إنه لو كانت مسائل الحياة العملية كلها، محلولة بنصوص مباشرة وصريحة، في شريعة كتاب منزل على نبي - منذ نزول الرسالة وإلى الأبد - لما احتاج الإنسان في مواجهة حياته، لا إلى رسالة إلهية أخرى تهديه، ولا إلى عقله ليحتكم إليه كلما أشكل عليه أمر من أموره، إلا بمقدار ما يستطيع به أن يستخرج للموقف الطارئ حكمه المناسب من كتاب الله، لكن حقيقة الأمر، هي أن الإنسان - على طول المدى - قمين أن يواجه أحداثا طارئة غير مسبوقة بأشباه لها، ولا منصوص عليها في الكتاب الموحى به من السماء؛ فها هنا يريد الإسلام من المسلم أن يحتكم إلى منطق العقل، وكانت تلك هي المرة الأولى في الرسالات الإلهية، أن يحال الإنسان - بحكم الرسالة نفسها - إلى عقله، كلما جدت مشكلة لم يرد لحلها نص في كتابها.
وماذا يقصد بالعقل ومنطقه في هذا السياق؟ المقصود به أمور ثلاثة على وجه التخصيص، إن لم يكن كذلك على وجه الحصر والتحديد:
أولها:
استخدام منهج الاستدلال، الذي يتيح للباحث أن يستخرج من النص القائم محتواه، وذلك حين يكون ذلك المحتوى مضمرا في الألفاظ وتركيبها، بحيث يحتاج ظهوره إلى تحليل، والتحليل عملية عقلية.
وثانيها:
هو قراءة الشواهد الحسية، قراءة تؤدي إلى فهمها وتعليلها، على نحو يكون من شأنه حل المشكلة الطارئة.
وثالثها:
النظر إلى القيم - والقيم الأخلاقية بصفة خاصة - نظرة موضوعية مطلقة، بمعنى لا يجعلها أمورا ذاتية تتغير مع الأهواء، كما لا يجعلها مرهونة بظروف الزمان والمكان؛ وما دام أمرها كذلك، فإنه يصبح في وسع الفقيه الموهوب أن يحكم على ما يعرض له من مواقف طارئة جديدة، غير منصوص عليها نصا مباشرا صريحا، حكما يميز فيه بين ما هو حق وما هو باطل.
2
ركون المسلم إلى عقله، فيما يشكل عليه، مما لم ترد في شأنه نصوص، هو الدعامة الأولى في الوقفة العقلية عند الإسلام، تلك الوقفة التي أقام عليها حضارته وثقافته على امتداد تاريخه، خلال القرون التي شهدت قوته وقدرته على الإبداع.
অজানা পৃষ্ঠা