لكن يونس لم يستمع بوعيه الكامل إلى صوت الهاتف، ومضى في طريق الهرب من أداء واجبه المقدس نحو مدينته، فكان ما كان من أمر السفينة وهياج البحر والحوت، وها هنا فقط استيقظ وعيه لصوت ضميره، فدعا ربه من ذلك الجوف العجيب قائلا: اللهم إني أدعوك من ضيقي فاستجب دعائي، وأصرخ من جوف الهاوية فاستمع إلى صراخي، اللهم افتح أمامي هذا الجب المغلق، أطعك فيما أمرتني به. واستجاب الله، فأمر الحوت أن يقذف حمله على الشاطئ، ولفظ الحوت يونس على البر عليلا سقيما، فما إن ارتدت إليه قواه، حتى عاد الله فأمره بأداء الرسالة نفسها، وهي أن يذهب إلى «نينوى» فيصلح من أمرها ما فسد، ففعل هذه المرة كما أمر وصلحت «نينوى» ما شاء لها الله أن تصلح.
هكذا تاب الهارب من وجه الواجب نحو مدينته فعاد، فهل لنا من توبة مثلها لنعود إلى مصرنا عودة يونس إلى نينوى؟
ألف ليلة وليلتان
هي مغامرة في دنيا الخيال، غامر بها بعض أدباء الغرب، وليس في علمي أن أديبا عربيا غامر بمثل ما غامروا؛ ذلك أن شهرزاد - كما نعلم جميعا منذ الطفولة - قد عرفت للكلام سره وسحره، فأخذت تصب حكاياتها في مسمع شهريار الملك، على فترة طالت حتى بلغت ألف ليلة وليلة، فاستطاعت بحلاوة الخيال أن تصرف شهريار عن قتل بنات جنسها؛ إذ لولاها لقتل واحدة منهن كل ليلة.
وخطر سؤال على بعض أدباء الغرب، هو: ماذا حدث لشهرزاد في الليلة الثانية بعد الألف؟ وكان بين هؤلاء الأدباء «إدجار ألن بو» في قصة له جعل عنوانها «الحكاية الثانية بعد الألف لشهرزاد» بدأها بقوله إنه عثر على مخطوطة قديمة، ربما كانت مجهولة عند المشتغلين بتحقيق النصوص، وإذا هي مخطوطة تحمل قصة شهرزاد، وقد أخذتها شهوة القصص بعد أن كانت أكملت مهمتها، فأرادت في الليلة الثانية بعد الألف أن تستأنف حكاياتها بحكاية أخرى، زعمت لشهريار أنها تتمة لما كانت قصته عليه من مغامرات سندباد، لكن شهريار ضاق صدرا تلك الليلة بشهرزاد، ولم يرد أن يسمع منها شيئا، وأمر بها الجلاد فساقها إلى القتل، لتلحق بأخوات لها سبقنها إلى المصير نفسه، وهكذا لاحقتها ثرثرة النساء حتى لحقتها بلعنتها.
وكذلك حاول أديب آخر، هو الذي اشتهر في الأدب باسم مستعار، وهو «مارك توين» (واسمه الحقيقي صموئيل كلمنس)؛ إذ حاول بدوره أن يضيف ليلة إلى الألف ليلة وليلة، ولم يتسع خياله بأكثر مما اتسع خيال «إدجار ألن بو»، فجعل شهريار يضيق بثرثرة شهرزاد، فأمر بها هو الآخر أن تساق إلى المصير المشئوم، لولا أن بديهة القصاصة قد أسعفتها هذه المرة، بأن زعمت للملك أن ثمة حادثة خطيرة نسيت أن ترويها له ، فليمهلها حتى تفرغ منها، فما إن أذن لها بذلك حتى طفقت تحكي وتحكي، ليلة بعد ليلة إلى أن بلغ شهريار نهاية حياته.
قلت لجليسي: انظر إلى صورة الملوك العرب في تصور أدباء الغرب، فهي صورة ليس فيها إلا السيف والدماء، مع أن هؤلاء الأدباء لو أدركوا الروح العربية بعمق، لرأوها روحا تعشق الفن الأدبي إلى حد الفتنة به؛ فكان مما يتفق مع تلك الروح أن تبلغ شهرزاد بسحر أدبها ما كانت قد بلغته بالفعل في الألف ليلة وليلة، ألا وهو أن تشيع السكينة في نفس الملك، فتهدأ عنده نوازع الشر، فلا يعود به ميل إلى سفك الدم، وربما كان أدباء الغرب هؤلاء ليقتربوا من الصواب في إدراكهم للروح العربية في تأثرها الشديد بالفن الأدبي، لو جعلوا شهريار يغدق لشهرزاد العطاء في نهاية الشوط جزاء فنها.
قال جليسي: بماذا تصور الليلة الثانية بعد الألف، لو كنت لتصورها؟
قلت له: أمهلني لحظة، وعلى أية حال فلن يكون مدار الخيال عندي كما كان عند «بو» و«توين»؛ فكلاهما أبقى لشهريار بعد استماعه للحكايات، ما كان له قبل استماعه لها، من رغبة في الانتقام من المرأة، وكأن الكلام لم يكن له في نفسه أثر.
أخذني الصمت حينا قصيرا، وصديقي ينتظر، وسرحت بخواطري إلى حيث لا أدري، ثم انطلقت أروي: «... في الليلة الثانية بعد الألف، همت شهرزاد بمغادرة قصر الملك، لتنخرط في سلك حياتها مع الناس، لكن شهريار لمحها من نافذة غرفته وهي تنزل الدرج إلى الحديقة في طريقها إلى الخروج، فناداها أن عودي، فعادت، ولما مثلت بين يديه أبلغته في أدب الرعية نحو ملوكها، بأنها لا تنوي بعد الليلة أن تحكي كما كانت تحكي؛ لأنها لم تصدر في حكاياتها عن ثرثرة نسوية كما قد ظن أصحاب الظنون، بل أرادت أن تدخل الطمأنينة إلى نفس الملك؛ ليهدأ من قلقه وليبرأ من شهوته في قتل البريئات.
অজানা পৃষ্ঠা