إن أفراد الناس، وإن بدوا على صورة متجانسة، فلكل منهم عينان وأنف وشفتان، وهم يختلفون في بواطنهم اختلافا قد لا نقدر مداه، وحسبك أن ترى من هذا التباين بينهم ما يعلو ببعضهم حتى يوشكوا أن يكونوا مع الملائكة، ويسفل ببعضهم الآخر حتى يصبحوا شياطين مع الشياطين، فكيف نتوقع للناس بكل ما بينهم من أبعاد الخلاف أن يسالم بعضهم بعضا بالمعنى الذي يصبهم جميعا في قالب واحد؟
ما الذي يجعل كواكب المجموعة الشمسية كوكبة فلكية واحدة موحدة؟ يجعلها كذلك ما بينها من عراك صامت؛ فكل كوكب فيها يجذب إليه الكواكب الأخرى وتنجذب إليه الكواكب الأخرى وينجذب بها، حتى تحدث من الجذب والتجاذب حالة من التوازن المستقر، ومثل هذا التوازن الناتج عن الصراع هو ما أتصوره سلاما بين أبناء الوطن الواحد؛ فلكل فرد أن يبسط طبيعته بسطا يصل بها إلى آخر حد مستطاع، لكنها ستصطدم بالأفراد الآخرين في بسطهم لطبائعهم حتى يحدث بين المجموعة توازن الأحرار.
ما الذي يوحد المسرحية الواحدة في الفن الأدبي؟ إنها بحكم كيانها الفني ذاته لا بد أن تشتمل على أشخاص تنوعت طبائعهم تنوعا يجعلها في تضاد وتعارض، لكنهما التضاد والتعارض اللذان يشهدان بنبض الحياة، إن حقيقة الإنسان لا تتجلى إلا عند الصدام مع الآخرين ولقد أخطأ من خاطب الإنسان قائلا: أيها الإنسان اعرف نفسك بنفسك، وكذلك لأن الإنسان لا يعرف نفسه إلا بغيره؛ فالذي يوحد المسرحية ليس هو تجانس أشخاصها ولكنه هو ما بينها من لقاء يحمل معه بذور التنافس والصراع، والذي يوحد المسرحية في عمل فني واحد هو نفسه الذي يوحد الشجرة والقط والطائر والإنسان.
وردت عبارة في مذكرات هنري مور يقول فيها ما معناه أنه حين يبدأ عمله الفني فالأغلب أن يضع نصب عينيه إنسانا معينا أو حيوانا معينا، ذا شخصية متميزة بخصائص واضحة، ثم يأخذ في تشكيل الكتل وفي ضمها بعض إلى بعض، مهتديا بالخصائص المميزة التي جسدها لنفسه في إنسان معين أو حيوان، فإذا لبثت الخصائص بادية في التركيب النحتي الذي يؤلفه، عرف أن القطعة النحتية قد أخذت شكلها الصحيح، وإلا فهو يعيد التركيب مرة بعد مرة، حتى يتحقق له ما يريد.
وشيء كهذا نقوله لجماعة تريد سلاما بين أفرادها، وأعني أن تكون لها أهداف واضحة المعالم ثم ينطلق الأفراد في طرائق حياتهم وكأنهم أجزاء تتقارب وتتباعد في تركيب فني واحد، فما دامت الأهداف المقصودة ماثلة في أنشطتهم على تباينها، وفي أفكارهم على اختلافها وتعارضها، كان ذلك دليلا على أن الجماعة سائرة على جادة الطريق، ولا ضير بعد ذلك عليها أن يحتدم صراع بين أفرادها؛ لأنه عندئذ صراع مشروع.
وعودة إلى فن النحت عند هنري مور، فإنه لمن الخصائص التي لا يخطئها نظر تلك الثقوب الواسعة التي يفتحها النحات في القطعة التي ينحتها بحيث تبدو وكأنها كوى في أكواخ البدائيين، أو أنها فتحات تؤدي إلى كهوف حفرت في صخر الجبل، وكان من تعليق هنري مور على تلك الثقوب التي يتميز بها نحته والتي قد تتفتح على الفضاء، قوله (وكان ذلك في حديث تليفزيوني شهدته فيه وسمعته وهو يجيب على أسئلة المذيع) قوله إن تلك الثقوب هي بمثابة نحت في الهواء؛ لأن الهواء - كما قال - يمكن نحته كما يمكن نحت الصخر سواء بسواء! وعلى أية حال، فإنني إذ وقفت أتأمل منحوتاته المنثورة في حدائق كنز نجتون بلندن لم يسعني إلا أن أستحضر في ذهني حياة الإنسان الأول؛ لأن أشياء كثيرة في القطع النحتية المعروضة، توحي بصورة الحياة الأولى عندما كانت تلك الحياة - وما زالت - تصارع الظروف المادية لتخرج من أرحام الأرض.
ألا إنه لصراع طويل طويل وشاق؛ ذلك الصراع الذي نشب بين الإنسان والطبيعة المحيطة به، بما فيها من عوامل عنيدة لا تستسلم له إلا بعد العناء على الزمن الطويل، ومن ذلك الصراع المتصل ولدت لنا الحضارة التي ننعم بخيراتها؛ فمن الذي يرشد إنسان اليوم إلى صوابه، ليتحول صراعه مع سائر الناس إلى صراع مع الطبيعة ليرغمها على التسليم؟ إن صحراءنا تريد من يصارعها فيصرعها لتخضر بالزرع، وبحارنا الملحة تريد من يصارعها فيصرعها لتخرج لنا من الماء الأجاج ماء عذبا ترتوي منه الأرض، وجراثيم الأمراض تنتظر من يصارعها فيصرعها فيصح المرضى، والأمية تصرخ منادية لمن يمحوها ولو بعد حين ... صفوف لا آخر لها من المعوقات، تتطلب منا صراعا، هو ذروة الصراع المشروع.
المصري الجديد القديم
لعل القارئ أن يكون على غير علم بأن الفلسفة الحديثة والمعاصرة في أوروبا، قد أثارت لنفسها مشكلة، دامت معها الآن أكثر من ثلاثة قرون دون أن يجمع الرأي فيها على حل واحد، وهي مشكلة جاءت وليدا مباشرا للعلم الحديث، فالعلم المعاصر من بعده؛ وأعني بها مشكلة «الهوية» للشخص الواحد، أو للشيء الواحد، أو للكيان الاجتماعي الواحد.
فما «الهوية» هذه التي يتحدثون عنها؟ هي - اختصارا - أن يكون للكائن المعين ذاتية واحدة ومستمرة، ولنضرب مثلين أو ثلاثة لنضمن لأنفسنا وضوح الفهم، قبل أن ننتقل إلى الحديث عن موضوعنا الذي نريد الحديث عنه؛ فها أنا ذا رجل قد بلغ كذا من السنين، اجتاز خلالها مراحل الطفولة والشباب والرجولة والكهولة، وكنت أحمل خلال تلك المراحل اسما واحدا يعرفني به الناس، على أن تلك المراحل المتعاقبة لم تكن بهذه البساطة البسيطة، بل امتلأت كل مرحلة منها بما لا يحصيه العد من تقلبات بين مرض وعافية، وحزن وفرح، وخمول ونشاط، وجهل وعلم، وكراهية وحب، إلى آخر تلك الألوف من الحالات المتباينة التي يحيا بها الإنسان؛ ذلك إذا كان لتلك الحالات آخر.
অজানা পৃষ্ঠা