حجية خبر الآحاد في العقائد والأحكام - عامر حسن صبري
حجية خبر الآحاد في العقائد والأحكام - عامر حسن صبري
প্রকাশক
مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة
জনগুলি
حُجيَّة خبر الآحاد في العقائد والأحكام
إعداد الدكتور: عامر حسن صبري أُستاذ الحديث النبوي وعلومه بجامعة الإمارات العربية المتحدة
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن من رحمة الله ﷿ بخلقه أن أرسل سيدنا محمدًا ﷺ بالهدى ودين الحق، وأنزل عليه القرآن دستورًا ونورًا للأمة ومنهاجًا يضيء طريقها، وجعل رسولَهُ ﷺ في مقام الشارح للكتاب والمبيِّن له. ولقد قام رسول الله ﷺ بذلك خير قيام، فتولى تفصيل مجمله وتقييد مطلقه وتخصيص عامه، وربما ذهب في البيان إلى ما لم يتناولْهُ كتاب الله ﷿ مما يدخل في نطاق مهمته الربانية رسولًا يوجه الأمة إلى الخير، سبيله في ذلك ﵊ قول يخاطب به الصحابة معبرًِّا فيه عن قصده، أو فعل يوضح لهم به مراده، أو موقف بدا منه على الرضا عن قول أو فعل صدر من أصحابه أو بلغه عنهم فيقرهم عليه برضاه عن ذلك القول أو الفعل وسكوته عليه، فهذه الممارسات الثلاث من رسول الله ﷺ هي التي يُعبرَّ عنها بالسنة أو بالحديث النبوي (١) .
ومن هنا تتحدد طبيعة العلاقةِ القائمة بين الكتاب والسنة؛ فالسنة النبوية تفصِّل مجمل القرآن، وتقيِّد مطلقه، وتخصص عامَّه، وتشرح وتبين ما يحتاج منه إلى بيان، وذلك مصداقًا لقول الله ﷿: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: ٤٤] .
_________
(١) هذا هو تعريف الأصوليين للسنة، أما عند المحدثين فهي: (ما أضيف إلى النبي ﷺ من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلقية أو خُلقية سواء أكان ذلك قبل البعثة أم بعدها) .
1 / 1
والله ﷿ اختار نبيه ﵊ للرسالة وحمله الأمانة وعصمه من الزلل فيما بلغه عن ربه من قرآن، وفيما نطق به من قول، أو صدر عنه من فعل، أو أَقَرَّ عليه أصحابه مما يدخل في مجال التشريع؛ لأن كل ذلك من عند الله: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم:٣،٤] . ولذلك أوجب طاعته وقرنها تعالى بطاعته، فقال ﷿: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء: ٥٩] .
وقال تعالى: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ [النور: ٥٤] .
ورتب على طاعته الجزاء الوفير فقال سبحانه: ﴿وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:٧١] . وحذر الله من مغبة المخالفة لنبيه ﷺ بقوله: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: ٦٣] .
وتوعد على معصيته وأخبر بعقوبة من عصاه فقال: ﴿وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ [النساء: ١٤] . وقال: ﴿يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا﴾ [الأحزاب: ٦٦] .
ونبه عباده أن يكونوا عند أمر الرسول ونهيه فقال: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ [الحشر: ٧] .
1 / 2
وأقسم الله لرسوله ﷺ ألا يكون المؤمنون مؤمنين حقًا حتى يرتضوه حكمًا فيما بينهم، وأن يتلقوا حكمه بغاية الإذعان الذي لا تكلف فيه ولا تصنع، وإنما هو نابع عما انعقد عليه القلب من ولاء وتسليم، فقال ﷿: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾ [النساء:٦٥] . وقد أجمع العلماء على أن هذا التحاكم يكون بعده إلى سنته. فمن هذا المنطلق وبهذا الاعتبار نقرر أن السنة النبوية الصحيحة مع القرآن الكريم في مرتبة واحدة من حيث الاحتجاج بهما في الأحكام الشرعية، فإنها وحي مثله، فيجب القول بعدم تأخرها عنه في الاعتبار (١) .
وقد قام الأئمة بخدمة حديث رسول الله ﷺ خير قيام، وأولوه الرعاية والعناية، وبذلوا أقصى ما في الوسع الإنساني احتياطًا لدينهم وشريعتهم أن يدخل فيها ما ليس منها، وكان من نتاج ذلك وضع قواعد مصطلح الحديث، وقواعد علم الجرح والتعديل؛ تلك القواعد التي كفلت لهم التمييز بين الصحيح وغيره، وهذه القواعد نجدها مبثوثة في كتب أصول الرواية وعلوم الحديث وتاريخ الرجال.
وكان من أهم موضوعات علم مصطلح الحديث: تقسيم الحديث من حيث طرق وصوله إلينا إلى قسمين رئيسين، هما: المتواتر والآحاد. وسنتكلم على هذين القسمين وأنواعهما، وحجية كل نوع. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
(١) انظر كتاب «حجية السنة» للشيخ عبد الغني عبد الخالق ﵀، فقد أكد هذا المعنى وأجاد في إثباته أيّما إجادة.
1 / 3
أولًا: المتواتر
ما يفيده المتواتر:
...
أولًا: المتواتر
وهو: ما رواه جمع تحيل العادة تواطؤَهم على الكذب عن مثلهم إلى منتهاه، وشروط التواتر ما يلي:
١- عدد كثير تحيل العادة اجتماعهم على الكذب.
٢- أن تكون هذه الكثرة في جميع طبقات السند.
٣- أن يكون مستند خبرهم الحس، كقوله سمعنا أو أخبرنا، أما إذا كان مستندهم العقل كحدوث العالم مثلا، فلا.
فإذا اختل شرط من شروط التواتر، في أي طبقة من طبقات السند فلا يسمى متواترًا، وإنما هو آحاد.
والمتواتر قسمان:
١- لفظي، وهو: ما تواتر لفظه ومعناه. ومن أمثلته:
حديث "من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" فقد رواه نحو مائة من الصحابة كما قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (١)، ونقله عنه السخاوي في فتح المغيث (٢) . وقد جمع طرقه ابن الجوزي في مقدمة كتابه «الموضوعات» فجاوز تسعين طريقًا.
٢- معنوي، وهو: ما تواتر معناه وإن لم يتواتر لفظه. ومن أمثلته:
أحاديث رفع اليدين في الدعاء، فقد روي عنه ﷺ أكثرُ من خمسين
_________
(١) فتح الباري ١ / ٢٠٣.
(٢) فتح المغيث ٣ / ٤١ – ٤٢.
1 / 4
حديثًا فيه رفع يديه في الدعاء لكنها في قضايا مختلفة، فكل قضية منها لم تتواتر، والقدر المشترك منها - وهو الرفع عند الدعاء – تواتر باعتبار المجموع، وقد جمع طرقها الإمام السيوطي في كتاب سماه (فض الوعاء في أحاديث رفع اليدين في الدعاء) .
ما يفيده المتواتر:
اتفقت كلمة العلماء على أنه يفيد العلم القطعي الضروري لا النظري، لذا لا يصح إنكاره ولا البحث عن استدلاله لأنه ثابت قطعًا.
قال الإمام الغزالي في المستصفى: «أما إثبات كون المتواتر مفيدًا للعلم فهو ظاهر، خلافًا للسُّمنِيَّة (١) حيث حصروا العلم في الحواس وأنكروا هذا. وحصرهم باطل ... أما بطلان مذهب الكعبي حيث ذهب إلى أن هذا العلم نظري، فإنا نقول: النظري هو الذي يجوز أن يعرض فيه الشك وتختلف فيه الأحوال، فيعلمه بعض الناس دون بعض ... ونحن لا نجد أنفسنا شاكّين في وجود مكة ووجود الشافعي ﵀ ...» (٢) الخ كلامه. وقال الشوكاني في إرشاد الفحول: «وقد اختلف في العلم الحاصل بالتواتر هل هو ضروري أو نظري؟ فذهب الجمهور إلى أنه ضروري، وقال الكعبي وأبو الحسين البصري: إنه نظري ... والحق قول الجمهور ...» (٣) إلى آخر كلامه.
_________
(١) في القاموس: السمنية (كعُرَنِيَّة)، قوم بالهند دهريون قائلون بالتناسخ أهـ.
وجاء في كتاب «القول الأصيل فيما في العربية من الدخيل» للدكتور ف. عبد الرحيم ص: ١٢: «أن كلمة سمن لقب لبوذا، وضبطت الكلمة بضم وفتح كعُرنية في القاموس. وصوابها: بفتحتين كعَرَنية. وهو كذلك في بعض نسخ القاموس كما ذكر الزبيدي في تاج العروس» .
(٢) المستصفى ١ / ١٣٢ – ١٣٣.
(٣) إرشاد الفحول ص ٤٦.
1 / 5
قلت: والكعبي وأبو الحسين البصري هما من المعتزلة.
وقال الحافظ ابن حجر في شرح نخبة الفكر: «المتواتر، وهو المفيد للعلم اليقيني ... واليقين: هو الاعتقاد الجازم المطابق، وهذا هو المعتمد: أن الخبرَ المتواتر يفيدُ العلم الضروري، وهو الذي يضطر الإنسان إليه، بحيث لا يمكنه دفعه، وقيل: لا يفيد العلم إلا نظريًا؛ وليس بشيء؛ لأن العلم المتواتر حاصل لمن ليس له أهلية النظر كالعامي، إذ النظر: ترتيب أمور معلومة أو مظنونة يتوصل بها إلى علوم أو ظنون، وليس في العامي أهلية ذلك، فلو كان نظريًا لما حصل لهم، ولاح بهذا التقرير الفرق بين العلم الضروري والعلم النظري، إذ الضروري يفيد العلم بلا استدلال، والنظري يفيده ولكن مع الاستدلال على الإفادة، وأن الضروري يحصل لكل سامع، والنظري لا يحصل إلا لمن فيه أهلية النظر ...» (١) إلى آخر كلامه.
وبهذا يتبين أن المتواتر يفيد العلم الضروري اليقيني عند عامة المسلمين خلافًا لبعض المعتزلة، وبعض الفرق الضالة، وهذه الإفادة اتفق عليها علماء الحديث والفقه والأصول والعقيدة وغيرهم.
_________
(١) شرح نخبة الفكر ص ٦٥.
1 / 6
ثانيًا: الآحاد
ما يفيده خبر الآحاد:
...
ثانيًا: الآحاد
وهو: ما لم يجمع شروط المتواتر المتقدمة أو أحدها، سواء كان رواته واحدًا أو عددًا.
وينقسم الآحاد باعتبار عدد طرقه ورواياته إلى ثلاثة أقسام:
١- الغريب، وهو: ما ينفرد بروايته شخص واحد في أي موضع وقع التفرد به من السند، وقد يعبر علماء الحديث عنه بالفرد.
ومثاله: حديث: "إنما الأعمال بالنيات" فقد تفرد به عمر ﵁ عن النبي ﷺ، ولا يرويه عن عمر إلا علقمة بن وقاص، ولا يرويه عن علقمة إلا محمد بن إبراهيم التيمي، ولا يرويه عن التيمي إلا يحيى بن سعيد الأنصاري، ثم اشتهر الحديث.
٢- العزيز، وهو: ما يرويه اثنان عن اثنين في كل طبقة، ولو كان ذلك في طبقة واحدة، ولا مانع من أن يزيد في بعض طبقاته، فالمدار تحقق التثنية في طبقة ما.
ومثاله ما رواه البخاري من حديث أبي هريرة، والشيخان من حديث أنس أن النبي ﷺ قال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين" فقد رواه من الصحابة أنس وأبوهريرة، ورواه عن أنس اثنان: قتادة وعبد العزيز بن صُهَيب، ورواه عن قتادة اثنان: شعبة وسعيد، ورواه عن عبد العزيز اثنان: إسماعيل ابن عُلية وعبد الوارث، ثم رواه عن كل منهما جماعة.
٣- المشهور، وسماه جماعة من الفقهاء: المستفيض، وهو: ما له طرق محصورة بأكثر من اثنين ولم يبلغ حد التواتر.
1 / 7
وقد جعل الحنفية المشهور قسيم المتواتر والآحاد، وعرَّفوه بأنه ما كان آحادًا في القرن الأول، ثم تواتر بعد ذلك وكثرت رواته في القرن الثاني والثالث (١) .
ومثاله: حديث أنس ﵁ الذي رواه الشيخان: "أن النبي ﷺ قنت شهرًا يدعو على رِعْل وذكوان"، فقد رواه عن أنس: قتادة وعاصم وأبو مِجْلَز: لاحق بن حُميد، وأنس بن سيرين، ورواه عن كل واحد جماعة.
ما يفيده خبر الآحاد:
ذهب العلماء في مجال الأخذ به مذاهب مختلفة، وإليك بيانها مع ذكر حُجج كل مذهب:
المذهب الأول: أن خبر الواحد الثقة يفيد العلم اليقيني مطلقًا.
وهذا مذهب داود الظاهري والحسين بن علي الكرابيسي والحارث بن أسد المحاسبي، ونقل عن الإمام أحمد في رواية، وحكاه ابن خويزمنداد عن الإمام مالك، وجزم به الإمام الشافعي في كتاب اختلاف مالك (٢) .وقد أطال ابن حزم النَفَس في إيراد الأدلة على صحة هذا المذهب والرد على مخالفيه في الإحكام، فقال بعد سرد مقدمات: «وإذا صح هذا فقد ثبت يقينًا أن خبر الواحد العدل عن مثله مُبَلَّغا إلى رسول الله ﷺ حقٌّ مقطوعٌ به، موجب للعلم والعمل معا» (٣) وقال عبد العزيز البخاري في شرح أصول البزدوي: «ذهب
_________
(١) انظر: تيسير التحرير شرح كتاب التحرير للشيخ محمد أمين باد شاه ٣ / ٣٧.
(٢) ذكره ابن القيم في الصواعق المرسلة انظر: مختصر الصواعق ص ٥٧٥.
(٣) الإحكام في أصول الأحكام١ / ١٣٧.
1 / 8
أكثر أصحاب الحديث إلى أن الأخبار التي حكم أهل الصنعة بصحتها توجبُ علمَ اليقين بطريق الضرورة، وهو مذهب الإمام أحمد بن حنبل" (١) .
واختاره من المتأخرين العلامة صديق حسن خان فقال في كتابه "الدين الخالص": "والضرب الآخر من السنة خبر الآحاد يرويه الثقات الأثبات بالسند المتصل والصحيح والحسن، فهذا يوجب العمل عند جماعة من علماء الأمة وسلفها الذين هم القدوة في الدين والحجة الأسوة في الشرع المُبِين، ومنهم من قال: يوجب العلم والعمل جميعًا، وهو الحق وعليه درج سلف هذه الأمة وأئمتها، لأن المتواترات – على حساب اصطلاح القوم – قليل جدًا، وغالب السنة الشريفة آحاد، والعمل بها واجب حتم" (٢) واختار هذا القول من المعاصرين الأستاذ العلامة أحمد شاكر فقال في الباعث الحثيث بعد أن ذكر أقوال العلماء في إفادته: "والحق الذي ترجحه الأدلة الصحيحة ما ذهب إليه ابن حزم ومن قال بقوله، من أن الحديث الصحيح يفيد العلم القطعي، سواء أكان في أحد الصحيحين أم في غيرهما، وهذا العلم اليقيني علم نظري برهاني، لا يتحصل إلا للعالم المتبحر في الحديث العارف بأحوال الرواة والعلل ... وهذا العلم اليقيني النظري يبدو ظاهرًا لكل من تبحر في علم من العلوم، وتيقنت نفسه بنظرياته، واطمأن قلبه إليها ... " (٣) . وممن قال هذا الرأي أيضًا الدكتور صبحي الصالح في كتابه علوم الحديث حيث قال: "ورأي ابن حزم أولى بالاتباع؛ إذ لا معنى لتخصيص أحاديث الصحيح بإفادة القطع، لأن ما ثبت صحته في غيرهما ينبغي أن يحكم عليه بما حكم عليه
_________
(١) كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي ٢ / ٣٧١.
(٢) الدين الخالص ٣ / ٢٨٤.
(٣) الباعث الحثيث ص ٣٧.
1 / 9
فيها ... كما أنه لا معنى للقول بظنية حديث الآحاد بعد ثبوت صحته، لأنَّ ما اشْتُرط فيه لقبول صحته يُزيل كل معاني الظن ويستوجب وقوعَ العلم اليقيني به" (١) .
قلت: وهذا الحق الذي لا يعول على غيره، دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع. وسأذكر تفصيل ذلك بعد سرد المذاهب الأخرى.
المذهب الثاني: أنه يفيد العلم اليقيني إذا احتفت به قرائن.
وهذا مذهب عامة أهل الحديث وكثير من محققي الفقه والأصول والكلام من حنفية ومالكية وشافعية وحنابلة وغيرهم.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر أنواع الخبر المحتف بالقرائن فقال في نزهة النظر: "والخبر المحتف بالقرائن أنواع: منها ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما، مما لم يبلغ حد التواتر، فإنه احتفت به قرائن:
- منها جلالتهما في هذا الشأن.
- وتقدمهما في تمييز الصحيح على غيرهما.
- وتلقي العلماء كتابيهما بالقبول.
وهذا التلقي وحده أقوى في إفادة العلم من مجرد كثرة الطرق القاصرة عن التواتر، إلا أن هذا مختص بما لم ينتقده أحد من الحفاظ مما في الكتابين، وبما لم يقع التجاذب بين مدلوليه مما وقع في الكتابين حيث لا ترجيح، لاستحالة أن يفيد المتناقضان العلم بصدقهما من غير ترجيح لأحدهما على الآخر.
وماعدا ذلك فالإجماع حاصل على تسليم صحته ... وممن صرح بإفادة ما أخرجه الشيخان العلم النظري: الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، ومن أئمة
_________
(١) علوم الحديث ص ١٥١.
1 / 10
الحديث: أبو عبد الله الحميدي وأبو الفضل ابن طاهر وغيرهما".
قلت: ويضاف إلى ذلك أيضًا: وجود المستخرجات الكثيرة على هذين الكتابين، بحيث لا يوجد حديث فيه علة إلا وجاء في المستخرجات في كثير من الأحيان سليمًا، مما يفيد تعدد طرق حديث الصحيحين ويزيدها قوة على قوة.
وقال الحافظ: "ومنها المشهور إذا كانت له طرق متباينة سالمة من ضعف الرواة والعلل، وممن صرح بإفادته العلم النظري الأستاذ أبو منصور البغدادي، والأستاذ أبو بكر بن فُوَرك وغيرهما.
ومنها: المسلسل بالأئمة الحفاظ المتقنين، حيث لا يكون غريبًا؛ كالحديث الذي يرويه أحمد بن حنبل مثلًا ويشاركه فيه غيره عن الشافعي، ويشاركه فيه غيره عن مالك بن أنس، فإنه يفيد العلم عند سامعه بالاستدلال من جهة جلالة رواته، وأن فيهم من الصفات اللائقة الموجبة للقبول ما يقوم مقام العدد الكثير من غيرهم، ولا يتشكك من له أدنى ممارسة بالعلم وأخبار الناس أن مالكًا مثلًا لو شافهه بخبر أنه صادق فيه، فإذا انضاف إليه من هو في تلك الدرجة ازداد قوة وبَعُدَ عما يُخشى عليه من السهو" (١) .
وقال ابن كثير في مختصر علوم الحديث: "وقفت بعد هذا على كلام لشيخنا العلامة ابن تيمية مضمونه: أنه نقل القطع بالحديث الذي تلقته الأمة بالقبول عن جماعات من الأئمة؛ منهم القاضي عبد الوهاب المالكي، والشيخ أبو حامد الإسفراييني، والقاضي أبو الطيب الطبري، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي من الشافعية، وابن حامد وأبو يعلى بن الفراء وأبو الخطاب وابن
_________
(١) نزهة النظر شرح نخبة الفكر ص ١٠.
1 / 11
الزاغوني وأمثالهم من الحنابلة، وشمس الأئمة السَّرخسي من الحنفية، قال: وهو قول أكثر أهل الكلام من الأشعرية وغيرهم؛ كأبي إسحاق الإسفراييني وابن فُوَرك، قال: وهو مذهب أهل الحديث قاطبة ومذهب السلف عامة" (١) .
وقال ابن تيمية: "ومن الحديث الصحيح ما تلقاه المسلمون بالقبول، فعملوا به ... فهذا يفيد العلم، ويجزم بأنه صدق؛ لأن الأمة تلقته بالقبول تصديقًا وعملًا بموجبه، والأمة لا تجتمع على ضلالة؛ فلو كان في نفس الأمر كذبًا لكانت الأمة قد اتفقت على تصديق الكذب والعمل به وهذا لا يجوز عليها".
ثم قال: "ومن الصحيح ما تلقاه بالقبول والتصديق أهل العلم بالحديث كجمهور أحاديث البخاري ومسلم؛ فإن جميع أهل العلم بالحديث يجزمون بصحة جمهور أحاديث الكتابين، وسائر الناس تبع لهم في معرفة الحديث ... " (٢) .
وقال الإمام الصنعاني: "قد عُلم أن خبر الواحد يفيد الظن، فإذا حفته القرائن أفاد العلم كما قال الحافظ في النخبة وشرحها: وقد يقع فيها - أي أخبار الآحاد المنقسمة إلى مشهور وعزيز وغريب، وهي أقسام الآحاد - ما يفيد العلم النظري بالقرائن على المختار" (٣) .
المذهب الثالث: أن خبر الواحد الثقة يفيد الظن ولا يفيد العلم، ولا فرق
_________
(١) مختصر علوم الحديث ص ٣٦.
(٢) الفتاوى ١٨ / ١٦ – ١٧.
(٣) توضيح الأفكار ١ / ٢٦.
1 / 12
بين البخاري ومسلم وغيرهما في ذلك، ولكنه حُجة من حُجج الشرع يلزم العمل به سواء أكان في العقائد أم غيرها. وممن قال بهذا المذهب الإمام ابن عبد البر القرطبي، فهو يقول عن حديث الآحاد: "إنه يوجب العمل دون العلم" (١) .
وقال في أول كتاب التمهيد ما نصه: "أجمع أهل العلم من أهل الفقه والأثر في جميع الأمصار - فيما علمت - على قبول خبر الواحد العدل وإيجاب العمل به، إذا ثبت ولم ينسخه غيره من أثر أو إجماع، على هذا جميع الفقهاء في كل عصر من لدن الصحابة إلى يومنا هذا، إلا الخوارج وطوائف من أهل البدع شرذمة لا تعد خلافًا. وقد أجمع المسلمون على جواز قبول الواحد السائل المستفتي لما يخبره به العالم الواحد إذا استفتاه فيما لا يعلمه، وقبول خبر الواحد العدل فيما يخبر به مثله" (٢) وقد أفرد أبو عمر بن عبد البر لهذه المسألة كتابًا مستقلًا سماه "الشواهد في إثبات خبر الواحد" ذكره في مقدمة التمهيد.
ومن القائلين بهذا المذهب أيضًا: النووي ووافقه الإمام العز بن عبد السلام، فقال النووي في كتاب التقريب: "وذكر الشيخ تقي الدين - يعني ابن الصلاح – أن ما روياه - يعني في الصحيحين - أو أحدهما فهو مقطوع بصحته والعلم القطعي حاصل فيه، وخالفه المحققون والأكثرون فقالوا: يفيد الظن ما لم يتواتر" (٣) .
وممن قال بهذا الرأي أيضًا: الإمام أبو السعادات ابن الأثير في مقدمة
_________
(١) نقله ابن تيمية في المسودة ص ٢٤٤.
(٢) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد ١ / ٢ - ٣.
(٣) التقريب ص ٦.
1 / 13
"جامع الأصول"، حيث قال: "وخبر الواحد لا يفيد العلم، ولكنا مُتَعبدون به" (١) .
وقد استدل أصحاب هذا الرأي بجواز الخطأ والنسيان على الثقة عقلًا، ومع هذا الجواز العقلي لا يمكن ادعاء القطع، وتلقي الأمة الحديث بالقبول إنما أفاد وجوب العمل به.
قلت: أرى الخلاف بين هؤلاء وبين الذين يقولون إنها تفيد العلم خلافًا نظريًا ليس له أثر في الواقع، فالجميع يوجبون العمل بخبر الواحد إذا توافرت فيه شروط القبول.
هذا، وإننا لا نقول باستحالة الخطأ على جميع النقلة ولا بعصمتهم من تعمد الكذب، ولكننا نقول بالجزم والتصديق عند ظهور علامات تؤيد ذلك، ويقول الإمام ابن القيم: "إن الراوي إذا كذب أو غلط أو سها فلابد أن يقوم دليل على ذلك، ولابد أن يكون في الأمة من يعرف كذبه وغلطه ليتم حفظه لحججه وأدلته، ولا تلتبس بما ليس منها" (٢) .
وينبغي أن نشير إلى أنه لا يمكن أن يكلف الله ﷿ بأمر - ولم يثبت هذا التكليف من طريق التواتر - ثم يعمل المسلم ذلك التكليف وهو يعتقد أن هذا الذي يفعله أمر ظني أو احتمالي والعلم بصحته غير واجب شرعًا، وقد سُئل الإمام أحمد عن إنسان يقول: إن الخبر يوجب عملًا ولا يوجب علمًا، فعاب ذلك وقال: ما أدري ما هو؟! (٣) .
_________
(١) جامع الأصول في أحاديث الرسول ١ / ١٢٥.
(٢) مختصر الصواعق المرسلة ص ٦٠٤.
(٣) نقله ابن تيمية في المسودة ص ٢٤٢.
1 / 14
المذهب الرابع: أن خبر الآحاد يفيد الظن، ولذلك لا يصح الاعتماد عليه في العقيدة وفي الغيبيات، أما ما سوى ذلك في الأحكام العملية وغيرها فإنه يجب العمل به، وممن قال بهذا المذهب: بعض علماء الكلام، وقال به جمع من المتأخرين والمعاصرين، منهم الشيخ عبد الوهاب النجار؛ فقد قال في كتاب قصص الأنبياء مانصه: "الخبر إذا كان رواته آحادا فلا يصلح أن يكون دليلًا على ثبوت الأمور الاعتقادية الغرض منها القطع، والخبر الظني الثبوت أو الدلالة لا يفيد القطع" (١) .
ومنهم أيضًا: الشيخ محمود شلتوت، فقد قال في الفتاوى - بعد أن ذكر وفاة سيدنا عيسى ﵊ وأنه لا يَنْزل في آخر الزمان - ما نصه: "وإذا صح هذا الحديث – يعني حديث أبي هريرة في نزول عيسى – فهو حديث آحاد، وقد أجمع العلماء على أن أحاديث الآحاد لا تفيد عقيدة، ولا يصح الاعتماد عليها في شأن المغيَّبات" (٢) .
ويستدل هؤلاء على هذا القول بأن العقائد قطعية فلا يجوز أن يحتج عليها إلا بقطعي، وقد نهى الله ﷿ عن اتباع الظن فى العقائد فقال
_________
(١) قصص الأنبياء في القاعدة رقم (٤) وقد رد عليه الشيخ عبد الله بن الصديق الغماري في كتاب (آدم ﵇ وفي كتاب (عقيدة أهل الإسلام في نزول عيسى ﵇ .
(٢) الفتاوى ص ٥٤. وما ادعاه من الإجماع ليس صحيحًا؛ حيث إن ذلك مذهب جماعة من المتكلمين، وبعض من سار على نهجهم من المتأخرين. وخالفهم كثير من العلماء المحققين والأئمة المرضيين الذين نقلنا طرفًا من كلامهم في ثنايا هذا البحث. وقد رد عليه جماعة من العلماء منهم الشيخ مصطفى صبري في كتابه القيم (موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين) والشيخ محمد زاهد الكوثري في كتابه (نظرة عابرة في مزاعم من ينكر نزول عيسى ﵇ قبل الآخرة) .
1 / 15
تعالى: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى﴾ [النجم: ٢٣] .
وقال تعالى: ﴿وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾ [النجم: ٢٨] .
وقال ﷿: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف:٣٣] .
وقولهم هذا ضعيف؛ لأن كل ما ورد عن الرسول ﷺ فهو واجب التصديق واجب الاتباع خبرًا كان أو إنشاء، عقيدة كان أو غير عقيدة، للنصوص الكثيرة التي ذكرنا بعضها فيما سبق والتي تأمر بطاعة الرسول مطلقًا من غير تقييد، وأما الآيات الناهية عن اتباع الظن فإنها تعني الظن المذموم الذي لا يقوم عليه دليل وليس له أسس ثابتة، بل هو قائم على الهوى والغرض المخالف للشرع، مثل إثبات الألوهية لغير الله ﷿ كما هو الحال فى ظن المشركين فى معبوداتهم، وهذا الظن يختلف تمامًا عن الظن المنسوب إلى أحاديث الآحاد فهو ظن راجح ملحق بالقطعي فى وجوب الاعتقاد والعمل به، فلا ارتباط بينه وبين النوع الأول من الظن المشار إليه بالنسبة لمعتقدات المشركين، "فإطلاق كلمة الظن على أحاديث الآحاد - وهي في حقيقتها أكثر السنة النبوية - وربطها بالمعنى الوارد عند بعضهم
1 / 16
فى عبارة: إن الأئمة قاطبة يرون أن أحاديث الآحاد لا تفيد إلا الظن، وأن الظن لايغني عن الحق شيئًا، خطأ مبين؛ حيث أورد للظن معنى واحدًا حصره فى المفهوم الذي اتبعه المشركون فى مواجهة حقائق القرآن الكريم" (١) .
وقد ألف العلامة المحدث الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى كتابًا سماه "وجوب الأخذ بأحاديث الآحاد في العقيدة والأحكام" وذكر عشرين وجهًا تدل على وجوب الأخذ بأحاديث الآحاد في العقيدة وغيرها، ورد على هذا المذهب القائل بأنه لا يُحتجُّ بهذه الآحاد فى العقيدة لأنها لا تفيد اليقين، وذكر أن القول بأن أحاديث الآحاد لا يؤخذ بها في العقيدة قول مبتدع محدث لا أصل له فى الشريعة، ولم يقل به أحد من الصحابة وسلف هذه الأمة، ومن المعلوم أن كُلَّ أمر مُبتَدع في أمر من أمور الدين باطل مردود، كما أن هذا القول يستلزم رد مئات الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي ﷺ لمجرد كونها في العقيدة، وقال أيضًا: "إن التفريق بين العقيدة والأحكام العملية، وإيجاب الأخذ بحديث الآحاد في هذه دون تلك إنما بُني على أساس أن العقيدة لا يقترن معها عمل، والأحكام العملية لا يقترن معها عقيدة، وكلا الأمرين باطل". ثم قال: "ومما يوضح لك أنه لابد من اقتران العقيدة في العمليات أيضًا أو الأحكام: أنه لو افترض أن رجلًا يغتسل أو يتوضأ للنظافة أو يصلي مرتبطًا، أو يصوم تطببًا، أو يحج سياحة، لا يفعل ذلك معتقدًا أن الله ﵎ أوجبه عليه وتعبده به لما أفاده شيئًا، كما لا يفيده
_________
(١) السنة المفترى عليها ص ١٥٤، وانظر كتاب (إقامة البرهان على نزول عيسى آخر الزمان) للعلامة عبد الله بن الصديق الغماري.
1 / 17
معرفة القلب إذا لم تقترن بعمل القلب الذي هو التصديق. فإذن كل حكم شرعي عملي يقترن به عقيدة ولابد ترجع إلى الإيمان بأمر غيبي لا يعلمه إلا الله تعالى، ولولا أنه أُخبرنا به في سنة نبيه ﷺ لما وجب التصديق والعمل به".
ومما قاله أيضًا: "إن قولهم يستلزم تعطيل العمل بحديث الآحاد في الأحكام العملية أيضًا، وهذا باطل لايقولون هم أيضًا به، وما لزم منه باطل فهو باطل، وبيانه: أن كثيرًا من الأحاديث العملية تتضمن أمورًا اعتقادية، فهذا رسول الله ﷺ يقول لنا: إذا جلس أحدكم فى التشهد الأخير فليستعذ بالله من أربع: يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب جهنم، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال. رواه الشيخان ... " إلى آخر كلامه.
المذهب الخامس: وهو مذهب الخوارج والمعتزلة، وهؤلاء لا يحتجون بأحاديث الآحاد لا في العقائد ولا في الأحكام.
وحجة هؤلاء هي نفس حجة المذهب السابق الذكر، أي أن هذه الأحاديث لا تفيد إلا الظن ولا تفيد علمًا مقطوعًا به لما فيها من احتمال الخطأ والوهم والكذب.
قلت: وهذا القول باطل؛ لأن من لوازمه الاقتصار على ما جاء في القرآن الكريم، وعلى الأحاديث المتواترة، والتي لا يصل عددها إلى مائتي حديث. وكأن هؤلاء هم الذين عناهم الرسول ﷺ فيما صح عنه من حديث المقدام ابن معد يكرب ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ "ألا هل عسى رجل يبلُغُهُ الحديث عنّي، وهو متكئ على أريكته، فيقول: بيننا وبينكم كتابُ الله،
1 / 18
فما وجدنا فيه حلالًا استحللْناهُ، وما وجدنا فيه حرامًا حرَّمناه، وإن ماحرم رسول الله كما حرم الله" (١) وقال الإمام القرطبي في تفسيره: "وقد أنكرت جماعة من المبتدعة تعبد الله بالظن وجواز العمل به؛ تحكُّمًا فى الدين ودعوى في المعقول، وليس فى ذلك أصل يعوَّل عليه ... " (٢) .
_________
(١) رواه أبو داوود (٤٦٠٤)، والترمذي (٢٦٦٦)، وابن ماجه (١٢)، وأحمد ٤ / ١٣٠، واللفظ للترمذي.
(٢) تفسير القرطبي ١٦ / ٣٣٢.
1 / 19
القول الحق في قبول خبر الآحاد
وبعد أن سردنا المذاهب فى الاحتجاج بخبر الآحاد نقول: إن الحق الذي لا يعول على غيره: أن خبر الآحاد يفيد العلم والعمل جميعًا، إذا توافرت فيه شروط القبول، ولم يطعن فيه أحد من العلماء المعتبرين، سواء أكان في الصحيحين أم في غيرهما. وإليك الأدلة التي تفيد ذلك من الكتاب والسنة والإجماع.
أولًا: الكتاب:
١- قول الله ﷿: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: ١٢٢] فالفرقة في الآية يراد بها الثلاثة فأكثر، والطائفة تصدق على الواحد والاثنين فهي جزء من الفرقة، ومن ذلك أن الله أمر بتشكيل واحد أو اثنين للخروج من كل فرقة تضم ثلاثة أفراد من أجل التفقه فى الدين ومن أجل الإنذار بعد العودة، فدل ذلك على صحة أخذ العلم عن خبر الآحاد ودل بالتالي على وجوب العمل به (١) .
٢- وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ [الحجرات: ٦] .
وفى قراءة لحمزة والكسائي وخلف: ﴿فتثبَّتوا﴾ .
_________
(١) انظر الفقيه والمتفقه ص ١١٠.
1 / 20