ولو أن الناس تركوا وقدر قوى غرائزهم، ولم يهاجوا بالحاجة على طلب مصلحتهم والتفكر في معاشهم، وعواقب أمورهم، وألجئوا إلى قدر خواطرهم التي تولد مباشرة حواسهم، دون أن يسمعهم الله تعالى خواطر الأولين، وأدب السلف المتقدمين، وكتب رب العالمين، لما أدركوا من العلم إلا اليسير، ولما ميزوا من الأمور إلا القليل. ولولا أن الله تعالى أراد تشريف العالم وتربيته، وتسويد العاقل ورفع قدره، وأن يجعله حكيما، وبالعواقب عليما، لما سخر له كل شيء، ولم يسخره لشيء، ولما طبعه الطبع الذي يجيء منه أريب حكيم، وعالم حليم.
كما أنه عز ذكره لو أراد أن يكون الطفل عاقلا، والمجنون عالما، لطبعهم طبع العاقل، ولسواهم تسوية العالم، كما أراد أن يكون السبع وثابا، والحديد قاطعا، والسم قاتلا، والغذاء مقيما؛ فكذلك أراد أن يكون المطبوع على المعرفة عالما، والمهيأ للحكمة حكيما، وذو الدليل مستدلا، وذو النعمة مستنفعا بها.
فلما علم الله تبارك وتعالى أن الناس لا يدركون مصالحهم بأنفسهم، ولا يشعرون بعواقب أمورهم بغرائزهم، دون أن يرد عليهم آداب المرسلين، وكتب الأولين، والأخبار عن القرون، والجبابرة الماضين طبع كل قرن من الناس على أخبار من يليه، ووضع القرن الثاني دليلا يعلم به صدق خبر الأول؛ لأن كثرة السماع للأخبار العجيبة، والمعاني الغريبة، مشحذة للأذهان، ومادة للقلوب، وسبب للتفكير، وعلة للتنقير عن الأمور.
পৃষ্ঠা ২৩৯