لم تخطر له قط فكرة فقدانها ولا في الحلم، فالمرأة لم يكن مباحا لها أن تكون مفقودة، ليس لها مكان آخر تفقد نفسها فيه، وإن وجد المكان فليس هناك الرجل الآخر، وإن وجد الرجل فليس هناك الورقة، ولم يكن للمرأة وجود دون ورقة. - ولم يشك هو في وجودها أبدا، أليس كذلك؟
كان في استطاعة زوجها حين يمد ذراعه وهو نائم أن يمسكها، كان في استطاعته حين يصحو ويمد ساقه أن يركلها، فالمكان ضيق تماما، يزداد ضيقا بمرور الوقت ومع ازدياد حجم الجسم، وتراكم الشحم، وقلة الحركة، وفي ليلة العيد يحملها فوق ظهره، كما لو كانت خروفا، يضعها فوق الميزان، وبالثمن الذي يقبضه يشتري تلك الآلة الجديدة. - أي آلة تلك؟ - تلك التي يدق عليها بأصابعه فتكتب له دون أن يتعلم الكتابة.
أجل، كان الحلم مشروعا تماما، والآلة لم يكن لها فم مثل المرأة لتأكل ولا لسان يتكلم، فوق كل ذلك تكتب بخط واضح، وإذا لم تكتب فهي تظل في مكانها لا تبرحه، وإن تآكلت مع الوقت يمكن استبدالها، ويصبح بمقدوره الاستغناء عن المرأة تماما. - إنها نوع جديد من الماكينات، ولها زر للكتابة، وزر للقراءة، وزر للشطب، وآخر للمسح ... - ومن يطبخ لك؟ - وهناك زر أبيض تضغط عليه وتطلب ما تشاء من الأطعمة، وتأتيك الوجبة ساخنة تماما، ومعها السلطات والمخللات وكل شيء. - والجنس؟ أعني الحب. - هذا له زر آخر لونه أحمر.
كانت المرأة ترهف أذنيها، والأصوات تأتي عبر مسافات تستغرق زمنا طويلا، كانت من المهارة بحيث استطاعت الخروج في إجازة، أجل، فإن البقرة الأليفة قد تخرج يوما في إجازة ، والماكينة أيضا قد تكف يوما عن العمل، لا يمكن لأحد أن يتهم إحداهما بسوء الخلق. لكنها كانت لسوء الحظ امرأة، ولا يمكن لها أن تكون بريئة. - إذا هجرت المرأة فراش زوجها ليلة واحدة تعلق من شعرها يوم القيامة وتحرق في النار.
كان هو صوت زوجها في أيام الحب، لم يكن يطيق أن تغيب عنه ليلة واحدة، لكن ذلك كان قبل أن تكتشف تلك الماكينات، وقبل أن يصبح للنفط قوة تشبه الكهرباء، وكانت هي شابة هادئة الطبع، مطيعة تماما لأوامر زوجها ورئيسها في العمل، باحثة محترمة من الدرجة الأولى، لها اسم في السجل مع صورة مومياء، وقد أعجب بها الجميع، لم يكن لها أعداء، ولم يكن لها أيضا أصدقاء، فلا شيء يلوث سمعة المرأة إلا الأصدقاء، وفوق كل ذلك لم يكن لها شأن إلا بالتنقيب عن الحفريات. - والآلهة؟ وصاحب الجلالة؟ ألم يكن لها بهم أي شأن؟! - ماذا تعني؟ - أعني، ألم يكن لها اهتمام بالسياسة؟ - أتقول السياسة؟! ألا تعرف أنه محظور على النسوة تعاطي السياسة؟! - ألم تكن تقرأ الصحف على الأقل؟ - لم تكن تقرأ ولا تكتب. - كانت جميلة إذن.
بدا لها الحوار غريبا، وإن كان طبيعيا تماما، لكن الأمر لم يكن سهلا، فالمرأة لا تستطيع أن تكون جميلة إلا من خلال مرآة جيدة النوع، وكانت المرايا تفسد مع الوقت، تزحف إليها الذرات السوداء مع هبوب العاصفة، يبدو وجهها مليئا بالبقع، تتزايد البقع بمرور الأيام، تنتشر فوق الأنف، والخدين وتصعد إلى الجبين تغطيه، وتطمس الملامح كلها والعينين، ولا يبقى منها إلا عين واحدة، أو نصف عين.
تجمدت في مكانها واقفة، لمحت صورتها منعكسة على السطح، أهو وجهها؟ لم تكن ترى إلا نصف عين، وفوق رأسها البرميل، وعنقها يلتوي إلى ناحية، وفوق رأسها البرميل، أتكون واحدة من الجارات وليست هي؟ ضربت بيدها المرآة فكسرتها، أجل، ما جدوى المرآة لامرأة لم تعد ترى وجهها؟ - لا بد أن هناك سببا يدعو المرأة إلى إخفاء وجهها عن العالم. - أجل، بالتأكيد. - هذا دليل على فجور النسوة. - أجل. - طيب ، إذن هل عندك خبر جديد؟ - أبدا، لم يعثروا لها على أثر بعد. - ما هذه الماكينة؟ يبدو أنك اشتريت آلة كاتبة جديدة. - أجل، وهي تكتب وتشطب وتمسح وتغسل وتطبخ، وكل شيء. - يمكنك إذن السفر والاستمتاع بإجازة، وعندي استراحة بعيدة في الخلاء. - أتعني جارسونيرة؟ - لقد أصبح لها اسم جديد، ألا تعرف ذلك؟ - نعم، استراحة، هذا اسم أفضل، ويمكن أن أدفع لك بعض الأجر، رمزي على الأقل. - لا مانع، إن كنت تصر، وقد ارتفعت الأسعار بارتفاع سعر البرميل. - أجل، وهذا أيضا بسبب فجور النسوة، ألم تسمع عن هذه البدعة الأخيرة؟ - نعم، بدأت النسوة تطالب بأجورهن. - سيؤدي ذلك إلى ارتفاع الأسعار بشكل جنوني. - لا تقلق، فهناك ماكينات جديدة ستحمل البراميل فوق أربع أرجل من الكاوتش بدل النسوة، وتمشي بقوة النفط. - هذا من فضل الله علينا، ألا ترى أن الله معنا دائما؟ •••
واصلت التسمع عبر المسافات الطويلة، توقفت تمسح بكفها العرق، أمن الأفضل ألا تعود؟ تلفتت حولها تقدم رجلا وتؤخر الأخرى، كانت تقف فوق حافة البركة، تطلعت عيناها إلى السماء تراقب ظهور الأضواء، ربما كانت طفولتها هي السبب، لم تكن قادرة على نسيان طفولتها، كانت تصعد عند الغروب فوق الجسر، وتجلس تنتظر، حقول الزرع ممدودة بامتداد النهر، أسفل المنحدر ترقد البيوت متلاصقة متساندة بعضها إلى بعض، فوق الأسطح أقراص الجلة والحطب وأبراج الحمام، والأرض ترابية يتصاعد منها الغبار ورائحة الخبيز، والروث يتطاير منه الذباب والبعوض والصراصير الطائرة السوداء، البركة الكبيرة وراء الجامع يلعب فيها الأطفال يتصاعد منها نقيق الضفادع مع أصوات الضحك والبكاء، من الطريق الزراعي تنبعث أصوات العائدين من الحقول، تثير أرجلهم الغبار، وأرجل الجاموس والبقر، تختلط أنفاسها مع أنفاس البشر، وهي جالسة فوق الجسر تنتظر، تتابع بعينيها ارتعاشة النجوم فوق رأسها، وأسفل المنحدر ترتعش ذؤابات الضوء في البيوت، وصوت الناي يسترسل في ظلمة الليل، وغناء النسوة الحزين يجلسن في العتمة وظهورهن إلى الجدار، وخالتها تربط رأسها بالمنديل، وهي فوق الجسر جالسة لا تريد العودة، مرتدية جلبابا ملطخا ذيله بالطين، تمشي به كل يوم من الدار إلى الحقل، وفوق رأسها تحمل زكائب المحاصيل، وفي المساء لا تلعب مع الأطفال، فاللعب لم يكن إلا للصبيان، ولا شيء يساوي عندها الجلوس فوق الجسر، عيناها مثبتتان في اتجاه الأفق، قلبها ينبض بقوة، والأضواء تنتشر فوق رأسها في السماء، والمصابيح في النوافذ ترتعش، فوق العمود يرتفع الكلوب، تحوم حوله الفراشات الخضراء، ذات الأرجل المشرشرة، وتمتلئ المصطبة بالرجال، يخرجون من البيوت، ويأتون من القرى المجاورة، يشربون الشاي والدخان، ويتناقلون أخبار الصحف، تغمض عينيها وترى نفسها وقد دخلت المدرسة وتعلمت القراءة والكتابة وأصبحت باحثة في علم من العلوم، أو كاتبة من هؤلاء اللائي ترى صورهن في الصحف، كان الشريان في عنقها يدق بقوة، كأنما تتدفق إلى رأسها الأفكار العبقرية، كانت خالتها وجميع الجارات يرفعن كفوفهن المشققة إلى أعلى، يبتهلن إلى الست الطاهرة أن تمنع عنها الحسد والأرواح الشريرة، تسمع أصواتهن تهمس بصوت كحفيف الهواء: «هذه البنت لها عقل يوزن بلد.»
في طفولتها امتلأ رأسها بهذه الفكرة، وأفكار أخرى بلا عدد، تفيض من حولها وهي ترقب النجوم، ترى الحياة تحت الأضواء واضحة كل الوضوح، مثل كتاب مفتوح، بسيطة كل البساطة، وأن الموت أبسط من الحياة ويبدأ لحظة الولادة، وأن الحبل يعجل بالموت، والزواج مضاد للعقل، وأن الملوك والآلهة كانوا مذنبين ومرتكبي آثام كثيرة، وأنها شهدت موت أبيها وهي جنين في بطن أمها، وابتهجت بذلك الحادث السعيد إلى حد الانزلاق من الرحم.
في تلك اللحظة كانت تحس جسمها ينزلق وحده أسفل الجسر، وحين تعود إلى الدار تتلقى علقة ساخنة، أو تبيت بغير عشاء، لكنها كل يوم عند الغروب تمشي إلى الجسر، وتجلس في مكانها هناك، تنتظر ظهور النجوم، كأنما تكتشف شيئا جديدا، في كل مرة تظهر فيها الأضواء. - ما الذي يمكن أن تخسره الواحدة منا بحق الست الطاهرة؟!
অজানা পৃষ্ঠা