وشخص الشاعر يتوارى خلف هذه القوى الأسطورية (ومنها الوطن) التي يهديها أغنيته. وهو يكتم قدره أو يظهره في بعض الأحيان على استحياء. إنه فرح بلقاء الوطن والأم والبيت وأشجار الغابة، فرح بالشمس والنور في العيون، والوفاء في الأصوات والصدور، وطائر السلام الذي يرفرف على الذكريات القديمة. وهو من فرحته يتحول إلى طفل بريء طائش: «أتكلم في طيش. إنه الفرح!».
4
هذه النغمة البريئة الطاهرة، هذا الصوت البعيد عن جفاف العقل وإسراف العاطفة، هذا النقاء والصفاء هو أهم ما يميز شعر هلدرلين وحياته.
كان وهو صبي صغير يرى أمه كل يوم في ملابس الحداد، تذرف الدموع على أبيه الذي مات وهو صغير. ولم تفارقه الكآبة أبدا بعد ذلك، لم يفارقه الجد والعبوس، لم يفارقه العذاب: «الحياة تتغذى بالعذاب ...»
إنه يرى نفسه في مرآة أمه الحزينة. يعرف أن حزنها من حزنه، وحدادها من حداده، وأساها من أساه. بل إن الشفقة لتأخذه عليها فينصحها ألا تفنى في الألم ولا تستسلم له: «كوني أكثر مرحا يا أمي الحبيبة ...»
لكنه هو نفسه كان يفنى في الألم والعذاب كل الفناء. يكفي أن نقرأ هذه السطور من روايته الوحيدة «هيبريون» لنعرف مدى عمق جراحه: «أجل .. أجل! إن الألم جدير بأن يرقد على قلوب البشر ويكون أليفك، يا أيتها الطبيعة .. لأنه هو وحده الذي يقودنا من بهجة إلى بهجة، وليس لنا من رفيق سواه ...»
لكنه مع هذا حزن صابر، ساكن، مطمئن على صدر الإيمان، وجد حقيقته الأخيرة في الكلمة الخالدة التي قالها من قبل أوديب : «كل شيء حسن .. طيبة كل الأشياء.»
5
وهو حزن من لا يملك أن يخفف من أحزان غيره. فقد كانت أمه التقية الهادئة دائمة الاكتئاب، حتى بعد زواجها الثاني من عمدة مدينة نورتنجن المجاورة . وما أكثر ما فعل هلدرلين مرضاة لخاطرها! وما أكثر ما احتمل من آلام لكيلا يخيب أملها فيه أو يزيدها حزنا على حزن! وفي إنتاج كل أديب، بل في حياة كل رجل، بصمات لا تنكر من أمه. لكن الأم الحزينة تصبح بلمسة الفن صورة وشكلا وكيانا أسطوريا. إنها تتحول في يد الشاعر فتصبح هي الأرض والطبيعة والسماء. وتذوب تجربة الأمومة في تجربة الأرض والطبيعة، بحيث تصبح الأرض والطبيعة هي جسد الأم الحي. وتكتسب الأبيات التي يقولها عن الأرض الأم وشاحها الأسطوري الذي يكسو كل شعره ويلفه برداء السر والجلال. ويصبح الشاعر هو الكاهن الذي يقدم فروض العبادة للأم؛ يقدمها على استحياء، لأنه يقترب من صورتها كأنما يقترب من سر الغابة الأزلية:
مع ذلك، يا أيتها السماوية، مع ذلك
অজানা পৃষ্ঠা