وهذا هو نفسه ما تجده في سائر اللغات الاجتماعية التي حدثتك عنها، خذ - مثلا - جانب الطعام، فله مفردات من خبز وفول وأرز ولحم ... إلخ، ثم لهذه المفردات «أجرومية» خاصة، ينشأ عليها أفراد الشعب، بمعنى أنه لا يصعب على أي فرد فيه، معرفة «الأصناف» التي قد تجتمع معا في وجبة واحدة، والأصناف التي يجوز لها أن تجتمع، وليست الشعوب في ذلك سواء؛ فلا المفردات هي نفسها المفردات دائما، ولا «أجرومية» التركيب هي هي بذاتها عندنا وعند الآخرين، وكم من مصري ذهب إلى أمريكا، فأزعجه أن توضع «المربى» في الأرز، أو في السلطة، وأن يؤكل البطيخ بالملح، وعبثا يحاول بعضهم أن يصحح بعضهم الآخر، بأن يلفت انتباهه إلى أنه إذا كان الأمريكي يضع المربى في الأرز، فنحن نضع الزبيب الحلو في الأرز، ولا فرق بين الحالتين، وأنه إذا كان الأمريكي يأكل البطيخ بالملح، فنحن نأكله بالجبن، ولا فرق أيضا بين الحالتين، لكن «المنزعج» يصر على انزعاجه؛ لأن مفردات اللغة قد تغيرت، وتغيرت كذلك أجرومية التركيب.
ولننتقل إلى لغة اجتماعية أخرى، هي لغة الثياب؛ فهنا كذلك نجد ما وجدناه في أصناف الطعام من اشتمالها على الأركان الأساسية التي تقام عليها اللغة، وأعني: مفردات، ثم أجرومية خاصة في التركيب، وستلحظ هنا أن أبناء مصر في مرحلتهم التاريخية الأخيرة قد تعددت فيهم «اللهجات» في الملابس، وبمقدار ذلك التعدد وهنت بينهم الرابطة الوجدانية المشتركة، وإني لأستخدم كلمة «اللهجات» في هذا السياق متعمدا؛ لأؤكد الشبه القائم بين لغة الألفاظ ولغة الثياب؛ فمتى تكون «اللهجة» في اللغة لهجة فقط، وليست لغة أخرى؟ الجواب هو أن أصحاب اللهجات المختلفة إذا فهم بعضهم عن بعض، كانت لهجاتهم مجرد صور اختلفت للغة واحدة، وأما إذا تعذر التفاهم بين أصحاب لهجتين، فهما إذن لغتان مختلفتان.
وهكذا الأمر في «اللهجات» الثيابية بين أبناء الشعب المصري؛ فهنالك تشكيلات لا تكاد تقع تحت الحصر، ومع ذلك فهي جميعا في أعين المصريين كالجمل المختلفة التي تتبع أجرومية واحدة، وإذا ما شذ شاذ عن تلك الأجرومية العامة، بدا غريبا، ووجب عليه أمام العرف العام أن يرتد إلى الصواب؛ فالطاقية - مثلا - تكون مع الجلباب، لكنها لا تكون مع الجبة والقفطان، على أن المجتمع قد يتفق على انكسار الأجرومية العامة، في بعض المواقف الخاصة؛ ففي تركيب مفردات الطعام في شهر رمضان، خروج على المألوف، لكنه خروج متفق عليه، كأن يوضع الفول مع أصناف الدرجة الأولى، وهكذا الحال في الثياب، فيجوز على شاطئ البحر ما لا يجوز في أوجه الحياة المعتادة.
وننتقل إلى مثل ثالث بعد الطعام والثياب، وهو مثل نشير به إلى قطع الأثاث والطريقة التي نركب بها من تلك القطع «جملا » ذات أجرومية خاصة، وأفضل موقف تدرس من خلاله لغتنا الأثاثية، هو موقف العروس المصرية وأهلها عندما يؤثثون للزواج الجديد مسكنا؛ فها هنا ترى الأمر وكأنه قصيدة من الشعر محفوظة عن ظهر قلب، بحيث لا يخطئ الحافظ عند تسميع محفوظاته، لا في الكبيرة ولا في الصغيرة؛ فالبيت مؤلف من كذا غرفة وصالة ومطبخ، ولكل شبر من هذه الأقسام قطع خاصة، إما أن تجيء كما ألف الناس، وتوضع بالطريقة التي ألف الناس، وإما أن تكون الدنيا قد انقلبت رأسها على العقبين، ولقد أضيفت إلى هذه اللغة الأثاثية إضافات بدأت معنا كالهوامش على صفحات الكتاب، ثم لم تلبث أن انقلبت إلى «المتن» لتكون جزءا منه؛ ومن قبيل هذه الإضافات: أي القطع تلتزم به العروس، وأيها يلتزم به العريس؟ وتراهم إذا اختلفوا عند نقطة، رجعوا إلى أهل الخبرة يسألون: على من يقع النجف؟ ومن المسئول عن الفرن والثلاجة؟ يسألون عن ذلك وكأنهم يسألون فقهاء القانون عن تفسير مادة في القانون المدني.
أخشى أن تكون نغمة الحديث في الفقرة السابقة موحية بأنني ساخر من هذه اللغة الواحدة التي تجمع بين الناس؛ لأنني قد أسخر من هذا الجمود الشكلي عند أبنائنا وبناتنا عند إقامة حياة زوجية جديدة، لكنني لا أسخر قط من وحدانية اللغة الاجتماعية في ذاتها؛ أي إنني أتمنى أن تسود بيننا في تأثيث البيوت أجرومية معينة تنم عن الذوق المشترك، غير أني أتمنى كذلك أن تتبدل الأجرومية الراهنة بأجرومية أخرى تتفق مع ظروف الحياة الحديثة.
لا، لست أسخر بأدنى معاني السخرية من أن يتوحد شعبنا في هذه اللغات الاجتماعية على تنوعها؛ لأن مثل هذا التوحد هو عندي في صميم الوجدان الشعبي عندما يكون واحدا بين الجميع، وخاصة في المواقف التي قيل عنها إنها أهم لحظات الحياة عند الإنسان بصفة عامة، وهي المواقف التي لخصوها في ثلاثة: الميلاد، والزواج (أي بناء الأسرة)، والموت، فإذا أردت أن تعلم إلى أي حد يتحد الوجدان عند شعب معين، فانظر إلى مدى التشابه في ردود أفعال الأفراد عند هذه الأحداث.
أردت أن أقول بهذا الذي أسلفته، إن الذي جعل مصر هي ما هي، وأكسبها استمرارية في وجودها، وتميزا في شخصيتها، هو التفاهم بين أبنائها بلغة واحدة في كثير جدا من جوانب الحياة، لكننا بنفس المعيار نزعم أن مصر قد فقدت شيئا من صلابة الروابط الوجدانية الموحدة التي تجانس بين أبنائها في الشعور وفي وجهة النظر، ولماذا فقدت مصر ما فقدته في هذا السبيل؟ جوابي هو أنها منذ اصطدمت بالحضارة العصرية، تمزقت جبهتها وتناثرت جماعات جماعات داخل الشعب الواحد، وإنك لتدرك ذلك بصفة خاصة في المجال الثقافي، الذي يدخل فيه «الذوق» الفني بكل أبعاده: أي الموسيقى تفضل؟ أي ضرب من الفنون التشكيلية (التصوير والنحت) ينبغي أن يستهوي وجداننا؟ هل نظل على صورة الشعر العربي القديم أو يكون لنا في الشعر رأي آخر، ثم ما هو أخطر من ذلك: كيف نفرح في مواقف الفرح، وكيف نحزن في مواقف الحزن؟ كيف نستقبل الضيف وكيف نكرمه؟ ماذا يجوز لبسه وماذا لا يجوز؟ ثم ما هو أخطر من الأخطر إلى أي حد يسمح للولد أن يستقل عن أبيه؟ وإلى أي مدى نريد للمرأة أن تتساوى حقوقها مع حقوق الرجل؟ وعلى أي صورة يكون موقف المحكوم من حاكمه؟ وهكذا وهكذا.
لم يعد جوابنا واحدا عن هذه الأسئلة وأمثالها؛ أي إنه لم تعد لنا فلسفة حياتية واحدة، وما يتشبث به هذا، يكون هو نفسه موضع السخرية عند ذلك.
ويسألوننا: كيف تعاد للمصري شخصيته المتماسكة التي عرفها فيه التاريخ؟ والجواب هو أن نعيد بين المصريين وحدانية اللغة - بمعناها اللفظي وبمعناها الاجتماعي - فيعود إليه بذلك وجدانه المشترك، وليكن مفهوما أن المسألة في عملية الإحياء ليست إعادة «مضمون» قديم كما كان بحذافيره، بل هي إعادة «الاتفاق» - عن طريق أساس تربوي مشترك - على وجهة نظر واحدة.
خطاب إلى ولدي
অজানা পৃষ্ঠা