السيدة كورنش هي المرأة التي يعيش راي في بيتها؛ في حي ما شرق فانكوفر. كان راي دائم الانشغال بأعمال في بيت السيدة كورنش وأخرى في هذا البيت؛ ولذا لزم عليه سرعة الرحيل فور أن ينهي عمله هنا. وكان دائما يساعد السيدة كورنش في العناية بابنتها أيرين التي كانت حبيسة كرسي متحرك بسبب إصابتها بشلل دماغي؛ ولذا تقول السيدة جوري عندما يخبرها راي أن أيرين بخير حال: «يا للمسكينة!» واعتادت أمه ألا تنتقده وجها لوجه بسبب الوقت الذي يمضيه مع تلك الفتاة التعسة وتنزهه معها في ستانلي بارك، أو خروجه معها مساء لشراء الآيس كريم (كانت تعلم هذه الأمور؛ لأنها أحيانا تتحدث مع السيدة كورنش عبر الهاتف)، لكنها كانت تقول لي: «لا أستطيع التوقف عن التفكير في مظهرها والآيس كريم يسيل على وجهها. لا أستطيع التوقف عن تخيله؛ فلا بد أن الناس لا يكفون عن التحديق فيهما بلا شفقة.»
قالت لي إنها حين ترافق السيد جوري إلى الخارج على كرسيه المتحرك (والسبب في شلله سكتة دماغية)، ينظر إليهما الناس، لكن الأمر يختلف مع أيرين؛ لأن زوجها حين يكون بالخارج لا تصدر عنه حركة أو صوت، وكانت هي دائمة الحرص على أن يكون مظهره لائقا. أما أيرين فتجلس بجسد متراخ، مكررة كلمات غير مفهومة؛ تلك المسكينة ما بيدها حيلة.
أخبرتني السيدة جوري أن السيدة كورنش ربما تفكر في أمر ما، فمن سيرعى تلك الفتاة المعاقة عندما ترحل هي عن هذه الحياة؟ «لا بد أن يسن قانون يحظر على الأصحاء الزواج من مثل هؤلاء الناس، لكن حتى الآن لا يوجد مثل هذا القانون.»
طلبت إلي السيدة جوري أن أصعد إلى شقتها لارتشاف القهوة، لكنني لم أحبذ قط زيارتها لانشغالي بحياتي الخاصة في القبو. أحيانا كنت أتظاهر بأنني خارج المنزل حين تطرق بابي، ولأجل هذا كان يتعين علي أن أطفئ الأنوار وأوصد الباب بمجرد أن أسمعها وهي تفتح بابها، وكذلك أبقى ساكنة بينما تنقر هي بأظافرها على بابي منادية اسمي بصوتها العالي. كذلك فإنني أضطر أن أظل هادئة ساعة على الأقل بعد أن تصعد شقتها، وأمتنع عن غمر المرحاض. وحتى حين أتحجج لها بأن لا وقت لدي، فهناك أمور أريد أن أنجزها، تضحك قائلة: «أي أمور تلك؟»
فأقول: «خطابات أريد أن أكتبها.»
فتقول لي: «دائما تكتبين الخطابات، لا بد أنك مشتاقة إلى وطنك.»
كان حاجباها ذوي لون زهري يقارب لون شعرها الأحمر المائل للوردي. كنت أظن أن لون شعرها لا يمكن أن يكون طبيعيا، لكن أنى لها أن تصبغ حاجبيها؟ وكان وجهها نحيلا متوردا ينبض بالحياة، وأسنانها كبيرة ومتلألئة. أما ميلها الفطري للود والصحبة، فما كان ليتزعزع مهما كانت المقاومة. ففي صبيحة اليوم الأول الذي أحضرني فيه تشيس إلى الشقة بعد أن استقبلني في محطة القطار، وجدتها تطرق بابي وفي يدها طبق من الكعك وعلى وجهها ابتسامة خداعة. لم أكن قد خلعت قبعتي بعد، وكان تشيس يفك حزام وسطي. كان الكعك جافا وصلبا ومغطى بكريمة ذات لون وردي براق، احتفالا بعرسي. اقتضب تشيس حديثه معها؛ إذ كان عليه العودة إلى عمله خلال نصف ساعة، لكنه حين تخلص منها وجد أن الوقت قد انقضى ولن يستطيع أن يكمل ما بدأه، فاكتفى بأن يأكل الكعك واحدة تلو الأخرى، متذمرا من مذاقها الذي يشبه مذاق نشارة الخشب.
قالت لي ذات مرة: «زوجك ذو شخصية جادة جدا، وهذا يضحكني؛ فهو دوما ينظر إلي بتلك النظرة الجادة في رواحه وغدوه؛ أود نصحه بأن يهون على نفسه، فهو لا يحمل الدنيا على عاتقه.»
أحيانا كنت أضطر أن أتبعها إلى الطابق العلوي بعد أن تنتزعني من الكتاب الذي أقرؤه أو الفقرة التي أكتبها، فنجلس في غرفة الطعام على المائدة التي كانت تزينها بمفرش من الدانتيل، وتضع عليها مرآة ثمانية الأضلاع تعكس تحفة من السيراميك على شكل بجعة. وكنا نرتشف القهوة من فناجين خزفية، ونأكل (المزيد من الكعك، أو تورتة الزبيب، أو الحلوى الدسمة) في أطباق صغيرة تحمل ذات النقوش، ونمسح شفاهنا بمناديل قماشية صغيرة مطرزة لنزيل عنها آثار الكعك. كنت أجلس أمام خزانة الأواني الخزفية التي تتراص فيها الكئوس الفاخرة، ومجموعات أواني اللبن والسكر، والملح والفلفل، وكانت كلها أنيقة وبارعة بطريقة لا تسمح باستخدامها يوميا الاستخدام العادي. وكذلك المزهريات الطويلة الضيقة من أعلى، وإبريق شاي على شكل كوخ مسقف بالقش، وشمعدانات على أشكال زهور السوسن. وكانت السيدة جوري تفتح خزانة الأواني الخزفية مرة كل شهر وتغسل كل ما فيها. هي من أخبرتني بهذا؛ أخبرتني أيضا عن أمور تتعلق بمستقبلي، عن المنزل الذي سأعيش فيه - حسب ظنها - وعن المستقبل الذي ينتظرني، وكلما تكلمت، يزداد شعوري بأثقال حديدية تجثم على أوصالي، وأحتاج إلى التثاؤب مرارا وتكرارا في منتصف الفترة الصباحية، وأشعر برغبة ملحة في أن أزحف لمكان قصي لأختبئ وأنام، لكنني كنت أحرص على أن أبدي لها إعجابي بكل شيء؛ من محتويات خزانة الأواني الخزفية، إلى نظام تدبير المنزل الذي تتبعه في حياتها، إلى تناسق ملابسها كل صباح؛ كالتنورات والسترات بدرجات ألوانها البنفسجية والحمراء، والأوشحة المتناسقة معها المصنوعة من الحرير الصناعي.
قالت لي ذات يوم بعد أن رأتني أكثر من مرة مرتدية الروب: «احرصي على أن ترتدي ثيابك ما إن تستيقظي من النوم، كأنك ستخرجين للعمل، وكذلك صففي شعرك وضعي زينة وجهك. وإذا ما أردت أن تقومي بأعمال المنزل من غسيل أو خبز، فيمكنك ارتداء مئزر فوق ثيابك. إن هذا سيحسن حالتك المعنوية جدا.»
অজানা পৃষ্ঠা