ثم تحاول بعد ذلك أن تنظر إلى الفكرة العقلية التي وصلت إليها، لا على أنها نهاية الطريق، بل على أنها بدورها مرحلة وسطى، أتخطاها إلى ما هو أعم منها في مدارج الأفكار، ثم إلى ما هو أعم، وهكذا دواليك حتى تبلغ القمة العليا في الصعود، وما تلك القمة العليا - عند أفلاطون - إلا الخير؛ لأنه إذا كان العالم كله مستهدفا في سيره هدفا، فإنه إنما يستهدف ما فيه كماله بعد نقص، وهذا الكمال المنشود هو الخير في لغة أفلاطون. وتستطيع أن تقول عنه إنه هو الله إذا أردت لغة أخرى أقرب إلى الفهم. فتأمل الجمال الذي يبدأ - كما رأيت - من مشهد مرئي بالعين، ينتهي بالمتأمل إلى حالة من الشهود الصوفي، الذي شأنه أن يرفع الإنسان إلى أعلى درجات الكمال.
وأضرب لك مثلا تطبيقيا آخر بشيء «مسموع» بعد أن ضربت لك مثلا بشيء «مرئي». فافرض أن الشيء الجميل الذي أنت بإزائه هو قصيدة من الشعر - ولتكن قصيدة أبي العلاء:
غير مجد في ملتي واعتقادي
نوح باك ولا ترنم شاد ... إلخ - كيف أتذوقها مستعينا بالرأي الأفلاطوني الذي بسطته لك عن حقيقة الجمال؟
تبدأ بالمركب الصوتي الذي تتلقاه الأذن من تلاوة القصيدة بصوت مسموع، ومرة أخرى أوصيك ألا تتعجل هذه المرحلة من مراحل الطريق؛ لأنها أساسية وهامة. فانصت إلى كل نبرة صوتية تأتيك من كل حرف منطوق، حتى تملأ سمعك بالبناء الصوتي كله كيف تتشابك نبراته على تأليف مركب موسيقي واحد. حتى إذا ما فرغت من هذه المرحلة الحسية، كنت بمثابة من جاوز عتبة الدار، لا ليقف عندها، بل ليوغل صاعدا في طبقاتها العليا. فها هنا تصعد من مستوى «المحسوس» إلى مستوى «المعقول»؛ أعني أن تحاول إدراك الفكرة التي جاءت هذه القصيدة لتجسدها، فكأنما هذه القصيدة أداة من أدوات كثيرة غيرها، مهمتها أن توصلنا إلى إدراك فكرة بعينها.
وأحسب أن الفكرة التي نصل إليها وراء السطح الصوتي في هذه القصيدة، هي حيادية الحقيقة الكونية الكبرى حيال عواطف الإنسان على اختلافها؛ فبكاء الباكي وترنيم الشادي كلاهما عند الحقيقة الكونية - وإن شئت فقل عند العلم الطبيعي - موجات من الصوت تقاس أطوالها وترسم مساراتها وتحسب سرعاتها وهكذا، وأما أن يكون بعضها مبطنا بحزن وبعضها الآخر مبطنا بسرور؛ فذلك شيء يرد في حياة الإنسان الخاصة، ولا يرد في الحقيقة الكونية الموضوعية الخارجية التي في خضمها تنطمس معالم الأفراد، وأن القصيدة لتؤكد هذه الفكرة في صور متلاحقة؛ فصوت النعي وصوت البشير كلاهما «صوت» لا أكثر ولا أقل، وهديل الحمامة على غصنها «صوت» كذلك، ربما سمعته أنت فخلعت عليه من عندك بطانة عاطفية فتقول إنه بكاء أو إنه غناء، وأما عند الحقيقة الكونية فلا هو هذا ولا ذاك، ولكنه «صوت» وكفى، والصوت من ظواهر الطبيعة التي يضبط العلم قوانينها.
وصلنا إذن إلى مستوى «فكري» بعد المستوى «الحسي» في قراءتنا لقصيدة أبي العلاء.
ثم ماذا؟
ثم نمضي في الطريق نفسها، فلا نترك الفكرة التي بلغناها متوحدة معزولة كأنما هي صخرة في فلاة، بل ننظر في صلاتها بغيرها من الأفكار، صاعدين من تخصيص إلى تعميم، حتى نبلغ آخر الشوط، وهو دائما - عند أفلاطون - حالة الكمال التي يسعى إليها الكون بكل ما فيه من متناقضات ظاهرة ومن جزئيات ماضية عابرة.
إننا بهذا الصعود من المستوى الحسي أولا، إلى المستوى العقلي ثانيا، ثم إلى المستوى الخلقي ثالثا، نكون قد اعتصرنا كل ما نستطيع أن نعتصره من جمال في الشيء الجليل الذي ننظر إليه نظرة متذوقة عميقة، نهتدي فيها بالفكرة الأفلاطونية عن حقيقة الجمال.
অজানা পৃষ্ঠা