فحيثما وجدنا الوصول إلى قرار بهذه الطريقة العددية، قلنا إنها الطريقة الديمقراطية، وهي طريقة نجدها في مجلس الشعب وهو يصنع قرارا ما، كما نجدها في هيئات أخرى كثيرة، كمجالس الإدارة في المؤسسات، ومجالس الكليات ومجالس الجامعات، ومختلف اللجان التي تعقد للبحث في موضوع معين بغية الوصول إلى قرار، ونستطيع أن نلخص هذه الحالات برغم تنوعها، فنقول إن ديمقراطية عد الأصوات، هي الأداة الصالحة كلما كان الأمر متصلا برسم «سياسة» محددة لخطوات السير عند التنفيذ.
لكن هذه الطريقة إن صلحت في رسم السياسات الخاصة بشئون «الوطن» ومؤسساته فهي لا تصلح في المجالين الآخرين: مجال الدين، ومجال الأسرة؛ أما الدين فليس القرار فيه من صنع البشر، وإنما يهبط عليهم وحيا، وليس للناس إلا أن يطيعوه إيمانا، وهذا واضح في شعائر الدين، فلم تكن أكثرية الأصوات هي التي حددت كم يكون عدد الركعات في كل صلاة، لكن الذي قد لا يكون بنفس هذه الدرجة من الوضوح، ما استبطن في شعائر الدين وشرائعه من «قيم» يراد لها أن تكون للناس معايير لسلوكهم في سائر أوجه الحياة؛ فكلما استخلص لنا العلماء معيارا منها، كان ذلك المعيار بمثابة المبدأ الذي نقيم عليه نظامنا في مجاله، ويهمني في موضوع حديثي هذا من تلك المبادئ المستنبطة من شعائر الدين وشرائعه، مبدأ التفاوت في قدرات الناس حتى لا تكلف نفس إلا وسعها.
ومعنى ذلك عند التطبيق هو أنه كلما كان المجال مجال «قدرة» بأي معنى من معانيها، وجب أن يستند القرار عند اتخاذه إلى «القدرة» وحدها حتى لو جاءت أغلبية الأصوات مخالفة لذلك، بعبارة أخرى ليست «الديمقراطية» (وقد حددناها بقولنا إنها طريقة عد الأصوات) في هذه الحالة هي وسيلتنا إلى صنع القرار، ما دام الأمر مرهونا بمهارة معينة، أو قدرة خاصة، بغيرها يتعذر أداء ما يراد أداؤه، وأمثلة ذلك كثيرة في حياتنا: فدخول الجامعات قائم على أساس الأكفأ، لا على أساس الاختيار بأكثرية الأصوات، واختيار أصحاب المناصب العليا كالوزراء والمحافظين وأساتذة الجامعات ورؤساء المؤسسات، بل إن اختيارك للصانع الذي ينجز لك عملا إنما يكون على أساس مهارته في حرفته، وهكذا. ولقد أجرى شعبنا هذا المعنى في أمثاله الجارية، حين أوصى أن توكل صناعة الخبز إلى خبازه حتى إذا لم يكن أمينا، فاحتجز لنفسه من الخبز شيئا.
نعم إن الوسيلة الديمقراطية هنا قد تتبع ابتداء، كأن يقرر مجلس الشعب - مثلا - أن التحاق الطلاب بالجامعات يجب أن يقام على أساس الكفاءة وحدها فعندئذ يكون مثل هذا القرار ديمقراطيا لأنه أخذ بأكثرية الأصوات. لكن ذلك لا يتعارض مع قولنا إن أساس التنظيم في قبول الطلاب هو «القدرة» لا الرغبة المؤيدة بعد الأصوات، فإذا كان رسم السياسات قائما على الديمقراطية (عد الأصوات) فمجال العمل بكل فنونه مداره الجدارة والقدرة على الأداء الأكمل، وعلى هذا الأساس ترانا لا نسوي بين قادة الجيش الذين يضعون خطة القتال، وضباطه وجنوده الذين ينفذون، وكذلك لا نسوي بين المدرس وتلاميذه في تحديد الحقائق العلمية، وغير ذلك من الحالات التي لا ينبغي لمبدأ الديمقراطية أن يكون فيها طريقا لاتخاذ القرار.
وتأتي الركيزة الثالثة فيما ذكرناه بين ركائز الشخصية المصرية في استمرارها مدى تاريخ طويل، وأعني بها، الانتماء الأسري، فها هنا - أي في حياة الأسرة - لا عد الأصوات هو طريقة صنع القرار، كلا ولا هو التمييز بين القادر وغير القادر من الأبناء، بل هو الحب الذي يوجب على رب الأسرة أن يرعى أفرادها - من جهة - كما يوجب على هؤلاء الأفراد أن يطيعوا ما يقرره لهم وعليهم - من جهة أخرى - نعم قد يحدث لرب الأسرة أن يطرح أمرا ما على أفراد أسرته ابتغاء الشورى لكنه آخر الأمر هو وحده صاحب القرار ركونا إلى موقعه من البناء الأسري واكتفاء بما هو مفروض فيه من حب ورعاية لا يؤجر عليهما.
وليس مبدأ الحب والرعاية هذا مقصورا على الأسرة الصغيرة، بل إنه ليتسع مجاله فتراه ساريا في حياة الأسرة الكبرى - التي هي الأمة كلها، ولكنه يسري هناك في جوانب خاصة لا تراعى فيها قواعد العمل من حيث العطاء للقادر وحده دون العاجز، ومن أمثلة ذلك أن نكفل لكل إنسان في شيخوخته ما يأمن به على عيشه وصحته؛ فنحن هنا لا نقول: لماذا نعطي العاجز عن العمل راتبا أو رعاية صحية، لا نقول ذلك لأن المبدأ هنا ليس القدرة أو المهارة، بل هو الحب والرعاية.
مبادئ ثلاثة - إذن - نراها في جوانب الحياة المختلفة، فما يصلح في مجال «السياسة» قد لا يصلح في مجال المهارات، وما يصلح في هذين قد لا يصلح في الكيان الأسري، سواء أكانت الأسرة مأخوذة بمعناها الأصغر أم بمعناها الأكبر، وقد تسألني: وماذا تخسر لو أطلقنا على هذه المبادئ كلها اسما واحدا، فنقول إنها هي «الديمقراطية»؟
وأجيبك على سؤالك فأقول: إن رؤية الفوارق بين المختلفات من شأنها أن تؤدي إلى دقة التطبيق؛ فإذا كنت قد سمعت بالانحلال الأسري في كثير من أقطار الأرض، فاعلم أن من أهم ما أدى إليه من عوامل، هو خلط المبدأ الديمقراطي بالمبدأ الأسري، بحيث ظن أبناء الأسرة أن علاقتهم بوالديهم ينظمها أخذ الأصوات، على حين أن الذي ينظمها مبدأ آخر، هو رعاية الكبير للصغير، لقاء طاعة الصغير للكبير، وإذا كنت قد سمعت بتدهور التعليم هنا أو هناك، فاعلم أن من أهم العوامل المؤدية إلى ذلك، هو الخلط بين مبدأ الديمقراطية ومبدأ الكفاءة.
وليست هي بالحالات القليلة، تلك التي نخلط فيها بين مبدأ الكفاءة الذي ينبغي له أن يسود في مجال العمل ومبدأ الرعاية الأسرية الذي تكون له الأولوية حيثما وجبت الرعاية بغير افتئات على كفاءة العمل؛ فلقد حدث في ذات عام أن كنت معارا - على سبيل التبادل بين الجامعات - أستاذا بإحدى جامعات الولايات المتحدة، فدهشت عندما اقترب العام الدراسي من ختامه؛ إذ رأيتهم يوزعون استمارات على الطلاب، مؤداها أن يقول الطلاب آراءهم في أساتذتهم من كل الجوانب، فسألت زميلا هناك قائلا: وماذا لو قررت أكثرية الطلاب عدم الصلاحية بالنسبة إلى أستاذ؟ فأجابني الزميل أنه يفصل. فقلت له: مثل هذا التصرف محال علينا في مصر أن نلجأ إليه. فسألني: لماذا؟ قلت: لأننا أولا لا نأخذ رأي التلميذ في أستاذه، وثانيا: لأننا نأخذ في اعتبارنا أن هذا الأستاذ رب أسرة مسئول عن أفرادها، فماذا تكون حاله إذا نحن فصلناه؟ أجاب زميلي، والدهشة هذه المرة كانت دهشته: أهي جامعة أم هي جمعية خيرية لرعاية العاجزين؟ وهل من العدل أن تراعى حياة أستاذ فيضحى في سبيل ذلك بعدد من الطلاب الله أعلم بعددهم؟
هكذا ظهر الفارق بين ثقافة ذلك الزميل الأمريكي وثقافتي، فبينما هو يفرق بين المبادئ المختلفة ليجعل لكل مبدأ مجاله، كنت أنا أخلط بينها، فأضع المبدأ الأسري مكان مبدأي الديمقراطية والكفاءة معا؛ فعلى أساس الأكثرية الديمقراطية في أصوات الطلاب بني القرار، ثم على أساس انعدام الكفاءة فصل الأستاذ، وأما من جهتي أنا فقد شعرت وجوب أن تكون الأولوية لمبدأ الرعاية والحب . ذلك ما كان، وإني إذ أستعيده الآن لأعيد فيه النظر أجد أنهم أخطئوا حين جعلوا الرأي للطلاب وأصابوا حين فصلوا العاجز عن عمل لا يحسن صناعته، ولو أنهم لجئوا إلى مقياس علمي آخر ليحكموا به على قدرة الأستاذ لكان الصواب في جانبهم، وأما عن وجهة نظري أنا التي أبديتها عندئذ فأرى الآن موضع الخطأ فيها؛ لأنها احتكمت إلى العاطفة الأسرية في مجال لا يجوز أن يحتكم فيه لغير الكفاءة.
অজানা পৃষ্ঠা