، إن ذلك أروع المطامح والآمال، إن الله هو الباقي وكل شيء هالك، وإليه الرجوع وهو ليوم الدين المالك. ومن أهم سبل الإنفاق الحج فهو جهاد بالمال والنفس والجهد بالإقبال من كل فج، ولهذا تأتي هنا آيات الحج والتقوى هي السمة لكل من فرض الحج، والمتبقي هو (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ).وأما من لم يذكر الله وأراد الدنيا فإنه جيفة عفنة تفسد في الأرض، إنه خاسر المعاد، فالله لا يحب الفساد، ولكنه مع ذلك يحب من يشري نفسه بمرضاته فالله رؤوف بالعباد، وبهذا الحب والرأفة للعباد فإن الله يدعوهم إلى السلام. (ياأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة). ثم ينذرهم باقتراب الساعة فما ذا ينتظرون بعد البيات إلا أن تأتيهم المذهلات يوم لا ينفع مال ولا بنون (وإلى الله ترجع الأمور) [البقرة:210]. ¶ وتتواصل الآيات منذرة ضاربة الأمثال لمن سبق، مؤكدة أن هدى الله هو الحق، وأن الجنة لمن صبر وصدق، ولم ينهزم ولم يرتب، بل صمد حتى جاء نصر الله (إن نصر الله قريب) [البقرة:214].ثم تعود الآيات لبيان الأحكام فتبين نوع ومجال الإنفاق، ثم تعود مرة أخرى إلى القتال، وتؤكد أنه مكتوب على المؤمنين وهو كره لهم ولكن الله يعلم ما لا يعلمون، فليقاتلوا وليثبتوا على الدين ومن يرتد عن دينه (فإنهم في النار خالدون) فالكفر والكفار مستمرون على قتال المؤمنين حتى يردوهم عن الدين، فكيف لا يجاهدون ولرحمة الله راجين، ولكي يكون المؤمن صابرا مجاهدا فلا بد أن يتطهر من بعض الآثام والعادات التي بها يردى، ولهذا بين الله أن الخمر والميسر إثم كبير، ثم أكد أن الإنفاق في سبيل الله خير من الإنفاق في الشهوات والآثام، وأن حماية الأيتام من أجل المهام وإصلاحهم من أصول الإسلام، فليكن مال المؤمن في الصرف والإنفاق طاهرا، وليكن في كل حياته مجاهدا صابرا، ومثلما يلزم التطهر في المال فإنه واجب في النكاح والاتصال والتزاوج بين النساء والرجال، فالمشركات والمشركون يدعون إلى النار، وزواجهم لا يليق بالمؤمنين الأطهار، وإن العبيد من المؤمنين والمؤمنات خير من الأحرار، وكما يكون من الشرك طاهرا فإن الاتصال الحلال يجب أن يكون ظاهرا، ولهذا فاعتزال النساء في المحيض طهر يحبه الله، وإتيان النساء للحرث واجب فرضه الله، أما إتيانها للشهوة فإنه عبث لا يرضاه الله. وهنا تعرض الآيات للإيمان في كل الأمور، ولليمين في الزواج، فتبينه الآيات بوضوح، وعلى إثر الإيلاء من الأزواج تأتي آيات الطلاق بين الأزواج موضحة أحكامه وتفاصيله بلا اعوجاج مبينة كل أحواله بما لا يدع مجالا للجاج، ثم وقد ينفصل الزوجان بسبب غير الطلاق وهو الوفاة فحكم ذلك مفصل واضح مبين لكل احتمال. ¶ حتى ينتهي أخيرا بإعادة الوصية بالرفق بالمطلقات والإحسان إليهن بلا إعنات فيقول: (وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين) إنه حق على المتقين وهم الذين هذا الكتاب هدى لهم، فإنه تذكير لهم بأول السورة ليستمروا على طاعة الله والإيمان بما أنزله من الحق ويبقى حكم الله هو المرجع في أي عمل مهما دق والاعتماد عليه هو لمن شاء أن يسبق، ولتأكيد هذا نأتي إلى قصة طالوت الذي بعثه الله ملكا لبني إسرائيل فإذا هو لم يثبت معه إلا الذين يظنون أنهم ملاقوا الله فكان الله معهم وهزموا جالوت رغم قلتهم (والله مع الصابرين)، وهنا تعود السورة لتذكرنا بالآيات وبالرسول والكتاب (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين) إن هذا تذكير بقوله تعالى: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا..) الخ الآية، فالموضوع متصل متواصل والآيات تترى بلا فاصل. بلى إن الله يذكرنا بأن الرسل متواصلة الإرسال متتالية الآجال على مختلف الأجيال وكل له شأن وله آية وعليه فإن المسيرة واحدة مهما تباعدت العصور والأزمان. ¶ وتعود الآيات إلى الإنفاق وينادي الله المؤمنين أن يغتنموا الفرصة قبل أن يكونوا ظالمين، فالله هو الرزاق وهم مستخلفون، (أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون) [البقرة:254].إن عدم الإنفاق كفر وظلم للنفس مبين، وإن عدم الإنفاق يعني عدم اليقين برب العالمين، ولهذا كان من المناسب أن تأتي هنا آية الكرسي بما فيها من وصف لله العلي العظيم، ثم يعقبها التأكيد على أن الدين اختيار لا إكراه، ومن اختار الطاغوت وهي الدنيا كان في ضلال وظلمات، ثم النار مصيره والمبات، لأنه نسي الله الباقي الذي يحيي ويميت وكل شيء سواه فاني، ولذلك يؤكد هذه الحقيقة في حكاية الذي أماته الله مائة عام فأيقن بعد بعثه أن الله على كل شيء قدير، ثم حكاية إبراهيم عن إحياء الموتى حتى علم أن الله عزيز حكيم، وعلى حرارة هذا الإيمان وصدق هذا اليقين تعود الآيات إلى وصف الإنفاق والمنفقين في سبيل الله، وهي غير الإنفاق في مجال الصدقة التي سبقت. إن هذه الآيات تتناول موضوع الإنفاق الذي يشغل الأيدي العاملة وينقذ المساكين والفقراء من الحاجة والمسكن ، فالإنفاق ينمو ويتضاعف والمجتمع يسعد وبرحمة الله يحف، فمثلهم (كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة) وهذا أقل صورة المضاعفة بل إن الله يضاعف لمن يشاء بحسب نيته وصدقه، والله واسع عليم، فلا يخفى عليه شيء ولا يظلم المنفق أي شيء بل يضاعف ويفي وله أضعاف ما أنفق في الدنيا والأخرى، فهو كجنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين أما المنافق الذي يمن ويؤذي فإنه كصفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا، وتستمر الأمثال للمتق المحسن والمنافق الذي يمن حتى تصل الآيات إلى قوله: (الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) [البقرة:274]. ¶ من هو الذي ينفق بالليل والنهار وسرا وعلانية؟. إنما هو الذي ينفق أمواله في سبيل الله فيقيم المشاريع الصناعية والزراعية والعلاجية والتعليمية يفيد الناس ويبيع لهم بأسعار مناسبة وبأرباح غير مبالغة، وهو يقدم لهم السلعة الجيدة والمتقنة الزكية والنقية من كل غش أو نقصان أو سوء ومع ذلك فهو يشغل الأيدي العاملة وينصفهم في الأجور ويرعاهم في كل حال ولا يمن عليهم ولا يكلفهم بما لا يجوز من الأعمال ولا يطلب منهم منافع تخرج عن نطاق المهمات، وتتجاوز نصوص العقد والاختصاصات، كالتصويت في الانتخابات، أو الشهادة له زورا في الخصومات، كلا فهو يتعامل معهم كمتعاقدين يفي لهم ويفون له في حدود ما تعاقدوا عليه كل في مجال عمله، بلا مجاملة ولا مماطلة فلا يأكل من خلالهم أموالا باطلة ولا يحملهم ما لا يطيقون احتماله، إنهم في أمن معه وسرور وهو معهم سعيد مجبور، وربحه موفور، وحقه وحقهم مضمون وهدفهم جميعا (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون). ¶ ولتأكيد هذا المعنى الذي أوضحته لكم والذي توضحه الآيات وبه تحكم؛ تأتي الآيات التي تصور النقيض من هذا المسلك وتصف الطريق المهلك، وهي آيات الربا فإذا بها تعلن (وأحل الله البيع وحرم الربا)، وإن آكل الربا لا ينمو حتى ينتكس كالذي يتخبطه الشيطان من المس، وكيف لا والله يقول: (يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم) فآكل الربا مكروه وفاعل الصدقات محبوب، وشتان ما بين الاثنين فذلك كفار أثيم، وهذا مؤمن بالله العظيم، ولهذا فإن الله يؤذن آكلي الربا بحرب من الله ورسوله، وينصحهم بالتوبة بل بالتيسير بل بالعفو عن المعسر، واحتساب ذلك صدقة تنفعه حين لا ينفع مال ولا بنون، ولهذا يختم الآيات بقوله: (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ) [البقرة:281].وهنا تنتهي آيات الأموال المتبادلة، والأموال التي تنفق لتشغيل الأيدي العاملة، لتبدأ آيات تنظيم الدنيا بين الناس وتنظيم التجارة التي تدار بين الناس حاضرة، فتؤكد أن الشهادة لازمة والكتابة واجبة، وأن الشهود والكتاب محروسون من الضرر والتخويف المهين فإن فعل المؤمنون ذلك فإنه فسق عن الدين وعن هدى الله الذي علمهم والله بكل شيء عليم. فليحذر المؤمنون من الانحراف عن الحق والانجراف للهوى وليتقوا الله وليتبعوا الهدى، والله يعلم السر وأخفى، وكيف لا وهو يقول: (لله ما في السماوات وما في الأرض) فله تدبير كل شيء وحي، والناس أهم شيء، فهل يتركهم الله القادر؟ كل بل هو يخص الأعمال والخواطر. (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير) [البقرة:284].وإذن فالإيمان بالله وبما أنزل هو السبيل الآمن للمؤمن الذي يذكر الله فيوجل. ¶ وبهذا فإن الله يعلن أن هذا هو شأن الرسول، وشأن من اتبعه وآمن معه، وعلى سبيل الله استمر فيها يعمل ويقول. إنها الآيات التي تؤكد البدايات، وتعلن أن السورة متواصلة الأحكام متتالية الآيات، بلا انفصام، لأنها من الله العالم: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ) [البقرة:285]. لقد سمعوا الكتاب والأحكام وأعلنوا الطاعة والالتزام، وطلبوا الغفران من ربهم الغفور، وكيف لا وإليه المصير وهو العليم بهم والبصير، بل هو اللطيف الخبير؛ لأنه (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) ورغم ذلك فإنهم يواصلون الدعاء ويعلنون الافتقار إلى الله لأنه المولى (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) [البقرة: 286].إن هذا هو غاية الأمل لمن اتقى ولمن بهذا الكتاب اهتدى، وهذا هو أسمى المطمح لمن آمن بالله مع الرسول واستقام على نفس السبيل، وهذا هو المآب الذي يتطلع إليه أولوا الألباب فالله مولاهم في الدارين وهو الناصر في الدنيا ويوم الدين إنه الله رب العالمين. ¶ وبعد: هل اتضح بعد هذا العرض الطويل والبيان الكامل عن أسلوب التنزيل؟ هل اتضح لكم أن القرآن تنزل سورا وأن كل سورة كانت تتلى على الرسول كاملة، وأن آياتها متواصلة بلا انقطاع، وأن البيان فيها كامل الشعاع، لعل ذلك قد اتضح، وعن المراد أفصح، لقد حاولت الإيضاح بقدر الإمكان، ولقد أطلت مع أن الإطالة مملولة لدى أهل البيان. لكني إن أطلت في البقرة، فسوف تكون الأمثلة في بقية السور مختصرة، لقد أردت هنا أن أضع الأنموذج الأمثل، ليكون نبراسا لما يتلوه، وليكون دليلا لما يقفوه. ¶ عسى أن ننال جميعا بذلك العلم بأسلوب تنزيل القرآن، ونكون على بينة من الأمر وبرهان، فإن ذلك شأن الباحث في كل زمان ومكان، فهو يميل للإتقان وينجذب للإحسان، ويجب أن يفيد الإنسان، ويفوز برخاء ربه الرحمن، وبقبول ما يعمله مهما كثر أو هان، وأن قبول القليل هو الفوز بالكثير، وأن الكثير المحيط هو البوار المبير، فنقول كما قال إبراهيم: (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم).
هل القرآن تنزل سورا أم آيات متفرقات- الجزء الثاني
والآن هل آخذكم إلى آل عمران- لنعرف كيف تنزل القران- أم نتجاوزها،، لعل آل عمران والنساء لها ما للبقرة سواء بسواء، أما المائدة فقد قيل أنها آخر ما أنزل، وقد نزلت كاملة، وكذلك الأنعام فقد روي أنها نزلت ومعها سبعون ألف ملك وأن الرسول استقبلها كاملة وتلاها على الناس مرتلة متواصلة، ومثلها قيل عن الأعراف، أما الأنفال والتوبة فحكاية إنزالها معروفة، فالأولى أعقبت معركة بدر الكبرى، والثانية نزلت عقب تبوك ثم أرسل النبي علي ابن أبي طالب ليقرأها على الناس في الحج كاملة.
وإذا كان لا بد من قول يقال في هذه السور، ليتضح الأمر ويظهر، تعالوا معي إلى سورة آل عمران، ولنقرأ بدايتها: (الم(1)الله لا إله إلا هو الحي القيوم(2)نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل(3)من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام) [آل عمران:1-4].ألا تلاحظون أن الله الحي القيوم هو الذي أنزل الكتاب، ولكي يؤكد القيومية قال: (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء(5)هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم(6)) [آل عمران: 5-6].ثم تتوالى الآيات متحدثة عن القرآن فإذا الناس أمامه فريقان: أولهما: هم الذين في قلوبهم زيغ يتبعون المتشابه منه. وثانيهما: الراسخون في العلم الذين (يقولون آمنا به كل من عند ربنا) وهؤلاء هم العقلاء المتذكرون (وما يذكر إلا أولوا الألباب) [آل عمران: 7].ولهذا فهم يدعون ربهم مستعيذين به من الزيغ، (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب) [آل عمران: 8].لأنهم يعلمون أن الله محيط بكل شيء علما، وأنه لا يخفى عليه شيء وأن تنزيل القرآن بعلمه الذي يحيط بالماضي والآتي وبالظاهر والخفي فإنهم يقولون: (ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد) [آل عمران: 9].
وهكذا ندرك أن السورة تبدأ بالحديث عن القرآن وتؤكد أنه أنزل من الله الحي القيوم، وأنه لا يخفى عليه شيء، وأنه هو الذي يصور في الأرحام كل حي، وعليه فإن من كفر به من أهل الكتاب الذين عندهم التوراة والإنجيل هم أصحاب العذاب وانتقام الله منهم وبيل. وبعد ظهور هذه الحقيقة عن التنزيل للقرآن مصدقا لما قبله، تعالوا ننتقل إلى آخر السورة لنجد الحديث متصل الملفات، متواصل الآيات. فإذا الله المنزل يستثني من أهل الكتاب الذين كفروا بآيات الله فريقا مؤمنا بها، وكأن الآيات في السورة متواصلة بغير انقطاع من أولها إلى آخرها، فاستمعوا وعوا: (من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب) [آل عمران:199].ثم تختم السورة بالنداء للمؤمنين أولي الألباب الداعين ربهم أن لا يزغ قلوبهم أمام هذا الكتاب، فإذا النداء يؤكد ما بدأ فيقول: (ياأيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون) [آل عمران: 200].وما الصبر والمصابرة إلا على الإيمان بالكتاب والآيات المنيرة، وما المرابطة إلا الثبات على الفهم والفقه للآيات بقلوب مطمئنة، وما التقوى إلا العمل بما أنزل الله واليقين بالآخرة ، وهي الحقيقة التي أعلنوها في البداية (إن الله لا يخلف الميعاد) وهكذا فإن الفلاح هو مصير المصابرين المرابطين المتقين من العباد.
অজানা পৃষ্ঠা