نعم عن كل شيء حتى عنك أنت أيها الدفتر العزيز، فقد مضت أيام طوال لم أبثك فيها سري ولم أفض إليك فيها بحديث نفسي، وكنت قد عاهدتك على أن أجدد الخلوة إليك في الليل أو في النهار، وفي المقام أو في الرحيل، ولكني لم أفعل كما ترى. وما أدري أأنكرت غيبتي عنك وضقت بإبطائي عن لقائك، ولكن الذي أعلمه أني صرفت عنك كارهة في اليوم الذي تلا آخر ما أفضيت به إليك من حديث.
شغلت بأمر هذه الرحلة التي أصبحت، فرأيتها قد دبرت لي تدبيرا، وفرضت علي فرضا، ولم يبق لي إلا أن أهيئ لها نفسي وآخذ في أسبابها، ولم يمد لي الوقت للتهيؤ والأخذ في الأسباب. وإنما دعيت إلى ذلك أول النهار، وانحدرت بي السيارة إلى المدينة في آخره، وقضيت ما بين ذلك في إعداد ما لم يكن من إعداده بد لغيبة قد تتصل أسابيع.
وانتهيت إلى المدينة حين تقدم الليل شيئا، فكان لقاء عمتي وأبنائها، وكان العشاء، وكان السمر المتصل والأحاديث المختلفة. ثم آويت إلى غرفتي متعبة متهالكة مؤثرة أن أسلم نفسي إلى النوم على أن أخلو إليك لأبثك السر وآمنك على نجوى الضمير.
ثم أفيق من غد فإذا أبناء عمتي قد أقبلوا علي وكأنما كلفوا أنفسهم أو كلفهم غيرهم أن يحولوا بيني وبين الفراغ لنفسي والخلوة إليها، فهم لا يفارقونني وجه النهار وهم لا يكفون عن التحدث إلي بألوان الحديث، وإظهاري على ما تعود أمثالهم أن يظهروا عليه مثلي من شئون دارهم ومن شئونهم الخاصة، حتى إذا كان الغداء، وخيل إلي أني سأخلو بعده إلى نفسي لأستريح. ولأتحدث إليك شيئا حيل بيني وبين هذا أيضا، فقد هيأ هؤلاء الشياطين رياضة تستغرق ما بقي من النهار؛ رياضة في البحيرة نطوف أثناءها بهذه الشواطئ الجميلة الهادئة المطمئنة التي تبعث في النفوس هدوءا واطمئنانا، الباسمة الحزينة التي تبعث في النفس حزنا وابتساما، والتي تدفع إلى كثير من التفكير الغريب المؤثر الذي لا يستبد به العقل، وإنما يشترك فيه العقل والحس والشعور. والذي ينتهي بصاحبه إلى أن يمتزج بهذه البيئة الحلوة الهادئة، ويكاد يفنى فيها ويحيي في نفسه رغبات هادئة، ولكنها ملحة غامضة، ولكنها مع ذلك تكاد تنم عن نفسها لثنايا القلب وأعماق الضمير.
رياضة في هذه البحيرة، وتطويف بهذه الشواطئ، وإلمام ببعضها ثم تصعيد هادئ في هذه الربى التي ترتفع في رفق وكأنها مبسوطة ليس لها حظ من الارتفاع، ثم انحدار مرة إلى هذه الغابة عن يمين، وانحراف مرة أخرى إلى هذه الغابة عن شمال، واضطجاع هنا على هذا العشب الكثيف، وتنافس هناك في اقتطاف هذه الأزهار الصغار الدقاق وإلى اجتناء هذه الأثمار الوحشية الحلوة التي تمتلئ بها الغابات.
ثم نداء فجائي إلى الإسراع بالعودة، فقد أقبل الليل ولا بد من أن نتهيأ للعشاء؛ فإنا لن نجلس إلى المائدة وحدنا، ولكن أسرة فلان مدعوة إلى العشاء هذا المساء، وما كنت أعرف من أمر هذه الدعوة شيئا، وما كنت أفكر إلا في أننا سنقبل على طعامنا كما فعلنا أمس وسنسمر طرفا من الليل نتجاذب فيه الحديث، وقد نختلف فيه إلى البيانو، وقد نستمع فيه لبعض الغناء تدعى إليه هذه أو تلك من بنات عمتي، فتقبل عليه كارهة أو متكلفة للكراهة، وكنت أفكر فيما بيني وبين نفسي أن القوم سيدعونني إلى العزف وسيلحون علي في الغناء، وكنت أكره ذلك وأضيق به، ولكنني كنت أذعن له كما أذعن للقضاء المحتوم. فهذه قوانين الأسرة لا سبيل إلى الخلاف عنها أو الامتناع عليها.
وكنت أدير في نفسي لحنين أو ثلاثة من ألحان شوبان لأوقعها على البيانو، وأغنيتين أو ثلاثا من أغاني فوريه لأغنيها إن دعيت إلى ذلك.
وكنت أستذكر هذا كله في أثناء الرياضة والحديث، وكنت حريصة أشد الحرص على ألا يظهر مني ضعف أو يبدو مني تقصير؛ فقد لا ينبغي أن يتحدث عني بنات عمتي بأني قد نسيت العزف أو قصرت في الغناء. وإن أمي لحريصة أشد الحرص على أن أكون سباقة في هذين اللونين من ألوان الفن، وعلى أن يسجل السبق لي حين أكون في هذا الفرع من فروع أسرتنا خاصة.
كنت أفكر في هذا كله، ولكن الأمور جرت على غير ما كنت أقدر ، فقد علمت أن القوم يولمون وأنهم قد دعوا إلى وليمتهم منذ أيام وأنهم تعجلوا هبوطي إليهم من قريتي تلك المرتفعة الشاهقة لأشهد وليمتهم هذه. ثم علمت فاشتد ضيقي بما علمت، أن الأمر لن يقتصر على العشاء والسمر، ولكنه يتجاوز ذلك إلى الرقص، وإلى الرقص الذي لا يشترك فيه المدعوون إلى العشاء وحدهم، وإنما سيشترك فيه معهم قوم آخرون دعوا إلى السهرة.
وكان هذا كله قد دبر فأحكم تدبيره، وقد أخفي علي وكتم عني ولم يرفع لي عنه الحجاب إلا قبل العشاء بساعة وبعض ساعة، ولو قد علمت ذلك لما استجبت إلى الدعوة، ولما انحدرت من القرية، ولامتنعت على أبوي حين ألحا علي في الرحلة؛ فقد انقطع عهدي منذ الحرب وما تركت فينا من الأحزان، بهذه الحياة الفرحة المرحة، وبهذا اللون من ألوان العبث البريء. وما كنت أشك في أني سأعود إلى ذلك يوما ما، فلا بد للأحياء من أن يحتملوا الحياة ويتلقوا ما فيها من الخير والشر، ولكني كنت أقدر أني سأعود إلى هذا كله شيئا فشيئا وقليلا قليلا لا على هذا النحو المفاجئ الذي يأخذني كأنه السيل الذي لا سبيل إلى التحول عنه أو التخلص منه.
অজানা পৃষ্ঠা