وكان لاساله من يهود ألمانيا، نبت في عائلة غنية، وتربى أحسن تربية يحصل عليها شباب تلك الأيام في جامعات ألمانيا. وقد أراده أبواه على أن يسلك سبيل والده في تجارة الحرير فأبى، واختط لنفسه خطة خاصة، آثر فيها المجد على الثروة، ووجاهة الاسم على وجاهة المادة، فأخذ على نفسه أن يعين العمال في نهضتهم نحو تحقيق الاشتراكية، وأخذ يدعو إليها بماله وقلمه، يخطب ويكتب في كل مكان، ونشر النشرات، ويؤلف الرسائل في تحبيذها والدعوة إليها، حتى صار محور الحركة الاشتراكية في ألمانيا، ينضوي إلى لوائه آلاف العمال في جميع أنحاء ألمانيا.
وكان لاساله مثقفا كثير الاطلاع والفحص عن الآداب والعلوم، فكان لذلك كثير الاختلاط بالعلماء والأدباء، يجلونه ويكبرون فيه اجتهاده وأمانته لحركة العمال. وقد شهد فيه هينه الأديب الألماني المتفرنس هذه الشهادة التالية، التي كتبها لكي يقدمه بها إلى المؤرخ أنسيه، وناهيك بشهادة يكتبها هينه، قال:
صديقي لاساله، الذي يحمل إليك هذه الرسالة، هو رجل ذو مواهب ذهنية عظيمة؛ فهو يمزج قوة الإرادة إلى كفاية العمل، ويضمهما إلى أبعد مدى من الثقافة وأكبر مقدار من العلم. وهذا كله إلى ميزة الفهم والإفهام بما لم أر لهما شبيها. ولست أعرف أحدا قد اجتمع فيه مثل هذا المقدار من الحماسة إلى هذا المقدار من الذكاء.
وقد كان هينه من كبار أدباء القرن التاسع عشر. وحسب القارئ دليلا على مزاج لاساله الأدبي، وأنه من الطراز الأول، إعجابه بهينه في هذه الفقرات التالية:
إني أحب هينه، فهو شخصي الثاني، ما أبلغ جرأته وما أعظم فصاحته! فهو يعرف كيف يهمس همس الصبية عند تقبيلها الورد في كلماته، وكيف يتنفس اللهب عندما يجيش ويحصد ما حوله. وهو يستثير أرق العواطف وألطفها، كما أنه يستنهض منها أكثرها شراسة وأبعدها جسارة، فهو يملك ناصية القيثارة، يعزف على جميع أوتارها.
وبلغ لاساله من الشهرة والقوة، أن صار بسمارك يدعوه ويفاوضه في الحض على حركة الاتحاد بين الإمارات الألمانية، يستغل بذلك نفوذه لترويج الدعوة إلى الإمبراطورية الألمانية.
وفي حياة لاساله امرأتان، قد كان لهما أكبر أثر في تاريخه؛ أولاهما تدعى الكونتس هاتزفلد، ولم يكن لاساله يعشقها؛ فقد كانت تبلغ من العمر ضعفي عمره، وكانت تخاطبه في رسائلها إليه بقولها: «يا ولدي العزيز»، وكان هو الآخر عندما يكتب إليها يذكر لها أسماء من التقى بهن من النساء، وما قاله لهن، ويصف جمالهن لها، وليس هذا شأن من يحب.
وقد نشرت بعض الكتب لبث الاعتقاد بأنه كان يحبها، ولكن فحص خطابات كل منهما للآخر يثبت أنه كان هناك ود بينهما، لم يصل إلى درجة العشق، ولا فكر أحدهما في ذلك.
وخلاصة علاقته بهذه المرأة أنه عرفها في سنة 1846، وكان عمره إذ ذاك 21 سنة، وهي تناهز الأربعين، وامتدت صلة الصداقة بينهما حتى صارت تبثه شكايتها من زوجها. وكان زوجها قد عرف خليلة ملكت لبه، واستأثرت بأمواله، حتى خشيت الزوجة أن يوصي بأمواله لها دون أولاده، وعرفت أنه أوصى بالفعل بجزء كبير من أمواله لها، وأن وثيقة الوصية موجودة عند هذه الخليلة، فأعمل لاساله فكرته لكي يحصل على هذه الوثيقة، وعرف أن الكونت وخليلته ذاهبان إلى أكس لاشابل، فاندس وراءهما يصحبه صديقان، حتى نزلوا في الفندق الذي نزل فيه الخليلان، وسرقوا هذه الوثيقة، ولكن لسوء الحظ تنبهت المرأة للسرقة، وصاحت بخدم الفندق، فقبضوا عليهم، وساقوهم إلى مركز البوليس؛ حيث أخذ التحقيق مجراه ، وانتهى بالحكم على الصديقين دون لاساله؛ لأنه لم يثبت عليه شيء. وعاد لاساله إلى الطرق السلمية لمكافحة هذا الزوج، وبقي في مكافحته تسع سنوات، ربح فيها القضية لأبناء الكونتس، وألغيت الوثيقة. ولكن ذلك بعد أن أضاع مقدارا كبيرا من ماله الخاص.
أما المرأة الثانية فتدعى هيلين فون دوتنجس، وكانت فتاة قد نالت حظا كبيرا من التربية، ونشأت نشأة حرة طليقة، وكانت وهي فتاة قد ساحت في سويسرا وإيطاليا، فأكسبتها الغربة من التجارب ما جرأها على الحديث والاختلاط، وكانت مخطوبة إلى رجل إيطالي في سن الأربعين، فقبلته مكرهة بضغط من أبويها، ثم انخلعت منه، وعرفت شابا شريفا من أهل الفلاح، فمالت إليه حتى خيل إلى من حولهما أنهما لا بد متزوجان قريبا.
অজানা পৃষ্ঠা