لا شك في أن التعميم يمكن أن يبتعد بنا عن الحق والإنصاف، ولا شك أيضا في أن حياة المثقفين في الظروف التاريخية الصعبة التي مرت بنا في العقود الثلاثة الأخيرة لم تكن سهلة ولا يسيرة، بل كانت في معظم الأحيان شبه مستحيلة، وأدت في كثير من الأحيان إلى شعور المثقف بالاغتراب المضاعف، وكادت أن تصل به إلى حافة الجنون. كما أن الحياة في ظل النظم الفردية المطلقة التي غابت عنها الحرية والقانون قد أفرخت مسوخا شتى من الطفيليين، والانتهازيين والنرجسيين المتضخمين، وتجار الكلمة والعلم، وحواة الشعارات، والمغازلين للسلطة بعين وللتقدمية بالعين الأخرى، حتى ليأخذنا العجب وتغلبنا الحسرة، فنهتف مع الشاعر صلاح عبد الصبور، على لسان سعيد في مسرحيته «ليلى والمجنون»: «ربي! كيف ترعرع في وادينا الطيب، هذا القدر من السفلة والأوغاد؟!»
ومع ذلك، فإن الظلام لم يستطع أن يطبق علينا تماما. فهنالك إنجازات حقيقية في مختلف ميادين الإبداع والبحث العلمي قد تمت، وروائع قليلة العدد قد استطاعت أن تبرز فوق مياه الطوفان وتتحداه. والذي يعصم النفس من الغرق في اليأس والحزن أن حياتنا لم تخل من المخلصين العاملين في صمت، والمتفانين إلى حد الاستشهاد، والمترفعين المتعففين مهما أصابهم من الضيق والضنك والإملاق، وإن بقي علينا أن ندركهم قبل أن يهلكهم الموت البطيء بسموم المرارة والإحباط!
بيد أن الأهم من ذلك كله أن مفاهيم الثقافة والعلم والتعليم قد أصبحت في أشد الحاجة إلى المراجعة الشاملة، كما أصبحت نظمها ومناهجها وغاياتها وفلسفاتها، إن كانت هنالك فلسفات، في حاجة إلى البداية من الصفر. وكما يحدث في أوقات الأزمات والمحن التي تلم بالأفراد والشعوب، وتطرح فيها الأسئلة الكبرى والنهائية، ويتحتم على ملاحي السفن المهددة بالغرق أن يواجهوا أنفسهم بهذا السؤال: إلى أين ينتهي بنا السير؟ كذلك تقتضي الضرورة أن نسأل أنفسنا: ماذا نعلم ولماذا نعلم؟ هل استطعنا أن نعلم الشباب، وننمي فيهم روح التفكير النقدي المستقل، والبحث المتحرر من التميز والهوى؟ هل حققنا أقل قدر من النجاح في إزالة الأوهام الراسخة وتحطيم الأصنام العقلية والتمييزات البالية؟ ولماذا أخفقت الثقافة والعلم في تغيير واقع ملايين الناس ووعيهم تغييرا ملحوظا، ولم تخط بهم خطوات ملموسة على طريق الحرية والتقدم والاستنارة؟ هل اكتفينا بنقل المعلومات والمذاهب والنظريات - وليته كان نقلا أمينا في كل الأحوال - وشاركنا، عن قصد أو غير قصد، في قمع الفكر النقدي المستقل، ومد ظلال الركود القبيح والتهاوي والعناء على مجتمعاتنا ككل؟ ألم يساعد ذلك في النهاية - بجانب عوامل تاريخية واجتماعية وسياسية معروفة ولا حاجة لذكرها - في ظهور تلك النباتات الشيطانية التي تشابكت وتضخمت في حقل المعرفة والأدب والفن، حتى أوشكت أن تحيله إلى غابة تمرح وتصفر فيها أفاعي الانتهازية والتسلط واستغلال العلم والمعرفة، في جمع الثروة وممالأة السلطة والسعار إلى الشهرة والمنصب والمجد الكاذب؟ هل وعينا الدرس القائل إن المعلم في حاجة إلى تعليم، والمربي في حاجة إلى تربية، فتحملنا المسئولية بشجاعة وتشبثنا بإعلاء القيم في زمن سقوط القيم، وتمسكنا بالراية شأن الجنود المناضلين؟ وهل استطعنا أخيرا أن نقف متساندين جبهة واحدة للضمير اليقظ، كما وقف الحكماء والمعلمون الحقيقيون على الدوام، لنرد المحنة عن حضارتنا التي يطبق عليها الحصار وتتعرض للتصفية - لا بفعل الصهيونية والاستعمار وحدهما - وتضطر إلى التراجع والانكماش، كأنها كائن خرافي آن أوان انقراضه، بعد أن لم يعد له مكان في عالم تجاوزه وأنكره وسخر منه، اللهم إلا أن يصبح حقل تجارب من كل نوع؟
قلت إن الظلام لم يطبق بعد، فما زال هناك أمل، ولا بد أن يكون الأمل. إن الكثيرين قد سقطوا أو تاهوا. وكثيرون أيضا قد تحملوا وصمدوا صمود الرواقيين في عصور الشك واليأس والوحشية والجبروت. ولو قدر لحكمة هؤلاء الحكماء وغيرهم أن تبعث حية؛ لمدت يدها لمن سقطوا أو تاهوا قائلة: إن كل شيء لم ينته بعد. تعالوا إلى طريقي ولنبدأ من جديد؛ فالأمر لا يتعلق بنا بقدر ما يتعلق بحضارة تخترمها الكوارث، وتنتظرها كوارث أكبر. وإذا اختنق الإبداع وتهاوت إرادة الفكر الحر المستقل حكمت الحضارة على نفسها بالانتحار. أما أولئك الذين تحملوا وصمدوا؛ فسوف تواجههم قائلة: ليست الشجاعة في الصمود والكبرياء الجريحة فحسب. إن الشجاعة والحقيقة في تغيير الواقع بالفعل. أعلم أنكم تعبتم وعانيتم، ولكن تذكروا عشرات من المفكرين الذين انتهت حياتهم في السجن أو المحرقة على الصليب أو المشنقة. إنهم لم يفاجئوا في لحظاتهم الأخيرة بالشر والغدر، وإن لم يتوقعوا أن يصل إلى ما وصل إليه من القسوة والخسة. ومع ذلك لا يصح أن تنسوا أن بقايا رمادهم هي الأرض التي تقف عليها الحقيقة والحرية والأمل في التطور، ولولا أنوار إبداعهم وكفاحهم؛ لصار تاريخ البشرية ظلمات فوق ظلمات.
إن الحكم التي ستقرؤها على ألسنة الحكماء السبعة لا يمكنها بطبيعة الحال أن تثير كل هذه الأسئلة، أو توحي بكل هذه القضايا والمشكلات. فلا بد من الاعتراف بأن بعضها سخيف وساذج، وبعضها الآخر مجرد وصايا عملية ترتبط بالعادات والتقاليد الشعبية في ذلك العهد البعيد من عهود الحضارة الإغريقية المبكرة. ثم إن أروع أقوالهم، مثل «اعرف نفسك»، و«ابتغ الحد والقصد في كل شيء»، و«أدرك قيمة اللحظة» ... إلخ، يمكن أن تفسر، وقد فسرت بالفعل تفسيرات متنوعة. ولكن المهم بعد كل شيء هو قراءة هذه الحكم الماضية على ضوء الحاضر. وإذا كان الماضي لا يعود ولا يتكرر أبدا، فإن نفس المشكلات والأخطار يمكن أن تواجه الشعوب والحضارات المختلفة عندما تجد نفسها على مفترق طريق تاريخي يقتضي حكمة جديدة يحققها حكماء من نوع جديد. وإذا كان العلم قد حل اليوم محل الحكمة القديمة؛ فإن من واجب العلماء والمعلمين أن يضفوا عليه كبرياءها وجلالها وإخلاصها في السعي إلى الحقيقة المنزهة. ولا بد كذلك أن يعيدوا إليه دورها العريق في إنقاذ المدينة، والدفاع عن أسوارها، وحرية أهلها ... لقد قيل إن الأنبياء غير المسلحين يخفقون دائما (مكيافيللي). ومع أن المثقفين الذين نقصدهم قبل غيرهم، وهم العلماء والمعلمون، ليسوا رسلا ولا أنبياء - على الرغم من بيت شوقي المشهور الذي لم يعد أحد يصدقه، أو يأخذه مأخذ الجد - فإن سلاحهم الوحيد الذي لا يجوز أن يتخلوا عنه هو الشجاعة. فلا قيمة لعلم أو فكر لا يؤصل الحرية، ولا جدوى من تعليم فقد شجاعة التساؤل والنقد المستقل. ولذلك لم يدهشني كثيرا أن أكتشف، بعد الفراغ من كتابة هذه الحوارية، أنها تنتهي بسطور تتردد فيها أصداء أبيات من قصيدة شهيرة عن يوميات نبي يحمل قلما، يتنظر نبيا، يحمل سيفا (من مسرحية ليلى والمجنون لصلاح عبد الصبور). ولا تريد هذه السطور الغاضبة أن تهاجم أحدا، ولا أن تدين وضعا محددا. وهي كذلك لا تهدف إلى تعرية جوانب ضعف لا يخلو منها البشر بحكم طبيعتهم البشرية، كما أنها بعيدة كل البعد عن أن تضع على رءوس المثقفين أو المعلمين هالة شاعرية وهمية. إن الأمر في الواقع لأكبر من ذلك وأخطر؛ لأن الخطر الذي يتهدد حضارتنا يتخطى الأشخاص والظواهر والأوضاع المحددة بالأزمان والبلدان. وقد أكدت السطور السابقة أن المثقفين والعلماء والمعلمين بوجه خاص هم ملاحو السفينة الموشكة على الغرق.
واليوم آن الأوان لكي يوجهوا السفينة ويصححوا اتجاهها، ويوقظوا ركابها. ولن يقدروا على ذلك حتى يبدءوا بأنفسهم، ويستيقظوا من سباتهم، ويحاسبوا ضمائرهم، ويراجعوا علمهم ومعرفتهم وفكرهم وسلوكهم. فإذا استطاعت هذه المحاورات مع الحكماء السبعة أن تدعوهم إلى محاورة النفس، وتذكرهم بأن الحكمة لم تمت ولا يمكن أن تموت، وأنها تحيا وتتجدد وتقاتل عند الضرورة كلما أرادوا الحياة لأنفسهم وحضارتهم وثقافتهم، إذا استطاعت أن تحقق شيئا من ذلك؛ فقد بلغت غاية ما أتمناه.
عبد الغفار مكاوي
الفصل الأول
المؤرخ يقلب في الأوراق، يجمع الوثائق ويتحقق من الحقائق التي اختلطت بالغرائب والخرافات والأساطير، وحكايات الخوارق. وعندما يدلهم الأفق وتأخذه الحيرة من كل سبيل يرفع صوته: يا أشباح الزمن الماضي، من عمق القرن السادس قبل الميلاد. صوت من زمن المحنة يدعوكم، فاستمعوا له، شبح يتشبث بالصدق وبالحكمة في عصر الكذب الشائن والغدر الخائن، يرجو أن يتحاور معكم، أن يسألكم وتجيبوه. وتتزاحم الأشباح وترتفع الأصوات. السبعة صاروا سبعة عشر وأكثر، والحيرة تزداد عليه فيهتف:
المؤرخ :
অজানা পৃষ্ঠা