شكر وتقدير
الجزء الأول: اكتشف الجانب المغامر داخلك
1 - الهوبيت المغامر
2 - «الطريق يمتد ويمتد إلى الأبد»
3 - أقدام ضخمة مشعرة
4 - بيلبو باجنز
الجزء الثاني: الطيب، والشرير، والملطخ بالوحل
5 - مجد بيلبو باجنز
6 - الفخر والتواضع في «الهوبيت»
7 - «خاتمي الثمين»
8 - حرب تولكين العادلة
9 - هراء محض
10 - الهوبيت اللاعب
الجزء الثالث: الألغاز والخواتم
11 - «سيد السحر والآلات»
12 - داخل الهوبيت
13 - الفلسفة في الظلام
الجزء الرابع: الذهاب والعودة من جديد
14 - بعض الهوبيت يملكون كل الحظ
15 - عزاء بيلبو
16 - الخروج من المقلاة
17 - الذهاب والعودة مجددا
المساهمون
شكر وتقدير
الجزء الأول: اكتشف الجانب المغامر داخلك
1 - الهوبيت المغامر
2 - «الطريق يمتد ويمتد إلى الأبد»
3 - أقدام ضخمة مشعرة
4 - بيلبو باجنز
الجزء الثاني: الطيب، والشرير، والملطخ بالوحل
5 - مجد بيلبو باجنز
6 - الفخر والتواضع في «الهوبيت»
7 - «خاتمي الثمين»
8 - حرب تولكين العادلة
9 - هراء محض
10 - الهوبيت اللاعب
الجزء الثالث: الألغاز والخواتم
11 - «سيد السحر والآلات»
12 - داخل الهوبيت
13 - الفلسفة في الظلام
الجزء الرابع: الذهاب والعودة من جديد
14 - بعض الهوبيت يملكون كل الحظ
15 - عزاء بيلبو
16 - الخروج من المقلاة
17 - الذهاب والعودة مجددا
المساهمون
الهوبيت والفلسفة
الهوبيت والفلسفة
حين تفقد
الأقزام والساحر وتضل الطريق
تحرير
جريجوري باشام وإريك برونسون
ترجمة
شيماء طه الريدي
إلى أقزامنا؛ ديلان، وآشر، وماكس:
أحباءنا، فليكن طريقكم أخضر ذهبيا.
شكر وتقدير
شكرا جزيلا
لقد حالفنا قدر وافر من الحظ أثناء تجميع هذا الكتاب تجاوز القدر المعهود لأي شخص آخر. خالص تقديرنا لمساهمينا الذين عانوا معنا طويلا لما أبدوه من صبر في تحمل محررين عابسي الوجه والصوت؛ شكرا لكوني ستانتستبان، وهوب بريمان، والرفاق الخلوقين الآخرين بمؤسسة وايلي الذين اعتنوا بالكتاب حتى وصوله مرحلة النشر؛ شكرا لمحررة النسخة جوديث أنتونيلي لما قامت به من إخفاء لآثار خطواتنا عبر الغابة المظلمة السحيقة. وكعهدنا بكل مشروعاتنا التعاونية السابقة بدأت هذه الرفقة باجتماع على كئوس الجعة والغليون مع محرر السلسلة بل إروين، ونحن نمتن امتنانا خاصا لبل لتشجيعه مغامرتنا في التحرير المشترك، لا لكتاب واحد، بل لكتابين في مجال الثقافة الشعبية عن تولكين والفلسفة. وعاصفتان من الشكر لكل من مادلين وليندسي كارب وطلاب جريج في دورته الدراسية عن الإيمان والخيال والفلسفة في كلية الملك.
ولكن الفضل الأكبر ندين به لزوجتينا الرقيقتين؛ أرين وميا، وأقزامنا الصغار؛ ديلان، وآشر، وماكس، الذين نهدي لهم هذا الكتاب. قليلة هي المتع الدنيوية التي يمكنها أن تعادل متعة قراءة حكايات تولكين عن الأرض الوسطى لأطفالك ورؤية تلك الشمعة الوهاجة تنتقل من عقل لآخر، مثل منارات جوندور.
مقدمة
إياك أن تسخر من الفلاسفة الأحياء
بقلم جريجوري باشام و إريك برونسون
في حفرة في الأرض هناك عاش رجل شهد حياة هادئة بلا صخب في مجتمع كان يولي تقديرا عظيما للتوافق والاحترام. ولكنه ترك حفرته في أحد الأيام وانطلق في رحلة عبر البحار. وبقدر ما كانت مغامرته مخيفة وفي بعض الأحيان مؤلمة، فقد غيرته للأبد؛ فتفتحت عيناه، ونضج عقله وشخصيته. وعندما عاد إلى حفرته، اعتبره جيرانه «مختلا عقليا»؛ إذ لم يستطيعوا تقبل فكرة أن في الحياة ما هو أكثر من النظام والروتين المعتاد المتوقع. وعلى الرغم مما طال سمعته، فلم يراوده أي شعور بالندم لخوضه تلك المغامرة التي مكنته من اكتشافه ذاته الحقيقية واختبار عالم جديد مثير.
إذا بدا ذلك لك مألوفا، فلا بد أن تكون كذلك؛ فتلك هي «قصة الكهف» لأفلاطون (حوالي 428-348ق.م)، التي قد تعد أشهر قصة من قصص الذهاب والعودة مجددا رويت على الإطلاق. إن قصة أفلاطون ليست عن الهوبيت أو السحرة بالطبع، بل هي حكاية رمزية عن رجل ظل منذ ولد مصفدا في سجن تحت الأرض، ثم يخرج في مغامرة ليكتشف أن العالم أكبر بكثير، وأكثر ثراء وجمالا بكثير مما كان يتخيل. كان أفلاطون يأمل أن يتعلم القراء بعض الدروس من القصة، على غرار: كن مغامرا، اخرج من منطقة راحتك، اعترف بمواطن قصورك وكن منفتحا على الأفكار الجديدة والحقائق الأسمى. فما من طريق سوى مواجهة التحديات والمجازفة يمكننا من خلاله أن ننمو ونكتشف ما نحن قادرون على أن نصير إليه. وهذه الدروس هي نفسها الدروس التي يلقنها جيه آر آر تولكين في روايته «الهوبيت».
تثير رواية «الهوبيت»، التي تعد واحدة من أحب الكتب إلى الأطفال على مر الزمان والجزء الرائع السابق لرواية «سيد الخواتم»؛ مجموعة من الأسئلة المتعمقة للتأمل فيها وتدبرها. هل المغامرات مجرد «أشياء قميئة ومزعجة وغير مريحة» من شأنها أن «تجعلك تتأخر عن موعد العشاء» كما يصفها بيلبو، أم من الممكن أن تكون تجربة مثيرة من شأنها أن تغير حياة الإنسان؟ هل ينبغي إعلاء قيمة الطعام والمرح والغناء على الذهب المكتنز؟ هل كانت الحياة أفضل حالا في عصور ما قبل الصناعة حين كان هناك «القليل من الضوضاء والمزيد من الخضرة»؟ هل بإمكاننا الوثوق في أن لدى الناس «رقة كرقة النساء» بما يؤهلهم لاستخدام التقنيات القوية بشكل مسئول، أم يجب تنظيم هذه التقنيات بدقة وعناية أو تدميرها؛ خشية أن تقع في أيدي الغيلان وخدم الساحر الأسود؟
ما الواجبات التي تقع على عاتق الأصدقاء أحدهم تجاه الآخر؟ هل ينبغي أن تمتد آفاق الرحمة لتظل بظلالها حتى أولئك الذين يستحقون الموت؟ هل كان حجر الأركنستون حقا ملكا لبيلبو كي يهبه؟ كيف كان يجب توزيع كنز سموج؟ هل ترك ثورين «قيثارته الذهبية الجميلة» في باج إند حين خرج قاصدا البرية؟ إذا كان الأمر كذلك، فكم يمكننا أن نحصل عليه مقابلا لها على موقع إي باي؟ ومن ردهات منزل إلروند التي تملأ جنباتها السعادة إلى جزيرة جولوم الصخرية اللزجة، تطرح أسئلة فلسفية عظيمة على المعجبين القدامى والقراء الجدد.
كان تولكين أستاذا للغة الإنجليزية القديمة في العصور الوسطى بجامعة أكسفورد، وليس فيلسوفا متخصصا. ولكن مثلما توضح كتب حديثة مثل كتاب «فلسفة تولكين» لبيتر كريفتس، وكتاب «الدفاع عن الأرض الوسطى» لباتريك كاري، وكتابنا «سيد الخواتم والفلسفة»، كان تولكين دارسا عميق الاطلاع خلف تأثيرا قويا على الأسئلة الكبرى. ويقال إنه بينما كانت اختبارات التقدير الدراسي تسير على قدم وساق بشكل مرهق في أحد أيام الصيف الرائعة، فإذا بأستاذ أكسفورد يعثر على ورقة فارغة. بعد استغراق تام في الأفكار لبعض الوقت، التقط تولكين قلمه، كما يزعم، وكتب افتتاحيته الشهيرة: «في حفرة في الأرض هناك كان يعيش هوبيت.»
يعود بيتر جاكسون إلى كرسي المخرج من أجل رواية «الهوبيت» (2012)، بعد حصوله على جائزة الأوسكار عن إخراجه الرائع للأجزاء الثلاثة لفيلم «سيد الخواتم» (2001-2003)، وكم نتمنى ألا يفتر اهتمامه بهذه السلسلة. قد تكون قصة الهوبيت صغيرة، إلا أن جاكسون وشركة الإنتاج نيو لاين سينما لهما تفكير طموح؛ ما يدفعهما إلى توسيع القصة إلى فيلمين، مستعينين بمجموعة كبيرة من طاقم العمل في سلسلة أفلام «سيد الخواتم»، والتصوير بتقنية الأبعاد الثلاثية. وبعد عقد مظلم ومليء بالصراعات، أصبح بإمكان جماهير الأرض الوسطى أخيرا مشاهدة أحدث أجزاء جاكسون من كبرى الملاحم الخيالية في عصرنا.
في هذا الكتاب، يشارك فريقنا من الفلاسفة حماس تولكين للأسئلة الفلسفية «العتيدة القدم»، ولكننا أيضا نحتفظ لأنفسنا بحق طرح قضايا جديدة وخوض غمار مغامرات جديدة. فهذا الكتاب، فوق كل شيء، كتب «من أجل» جماهير تولكين «بأقلام» جماهير تولكين. وعلى غرار الكتب الأخرى في سلسلة فلسفة بلاكويل والثقافة الشعبية، يسعى الكتاب إلى استخدام الثقافة الشعبية باعتبارها وسيلة لتدريس ونشر أفكار كبار المفكرين.
تبحث بعض الفصول فلسفة رواية «الهوبيت» - القيم الأساسية والافتراضات الكبرى التي تقدم الخلفية الأخلاقية والمفاهيمية للقصة - والبعض الآخر يستعين بأفكار وموضوعات من الكتاب لتوضيح أفكار فلسفية عديدة. ومن هذا المنطلق، نأمل أن نبحث بعضا من الأسئلة الأكثر عمقا التي وردت في رواية «الهوبيت»، وكذلك تدريس بعض الأفكار الفلسفية القوية على حد سواء.
وفيما يشبه الهوبيت إلى حد كبير، يمتلك المؤلفون «ذخيرة من الحكمة والأقوال الحكيمة لم يسمع بها بشر على الإطلاق، أو دخلت طي النسيان منذ أمد طويل». لذا املأ غليونك بنوعك المفضل من تبغ أولد توبي، وأحضر تلك الزجاجة الخاصة من نبيذ أولد وينيارد التي كنت تدخرها؛ فإنها ستكون مغامرة بحق.
الجزء
اكتشف الجانب المغامر داخلك
الفصل الأول
الهوبيت المغامر
جريجوري باشام
كما أن الجوهرة لا تصقل من دون احتكاك؛ فإن خبرة المرء لا تصقل من دون تجارب.
كونفوشيوس «الهوبيت» هي قصة مغامرة، وهي أيضا قصة نمو شخصي. في بداية القصة يظهر بيلبو؛ الهوبيت التقليدي المفتقر لروح المغامرة والمحب للراحة . تتواصل أحداث القصة ليتطور ويكتسب الشجاعة، والحكمة، والثقة بالنفس. وفي هذا المقام تتشابه رواية «الهوبيت» مع «سيد الخواتم»؛ فكلتاهما حكاية تدور حول ما يحظى به المتواضعون
1
من تشريف وتعظيم، حسبما يخبرنا جيه آر آر تولكين. وكلتاهما قصة عن أشخاص عاديين - صغار في أعين «الحكماء» والأقوياء - يحققون أشياء عظيمة ويبلغون منزلة البطولة من خلال قبولهم التحديات، وتحمل الصعاب، والاعتماد على مواطن القوة المجهولة للشخصية والإرادة.
ما الصلة التي تربط بين الروح المغامرة والنمو الشخصي؟ كيف يمكن للتحديات والمخاطرة - الاستعداد لمغادرة كهوف الهوبيت الخاصة بنا بما فيها من أمن وراحة - أن تجعلنا أشخاصا أكثر قوة، وسعادة، وثقة بالنفس؟ لنر معا ما يمكن لبيلبو والمفكرين العظماء أن يعلموه إيانا عن النمو والإمكانات البشرية الكامنة. (1) تطور هوبيت
لا يعتبر الهوبيت بشكل عام قوما مغامرين بطبيعتهم، بل على العكس تماما؛ فالهوبيت «محبون للسلام والهدوء والأرض الجيدة المحروثة»، ولم يكونوا يوما محاربين لغيرهم أو متحاربين فيما بينهم، ويجدون سعادة جمة في المتع البسيطة كالطعام، والشراب، والتدخين، والاستمتاع بالتجمعات، ونادرا ما يرتحلون، ويعتبرون أي هوبيت له مغامرات أو يفعل أي شيء خارج عن نطاق المألوف؛ «غريب الأطوار».
2
في هذا المقام يعتبر بيلبو هوبيت غير عادي. كانت والدته، بيلادونا توك الشهيرة، تنتمي إلى عشيرة توك، التي لم تكن من العشائر الثرية فحسب، بل كانت تشتهر أيضا بحب أفرادها للمغامرات. وأشيع عن أحد أعمام بيلبو، وهو إيزنجار، أنه قد «ذهب إلى البحر» في شبابه، وأن عمه الآخر هيلديفونز قد «انطلق في رحلة ولم يعد».
3
كان جد بيلبو البعيد بادوبراس «بالرورار» توك مشهورا في المعرفة التقليدية للهوبيت بقطعه رأس أحد ملوك الجوبلن بواسطة هراوة؛ فتدحرج الرأس عبر حفرة أرنب، وهكذا فاز بالرورار في نفس الوقت بمعركة الحقول الخضراء واخترع لعبة الجولف.
4
في المقابل، كان الباجنز - وهم عائلة بيلبو من ناحية الأب - من الهوبيت الذين يحظون باحترام بالغ؛ إذ كانوا لا يفعلون أي شيء غير متوقع أو ينطوي على مغامرة. وكان الصراع بين هذين الجانبين في تكوين بيلبو كثيرا ما يظهر في رواية «الهوبيت».
لاحظ جاندالف الجانب المغامر في شخصية بيلبو الذي توارثه عن التوك حين زاره في شاير في عام 2941، أي قبل عشرين عاما من الأحداث الواردة في رواية «الهوبيت». وأبهر بيلبو الصغير جاندالف ب «حماسه، وعينيه البراقتين، وحبه للحكايات، وتساؤلاته عن العالم الرحيب».
5
حين عاد جاندالف إلى شاير بعد ذلك بعقدين، وجد بيلبو «وقد صار جشعا وبدينا»، إلا أنه سعد حين سمع أن بيلبو لا يزال يعتبر «غريب الأطوار»؛ لما يقوم به من أشياء غريبة مثل الانطلاق لأيام بمفرده والحديث مع الأقزام.
6
وحين ألقى بيلبو تحية الصباح على جاندالف واستنكر المغامرات باعتبارها «أشياء قميئة ومزعجة وغير مريحة» من شأنها أن «تجعلك تتأخر عن موعد العشاء»، أدرك جاندالف أن الجانب الموروث من الباجنز في شخصية بيلبو ينتصر.
7
غير أن الروح المغامرة الداخلية لدى بيلبو تنبعث شعلتها من جديد من خلال أغنية الأقزام عن الكنز، وإشارة جلوين المهينة له بأنه «ذلك الشخص القليل الحجم الذي يقفز ويلهث على السجادة»؛
8
فيوافق بيلبو على مضض على الانضمام لرحلة الأقزام، ويجد نفسه في مغامرة يتبين له أنها أيضا رحلة بحث عن ذاته الحقيقية. يدرك بيلبو في مرحلة مبكرة للغاية من رحلته المحفوفة بالمخاطر أن «المغامرات لا تقتصر جميعها على ركوب الخيل تحت شمس مايو المشرقة»؛
9
فقد كان دوما خائفا ومتكلا وغالبا ما يفكر بشكل يغلب عليه الندم في حفرة الهوبيت المريحة خاصته مع بدء المرجل في الصفير.
في مواقف عديدة ينجو من الموت بمحض الحظ، ولكن بالتدريج تنمو ثقته بنفسه وشجاعته؛ فاستطاع بمفرده ودون مساعدة أن يخدع جولوم، ويهرب من كهف الجوبلن، ويحرر رفاقه من كل من عناكب ميركوود وقلعة ملك الجان. وحين تصل الرفقة إلى الجبل الوحيد، يكون بيلبو هو من يكتشف كيفية فتح الباب السري، والوحيد الذي لديه الشجاعة للسير عبر النفق المظلم لمواجهة التنين المرعب. وعن ذلك يقال لنا «إنه بالفعل كان هوبيت مختلفا للغاية عن ذلك الذي هرب دون منديل جيب من باج إند منذ زمن طويل.»
10
كان قراره بمواصلة المسير عبر النفق حين سمع أصوات التنين الهادرة «أشجع شيء أقدم عليه على الإطلاق».
11
وحين يعود بيلبو بفنجان ذي يدين سرقه من مخزن كنوز التنين، يعترف به بوصفه «البطل الحقيقي» لرحلة الأقزام.
12
وفيما بعد، حين يجازف بيلبو بحياته ويتخلى في إيثار عن حجر الأركنستون في محاولة منه لمنع حرب بين الأشقاء على ذهب التنين، يثني عليه ملك الجان واصفا إياه بأنه: «أجدر بارتداء درع أمراء الجان من كثيرين آخرين بدوا أكثر لياقة ووسامة فيه.» ويشيد به لاحقا فيصفه ب «بيلبو الرائع».
13
بعد معركة الجيوش الخمسة، يدرك ثورين أوكينشيلد وهو يحتضر نمو بيلبو على الجانب الأخلاقي، مشيرا له إلى ذلك قائلا: «لديك من الخير أكثر مما تعرف، أيها الابن الطيب للغرب. فأنت قدر من الشجاعة وقدر من الحكمة امتزجا معا بدرجة ما.»
14
وحين ينظم بيلبو عند عودته إلى شاير قصيدة عن العودة الجميلة الممزوجة بالألم للوطن، يصيح جاندالف في دهشة: «عزيزي بيلبو! ثمة خطب بك! أنت لست الهوبيت الذي كنت عليه من قبل.»
15
باختصار، «الهوبيت» هي قصة من قصص المغامرات يرتفع فيها شخص عادي مجرد بشكل واضح من أي ملمح من ملامح البطولة إلى مقام النبل الأخلاقي، من خلال مواجهة التحديات والمخاطر والتغلب عليها. ولكن كيف يكون تحول كهذا ممكنا؟ لنستعرض معا بعضا مما قاله أعظم فلاسفة العالم عن العلاقة بين التحدي والنمو الشخصي. (2) نمو بيلبو على صعيد الحكمة
على الرجال أن يكتسبوا الحكمة بترويض المحن.
إسخيلوس
بإمكان البشر النمو على أصعدة عدة: بدنيا، وعاطفيا، وروحيا، وفنيا، وما إلى ذلك. لقد نما ميري وبيبين بدنيا - إذ أصبحا أكثر طولا بعدة إنشات - بعد احتساء ماء الإنتس في غابة فانجورن، ولكننا في حالة بيلبو نتحدث عن نمو أخلاقي وفكري. بالمصطلحات الفلسفية التقليدية، ينمو بيلبو على صعيد «الحكمة» و«الفضيلة» نتيجة لمغامراته التي خاضها. ومصطلح «فلسفة» مشتق من جذور يونانية تعني «حب الحكمة»؛ لذا فلكي نساعد أنفسنا في إيجاد اتجاهنا، لنبدأ بالتساؤل: ما الحكمة؟
لا تملك كل التقاليد الدينية والفلسفية طريقة واحدة لإدراك الحكمة . فلن يكون تعريف البوذي الذي يعتنق فلسفة الزن للحكمة هو نفسه التعريف الذي يقدمه هندوسي أو معمداني جنوبي. ولكن لا ينبغي أن يعترينا الإحباط بفعل اختلافات نظرية بعينها؛ فجميع التقاليد الفلسفية والدينية تقريبا تتفق على أن الحكمة - أيا كان تعريفها تحديدا - تتألف من بصيرة عميقة عن الحياة والعيش.
16
فالحكيم يدرك ما هو مهم في الحياة، ويضع الأمور الأقل أهمية في نصابها الصحيح، ويدرك ما هو مطلوب من أجل الحياة على نحو جيد والتعامل مع مشكلات الحياة.
17
وتأتي الحكمة في درجات؛ فجاندالف أكثر حكمة من إلروند، وإلروند أكثر حكمة من بارد. ولكن أيا كان تعريفنا للحكمة بالضبط، فمن الواضح أن بيلبو قد صار أكثر حكمة في نهاية «الهوبيت» مما كان عليه في البداية. كيف حدث هذا؟
لاحظ الفلاسفة صعيدين مهمين يمكن للخبرات والتجارب الصعبة من خلالهما أن تجعلنا أكثر حكمة؛ فبإمكانها أن «تعمق فهمنا الذاتي»، وبإمكانها أن «توسع خبراتنا». وبمقدورنا أن نرى كلا العاملين بشكل عملي مع بيلبو.
قال سقراط (حوالي 470-399ق.م) إن أول خطوة نحو اكتساب الحكمة هي أن تدرك مدى قلة معرفتك ومحدوديتها؛ فكان شعاره «اعرف نفسك.» كان سقراط يرى أن الناس يميلون إلى تكوين رؤى مضخمة عن أنفسهم؛ فهم يميلون للثقة الزائدة بأنفسهم والتوهم بأنهم يعرفون أكثر مما يعرفون بالفعل، أو أنهم أفضل بشكل ما مما هم عليه في الحقيقة. والأشخاص الذين يظنون بأنفسهم الحكمة والصلاح بالفعل لن يكون هناك ما يحفزهم للسعي نحو الحكمة والصلاح؛ لذا أعلن سقراط أن أول وأهم خطوة نحو اكتساب الحكمة هي الانخراط في فحص شجاع للذات.
لا بد دائما أن نطرح على أنفسنا الأسئلة التالية: هل أعرف هذا حقا، أم أنني أظن فقط أنني أعرفه؟ هل من الممكن أن أكون على خطأ؟ هل من الممكن أن أكون متهما بالتفكير الرغبي؟ هل أحيا الحياة التي أرغب في أن أحياها؟ هل أفعل ما أقول؟ ما مواهبي وقدراتي الحقيقية؟ كيف يمكنني أن أعيش على نحو هادف وصادق إلى أقصى حد؟ بهذه الطريقة فقط يمكننا التخلص نهائيا من خداعاتنا، واكتشاف إمكاناتنا الكامنة الحقيقية، وإدراك مكمن أعظم مواهبنا وفرصنا.
أوضح المفكرون الفلسفيون والدينيون منذ زمن بعيد كيف أن نوعا بعينه من الخبرات الصعبة والألم والمعاناة يمكنه أن يعمق إدراك المرء لذاته. فقال سي إس لويس (1898-1963) إن الألم يمكنه أن يكبح كبرياءنا، ويعلمنا الصبر، ويقوينا في مواجهة المحن، ويعلمنا ألا نأخذ نعم الحياة على أنها أمر مسلم به، ويذكرنا بأننا قد «خلقنا من أجل عالم آخر.»
18
وأشار إلى أن الألم هو «بوق» الله «لإيقاظ عالم أصم».
19
ويقول الفيلسوف الروماني سينيكا (حوالي 4ق.م-65 بعد الميلاد) إن موقف الله تجاه البشر هو موقف أب صارم ولكنه محب لأبنائه: «دعهم يرهقوا بالكدح والحزن والخسائر ... عسى أن يكتسبوا القوة الحقيقية ... فالرب يقوي ويصقل أولئك الذين يرضى عنهم ويحبهم.»
20
في «الهوبيت» نرى بيلبو ينمو ببطء في إدراكه لذاته. فمع بداية القصة، يستجيب لتنبؤات ثورين بالمخاطر بالصراخ؛ مثل «محرك قادم من أحد الأنفاق»، و«الجثو على بساط المدفأة مرتعدا مثل هلام يذوب».
21
وفي رحلته إلى الجبل الوحيد، يواجه الكثير من المخاطر ويعاني معاناة بالغة من البرد، والجوع، وقلة النوم، والخوف، والتعب. وبالتدريج تنمو ثقته بذاته ويكتشف مواطن قوته الخفية، التي من ضمنها موهبة لم تكتشف من قبل في القيادة.
يبلغ بيلبو فهما أعمق للجانبين المتصارعين من تكوينه، ويدرك أنه يريد من الحياة ما هو أكثر من مجرد الراحة، وأوراق تبغ جيدة، وقبو مليء بالمؤن الوفيرة، وست وجبات يوميا. في الوقت ذاته، لا يبالغ في تقدير قيمة ذاته وتساوره أوهام العظمة. وبعد كل مغامراته وأفعاله البطولية، يظل يفكر في نفسه - بشكل يملؤه الامتنان - بوصفه «مجرد شخص ضئيل للغاية في عالم رحيب».
22
ثمة صعيد آخر يصبح عليه بيلبو أكثر حكمة؛ إذ تفتح عيناه بفعل السفر والترحال ومواجهة مجموعة أوسع من الخبرات. ويشير الفيلسوف توم موريس إلى أن أخذ دورة في الفلسفة يمكن أن يكون أشبه بخبرة ليس لها حدود بالنسبة للعقل؛ فطلاب الفلسفة يجدون أنفسهم في مغامرة فكرية يعمل فيها الفلاسفة بمثابة مرشدين محليين؛ صناع خرائط للروح يمكنهم توسيع آفاقهم، ويرشدونهم إلى آفاق مثيرة، ويوسعون خيالهم، ويحذرونهم من المآزق والأزمات المحتملة، ويعلمونهم المهارات الأساسية للبقاء الوجودي.
23
ولاحظ العديد من الكتاب أن السفر والمغامرة يمكن أيضا أن يكون لهما نتائج تتعلق بتغيير الإطار وتغيير الحياة.
إن الهوبيت القاطنين في شاير منعزلون ومحليون؛ فهم لا يعرفون عن عالم الأرض الوسطى الأرحب ولا يهتمون به إلا قليلا. في البداية كان بيلبو - برغم كونه أكثر ميلا للمغامرة من معظم الهوبيت - يشارك رفاقه العديد من رؤاهم المحدودة والمقيدة.
24
فشأن كل أصدقائه وجيرانه من الهوبيت، تراه يولي قيمة كبيرة للاحترام، والروتين، والراحة، والمتع الجسدية البسيطة المتمثلة في المأكل، والمشرب، والتدخين.
في أثناء مغامراته، يدرك بيلبو أن في الحياة هموما أكثر جسامة وقيما أعلى؛ فهو يختبر قيم البطولة، والتضحية بالنفس، والحكمة القديمة، والجمال الباهر. ومثل طاقم المركبة الفضائية «إنتربرايز»، يواجه «عوالم جديدة وحضارات جديدة»، ويرى مناظر رائعة غير عادية، ويلتقي أناسا لهم منظومة قيم وطرائق للحياة مختلفة تمام الاختلاف. وحين يعود إلى شاير، يصير قادرا على رؤيتها بأعين جديدة ويصبح أقدر على تقدير مواطن قصورها ومواطن سحرها الفريدة على حد سواء.
في النهاية، يجد نفسه قد «فقد احترام جيرانه»، لكنه فاز بقيمة أعلى كثيرا.
25
ومع بلوغ الصفحات الأخيرة من رواية «الهوبيت»، نجد بيلبو القانع ذا الأفق العالمي «يكتب الشعر ويزور الجن».
26
فلم يعد بحق الهوبيت الذي كان عليه من قبل؛ فقد جعلته مغامراته أكثر حكمة. (3) نمو بيلبو على صعيد الفضيلة
في كثير من الأحيان تقف الراحة عقبة في طريق الحدس الداخلي.
لانس أرمسترونج
غير أن بيلبو لا ينمو فكريا فقط، بل يصبح أيضا شخصا أكثر عفة أو خلقا؛ فمن خلال مغامراته يكتسب مزيدا من الشجاعة وسعة الحيلة والصلابة، ويصير أقل اتكالا على الآخرين، وأكثر تحكما في نفسه. وفي قراراته بإنقاذ حياة جولوم واستبدال المفاتيح في حزام الجني الحارس الغافي إيحاء بأنه قد صار أكثر شفقة ورحمة.
27
واختياره التخلي عن حجر الأركنستون الثمين في محاولة للتوسط لإحلال السلام، ورفضه الحصول على أكثر من صندوقين صغيرين من الكنز وهو عائد إلى وطنه (قام بتوزيع ما فيهما فيما بعد)، وتبرعه بقميص «الميثريل» المدرع للمتحف في ميشيل ديلفينج؛ إنما يدل على أن بيلبو «الجشع» قد صار أكثر سخاء وأقل مادية.
28
وقد لاحظ الفلاسفة طريقتين يمكن من خلالهما أن تعزز المغامرات الصعبة التطور الأخلاقي؛ إحداهما فورية، والأخرى تدريجية.
في بعض الأحيان يمكن للتحولات الأخلاقية الكبيرة أن تحدث بشكل سريع، بل فوري. وغالبا ما تحدث تلك التغيرات الأخلاقية الكبرى حين يقع في حياتنا شيء صادم أو مؤلم. ففي حال وفاة أحد الأحباء، أو التعرض لحادث كاد يقضي علينا، أو المرور بظروف اجتماعية متدنية؛ تجدنا نعيد تقييم حياتنا ونعزم أمرنا على التغيير. وفي كثير من الحالات، كما لاحظ الفيلسوف الأمريكي ويليام جيمس (1842-1910) في رائعته الكلاسيكية «أصناف من الخبرة الدينية»، يكون لمثل هذه التحولات دافع ديني. ففي ليلة عيد الميلاد، كان إبينزر سكروج عجوزا بخيلا يتسم بالطبع الحاد والدناءة، لكنه تحول في يوم عيد الميلاد إلى نفس يملؤها السخاء والمرح الجميل. ولكن التغيرات الأخلاقية المفاجئة والجذرية لا تحتاج لدافع ديني.
تعتبر التجديدات الأخلاقية نادرة في كتابات تولكين، إلا أن هناك بعض الأمثلة البارزة بها؛ فنجد بيبين يمر بأحد هذه التغييرات بعد مواجهة مريعة مع سورون حين حدق النظر بحماقة في حجر الرؤية ببرج أورثانك.
29
قبل هذه التجربة وقبل توبيخ جاندالف العنيف، كان مستهترا وغير ناضج، ودائما ما يعرض الرفقة للخطر باستهتاره، ولكنه بعد ذلك يتغير جذريا، فيعرض خدماته على دينثور، ويعمل في برج الحراسة الخاص بجولوم، وينقذ حياة فارامير، ويقوم بذبح أحد العمالقة في معركة مورانون، ويلعب دورا رئيسا في تطهير شاير، وفيما بعد يعمل لمدة خمسة عشر عاما قائدا لشاير.
يعتبر التحول الذي حدث لثورين على فراش الموت وتصالحه مع بيلبو مثالا آخر للتحول المفاجئ على طريقة سموج (ما كان إيذانا بتوبة بورومير قبيل وفاته في «رفقة الخاتم»). على مدار أحداث «الهوبيت» يجسد ثورين بوصفه شخصا متعجرفا وجشعا ومغرورا، وبعد أن يستولي على الكنز، يزداد غرور وطمع ثورين، ويكاد يشعل حربا بلا داع بين الشعوب الحرة التي يجب أن تكون متحدة معا. يتميز الأقزام بطبيعتهم بأنهم «قوم انتهازيون لديهم فكرة كبيرة عن قيمة المال».
30
بالإضافة إلى ذلك، يعاني ثورين من «داء التنين»، وهو رغبة مفسدة في امتلاك كل شيء تصيب كل من يلمس كنزا رقد عليه التنين لفترة طويلة.
31
لكن حتى ثورين، عندما يرقد على فراشه محتضرا، يدرك أن «العالم سيكون أكثر بهجة ... لو أعلى المزيد منا قيمة الطعام والمرح والغناء على اكتناز الذهب».
32
يمكن أن تحدث تحولات أخلاقية مفاجئة، ولكنها نادرة وغالبا لا تستمر طويلا. ثمة طريق أكثر شيوعا واستدامة للنمو الأخلاقي يتمثل في «العادة» و«التدريب». فالفضيلة - مثلما أشار أرسطو (384-322ق.م) - عادة؛ نمط متأصل وثابت من الاستجابة الأخلاقية. فالشخص يكون شجاعا بحق، على سبيل المثال، فقط إذا كان لديه نزعة أو ميل ثابت للتصرف بجرأة وإقدام دعما للقيم المهمة، ولو على حساب مجازفة شخصية كبيرة.
33
وعلى مدار التاريخ كان بناء الشخصيات من خلال تكوين العادات هو الوسيلة القياسية المتعارف عليها للتوعية الأخلاقية.
ويقدم الرياضيون نموذجا يوضح كيف يسير ذلك. هب أنك ترغب في أن تصبح عداء عالميا للمسافات الطويلة؛ فما من طريقة لتحقيق ذلك إلا بالألم والعرق والعزيمة القوية. وللعدائين العظماء عادات عظيمة في العمل؛ فهم لا يولدون ولديهم عادات المثابرة، والالتزام، والانضباط الذاتي، والمرونة؛ بل يجتهدون لبلوغها. وهذا ما دفع الفيلسوف والطبيب جورج شيهان ليتحدث عن العدو باعتباره «طريقا للنضج، طريقا لعملية نمو».
34
ونحن نسعى للتفوق والتميز من خلال تكوين عادات جيدة واختبار حدودنا.
كانت نظرية أرسطو العظيمة تتمثل في إدراك أن التطور الأخلاقي عادة ما يحدث بالطريقة نفسها؛ فلكي ننمي فضيلة الانضباط الذاتي، لا تكفي الرغبة في أن تكون منضبطا ذاتيا، بل ينبغي أن نعمل عليها بتنمية عادات طيبة. وكما يقول مدرب كرة السلة الأسطوري ريك بيتينو: «العادات الجيدة تصنع النظام والانضباط في حياتنا ... وتصبح الصخرة؛ السلوك القياسي الذي يجب أن نتشبث به حتى لا نحيد عن المسار.»
35
يمكننا أن نرى عملية تكوين العادات الأخلاقية هذه في رواية «الهوبيت». فالتطور الأخلاقي لبيلبو يحدث تدريجيا مع تعلمه أشياء جديدة، فيجد نفسه يمر باختبارات، ويزداد ثقة بنفسه، وينمي عادات فاضلة. ومع اعتياد بيلبو على البرد والجوع والبلل، يقل تذمره ويصبح أكثر صلابة. ومع تدني معنويات رفاقه واستمرار حسن حظه اللافت، يصبح أكثر تشجيعا وأملا، بل يقتبس مقولة الفيلسوف الروماني سينيكا «أينما وجدت الحياة وجد الأمل» قبل أن يكون لسينيكا وجود!
36
ومع تكرار استجابة بيلبو للمواقف الخطرة ببسالة وفاعلية، تنمو ثقته بنفسه وينمي لديه عادة التصرف بشجاعة. وعندما يجد نفسه مجبرا بلا أدنى اختيار على أخذ زمام المبادرة، يصبح أكثر ارتياحا في دور القيادة وينمي عادة القيادة الخدمية. وعندما يعود إلى شاير، و«يرى النار والسيف اللذين طالما رآهما/والرعب بين الردهات الحجرية/وتقع عيناه أخيرا على المروج الخضراء/والأشجار والتلال التي لطالما عرفها»، يتعلم الامتنان والشكر الحقيقي للنعم البسيطة.
37
لقد تغير بيلبو بفضل مغامراته، وهذه التغيرات - كما نعلم في «سيد الخواتم» - كانت دائمة. يوجد مشهد مؤثر في الكتاب الأول من الرواية بعنوان «رفقة الخاتم» يتطوع فيه بيلبو، بعد أن يبلغ من العمر أرذله، لمحاولة تدمير خاتم القوة. وفي ريفيندل، حيث تقاعد بيلبو، يدعو إلروند لعقد مجلس لتقرير ما يفعلونه بالخاتم، فيقرر المجلس ضرورة حمل الخاتم إلى قلب موردور وإلقائه في نيران جبل ماونت دوم، حيث تم صنعه. وحين يلاحظ إلروند أن مهمة انتحارية كهذه «قد يقدم عليها الضعفاء الذين يحملون بداخلهم الأمل شأنهم شأن الأقوياء»، يتحدث بيلبو قائلا:
رائع، رائع يا سيد إلروند ... لا تقل المزيد! فما ترمي إليه شديد الوضوح. لقد بدأ بيلبو الهوبيت السخيف هذه القضية، ومن الأفضل أن ينهيها بيلبو، أو يقضي على نفسه. لقد كنت في غاية الراحة هنا، ومنسجما مع كتابي ... يا لها من ضوضاء مخيفة! متى ينبغي أن أبدأ؟!
حين سمع بهذا بورومير المحارب القوي القادم من جوندور، «بدا مندهشا من بيلبو، ولكن ماتت الضحكة على شفتيه حين رأى الآخرين ينظرون إلى الهوبيت العجوز باحترام وإجلال. وحده جلوين من كان يبتسم، ولكنها كانت ابتسامة منبعها ذكريات قديمة».
38
في النهاية اختار بيلبو الطريق الأقل ارتيادا؛ طريق المغامرة، وكان هذا ما صنع كل الفارق، بالنسبة لبيلبو والأرض الوسطى بأسرها. ربما ظن رفاقه من الهوبيت أنه قد فقد صوابه، لكن بيلبو - حتى آخر أيام حياته، التي كانت «في غاية السعادة» و«طويلة بشكل غير عادي» - كان يتفق مع تيودور روزفلت في قوله:
خير لك كثيرا أن تقدم على أمور عظام وتحصد انتصارات مجيدة، حتى لو مررت بإخفاقات، من أن تصنف ضمن تلك الأرواح الهزيلة التي لم تستمتع كثيرا ولم تعان كثيرا؛ لأنها تعيش في المنطقة الرمادية التي لا تعرف انتصارا ولا هزيمة ... إن أسمى أشكال النجاح ... لا يأتي لمن يرغب وحسب في السلام السهل، بل يأتي لمن لا يتراجع في وجه الخطر، أو المشقة، أو الكدح المرير، الذي يحصد الانتصار المطلق الجليل من وسط هذه الأشياء.
39
إن الطريق يمتد ويمتد؛ لذا التقط عصا المشي المفضلة لديك وانطلق نحو المغامرة. ولا تعرق إذا تركت مناديل الجيب خاصتك في المنزل.
هوامش
الفصل الثاني
«الطريق يمتد ويمتد إلى الأبد»
الطاو لدى الهوبيت
مايكل سي برانيجان
كن تجسيدا تاما لكل ما ليس له نهاية، وتجول حيث لا يوجد درب. تشبث بكل ما وهبته لك السماء، ولكن لا تظن أنك تملك شيئا. «كن خاويا، هذا كل ما في الأمر.»
جوانج زي
1
على مدار رحلته، ثمة صوت بداخل بيلبو يتوق للوطن، ولسلوى وأمان المألوف. يكتشف بيلبو أيضا أن المرء يجد الوطن عندما يغادره. وبالمثل، يذكرنا الحكماء الطاويون أيضا أننا نجد مستقرنا الحقيقي في الرحلة نفسها. ألا تتردد في رسالة «سيد الخواتم» فكرة أن «ليس كل هؤلاء الذين يتنقلون ويجولون يضلون الطريق»؟!
تجد نزعات الحنين المتضاربة للأمان والمغامرة صدى واضحا لدى القراء الغربيين ومرتادي دور السينما. والصراع من أجل التوفيق بين مثل هذه النزعات الازدواجية بداخلنا ساعد على إطلاق وفرة من الصناعات المرتبطة بعلم النفس العام والمساعدة الذاتية. ولكن قدماء الطاويين الصينيين القدماء سبقونا بألفي عام في هذه النزعة. ووفقا لهؤلاء الفلاسفة الشرقيين الأوائل، فإن مثل هذه النزعات المتباينة لا تحتاج للتوفيق بينها؛ فهي حتى غير متناقضة. (1) رفقة الطاو
الطاو هو المبدأ الأساسي للواقع، وأصل الكون، وطريقة الطبيعة والحياة والموت المستعصية على الوصف التي يخفق نبضها على مدى الوجود. فالتغيير والاستقرار يتعايشان معا على امتداد الواقع. ولعلنا نرى التجسيد العملي للطاو في شخص بيلبو المغامر الذي يرحب بالتغيير ويعتنقه، وفي بيلبو المحب لدفء المنزل وراحته الذي يتوق للأمان.
لعل إحدى الطرق للتأمل والتدبر في الطاو تتمثل في استعراض علم الكونيات الصيني القديم، الذي ينظر إلى الكون بوصفه دراما تتفاعل فيها قوتان أوليتان، هما الين واليانج، إحداهما مع الأخرى. والطاوية هي المبدأ الأسمى الذي ينشئ كلا من الين واليانج. و«الين» - التي تعني حرفيا «الجزء المظلم من الجبل» - هي قوة الظلام والتقبل والأنوثة. أما «اليانج» - التي تعني حرفيا «الجزء المضيء من الجبل» - فهي قوة النور والنشاط والذكورة. وتكمل الين واليانج إحداهما الأخرى في توازن أبدي.
2
تكشف مغامرة بيلبو بشكل خاص هذه المعاني الحرفية؛ فبينما ينطلق مسافرونا في رحلتهم في اتجاه الجبل الوحيد، ثم يصعدونه حتى ينطلقوا في النهاية داخل أحشائه، تتضافر قوتا الظلام والنور معا بشكل مستديم نوعا ما مثل العمالقة الذين يتألفون من ظلام الجبل ويعودون مرة أخرى إلى أصلهم بمجرد مواجهة النور. وبينما يتحول الجانب المظلم، آجلا أو عاجلا، ليصبح الجانب المضيء، تتحول الين في النهاية إلى يانج. وتمثل الطاوية هذه الرقصة الكونية للنور والظلام.
وفي واد خال من القدر الزائد من ظلام الجبل ونوره، يوجد التناغم بين الين واليانج على نحو لطيف. يعيش إلروند في «وادي ريفيندل الجميل»، وحين يكتشف مسافرونا الوادي يسمعون «صوت الماء المتسارع في صخر القاعدة في القاع؛ كان عبق الأشجار يملأ الهواء، وكان هناك ضوء على جانب الوادي يمتد عبر الماء».
3
حين ننظر في أعماقنا، فلا بد أن تثمن قوتا الين واليانج ويسمح لهما بالعمل دون تعطيل. وفي كتاب الطاوية الكلاسيكي، «طاو تي شينج»، نستحث على تناول الطاوية «لا بالإلزام/بل بالعفوية ».
4
لكن للأسف، نحن نميل لتجاهل الطاوية الموجودة داخلنا ونعتز بأشياء أخرى بدلا من ذلك. وفي قيامنا بذلك إنما نبتعد عن طبيعتنا الحقيقية، التي تتمثل في التناغم مع الطاوية. فيميل الهوبيت لتقدير السمعة والعرف؛ أما الجوبلن فلديهم هوس بالآلات والماكينات، لا سيما تقنيات الحرب، بينما ينصب تركيز الأقزام على اقتناء الذهب والفضة والمجوهرات، وسموج يكتنز لغرض الاكتناز ذاته، وجولوم (بل وحتى بيلبو بشكل لحظي) لا يسحره الخاتم وحده وحسب، وإنما تسحره «فكرة» اقتناء الخاتم.
يزعم تولكين في رسائله أن مثل هذه الرغبات تمثل خروجنا من البراءة ووقوعنا في الخطيئة، وهو ما يعد فكرة أساسية في كتاباته. وبحسب تعبيره، يبدأ هذا السقوط حين تراودنا الرغبات بطرق تجعلها «تصبح استحواذية، من خلال التشبث بالأشياء «في حد ذاتها».»
5
ونحن نسمع أصداء كلمة «ثمين» التي يرددها جولوم، ونعرف تمام المعرفة تلك الرغبة الطاغية في الذهب التي تكمن في «قلوب الأقزام».
في المقابل، نجد أن قوة الطاو بداخلنا ليست قوة الخفاء، بل هي قوة العيش وفقا لطبيعتنا الأصلية والحقيقية. فشأن رفاقه من الهوبيت، يفترض بيلبو مسبقا أن طبيعته هي العيش ببساطة في حفرة الهوبيت خاصته، التي «تعني الراحة»، وصوت عقله يقول: «لا تكن أحمق يا بيلبو باجنز ... بالتفكير في التنانين وكل هذا الهراء الغريب في سنك هذه!»
6
ولكن بعد الزيارة غير المتوقعة للأقزام له، يسمع صوتا آخر بداخله يقول:
حينئذ استيقظت بداخله نزعة مغامرة، وتمنى لو ذهب وشاهد الجبال الشاهقة، وسمع حفيف أشجار الصنوبر وخرير شلالات الماء، واستكشف الكهوف، وأمسك سيفا بدلا من عصا مشي.
7
إن رواية «الهوبيت» هي في النهاية حكاية رمزية حول تيقظ بيلبو لطبيعته الحقيقية بوصفه منتميا لعشيرة توك الذين يتميزون بحب المغامرة والإقبال على المخاطر، وكذلك بوصفه أحد أفراد عائلة باجنز الذين يحبون الراحة والألفة.
ينتمي الهوبيت للجنس البشري ويمثلون براءة أصيلة بحبهم للحياة البسيطة: التجمعات، والمأكل، والمشرب، والضحك، والتواصل مع جوهر الحياة ومحتواها الحقيقي المتمثل في الصحبة، والراحة، والرضا
8 (كنت قد عاودت قراءة رواية «الهوبيت» حال تواجدي في ويلز، وما من شيء مثل كأس من الجعة الويلزية لتبسيط أي تعقيد). يكتب تولكين أن الهوبيت «أكثر تواصلا مع «الطبيعة» (التربة والأشياء الحية الأخرى، والنباتات، والحيوانات)، وليس لديهم أي طموح أو طمع في الثروة بشكل يعد شاذا وغير طبيعي بالنسبة لبشر.»
9
ومثل حكماء الطاوية، يعيش «القوم الصغار» حياة تخلو من التعقيد، وتربطهم بالطبيعة صلة وطيدة. وحياتهم المنظمة جيدا ذات الطابع الريفي، والتي تجسد بساطة طبيعية؛ تتيح مجالا للعفوية والتلقائية. والعفوية تمكن ال «تي»، وهي قوة الطاو، من الظهور على السطح بينهم؛ حتى يتمكنوا من الإخلاص لطبيعتهم والتوافق معها. ويتناقض ذلك مع «القوم الكبار» الذين تتسم حياتهم بكونها أكثر ثقلا وإرهاقا؛ ومن ثم يعدون أقل بساطة وعفوية بكثير، وضخامتهم تجسد التعقيد والإفراط والطموح الزائد. يمثل القوم الكبار الوقوع في الخطيئة الذي ينتقده تولكين، وانحرافنا عن مسارنا الطبيعي.
ثمة مفهوم طاوي آخر، هو «وو وي»، يشير إلى التصرف بأسلوب طبيعي دون إجبار. يعني هذا المفهوم الاستسلام للتدفق الطبيعي للأشياء بدلا من مقاومته، وينعكس في فكرة الحكومة بدون حكم. فالحكيم الطاوي «يحكم بلا حكم»؛ ومن ثم ليس لدى شاير - موطن الهوبيت - حكومة رسمية أيضا.
10
وفي وصف تولكين لابنه كريستوفر نزعته نحو الفوضوية، يكتب قائلا:
التسلط على الآخرين أكثر الوظائف شينا وخزيا لأي إنسان، حتى القديسون (الذين كانوا على الأقل غير راغبين في تولي هذه المكانة) لا يتسلطون على شخص آخر. فلا أحد يصلح لهذا بأي حال من الأحوال، وخاصة هؤلاء الذين يسعون وراء الفرصة.
11
إذن فالمبدأ الأسمى للطاوية هو طبيعتنا الحقيقية والأصيلة. وتعلمنا الطاوية أن علينا أن نتبع الطاو خاصتنا، أن نتبع رحلتنا، على نحو يتسق مع هذا المبدأ الأسمى. وتكشف رواية «الهوبيت» عن شخصيات تسلك سبلا شاقة وضارة بشكل بحت؛ فحين يصر ثورين في عناد على الاحتفاظ بالذهب والفضة والجواهر بالكامل، ما الذي يجعل طريقه محل شك؟ إن طمعه ليس طريق الطاو بشكل واضح، وهو ما يمنعه من التوافق مع طبيعته.
لنتأمل سموج؛ إذا كانت نزعة سموج هي امتلاك الكنز والاستمتاع بامتلاكه، فهل بذلك يثري الطاو وينميها؟ بالطبع لا ؛ لأن نزعته شيء وطبيعته الحقيقية شيء آخر، فنزعته من النوع الذي يطمس ال «تي»، أي قوة الطاو، بينما الطبيعة الحقيقية لكل الأشياء الحقيقية هي التصرف بما يتوافق مع الطاوية.
نحن بحاجة هنا للاستقصاء والتحري بمزيد من العمق. ما المقصود حقا بالتصرف على نحو متناغم مع الطاو؟ لماذا تعتبر طرق معينة مثل طريقة ثورين، ونزعات معينة مثل نزعة سموج، مزيفة ولا تستحق اتباعها؟ (2) طريقة أخرى للتفكير في الطريق: أساتذة الطاوية السبعة
لنتأمل رواية «الهوبيت» في ضوء واحدة من قصصي المفضلة عن الطاوية؛ وهي قصة «أساتذة الطاوية السبعة». كتبت هذه القصة حوالي عام 1500 إبان حكم أسرة مينج (1368-1644)، وتلقي الضوء على رحلات الحكيم الطاوي وانج شوانج يانج ومريديه السبعة في سعيهم لاكتشاف الذات وغرس الطاوية وتنميتها.
في إحدى وقائع القصة، يلتقي وانج باثنين من المتسولين يدعيان جولد إز هيفي (بمعنى الذهب ثقيل)، وإمبتي مايند (بمعنى خاوي العقل)، ويصطحبهما معه إلى المنزل ويطعمهما. كان المتسولان مجهولين بالنسبة له، وكانا في الحقيقة حكيمين من حكماء الطاوية متنكرين، وقد صارا مخلدين بعد أن قاما بغرس الطاوية وتنميتها. ينبهر وانج ببساطتهما وعزوفهما عن الأشياء المادية والأمور الدنيوية، وبعد أن يلبي حاجاتهما، يتبع وانج المتسولين عبر جسر غامض صعودا إلى ممرات جبلية منحدرة إلى أن وصلوا أخيرا إلى بحيرة صافية، وهناك يناول إمبتي مايند وانج سبع زهرات لوتس ويوصيه بأن يعتني بها برقة ولطف؛ إذ إنها أشباح سبع أرواح قدر لها أن تكون مريديه.
12 (3) جولد إز هيفي
يرتبط اسم هذا المخلد الطاوي، جولد إز هيفي، بقصتنا بشكل جلي؛ فحين يواجه بيلبو سموج، يحاول التنين أن يخضع بيلبو لسحره بزرع الشكوك حول مهمة استعادة الذهب قائلا:
لا أعلم إذا كان قد خطر لك أنك حتى لو استطعت أن تسرق الذهب شيئا فشيئا - وهي مسألة تستغرق مائة عام أو نحو ذلك - فلا يمكنك أن تبتعد به كثيرا؟ فلا جدوى له على جانب الجبل. ولا جدوى له في الغابة. غير معقول! ألم تفكر مطلقا في هذه المعضلة ؟ أعتقد أن الاتفاق كان على نصيب قدره واحد على أربعة عشر، أو شيء من هذا القبيل، أليس كذلك؟! ولكن ماذا عن النقل؟! ماذا عن العربة؟! ماذا عن الحرس المدججين بالأسلحة؟! وماذا عن الخسائر؟!
13
لم يتوقع بيلبو مثل هذه المخاوف العملية؛ فلم يفكر هو ورفاقه إلا في الاستيلاء على الكنز، وليس في نقله. وهكذا وعلى مستوى حرفي بحت، يصبح الذهب فور اقتنائه عبئا ثقيلا.
ولكن دعنا نتعمق أكثر مثل الفلاسفة. إن المسألة شاقة من جانب آخر. فمثلما يكتشف ثورين ورفاقه الأقزام، يمكن بسهولة أن تتحول الرغبة في الذهب إلى شهوة مستهلكة للقوى وثقيلة. إن ثورين عازم منذ البداية على الاستيلاء مجددا على ما يعتبره إرثه الشرعي، وكان الاستيلاء على الذهب هو مهمته بشكل واضح، وكما يخبر بيلبو وجاندالف: «لم ننس قط كنزنا المنهوب.»
14
غير أن رغبته في استعادة كنزه تدفعه دفعا، حتى إن رغبته تستحوذ عليه بدورها. ولكن دعنا لا نقسو أكثر مما ينبغي على ثورين؛ فحتى الراوي يعترف بأنه «كريم بما يكفي ... إذا كنت لا تتوقع أكثر من اللازم.»
15
يظهر وقوع ثورين تحت وطأة الرغبة بشكل جلي في حديثه مع بارد، ذابح التنين. فعلى الرغم من توسلات بارد لتوزيع الذهب بالعدل، كتعويض عن خسارة حياة كان المتسبب الأساسي فيها هو سعي ثورين المحموم للاستيلاء على الكنز، فإن ثورين لا يحجم عن الطمع في الذهب، وينزعج بيلبو من سلوك ثورين قائلا:
لم يضع في حسابه القوة التي يملكها الذهب الذي رقد عليه تنين لزمن طويل، ولا قلوب الأقزام. ساعات طويلة في الماضي أمضاها ثورين في خزينة الكنز، ورغبته المحمومة فيه كانت عبئا ثقيلا عليه. وعلى الرغم من أنه كان يفتش في الأساس عن الأركنستون، إلا أنه كان يضع نصب عينيه شيئا آخر رائعا كان يقبع هناك، كان يحمل إزاءه ذكريات قديمة لعذابات جنسه وأحزانهم.
16
ليس ثورين الشخصية الوحيدة في «الهوبيت» التي تسيطر عليها الرغبة في الذهب؛ فعلى الرغم من أن جان الغابة هم في الأساس أناس طيبون، فإن لمليكهم - الذي لطالما تملكه الطمع لامتلاك المزيد من الفضة والجواهر البيضاء - نقطة ضعف خاصة تجاه الكنز. وحين يذبح حارس الكنز في الجبل الوحيد، يزداد البشر والجن والأقزام افتتانا بالاستيلاء على الكنز؛ ليصل الأمر إلى ذروته في معركة الجيوش الخمسة الرهيبة.
حتى الهوبيت ليسوا أحرارا من سيطرة الرغبة في امتلاك الذهب؛ فمع انتشار شائعة وفاة بيلبو، يتلهف الهوبيت - خاصة عائلة ساكفيل باجنز - لعرض أملاكه في مزاد. فالطمع له طريقته في تلويث حتى الأرواح الطيبة. وفي الفصل الافتتاحي من «رفقة الخاتم»، تستحوذ الشائعات حول كنز بيلبو الخفي على قلوب الهوبيت.
إن الجوبلن، أو الأورك «قساة، وأشرار، وغلاظ القلوب». وعلى الرغم من أنهم ليسوا مهووسين بالذهب، فإن كنزهم يكمن في الآلات؛ فهم يجدون متعة في صناعة أدوات فعالة، لا سيما التقنيات المدمرة:
إنهم لا يصنعون أشياء جميلة، ولكنهم يصنعون الكثير من الأشياء البارعة ... ليس مستبعدا أن يكونوا قد اخترعوا بعضا من الماكينات التي أرهقت العالم منذ ظهورها، خاصة تلك الآلات المخصصة لقتل أعداد كبيرة من الناس في الحال؛ إذ كانت العجلات والمحركات والانفجارات دائما ما تمنحهم البهجة والسرور.
17
إن الجوبلن يصنعون آلاتهم ولديهم عبيد للقيام بالعمل من أجلهم، غير أنهم مستعبدون من قبل اختراعاتهم، مثلما تستعبدنا الرغبة في الذهب.
في خطاب لنجله الأصغر كريستوفر، الذي كان يخدم مع القوات الجوية الملكية البريطانية في جنوب أفريقيا إبان الحرب العالمية الثانية، يقدم لنا تولكين نقدا مثيرا للآلات في سياق الحرب:
ها هي مأساة وإحباط جميع الآلات والماكينات تقبع هناك مجردة. فعلى عكس الفن، الذي يكتفي بخلق عالم ثانوي جديد في العقل، تحاول الآلات أن تخلع على الرغبة طابعا ماديا؛ ومن ثم تخلق قوة في هذا العالم، ولا يمكن لذلك حقيقة أن يتم بأي رضا حقيقي. إن الآلات الموفرة للجهد لا تخلق سوى جهد وشقاء لا نهاية لهما. وبالإضافة إلى هذه الإعاقة الأساسية التي تلحق بأي مخلوق، يوجد «السقوط»، الذي لا يجعل آلاتنا تفقد رغبتها فحسب، بل تتحول إلى شر جديد ومريع. لذا ننتقل حتما من أسطورة ديدالوس وإيكاروس إلى قاذفة القنابل العملاقة ، وهذا ليس تقدما على صعيد الحكمة!
18
لا تكمن المشكلة الحقيقية بالنسبة للطاويين في الآلات والماكينات في حد ذاتها، ولكن في نفوذها المغري علينا، في ظل استعدادنا للاستسلام للكفاءة حتى لو كانت تعني التضحية بالطبيعة والإنسانية.
لذا يعتبر الذهب عبئا ثقيلا حقا؛ فالرغبة في الثروة والقوة مثبطة، وحين تنحني ظهورنا تحت وطأة ثقل رغباتنا، نفقد القدرة على رؤية طبيعتنا الأصيلة، أو الطاو. غير أنه يمكننا من وجهة نظر طاوية، تحرير أنفسنا من هذا الثقل. إن التعلق بالذهب يفضي إلى الهوس به، والهوس يفضي إلى الاستعباد؛ ولذلك يكمن السبيل في التحرر من هذا التعلق. فالسر يكمن في الانفصال. (4) إمبتي مايند
يمثل إمبتي مايند، الحكيم رفيق جولد إز هيفي، الانفصال والعزوف. ومعنى الانفصال، بحسب صهري كارل ويلهيلم، في غاية البساطة حقا: «إنه يعني عدم التعلق بشيء.»
لنتأمل الأقزام. إنهم مقيدون بطموحاتهم، التي على الرغم من كونها نبيلة من حيث المبدأ (إذ تتمثل في استعادة العدالة)، فإنها تسيطر عليهم تماما؛ إذ يصيبهم هوس شديد بالهدف إلى حد أنهم يصبحون بدورهم متعلقين به ومن ثم عبيدا له. ولعل التعلق بفكرة ما هو أسوأ أشكال التعلق؛ فالفكرة لا تتنفس، ولكن المخلوقات الحية تفعل. غير أن الطاويين (إلى جانب البوذيين، والهندوس، والشعراء، والفنانين، والزهاد، وعدد هائل من الفلاسفة)، يحذروننا من أن نضفي على فكرة، أو صورة ذهنية، أو رمز واقعية أكبر مما نضفيها على الواقع ذاته. ويحذرنا شاعر الزن من «إدراك الإصبع الذي يشير إلى القمر خطأ على أنه القمر ذاته».
إن اسم إمبتي مايند (خاوي العقل) لا يعني الغفلة أو الحماقة، وإنما يشير بدلا من ذلك إلى ما يطلق عليه الطاويون (والبوذيون) العقل العاكس؛ وهي حالة ذهنية وقلبية تعكس ما يعرض على المرء، لكن دون أن يتعلق المرء بما هو معكوس.
19
ومن ثم ينبغي أن نغرس حالة ذهنية وقلبية تشبه مرآة صافية وواضحة، وهذا هو معنى الاقتباس الافتتاحي لهذا الفصل لجوانج زي (369-286ق.م)؛ فمثل مرآة صافية، يعكس العقل الخاوي ما يلج إليه دون تقييمه أو الحكم عليه. وهو دائما يقظ ومنتبه، ولا يميز وجهة نظر على أخرى.
يعمد بيورن إلى تقديم واحة من السلوى، وإعداد مأدبة صاخبة، واستراحة للمسافرين قبل أن ينطلقوا لأصعب جزء من رحلتهم. يمثل هذا الكائن القادر على تغيير جلده إمبتي مايند، وهو يعيش في انسجام ووفاق مع جميع الأشياء الحية، من منطلق طبيعته الازدواجية التي تجمع ما بين الإنسان والدب. وهو يقتات على العسل، ولا ينشغل تماما بالذهب والجواهر وغير ذلك مما يسمى كنوزا، فيقدم لضيوفه بعض النصائح البالغة الأهمية قبل أن ينطلقوا عبر غابة ميركوود، محذرا إياهم - مثلما فعل جاندالف - من الانحراف عن الطريق.
لكلمة «طريق» معنى حرفي ومجازي. فلا ينبغي أن ينحرفوا عن الطريق عبر الغابة المظلمة، ولكن عليهم أيضا ألا يشردوا عن طبيعتهم الأصيلة؛ عن مساراتهم الشخصية؛ فنهر النسيان المسحور بإمكانه أن يغشي ذكرى طريقهم الصحيح في عقولهم. وكل هذه نصائح سديدة من شخص نجح في الالتزام بطريقه بالحفاظ على عقله خاويا وصافيا كمرآة.
وتعد حقيقة قدرة بيورن على تغيير جلده مشوقة بشكل خاص؛ فحين نكتسب ميولا وطبائع (كعبودية ثورين للانتقام، واستسلام بيورن من آن لآخر لطباعه الحادة، وهوس سموج بامتلاك الأشياء والاستحواذ عليها)، نخمد طبيعتنا الحقيقية المتوافقة مع الطاوية. فنحن نغير جلدنا بشكل ما، فنظهر وجهنا الزائف للآخرين ولأنفسنا، ولكننا ندفع ثمنا لذلك أيضا، ألا وهو إخفاء جلدنا الحقيقي وقمعه، أو كما يطلق عليه البوذيون المؤمنون بفلسفة الزن «وجهنا الأصلي قبل أن نولد».
يظل بيلبو طوال القصة مثالا للهوبيت النقي القلب، وهو تجسيد للعقل الخاوي؛ ليس فقط لبساطته الطبيعية وبراءته التي تشبه براءة الأطفال، ولكن أيضا لأنه يختار عن عمد أن يظل عازفا عن الرغبة في الذهب. وعلى الرغم من أن شرارة رغبة تومض في صدره حين يعثرون على الكنز، وتساوره لحظة افتتان تسول له الاحتفاظ بالأركنستون، فإنه يتخلى عن رغبته في الكنز، انطلاقا من روح الوو وي، ويتجنب الافتتان الذي اختبره الأقزام، بل إنه مستعد أن يقايض كل ذلك بكأس من الجعة المزبدة في حانة جرين دراجون !
بعد الاختفاء عن أنظار جيرانه في حفل عيد ميلاده رقم 111، استعدادا لتقلد دوره باعتباره رحالة من جديد، نجد بيلبو ليس لديه أي استعداد للتخلي عن الخاتم؛ ما يتطلب قدرا من الإلحاح من جانب جاندالف لإقناعه، فيحذره الساحر قائلا: «لقد أحكم الخاتم قبضته عليك أكثر مما ينبغي. فلتدعه! وحينها يمكنك أن تكون نفسك، وأن تكون حرا.»
20
يجاهد بيلبو من أجل ذلك، وفي النهاية يجلي عن عقله الرغبة في امتلاك ما ليس ملكا له ليحتفظ به، على الرغم من أنه في وقت ما كان يظنه ثمينا.
تنتهي قصتنا الطاوية حيث بدأت؛ على طريق، على امتداد طريق لا ينتهي أبدا مثلما يغني بيلبو لنفسه:
الطريق يمتد ويمتد إلى الأبد
من عند الباب حيث بدأ.
والآن وقد ابتعد الطريق كثيرا،
ولا بد لي أن أتبعه، إن استطعت،
مواصلا إياه بقدمين متلهفتين،
حتى يفضي إلى طريق أكبر
حيث تتلاقى عدة طرق ومساع.
وإلى أين تتجه؟ لا أستطيع أن أحدد.
21
ما من حكيم طاوي استطاع الإتيان بكلمات أفضل من تلك، على الرغم من أن الكلمات - ولتنتبه لذلك - لا تكفي مطلقا.
هوامش
الفصل الثالث
أقدام ضخمة مشعرة
دليل الهوبيت للتنوير
إريك برونسون
لا تثق أبدا بفكرة لم ترد على خاطرك أثناء المشي.
فريدريك نيتشه
يعتبر الهوبيت مشاة جيدين؛ فبنيتهم ملائمة لذلك، حقا.
في مقدمته لرواية «سيد الخواتم»، يشير تولكين إلى أنه منذ أقدم العصور والهوبيت «نادرا ما كانوا يرتدون نعالا؛ إذ كانت أقدامهم ذات أخمص غليظ الجلد، وكانت مغطاة بشعر كثيف مجعد، يشبه شعر رءوسهم إلى حد كبير، وكان بنيا في العادة.»
1
لقد خلقت مثل هذه الأقدام للمشي، وكان بيلبو يهوى، على وجه الخصوص، الخروج في نزهة طويلة جيدة على الأقدام في القرية. وكان هناك في الردهة بالقرب من عصي المشي الخاصة به خريطة كبيرة معلقة «للقرية بأكملها موضح عليها كل مواضع التمشية المفضلة لديه بحبر أحمر».
2
إن بيلبو شخصية واثقة بنفسها؛ فعلى مدى مغامراته، لا ينسى مطلقا من هو، ومن أين جاء. ولعل ذلك أحد الأسباب التي جعلت الهوبيت الصغار يحملون مثل هذه الجاذبية في أنظارنا نحن البشر اليوم.
في عمله الرائد «عواقب الحداثة»، يذهب عالم الاجتماع أنطوني جيدنز إلى أن «الحداثة «تزيل المكان» ... إذ يصبح المكان وهميا. غير أن هذه خبرة مزدوجة الوجه، أو متناقضة، وليست مجرد فقدان للمجتمع.»
3
أحب جيدنز، وأحد أسباب هذا الإعجاب هو استخدامه كلمات من قبيل «وهمي» دون مسحة سخرية.
إن فكرته تتلخص في أننا أصبحنا في العصر الحديث نتقن ببراعة شق طريقنا بالتفاوض عبر «الأنظمة المجردة»؛ فنشتري الملابس ببطاقات الائتمان، ونتواصل مع الأصدقاء الذين تفصلنا عنهم مسافات بعيدة عبر فيسبوك، ونستأجر السيارات بيسر وسهولة للخروج في رحلات طويلة بالسيارة عبر طرق سريعة غير مألوفة، واثقين من أن النظم المؤسسية سوف تدعمنا دون أية مشاكل. ولكن كما يوضح جيدنز: «مع تطور الأنظمة المجردة، تصبح الثقة في المبادئ المحايدة غير الشخصية، وكذا في المبادئ المجهولة، أمرا لا غنى عنه للوجود الاجتماعي.»
4
ودائما ما يضيع شيء ويكتسب شيء مع كل تقدم تكنولوجي يحدث. ففي اللحظة التي يمنحك فيها نظام جي بي إس الذي تعتبره صديقا لك وتطلق عليه اسم «توم-توم» اتجاهات خاطئة، تدرك أنه لم يكن صديقا حقا من الأساس، بغض النظر عن اللكنة التي اخترتها له كي يحدثك بها.
وقد أشار الفلاسفة الغربيون بداية من الروائي الروسي فيودور دوستويفسكي إلى هذه الازدواجية في المكان التي تواجه الإنسان الحديث. وطرح مفكرون معروفون حلولا مختلفة لهذه المعضلة الحديثة؛ فوجد فريدريك نيتشه (1844-1900) الأمل في الفن، وحددت سيمون دي بوفوار (1908-1986) أخلاقيات للغموض، بينما نادى الفيلسوف المعاصر يورجن هابرماس بالتواصل الصادق مع الآخرين.
غير أن تولكين كان دائم التشكك في الحلول الحديثة للمشكلات الحديثة.
5
فالمكان في نظر أستاذ أكسفورد الذي واجه فظائع الحرب العالمية الأولى، لا يزال له أهميته. وإذا كان رفاقه من القرويين قد شعروا بالانفصال والعزلة، فإنهم لم يكونوا بحاجة لقراءة مجموعة كاملة من كتب الفلسفة للتخفيف من فزعهم الوجودي. إن أكثر ما كانوا يحتاجون إليه هو الخروج والتمشية .
في كل من التقاليد الفلسفية الغربية والشرقية، يحمل المشي مكانة أساسية؛ فالبحث عن الحقيقة يبدأ بقدمي المرء. ويوضح ثورين لرفاقه الأقزام: «ما من شيء مثل النظر، إذا كنت ترغب في العثور على شيء ما. بالتأكيد عادة ما تجدون شيئا إذا نظرتم حولكم، ولكنه لا يكون دائما الشيء الذي كنتم تبحثون عنه.»
6 (1) «ليس بهذه السرعة»
في كتاب «تعويذة الحسي»، يناقش الفيلسوف، وعالم الأنثروبولوجيا، والساحر الخفيف اليد ديفيد أبرام الثقافات الشفهية وعلاقتها التكافلية ببيئتها الطبيعية؛ فيذهب إلى أن العالم الطبيعي ينادينا، ولكننا غالبا ما نكون في عجلة من أمرنا لدرجة لا تجعلنا نلاحظ نداءه. وتكتسب التمشية مزيدا من الأهمية كلما فقدنا اتصالنا بالأرض.
في عام 1981، كان شاعر الزن جاري سنايدر يستقل شاحنة نقل خفيف عبر المناطق النائية الأسترالية. كان رفيقه، وهو عجوز بنتوبي، يروي قصة عن مخلوقات خرافية في أحد الجبال التي كانوا يمرون بها. وسرعان ما خاض العجوز في قصة أخرى؛ مما تسبب في إرباك سنايدر الذي اعترف قائلا: «لم أستطع المتابعة، وأدركت بعد مضي نصف ساعة من هذا أنها كانت حكايات الغرض منها أن تسرد أثناء «التمشية»، وأنني كنت أمام نسخة مسرعة مما قد يروى على مهل على مدى عدة أيام من السفر سيرا على الأقدام.»
7
إن الأماكن والأشخاص بينهما رباط حميم، مثلما أدرك تولكين على نحو متعمق حين قال في معرض حديثه عن «سيد الخواتم»:
8 «لقد بدأت بخريطة من منطلق الحكمة، وجعلت القصة تتناسب معها.» والأشخاص الذين يتفهمون ارتباطهم بمكانهم غالبا ما يكونون أكثر عقلانية وإدراكا وأقل شعورا بالانفصال والعزلة. ولكن الروابط التي تجمع المرء ببيئته المباشرة نادرا ما تؤسس في لحظة؛ فمثل هذه العلاقات تستغرق وقتا، وغالبا ما تتطلب سنوات من المشي عبر الحي الذي يقطنه المرء.
في «سيد الخواتم»، كان تري بيرد المنتمي إلى الإنتس هو من يعلم بيبين وميري أن يبطآ من سرعتهما ولا يتعجلا: «الأسماء الحقيقية تروي قصص الأشياء.» كان تري بيرد يوجه الهوبيتين الشابين، مدركا أنهما لم يستوعبا لغته الإنتية القديمة: «إنها لغة جميلة ، ولكن الأمر يستغرق وقتا طويلا للغاية لقول أي شيء بها؛ لأننا لا نقول أي شيء بها، ما لم يكن هذا الشيء يستحق أن نستغرق وقتا لقوله ونستمع له.» ولا يبدأ تري بيرد حتى في الإنصات إلى قصة الهوبيتين إلا بعد أن يسيرا سبعين ألف خطوة إنتية ويتجرعا «رشفة طويلة وبطيئة» من شيء يشبه ماء نهر إنتووش.
9
والمحادثة الجيدة، مثل التمشية الجيدة، تستغرق وقتا. فمن يتعجلون في السير ومن يسرعون في الحديث ترتبك أفكارهم كثيرا جدا. كان تولكين نفسه يفضل السير البطيء، وأحيانا ما كان يثير انفعال رفاقه الأكثر سرعة بالتوقف لمشاهدة الأزهار والأشجار. وعن تولكين، قال سي إس لويس، مؤلف «سجلات نارنيا» ذات مرة: «إنه رجل عظيم، ولكنه لا يتبع نمط مشيتنا. فلا يبدو قادرا على السير والحديث في آن واحد؛ فهو يسير ببطء ثم يتوقف تماما حين يكون لديه شيء مثير يرغب في قوله.» كان خطأ لويس أنه كان يسير أسرع مما ينبغي؛ فقد كان واحدا ممن «لا تأخذهم هوادة في السير» مثلما كان تولكين يطلق عليهم.
10
لقد كان تري بيرد أكثر من كانوا يتبرمون من ذلك.
يمكن للتمشية أن تفضي إلى التغير بمجرد أن يتعلم المرء كيف يسير ببطء. في سبتمبر عام 1931، بينما كانت رواية «الهوبيت» لا تزال في شكلها المبدئي كمسودة، ذهب تولكين في تمشية أخرى مع لويس وصديق له يدعى هوجو دايسون، الباحث في تراث شكسبير.
11
مضى الثلاثة يجوبون ممشى أكسفورد أديسون عبر ضفاف نهر تشيرويل بالقرب من كلية ماجدالان، واستمرت بينهم مناقشات حول العلاقة بين الخرافات والحقائق حتى الثالثة صباحا. بعد أن غادر تولكين عائدا إلى منزله، واصل لويس السير مع دايسون حتى الرابعة صباحا، وبعد ذلك بفترة وجيزة، مر بتحول ديني غير حياته.
12
لعله أيضا قد تعلم شيئا مهما بشأن الإبطاء من مشيته.
تعد التحولات الدينية أمرا شائعا في تاريخ التمشيات الرائعة. فسواء كان صعود موسى إلى جبل الطور في سيناء، أو طواف مسلمي العصر الحالي في دوائر بطيئة حول الكعبة في مكة، فإن معظم الأديان الكبرى في العالم ، إن لم يكن كلها، تبرز أشكالا من السير يتخللها قدر كبير من التأمل والتدبر. ومثلما يقول جيف نيكلسون، مؤلف كتاب «فن المشي المفقود» بامتعاض: «لا أعرف كثيرا عن الآلهة، ولكن يبدو أنها تحب أن يمارس المؤمنون بها الكثير من المشي.»
13 (2) السير من أجل الشفاء
يمكن أن يساهم المشي في إنقاذ حياة مثلما قيل لنا. فكلنا تقريبا، في وقت ما، إما مارسنا المشي من أجل قضية ما، وإما ساندنا أصدقاء أو زملاء لنا فعلوا ذلك من أجل إحداث فارق في العالم. وحده الجوبلن الذي يعيش بدون ضوء الشمس هو من كان سيعارض بشدة أن يهب المرء وقته أو ماله لقضية نبيلة. ولكن نيكلسون يثير نقطة مهمة هنا؛ إن العلاقة بين عمل الخير والمشي متوترة قليلا حين تفكر بشأنها بشكل جاد؛ «إنها توحي بأن المشي نشاط غريب وخارج عن نطاق المألوف، وغاية في الندرة، حتى إن الناس لا يمارسونه إلا من أجل المال، حتى لو كان هذا المال قد ذهب إلى قضية نبيلة.»
14
غير أن المشي ينقذ الأرواح بالفعل؛ فقد أنقذ حياة ثورين حين قام سموج لأول مرة بمهاجمة الجبل الذي كان زاخرا بجواهر الأقزام المنقوشة يدويا وألعابهم. ولم تفر سوى قلة مختارة من سعير سموج عن طريق التسلل من الباب الجانبي السري. ولكن كانت هناك مجموعة أخرى من الأقزام لم يكونوا بحاجة لخريطة سحرية لإخراجهم من مخبأ الكنز؛ فقد كان الأقزام المرافقون لثورين قد ابتعدوا بالفعل عن الذهب والفضة حين بدأ هجوم التنين.
وكما يوضح ثورين: «لقد كنت مغامرا ممتازا في تلك الأيام، دائم التجوال، وكان ذلك سببا في إنقاذ حياتي في ذلك اليوم.»
15
لم يكن ما أنقذ حياة ثورين هو المشي في حد ذاته، بل الكيفية التي قاده بها للخروج من نفس شراك الطمع التي أوقعت معظم أصدقائه الصغار الأكثر أنانية (وأوقعت ثورين فيما بعد حين اختار الجلوس على ذهبه في الجبل الوحيد بدلا من الخروج مثل بيلبو).
الفيلسوف الفرنسي ميشيل دي مونتين (1533-1592) اختار أيضا الانصراف عن الذهب والفضة. وقد كتب مونتين على جدار حجرة مكتبه ما يلي:
في عام 1571، في سن الثامنة والثلاثين، وفي آخر يوم من أيام شهر فبراير، يوم عيد ميلاده، انزوى ميشيل دي مونتين - الذي لطالما أضنته عبودية المحاكم والوظائف الحكومية - وهو لا يزال في كامل لياقته، إلى كنف الأنقياء المطلعين، حيث سيمضي الوقت القليل المتبقي من حياته التي انقضى أكثر من نصفها؛ في هدوء وتحرر من كل الهموم.
16
بالطبع، لا يستدعي الانزواء إلى كنف الأنقياء المطلعين (القديسين) إلى العقل تحديدا القديس فرانسيس الأسيزي؛ الذي عزم في حماس على أن يحيا حياة الفقر، ولكن هناك شيئا تحوليا بشأن قرار الانصراف عن سباق الجرذان المرهق الذي نحياه. ففي قلب هذا التغيير يكمن الاعتقاد بأن الحياة اليومية الزاخرة بالمسئوليات المنزلية غالبا ما تكون غير مشبعة عاطفيا، وأحيانا ما تكون مفلسة أخلاقيا. فبدلا من العمل بالبلاط، اختار مونتين الابتعاد والتأمل في برجه.
ولكن لا يكفي أن تنصرف عن وظيفتك غير الملهمة إذا كان كل ما يمكنك أن تفعله هو الاضطجاع على أريكتك تشاهد إعادة حلقات مسلسل «رجلان ونصف». فعلى الرغم من ادعاء مونتين أن «مشيتي سريعة وقوية»، فإن أفكاره ظلت تعود من آن لآخر إلى نفس المشكلات التافهة التي كان عالقا بها قبل التغير الذي لحق به.
17
وكما يعلم أي فيلسوف، يحتاج العقل إلى تمرين وتدريب قدر ما يحتاج الجسم، وهو ما فهمه مونتين في النهاية:
حين أرقص، أرقص؛ حين أنام، أنام؛ أجل، وحين أسير بمفردي وسط بستان بديع، وتنشغل أفكاري بأحداث دخيلة لجزء من الوقت، أقودها لجزء آخر من الوقت للعودة مجددا إلى المشي، وإلى البستان؛ إلى عذوبة هذه الخلوة، وإلى نفسي.
18 (3) سر على هذا النحو
كان هنري ديفيد ثورو (1817-1862) واحدا آخر ممن كانوا سينزلقون في دائرة التبرم والنزق وأنقذه المشي في النهاية. فنفس الرجل الذي أغلق على نفسه «كي يحيا الحياة بتأن وترو» كان يؤمن بشدة بأن صحته الجسدية والذهنية ستتدهور سريعا إذا لم «يمض يوما واحدا على الأقل - وعادة ما يكون أكثر من ذلك - في السير بتؤدة بين الغابات وفوق التلال وفي الحقول متحررا تماما من كل الارتباطات والالتزامات الدنيوية». ولكن مثل مونتين من قبله، كان ثورو يعلم أيضا مدى أهمية البقاء يقظا ذهنيا أثناء المشي.
وقد كتب يقول: «أنزعج حين يتفق أن أسير ميلا داخل الغابة بجسدي، دون التواجد هناك بروحي. أثناء تمشية ما بعد الظهيرة، أتناسى في سرور وبهجة كل انشغالاتي الصباحية والتزاماتي تجاه المجتمع، ولكن يصادف في بعض الأحيان أني لا أستطيع بسهولة أن أنفض عن عقلي التفكير في القرية.» إنها مشكلة الشيخوخة. إن المشي يمكنه أن يساعدك على ترك أمورك الأكثر بساطة ومسئولياتك الأقل إلحاحا وراء ظهرك، ولكن المعضلة الأكثر فلسفية هي الشيء الذي دائما ما تصطحبه معك في رأسك. ويتساءل ثورو: «ما الذي ينتظرني في الغابة لأقوم به، إذا كنت أفكر في شيء خارج نطاق الغابة؟»
19
تكمن الفكرة في ربط أفكارك ببيئتك المباشرة. لقد تعرف الناقد الإنجليزي ويليام هازليت (1778-1830) بالشعر الرومانسي من خلال سيره مع صامويل كولريدج (1772-1834) وويليام وردزوورث (1770-1850)، واكتشف أن طرق السير التي يفضلها كل شاعر تؤثر تأثيرا مباشرا على أساليبه في النظم؛ فقد كان وردزوورث أكثر ميلا للشعر الغنائي، بينما كان كولريدج أكثر ميلا للدراما. وليس مصادفة أن أسلوبيهما في المشي كانا على نفس الشاكلة أيضا.
كتب هازليت يقول: «أخبرني كولريدج أنه هو نفسه كان يحب التأليف أثناء السير على أرض غير مستوية، أو أثناء شق طريقه عبر أغصان أيكة متناثرة أشجارها هنا وهناك؛ فيما كان وردزوورث دائما ما يكتب (إذا استطاع) وهو يسير جيئة وذهابا عبر ممشى مستقيم مغطى بالحصى، أو في بقعة ما حيث لا تقابل استمرارية نظمه بأية مقاطعة جانبية.»
20
حين يؤخذ المشي على هذا المحمل، لا يصبح مجرد مهرب من تفكير ضار، بل يمكن أيضا أن يكون البداية لإعادة التواصل مع نفسك. في «سيد الخواتم»، ليس من قبيل المصادفة أن يكون الجوال الخبير، سترايدر - وهو اسم على مسمى - هو ملك البشر في المستقبل أيضا. يخبر فرودو باجنز قائلا:
21 «ولكن يمكن أن أقول إنني أعرف كل الأراضي الواقعة ما بين شاير والجبال الضبابية؛ لأني تجولت فيها لسنوات عديدة. فأنا أكبر مما أبدو.» ومثل هذا التجوال يساعد سترايدر على بناء قوته قبل أن يحيا في النهاية وفقا لهويته الحقيقية.
ولكن مثل هذا التجوال لا بد أن يأتي مصاحبا لأفعال متروية، مثلما يوضح سترايدر بصرامة لبيبين: «سيستغرق الأمر أكثر من مجرد بضعة أيام، أو أسابيع، أو سنوات من التجوال في البرية كي تبدو مثل سترايدر ... وستموت أولا، ما لم تكن مخلوقا من مادة أكثر صلابة من تلك التي تبدو مخلوقا منها.»
22
في «الهوبيت»، كان أكثر شخصيات تولكين حكمة هم السائرين الذين يرفضون الأشياء المملة بشكل غير طبيعي في العالم. تأمل بيورن الذي يحب القصص الجيدة، ولكن يغالبه النعاس حين يمضي الأقزام في الحديث عن كنوزهم. «كان أغلب حديثهم عن الذهب والفضة والجواهر وصياغة الأشياء بواسطة الحدادة، ولم يبد على بيورن أنه يعير أدنى اهتمام لمثل هذه الأشياء؛ فلم تكن هناك أشياء من ذهب أو فضة في ردهته، وعدا السكاكين كانت قلة من الأشياء مصنوعة من المعدن من الأساس.»
23
وبينما كان الأقزام (والهوبيت) نائمين، كان بيورن يغير شكله إلى هيئة الدب (التي كانت ممتازة للمشي بأي مقياس من المقاييس)، ويسير فوق النهر ثم يعود بعد قليل صاعدا الجبال، وهو ما يمكنك أن تخمن منه أنه كان يستطيع التنقل سريعا وهو في هيئة الدب على أية حال.
24
غير أن جاندالف - من وجهة نظر معظم الجماهير المحبة لرواية «الهوبيت» - كان دائما ما يمثل الصورة الأكثر حدة للفيلسوف السائر؛ فجاندالف لا يستمد شخصيته إلا من عصا المشي خاصته. وكما ينوه توم شيبي، كان تولكين يعتقد أن التعريف الأيسلندي لكلمة
gandr
هو في الحقيقة عصا أو هراوة.
25
وقد كان جاندالف مرارا يجد الحلول لأعتى المشكلات من خلال المشي اليقظ. كيف يسير المرء بيقظة؟ يعبر الساحر عن ذلك على نحو أفضل حتى من مونتين أو ثورو بقوله: «إلى أين ذهبت، إذا كان لي أن أسأل؟» هكذا قال ثورين لجاندالف بينما كانا يتجولان معا.
قال: «ذهبت للنظر إلى الأمام.» «وما الذي أعادك في اللحظة الأخيرة هكذا؟»
قال: «النظر للوراء.»
قال ثورين: «بالضبط! ولكن هل يمكنك أن تكون أكثر وضوحا؟»
26
يتميز الهوبيت ببعض المميزات عن البشر والأقزام، من ضمنها الجعة الممتازة وأوراق التبغ، ولكن ثمة مهارة أكثر نفعا لديهم هي القدرة على التحرك في صمت. فيخبرنا تولكين أن «الهوبيت يمكنهم التحرك بهدوء في الغابة، بل بهدوء شديد.»
27
ويتباهى بيلبو بصمته وهدوئه بشكل خاص، وله الحق في ذلك؛ فصمته فوق الأرض وإحساسه بالاتجاه تحت الأرض أنقذاه وأصدقاءه من أكثر من مأزق. ويعد هذا نوعا عاديا من السحر، مثلما يشير تولكين، ولكن مثل هذا المشي الصامت في السجلات التاريخية للفلسفة الشرقية نادر للغاية، ويمكن أن يشير إلى وصول المرء إلى أعلى مستويات السعادة.
28 (4) انتبه لخطواتك
نطالع في النص القديم «تاو تي تشينج»
29
عبارة تقول: «المسافرون الماهرون لا يتركون وراءهم أثرا.» حين يتحدث الطاويون عن الترحال عبر الطريق (الطاو)، عادة ما يكون هناك شيء يحدث أكثر من مجرد المشي بمعناه الحرفي. على سبيل المثال، كثيرا ما كتب الفيلسوف الطاوي المعروف جوانج زي (369-286ق.م) عن الحياة المتنقلة، ولكن تنقله كان يستلزم تنمية فضائل مثل: «الخواء، والسكينة، والليونة، والهدوء، وعدم اتخاذ أي تحرك».
30
إن هذه الفضائل الغرض منها توجيه الناس وحكمهم، وليس الانصراف عن التزامات المرء الدنيوية. «حين يتقاعد شخص ما، ممارسا تلك الفضائل والجولات على مهل وبروية، فسوف ينال إعجاب كل الباحثين والخبراء في الأنهار والبحار والمرتفعات والغابات. وإذا تولى منصبا معهم بهدف إحلال السلام في العالم، فستكون إنجازاته عظيمة وسوف يلمع نجمه، وستصبح الإمبراطورية موحدة.»
31
يؤمن الطاويون عموما بأن الأمر يستغرق عدة أعوام لتعلم مثل هذه الفضائل وممارستها، ولكن الهوبيت يمتلكونها بشكل فطري. وعلى الرغم من أن معرفة تولكين الشخصية بالطاوية كانت متواضعة، فإن الهوبيت كان لديهم شيء من روحها. فقد يصف تولكين أي عدد من الحكماء الطاويين حين يلاحظ أن «السيد باجنز لم يكن مملا للغاية مثلما يحب أن يعتقد، وأيضا ... كان مغرما للغاية بالأزهار.»
32
ويعتبر السير وسط الغابات ، مثلما يفعل بيلبو، من الأفكار التي طرقت كثيرا في العديد من الفلسفات الشرقية بخلاف الطاوية؛ ففي الميثولوجيا الهندوسية، كان على الفيلسوف الملك راما، الذي طرد من مملكة أبيه، أن يقايض ملابسه الفاخرة بورقة ولحاء شجرة قبل أن يمضي عبر الغابات. وكانت إحساسات الواجب، والعدالة، والشجاعة مجرد عدد قليل من الفضائل الأساسية التي ينميها بينما يسير عبر غابات الهند المسحورة.
على نحو مماثل، ترك سيدهارثا جوتاما (560-480ق.م) قصر أبيه كي يرتحل مع مجموعة من الزاهدين الرحالة قبل أن يخلو بنفسه للتأمل أسفل إحدى الأشجار، ويصل إلى التنوير ويصبح بوذا. وعندما بدأ الرهبان الأوائل في نشر الأمر، كان بوذا يسمح لهم على مضض فقط بالاختباء واللجوء إلى ملاذ للاحتماء به أثناء الموسم المطير. أما في جميع الأوقات الأخرى، فكان يتوقع منهم الانطلاق في رحلتهم سيرا على الأقدام.
لا يزال الكثير من المدارس البوذية اليوم تعظ بالأهمية الفلسفية للسير على الأقدام. وبعض من البوذيين التبتيين الأكثر تطرفا، على سبيل المثال، يسافرون لآلاف الأميال أحيانا على أقدامهم، ممارسين الاستلقاء (أي الانبطاح على الأرض والتمدد للخارج) مع كل خطوة يخطونها. وغالبا ما تصل مثل هذه الحركات الصعبة الهائلة المعبرة عن القوة والصبر إلى ذروتها مع إقامة مهرجان ديني.
33
وتعد حركات الاستلقاء والتمدد وسائل لتذكير نفسك بعد كل خطوة بأن تفعل شيئا مهما. فمن المفيد أن تتخلص من الأفكار التافهة قبل أن تبدأ في الاستحواذ على عقلك المطمئن غير المرتاب.
في جنوب شرق آسيا، تركز مدارس الثيرافادا البوذية أيضا على الجانب الأكثر فلسفية للمشي. فالتأملات سيرا على الأقدام تعد طرقا للتعمق في أفكارك الداخلية وتعظيم قوى التركيز في الحياة اليومية بشكل جذري. في النصوص القديمة المكتوبة بلغة البالي، تترجم إحدى القصائد المنسوبة لبوذا على النحو التالي:
الهواء الطلق يمنح حياة
تساند كفاح الراهب الشريد،
حياة يسهل بلوغها، وتترك عقله
يقظا كعقل ظبي، حتى يجد
الجمود والفتور قد وصلا إلى نهاية.
تحت السماء المرصعة بالنجوم
يفرش القمر والشمس نورهما،
وينشر التركيز بهجته.
والبهجة التي تمنحها لذة الاعتزال ،
سوف يكتشفها عما قريب من يعيش
في الهواء الطلق؛ ولهذا
يفضل الحكماء السماء المفتوحة.
34
كثير من بوذيي الزن الرائدين يؤيدون التأملات خلال المشي. والفكرة هي أن تعير انتباها لكل خطوة تخطوها للأمام، وكل ثنية للركبة، والصوت الذي تصدره قدما الشخص.
ثيت نات هانه هو راهب بوذي فيتنامي أسس دير قرية ببلوم في جنوب فرنسا، خلال حرب فيتنام، رشح مارتن لوثر كينج الابن هانه لنيل جائزة نوبل للسلام، زاعما بجرأة: «إن أفكاره عن السلام إذا طبقت، فسوف تبني نصبا لوحدوية الأديان، لأخوة العالم، للإنسانية». تتضمن أفكار هانه للسلام استخدام أساليب التأمل البوذية للانخراط في العالم من خلال مساعدة المعدمين.
لا شك أن العالم أكثر تعقيدا من ذلك بكثير، مثلما يقر هانه؛ ولذلك يذهب إلى أنه على المرء أن يبدأ بخطوات بسيطة بمعنى الكلمة. وفي كتابه «السلام هو كل خطوة»، يناقش هانه أهمية التأمل أثناء المشي، فكتب يقول: «بينما نمارس التأمل أثناء المشي، لا نحاول الوصول إلى أي مكان، نحن فقط نتخذ خطوات سعيدة هادئة. أما إذا ظللنا نفكر في المستقبل وما نرغب في إدراكه، فسوف نفقد أنفسنا.»
35
إن فقدان أنفسنا، مثلما رأينا، لهو واحد من المخاطر الكبرى للحياة في العالم الحديث. وقد رأى ثورو الأخطار وساوره القلق إزاء ما إذا كانت الأجيال المستقبلية من سكان المدينة سيكونون بالقوة الكافية ذهنيا لمواجهتها. وقد كتب يقول: «لم أقابل على مدى حياتي سوى شخص أو اثنين هما من فهما فن المشي، أي التنزه سيرا على الأقدام.»
36
وكما يشير تولكين، كانت هناك طرق عدة عبر الجبال الضبابية، «لكن معظم الطرق كانت وهمية وخادعة، ولم تؤد إلى أي مكان أو إلى نهايات سيئة، ومعظم الممرات كانت موبوءة بشرور وخبائث»، ولكن بفضل جاندالف، تمكن بيلبو والأقزام من «اتخاذ الطريق الصحيح إلى الممر الصحيح».
37
إن قول ذلك أسهل من فعله بالطبع؛ فالأمر يتطلب تركيزا وشجاعة وانضباطا لمعرفة الطرق الصحيحة التي يجب أن نسلكها في الحياة، ولسوف نفعل خيرا إذا انتبهنا لنداء تولكين وأبطأنا من سرعتنا. وكما يذكرنا الفيلسوف الكوميدي ستيفن رايت: «أي مكان يسهل السير إليه إذا توافر لديك الوقت.»
هوامش
الفصل الرابع
بيلبو باجنز
الهوبيت العالمي الأفق
دينيس نيب «كوزموبوليتان»؛ إنه أكثر من مجرد اسم لمجلة، وأكثر من مجرد نوع من النبيذ. إنها كلمة ذات أصل يوناني قديم، وفكرة فلسفية ملهمة. والكوزموبوليتان أو العالمي الأفق هو مواطن عالمي يدرك أن الآخرين يعيشون بطرق مختلفة ويتمنى الخير لهم كافة. باختصار، الشخص ذو الأفق العالمي يجاهد لكي يحب كل الشعوب.
في المقابل يخشى «الشخص المحلي الأفق» كل من يعيش بطريقة مختلفة عنه. وقد كان الهوبيت القاطنون في شاير محليي الأفق، يعتبرون حتى الهوبيت الذين يعيشون على الضفة الأخرى لنهر برانديواين غريبي الأطوار بعض الشيء.
1
ولكن بيلبو يتعلم أن يصبح عالمي الأفق من خلال الشعور بالارتياح في وجود الأقزام والإعجاب بالجن. وفي تحوله هذا تشجيع للقارئ على خوض نفس الرحلة. (1) الهوبيت في كنساس
على الرغم من أن معظم شعوب الأرض الوسطى كانوا متواجدين بالفعل في الميثولوجيا النوردية، فإن الهوبيت من صنع تولكين بالكامل. فيوضح توم شيبي الباحث في أعمال تولكين أنهم مخلوقات تعيش في غير عصرها وتنخرط في أنشطة حديثة على الرغم من موقعها العتيق.
2
فهم يدخنون التبغ ويأكلون البطاطس، وكلاهما من واردات العالم الجديد وليس لهما وجود في إنجلترا الوسطى. وهم يستمتعون برفاهيات المخلوقات البرجوازية مثل ساعات المدفأة، وأباريق الشاي، والخدمة البريدية اليومية، والأزرار النحاسية، والصدريات الفاخرة الأنيقة. وكذلك يستخدمون القواعد اللغوية الحديثة بدلا من اللكنات القديمة لمتحدثي الأرض الوسطى الآخرين.
بتعبير بسيط، يعتبر الهوبيت تجسيدا للإنجليزية الفيكتورية القروية الحديثة. بالإضافة إلى ذلك، فهم قرويون محليون يخشون اختلافات الآخرين، ويحبون أن يكون الهوبيت الآخرون متوقعين ويمكن التنبؤ بتصرفاتهم على نحو موثوق. فهم لا يحبون ذوي الطباع الشاذة الغريبة، ولا يخرجون في أي مغامرات خوفا من تفويت إحدى الوجبات، وعالقون إلى حد كبير في طرائقهم وأساليبهم التقليدية.
بوسعي أن أتعاطف وجدانيا مع الهوبيت؛ فمثل كل الآخرين تقريبا ممن نشئوا في ويتشيتا، بولاية كنساس ، كنت شخصا محليا منغلقا على مكانه، يخشى الغرباء، ويحب الحوارات ذات المسار المتوقع، ويزدري كل ما هو شاذ، ويسخر من أهل بلدتنا الذين يعيشون على الجانب الآخر من نهر أركنساس.
3 (كان مركز التسوق التجاري الخاص بنا هو تاون إيست، بينما كان مركز التسوق «الخاص بهم» يسمى تاون ويست. يا له من اسم مضحك بالنسبة لمركز تسوق!)
يظل بيلبو شخصا عصريا على مدى أحداث «الهوبيت»؛ مما يمكن القارئ من التعاطف معه. ولكن في نهاية القصة لا يظل محليا؛ فقد رأى العالم، وتناول طعاما أجنبيا، وسمع لغات أجنبية، وعاش مع غرباء، وواجه مخاطر مدهشة، وعاش كي يحكي عن ذلك. وهكذا يصبح بيلبو هوبيت عالمي الأفق يدرك أن الآخرين لهم طرق مقبولة للعيش، ويتمنى الخير لهم جميعا. وفي قيامه بذلك، يتوصل بيلبو إلى طريقة فلسفية على نحو خاص للعيش في العالم. (2) طريقة جديدة قديمة للعيش في العالم
كان بعض أوائل الشخصيات العالمية الأفق المسجلة تاريخيا من المفكرين الإغريقيين القدماء، أمثال سقراط (حوالي 470-399ق.م) والفيلسوف الكلبي ديوجينيس السينوبي (412-323ق.م)،
4
وكما في العالم الحديث اليوم، كان طبيعيا للأشخاص العاديين في العالم القديم أن يشعروا بصلة قربى ورحم تجاه العائلة والعلاقات الممتدة. ومن الطبيعي أن تتعاطف مع عشيرتك.
بالإضافة إلى ذلك، كانت الشعوب القديمة ترزح تحت ضغط متزايد للتعاطف مع شيء أكبر، مثل الإمبراطورية الفارسية، أو العالم الهيليني. فكان الأثينيون القدماء يحثون على المواطنة الوطنية في مدينتهم والمنطقة الزراعية المحيطة؛ وهي عبارة عن وحدة سياسية أطلق عليها الإغريق اسم «بوليس».
5
وقد أخذ الفلاسفة هذا التطور إلى نتيجته المنطقية وأعلنوا وجود ألفة ووفاق مع الجميع. وأن تكون مواطنا كونيا؛ فهذا يعني أنك «كوزموبوليتاني» أو عالمي الأفق.
واليوم أيضا نجد ألفة طبيعية تجاه العائلة والعشيرة، ودفعة وطنية للتعاطف مع الأمة، وفلاسفة يناصرون شيئا أكبر. ومن أحد الأمثلة على الأخيرة هو كوامي أبياه، مؤلف كتاب «الكوزموبوليتانية: أخلاقيات في عالم من الغرباء»؛
6
فحياته أقرب إلى محاضرة مصغرة في الكوزموبوليتانية.
وفقا لسيرته الذاتية المنشورة عبر الإنترنت، «ولد كوامي أنتوني أكروما أمبيم كوزي أبياه في لندن (حيث كان والده الغاني يدرس القانون)، ولكنه انتقل وهو طفل رضيع إلى غانا، حيث نشأ.»
7
كان والده محاميا وسياسيا ناجحا في غانا. كانت عائلة والدته إنجليزية، ولكن والدته عاشت في غانا؛ حيث كان لها نشاط على المستوى الاجتماعي والخيري. حصل أبياه على درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة كامبريدج بإنجلترا، وهو حاليا أستاذ في جامعة برينستون، ويؤلف كتبا ذات لغة جزلة بليغة عن موضوعات تتراوح ما بين الأمثال الأفريقية وتطوير التجارب في مجال الأخلاق.
يذكرني طرح أبياه للكوزموبوليتانية برحلة بيلبو. إن بيلبو يتعلم أن يكون أقل انغلاقا وأكثر تقبلا للعالم الكبير الرحيب من معظم الهوبيت؛ فبيلبو يسافر ويرتحل، وينخرط في أشياء أكبر من منزله، ويتعلم التسامح وتقبل اختلافات الآخرين. وبشكل خاص، يتعلم بيلبو أن لدينا التزامات تجاه الآخرين خلاف العائلة والجيران، وأن علينا أن نقدر الاختلافات الثقافية. وفي هذا الصدد يشير أبياه إلى ما يلي:
يوجد خطان يتشابكان معا في مفهوم الكوزموبوليتانية؛ أحدهما هو فكرة أن لدينا التزامات تجاه الآخرين، التزامات تتجاوز هؤلاء الذين تربطنا بهم روابط القربى والدم، أو حتى الروابط الأكثر رسمية مثل المواطنة المشتركة. أما الخط الآخر، فيتمثل في كوننا لا نأخذ على محمل الجد قيمة حياة الإنسان فحسب، بل أيضا حيوات بشرية معينة؛ مما يعني الاهتمام بالممارسات والمعتقدات التي تضفي عليها أهمية ومدلولا. إن الأشخاص العالميي الأفق يعرفون أن الناس مختلفون، وهناك الكثير لنتعلمه من اختلافاتنا ... وأيا كانت التزاماتنا تجاه الآخرين (أو التزاماتهم تجاهنا)، فغالبا ما يكون لهم الحق في التصرف كما يحلو لهم. وكما سنرى، ستكون هناك أوقات سوف يتضارب فيها هذان المبدآن الساميان؛ الاهتمام بالاختلاف المشروع واحترامه. فهناك وجه للكوزموبوليتانية لا تكون فيه اسما للحل، بل اسما للتحدي.
8
يعجبني بشكل خاص اعتراف أبياه ب «التحدي» الذي ينطوي عليه وجود التزام ما تجاه الآخرين وتقدير اختلافاتهم. وقبل أن نبحث في قضيتين فلسفيتين أكثر عمقا، لنلق نظرة على التحديات التي واجهها بيلبو. (3) الأقزام بوصفهم «الآخر»
يتعلم بيلبو تقبل الأقزام وجاندالف ، وإن كان التقبل لا يعني الاتفاق؛ فهو يختلف مع الأقزام حول مختلف أنواع الأمور الحيوية، ولكن المهم أنهم يتمكنون من العمل والتعاون معا. قد يكون بيلبو يسعى وراء مخبأ كنز التنين على سبيل التسلية والمزاح، وقد يكون الأقزام يستردون كرامة مليكهم، وربما يكون لدى جاندالف مبرر أكثر شمولية لخوض المغامرة. ليس مهما أن كلا منهم لديه أسباب مختلفة للخروج في رحلة البحث، ما داموا جميعا يخوضون التجربة معا؛ فهم يتعلمون أن يحترم كل منهم طباع الآخر من خلال الألفة، والسكنى معا، ومشاركة الوجبات.
كان الأقزام أقصر من البشر، ولكنهم أطول من الهوبيت؛ إذ كان طولهم يزيد قليلا على أربع أقدام. كذلك يتفوق الأقزام على الهوبيت من حيث امتلاء الجسم والوزن؛ فقد جعلهم العمل في المناجم الجبلية أقوياء وأصلابا، فتجدهم يتحملون مشقة العمل، ويفاخرون في المعارك، ويقاومون الألم. للأقزام الذكور لحى طويلة تطوى داخل أحزمتهم التي تحمل معاطف العمل حول خصورهم. وهم يصنعون العجائب في الأعمال المعدنية، والبناء، والنقش على الحجر، ويتغنون بقصص عن الذهب المفقود وكنوز ملوك الأقزام في الماضي السحيق. وهم يقدرون الجمال الطبيعي للكهوف وكذلك القصور التي تبنى بالجهد والعمل الشاق.
9
تنعكس حياة الشقاء والكد التي يحياها الأقزام في «لغتهم المتحفظة»؛
10
فباستخدامهم أقل القليل من المجاملات في حديثهم، لا يهدر الأقزام وقتهم في اللغو؛ فلديهم عمل للقيام به، فهلا تفضلت بالذهاب بعيدا؟ تأمل أول لقاء لبيلبو بأحد الأقزام حين يفتح الباب متوقعا لقاء جاندالف ليجد بدلا منه «قزما ذا لحية زرقاء مطوية داخل حزام ذهبي، وعينين لامعتين تحت قلنسوته الخضراء الداكنة. وما إن فتح الباب حتى دفعه للداخل، كما لو أن حضوره كان متوقعا. وراح يعلق معطفه ذا القلنسوة على أقرب مشجب، وقال بانحناءة بسيطة: «داولين في خدمتك!»».
11
لا يتمهل القزم داولين؛ إذ يدخل إلى حفرة الهوبيت ويأخذ راحته كما لو كان في بيته. إنه لا يحاول أن يكون وقحا، ولكن ردة فعل بيلبو المنزعجة تضفي كوميديا رائعة على هذا المشهد المبكر. وسرعان ما يتوافد اثنا عشر قزما آخرون لينعموا بحفاوة بيلبو وكرمه.
حتى أسماء الأقزام تعكس حياة الشقاء والكد التي يحيونها: داولين، بالين، فيلي، كيلي، دوري، نوري، أوري، أوين، جلوين، بيفور، بوفور، بومبور، وثورين. يبدو الأمر كما لو كان الأقزام لا يرغبون في إهدار وقتهم مع أسماء تزيد على مقطعين، فلن تقابل مطلقا قزما يدعى جيامباتيستا فيكو.
أثار هؤلاء الأقزام - الذين يلتهمون كل ما لديه من طعام ويوسخون كل صحونه - نفور بيلبو واشمئزازه على نحو مفهوم («فلتربك هؤلاء الأقزام وتجلب لهم العناء!»)
12
والأقزام في المقابل لا ينبهرون - على نحو مفهوم أيضا - بهذا الحارس المعافى المرفه الذي زعم جاندالف أن بإمكانه أن يسرق من أجلهم في مغامرتهم، ما جعل جلوين يتنحنح قائلا: «إنه يبدو أقرب لبقال منه إلى لص!»
13
ولكن بتشجيع من جاندالف، يذهبون جميعا على أي حال، وهذا ما أحدث كل الفارق. لا يحاول بيلبو ولو مرة واحدة أن يقنع الأقزام بحلق لحاهم المضحكة والخروج من الجبال، ولا يحاول الأقزام بتاتا أن يجعلوا بيلبو يرتدي حزاما من الذهب ويحمل فأسا. وعلى الرغم من أنهم يتجادلون مرارا بشأن مزايا الخروج من القلعة في براميل («هذه فكرة مجنونة!») وسرقة سموج («بعد ذلك بالطبع التمس الأقزام عفوه»)، ومنح العطايا من أجل السلام («ماذا لديك لتقوله يا سليل الجرذان؟!») فإنهم يتعلمون الحياة معا خلال فترة الرحلة،
14
ويعتاد كل منهم على الآخر.
بنهاية مغامراتهم، يتولد لدى الأقزام احترام لبيلبو اللص، ويحترم بيلبو تقاليد الأقزام وصنوف الجمال لديهم. لم يقنع الأقزام بيلبو بالاستمتاع بفنهم وتقاليدهم. لم يقنعه أحد. فقط يكفي أنهم معا حققوا غايتهم ونجوا من العمالقة، والأحجار العملاقة، والجوبلن، وذئاب الورج، وجن الغابة، والعناكب العملاقة، والخفافيش الماصة للدماء، والتنين. غالبا ما نعتقد أن من تحملوا معنا الكثير هم هؤلاء الذين يعرفوننا حق المعرفة؛ إذ يكون لديهم شعور «بالتعاطف»؛ فيما يعني حرفيا «المعاناة المشتركة».
تأمل ماذا يحدث حين يغادر بيلبو من أجل رحلة عودته:
حينئذ انحنى الأقزام أمام بطلهم، ولكن الكلمات احتبست في حناجرهم. إلى أن قال بالين في النهاية: «وداعا وحظا سعيدا أينما حللت! إذا عاودت زيارتنا مجددا حين تعود ردهاتنا جميلة مرة أخرى، فستكون الوليمة فاخرة بحق!»
فقال بيلبو: «إذا حدث ومررتم بطريقي، فلا تنتظروا حتى تطرقوا الباب! إن موعد الشاي في الرابعة، مرحبا بأي منكم في أي وقت!»
15
يبرز هذا الحوار مدى ما بلغوه من احترام واستمتاع برفقة بعضهم بعضا، ويوضح أيضا مدى الاختلاف بينهم حتى في لكناتهم؛ فلغة الأقزام قديمة ومفخمة؛ كقولهم: «سوف نحتفل في ردهتنا الفاخرة!» أما بيلبو، في المقابل، فهو رجل إنجليزي عصري يدعوهم لتناول الشاي في تمام الرابعة. والاختلافات في الأسلوب لا تهم ما دام كلاهما مضيافا وكريما. فعلى الرغم مما بينهما من الاختلافات، فإن كلا منهما يرغب في استمرار الصداقة بينهما من خلال تناول الطعام معا.
وكما يشير أبياه، فإن الحياة في ظل تقاليد أخرى تجعلك متقبلا لها ومتسامحا معها أكثر بكثير مما تفعل أية مجادلة فلسفية. وبوصفه فيلسوفا متخصصا، يشجع أبياه الحوار عبر التقاليد. ولكن قيمة تلك الحوارات لن تكمن في إقناع الآخرين، ولكن في التأليف والتقريب بين الناس. ويعمد أبياه لتوسيع نطاق مفهوم الحوار ليعني أي مواجهة تفاعلية مع ثقافة أخرى (كتناول طعام عرقي، أو مشاهدة أفلام أجنبية، أو ما إلى ذلك) بدلا من كونه مجرد نقاش بين متنافسين يحرزون نقاطا. وفي ذلك يكتب: «ليس بالضرورة أن يفضي الحوار إلى إجماع بشأن أي شيء، لا سيما القيم؛ يكفي أنه يساعد الناس على اعتياد كل منهم على الآخر.»
16
في مغامرة من ثلاثمائة صفحة، اعتاد بيلبو على الأقزام. من المقبول أن لديهم أفكارا، وتقاليد، وأساليب معيشية مختلفة؛ فكل ما يهم أنهم استطاعوا النجاة من المغامرة معا. (4) الجميع يريدون قميصا من «الميثريل»
إن التوتر بين الأقزام والجن أسطوري. أظن أنه من الممكن أن نعزو المشكلة جزئيا إلى وجود اختلافات أساسية في أسلوب معيشتهما؛ فالأقزام مخلوقات جلدة يعملون بأيديهم ويعيشون أسفل الجبال. أما الجن، فهم مخلوقات سحرية يحبون غناء أغنيات سخيفة تسخر من لحى الأقزام. الأقزام من ذوي الياقات الزرقاء وعمليون، بينما الجن مخلوقات مخلدة مهذبة روحانيا . من السهل أن تدرك أسباب غياب التوافق بينهما.
على الرغم من أن الجن يهزءون من بيلبو والأقزام، فإن منزل إلروند يوفر لهم الراحة والاستجمام اللذين هم في أشد الحاجة إليهما. يعثر المغامرون بين غنيمة العمالقة على سيفين، ويتمكن إلروند من قراءة اللغة الأيسلندية القديمة المكتوبة عليهما ويخبرهم قائلا: «إنهما سيفان قديمان، قديمان للغاية، كانا ملكا لجن الغرب الساميين، قومي. وقد صنعا في جوندولين من أجل حروب الجوبلن.»
17
كان أحدهما يسمى أوركريست ويعرف بجزار الجوبلن، والآخر يسمى جلامدرينج ويعرف بقاهر المطارق. يساعد إلروند المغامرين أيضا في قراءة الحروف القمرية على خريطتهم، موفرا لهم دليلا أساسيا للمدخل السري إلى الجبل الوحيد وعرين سموج. وعلى الرغم من أن الحروف القمرية من ابتكارات الأقزام والكتابات الأيسلندية تدور حول الأحداث القزمية، فقد تطلب الأمر الاستعانة بالجني إلروند لاكتشافها وقراءتها.
بعد ذلك بكثير، يجد ثورين وسط مخبأ كنز التنين سموج «قميصا مدرعا صغيرا، صنع من أجل أحد أمراء الجن الشبان منذ زمن طويل. كان مصنوعا من الفولاذ الفضي، الذي يطلق عليه الجن «ميثريل»، ومعه حزام من اللآلئ والكريستال».
18
وبإيماءة مهيبة، يعطي إلروند القميص لبيلبو، الذي يساوره شك في أنه يبدو «مضحكا نوعا ما» ويتخيل أن الهوبيت القرويين ربما سيسخرون من لباس الجن الذي يرتديه عند عودته إلى الوطن. ولكن قميص «الميثريل» المدرع ليس بالغ القيمة فحسب، وإنما أيضا خفيف وقوي؛ إذ يرتديه بيلبو في معركة الجيوش الخمسة، وينقذ حياة فرودو عدة مرات في «سيد الخواتم».
يعتبر السيفان وقميص «الميثريل» أمثلة جيدة لما يطلق عليه أبياه - دونما استنكار - «التلوث الثقافي».
19
يخطئ الأصوليون الثقافيون في رغبتهم في عزل العناصر الغريبة عن ثقافتهم؛ فالجميع يتشرب عناصر من ثقافات أخرى ويجعلها ملكا له. فالبطاطس وأوراق التبغ التي يستمتع بها كثيرا مواطنو تولكين من الإنجليز المعاصرين (والهوبيت!) قادمتان من العالم الجديد كموطنهما الأصلي، وتم استيرادهما منه. فالتجارة والهجرة عملت على إحداث نوع من التهجين وخلط الأجناس في كل ثقافة. فحتى القرويون في كنساس يشربون الجعة الألمانية، ويتناولون البيتزا الإيطالية، ويشاهدون أفلاما صورت في نيوزيلندا.
كذلك هو الحال مع بيلبو والأقزام ؛ فرغم التاريخ المليء بعدم الثقة بين الأقزام والجن، يسعد ثورين والرفاق أيما سعادة بحمل سيفي الجن إلى المعركة والاستعانة بمعرفة إلروند قراءة خريطتهم. وعلى الرغم من الشعور بالحماقة والسخف إلى حد ما، يسعد بيلبو بارتداء قميص من الميثريل القوي خفيف الوزن، الذي يعمل على حمايته من أي أذى يلحق به. فحين يكون القيام بذلك منطقيا ومعقولا، يستعين الأذكياء بأشياء من ثقافات أخرى، مهما بدت غريبة عن ثقافتهم. (5) التعلم من الثقافات الأخرى
تعد الصداقة المستبعدة بين القزم جيملي والجني ليجولاس في «سيد الخواتم» المثال الأكثر توثيقا للتفاهم والتسامح بين الثقافات لدى تولكين. في المقابل، نجد سموج والجوبلن أمثلة مدهشة للقيود على التسامح والتعايش السلمي. فلم هذا الاختلاف؟
يتطلب تفسير الاختلافات بينهم النظر بمزيد من التعمق في فلسفة الكوزموبوليتانية. يناقش أبياه مبدأين أساسيين من مبادئ الكوزموبوليتانية هما: «التخطيئية»، و«التعددية».
20
يعد مصطلح «التخطيئية» في الأساس من الكلمات الفخمة بالنسبة للإنسانية؛ فهو مبدأ يعني أن تتقبل أنك قد تكون على خطأ ولا تدري حتى ذلك، وأن تكون منفتحا للتعلم من الآخرين.
أما «التعددية»، فتعني تقبل أنه في العديد من مجالات الحياة ومناحيها قد يكون هناك أكثر من إجابة صحيحة. في علم الحساب لا توجد سوى إجابة صحيحة واحدة، ولكن في عيش الحياة، أو تربية الأطفال، أو الاستذكار من أجل اختبار ما، أو طهي الطعام، قد يكون هناك أكثر من طريقة صحيحة.
يتقبل ليجولاس الجني وجيملي القزم أن معتقداتهما قابلة للخطأ؛ فهما يدركان أنهما قد يكونان على خطأ بشأن أمور مهمة، وأنه قد يكون هناك شيء يتعلمه كل منهما من الآخر. ولذا يقبل ليجولاس دعوة جيملي له لاستكشاف كهوف أجلاروند اللامعة؛ إذ يدرك أنه قد يتعلم شيئا من صديقه القزم عن الجمال.
21
وبالمثل، يرافق جيملي ليجولاس داخل غابة فانجورن الموحشة المليئة بالذكريات.
كذلك يتقبل الصديقان التعددية؛ إذ يدركان أن الأقزام والجن يعيشان بطرق مختلفة تمام الاختلاف، ولا بأس في ذلك. ولذلك تتمكن جالادريل، ملكة لوثلورين الجميلة، من التأثير على جيملي، فيما يتقبل جيملي أن الجن لديهم طريقة مختلفة وصالحة بالقدر نفسه للحياة؛ مما يتيح له الانفتاح على تلك الحياة.
في حياتي الخاصة غالبا ما ألتقي بأعضاء من كنيسة يسوع المسيح لقديسي الأيام الأخيرة (المعروفة بالكنيسة المورمونية). لن أصبح يوما مورمونيا بتاتا، ولكن أتقبل أن طريقتهم المختلفة للحياة صالحة بالقدر نفسه (التعددية)؛ ومع كل ما أعرفه، فمن الممكن أن يكونوا على صواب بشأن التساؤلات المطلقة عن كيفية العيش، ومن الممكن أن أكون مخطئا (التخطيئية).
22
لا أتفق معهم؛ ولو فعلت لأصبحت مورمونيا! ولكني وزوجتي نستمتع باصطحاب أطفالنا لمشاهدة أعمالهم الفنية عن ميلاد المسيح في فترة أعياد رأس السنة. إن التخطيئية والتعددية لا يستلزمان اتفاقا كاملا، بل مجرد التقبل، والتسامح، وربما حتى التقدير.
يرفض الجوبلن، في المقابل، التخطيئية والتعددية. فالجوبلن - الذين سموا فيما بعد الأورك - مخلوقات قاسية ذات دم أسود ومخالب، مسلحة بالسياط والسيوف المعقوفة. أجسادهم القصيرة البدينة تكتسي بدرع فولاذية، وأذرعهم الطويلة تحمل خناجر وسهاما مسمومة. ولكونهم يعيشون تحت الأرض، فإنهم يفضلون الظلام ويتجنبون ضوء الشمس ما أمكنهم ذلك.
23
يؤمن الجوبلن بأنهم يملكون الطريقة الوحيدة الصحيحة للعيش، وأنه لا يوجد ما يمكن تعلمه من الآخرين؛ فهم يعيشون في ظل الخوف ويتمنون فرض خوفهم هذا على الجميع.
أما التنين سموج، فلا يملك أي تواضع على الإطلاق («أنا أقتل حيثما أشاء، ولا يجرؤ أحد على المقاومة.»)
24
وهو يعتقد أنه لا يوجد شيء يستطيع تعلمه من الهوبيت أو الأقزام؛ فحياة الآخرين ليست ذات قيمة أو محل اعتبار.
إن الجوبلن وسموج معادون للكوزموبوليتانية؛ إذ لا يملكون أي تسامح تجاه الآخرين. ويستخدم أبياه المسلمين المتطرفين المعاصرين كنموذج للمعادين للكوزموبوليتانية، أولئك الأشخاص الذين يعتقدون أن لديهم الطريقة الوحيدة الصحيحة للعيش، وأن الثقافات الأخرى ما هي إلا نتاجات بائسة للانحراف والفساد الإنساني.
25
قد يسمح المسلمون المتطرفون ببعض التسامح مع الاختلاف حول أمور ليس لها أهمية (مثل نوع القماش الذي تستخدمه المرأة كغطاء للرأس)، ولكنهم لا يتسامحون مطلقا بشأن العديد من الأمور المهمة (مثل المطالبة بضرورة ارتداء المرأة غطاء للرأس).
علاوة على ذلك، لا يتردد هؤلاء في استخدام العنف لفرض آرائهم على الآخرين؛ تماما مثل سموج والجوبلن. إن الهوبيت القرويين (شأنهم شأن الكنساسيين القرويين) يخشون الآخرين، ولكن لا يزال بإمكانهم أن يكونوا مسالمين. أما الجوبلن المحدودي الأفق (شأنهم شأن جميع المتطرفين)، عادة ما يضيفون العنف إلى كراهيتهم. (6) أيمكننا حقا أن نعيش مثل بيلبو؟
يشير الفيلسوفان بولين كلاينجيلد وإريك براون إلى وجود عدة صور مختلفة من الكوزموبوليتانية. على سبيل المثال، يؤيد بعض أنصار الكوزموبوليتانية وجود حكومة عالمية، فيما يزعم مناصرون آخرون لها، مثل فيلسوف برينستون بيتر سينجر، أن جميع الكائنات مرهفة العواطف تنتمي لمجتمع واحد من المتساوين أخلاقيا، وأن الواجبات تجاه الغرباء يمكن أن تكون ملزمة أخلاقيا شأنها شأن الواجبات تجاه أفراد الأسرة، والجيران، وأبناء البلد الواحد.
26
من الواضح أن بيلبو ليس عالمي الأفق في أي من هذين الصعيدين. إن بيلبو هو ما يطلق عليه كلاينجيلد وبراون «كوزموبوليتاني أخلاقي وثقافي معتدل»،
27
فيما يعني أنه يدرك أنه على الرغم من أهمية الروابط المحلية والولاءات، فإن جميع شعوب الأرض الوسطى الحرة - الجن، والأقزام، والبشر، والهوبيت، وما إلى ذلك - تنتمي إلى مجتمع واحد، ولا بد من تقدير التنوع الثقافي وتشجيعه. لنفكر لحظة في قيمة التنوع الثقافي.
تأمل إعداد وجبة الفطور، أحد الأشياء المفضلة لدى الهوبيت. يمكنني أن أتناول الفطائر مع الزبد وشراب القيقب مع شريحة من اللحم وفنجان من القهوة الساخنة بالحليب. هذا ما كان والداي يتناولانه؛ لذا ربما يكون فطورا محليا أكثر من اللازم. ولكي أكون عالميا؛ فلا بد أن أتقبل أن الآخرين لديهم وجبات فطور شهية بالقدر نفسه، وينبغي أن أجربها. ربما ينبغي أن أعد فطورا إنجليزيا كاملا يحتوي على البيض المقلي، والنقانق، والفاصوليا المطبوخة (أحد الأصناف الواردة حديثا من الولايات المتحدة وتحظى بشعبية ضخمة)، والخبز المحمص ومربى النارنج مع فنجان من الشاي الساخن بالحليب. ربما ينبغي أن أدخل على شبكة الإنترنت وأتعرف على الفطور التقليدي في جنوب الهند، أو سنغافورة، أو الأرجنتين. كيف يمكن أن أقرر ما أتناوله على الإفطار؟
يستحيل أن أتخيل أحد الهوبيت يغفل وجبة الإفطار بينما يشكو بشأن مجموعة الأشياء الجيدة بالقدر نفسه المتاحة لتناولها. ويبدو أن تولكين نفسه يحتفي بطرائق الهوبيت الريفية المقيدة بالتقاليد؛ فتجده لا يسخر منهم بوصفهم قرويين جهلاء. فالهوبيت سعداء بحق في حياتهم البسيطة؛ فهم يطهون الوجبات بثقة، ويخمرون الجعة، ويبنون أنفاقا في الأرض دون القلق إزاء كيفية قيام الآخرين بذلك. فهم ثابتون على طرائقهم ويرفضون معظم التجديدات وعمليات الميكنة، ولكنهم سعداء بحق؛ فنرى سام وميري الهوبيتين التقليديين اللذين ينتهي بهما المطاف بزواج سعيد والاحتفاء بهما. في المقابل، نجد بيلبو بعد عودته إلى الوطن وقد «فقد سمعته» و«لم يعد يحظى بالاحترام».
28
ولكن تظل مغامرة بيلبو ضرورية؛ لأنها قادت إلى اكتشاف الخاتم، وهو ما قاد بدوره إلى سقوط سيد الخواتم وعودة الملك. فالحقيقة تفوق التكلفة؛ إذ تنقذ عالمية بيلبو السيئة السمعة الأرض الوسطى.
والمرور بلحظة صعوبة الاستقرار على فطور معين يعد ثمنا زهيدا تدفعه مقابل أن تكون مواطنا تشاركيا في عالمنا المتنامي، المتمدد، الذي يزداد تلاحما واتصالا. وفي ذلك يكتب أبياه: «وفقا للظروف، يمكن للحوارات عبر الحدود والحواجز أن تكون مبهجة، أو مزعجة تماما؛ ولكن السمة الأساسية لها هي أنها حتمية.»
29
ويقول الجني جيلدور لفرودو: «العالم الرحيب أنت محوره بالكامل؛ إذ يمكنك أن تحبس نفسك بداخله، ولكن لا يمكنك أن تحبس نفسك خارجه للأبد.»
30
لا يمكن أن تختبئ من تأثيرات العالم الخارجي. والادعاء أن ثقافة واحدة هي الأفضل على الإطلاق يضعك حقا في خندق واحد مع بعض أسوأ طغاة التاريخ الإنساني.
31
أقول «يعيش الاختلاف»؛ فلا يكفي أن تكون سمحا رءوفا مع أصدقائك وأسرتك. فلكي نحيا معا، لا بد أن نتعلم جميعا الرفق بالغرباء.
32
هوامش
الجزء
الطيب، والشرير، والملطخ بالوحل
الفصل الخامس
مجد بيلبو باجنز
تشارلز تاليافيرو وكريج ليندال-إربن
في الشعر والتاريخ الغربيين، أريق قدر هائل من الدماء بسبب المجد؛ ف «الإلياذة»، و«الإنياذة»، و«بيوولف»، وغيرها من الملاحم الغربية العظيمة الأخرى ترى المجد (الشهرة، والعزة، والسمعة) في القتل البطولي لعدو ما، أو في هزيمة وحش وأمه ثم هزيمة تنين، كما في بيوولف. ومن الشعر الهوميري مرورا بالكثير من التاريخ والأدب اللاحقين، أصقل مفهوم المجد، إلا أنه غالبا ما كان يحتفظ ببعض من أصله الدموي.
كان أفلاطون (حوالي 428-348ق.م) وغيره من الفلاسفة الأوائل على وعي شديد بتقليد المجد، وسعوا لتحديه ورده من خلال تقديم بديل، ألا وهو حب الجمال. ففي مقابل المفهوم الهوميري والأسبرطي للمجد من خلال العنف، تصور أفلاطون الحياة كشيء أقرب لرحلة أو بحث، وللرحلة - بحسب أفلاطون - وجهتها التي تتمثل في الخير، والصدق، والجمال. ففي محاورات «الاعتذار» لأفلاطون، يعمد سقراط (حوالي 470-399ق.م) لتأديب مواطني أثينا قائلا: «ألا تخجلون من تكديس أكبر قدر من المال والعزة والسمعة، فيما لا تولون سوى قدر يسير من الاهتمام للحكمة والحقيقة والتحسين الأعظم للروح؛ الذي لا تعتبرونه أو تبالون به على الإطلاق؟!»
1
وعلى الرغم من أن أفلاطون والعديد من الفلاسفة من بعده قد أدركوا النفع والخير في البطولية والفضائل القتالية، فقد تشككوا في كون المجد يتطلب عنفا أرستقراطيا؛ فقد كتب الخطيب والفيلسوف الروماني شيشرون (106-43ق.م)، على سبيل المثال، ذات مرة يقول: «ينبغي أن نكون مدركين للشغف بالمجد.»
2
في هذا الفصل نحدد موقع جيه آر آر تولكين في هذا التقليد الأفلاطوني. في الأرض الوسطى، ثمة فرص وافرة للمجد في التقليد الكلاسيكي، إلا أن تولكين يحذرنا أيضا من الخطر المغري للسعي وراء المجد من أجل المجد. وتكمن عبقرية «الهوبيت» على نحو خاص في تقديمهم بديلا لأولئك الذين يبحثون عن المجد في المقام الأول. ويلتمس منا تولكين أن نأخذ على محمل الجد الخير الكامن في الجمال المنزلي والمباهج البسيطة للبيت والمدفأة.
ولكن قبل البحث عن الجمال المنزلي في أعمال تولكين، لنستعرض معا عن كثب تقليد المجد في كل من التقليد الملحمي الكلاسيكي وأرض تولكين الوسطى. (1) المجد في الغرب والأرض الوسطى
كان لكلمة المجد (باليونانية
kleos ) في بدايتها بعد مادي بسيط؛ فقد تضمنت العرض المادي العام لغنائم المعركة التي تحققت من خلال حركة بطولية. لم يكن مجد الانتصار مجرد مسألة شهوة لإراقة الدماء، لكن مسألة تحرك منظم ومنضبط، ولم يكن قاصرا بالضرورة على العزة الفردية؛ لأن المجد المتحقق يمكن أن يمتد ليشمل عائلة البطل، أو قبيلته، أو مدينته، أو إمبراطوريته. وقد كتب المفكر المسيحي القديم العظيم القديس أوجستين (354-430م) ما يلي عن الأبطال القدامى؛ حيث قال:
كانوا مكرسين للمجد بشغف وحماس؛ ولأجل هذا كانت رغبتهم في الحياة، ولأجل هذا أيضا كانوا لا يترددون في الإقدام على الموت. وكان هذا الولع غير المشروط بالمجد، بخلاف أي شيء آخر، يكبح شهيتهم للأشياء الأخرى. كانوا يشعرون بأنه سيكون من العار على بلادهم أن يؤسروا، ولكن سيكون مفخرة لها أن يكون لها نفوذ وإمبراطورية؛ ولذلك عقدوا العزم على تحريرها أولا، ثم على جعلها تحكم.
3
كان الاكتساب البطولي للمجد من خلال بلوغ مثل هذه القوة والنفوذ يتناسب مع مجد العدو الذي قتل ونهب ومنزلته، وهذا هو نوع المجد الذي يسعى له أخيل وهكتور في «الإلياذة» حين يواجه أحدهما الآخر خارج جدران طروادة.
4
فحين يقتل هكتور أعز أصدقاء أخيل، ثم يقوم أخيل بذبح هكتور، يحظى أخيل بالمجد، لانتقامه لمقتل صديقه ونظرا لعظمة هكتور؛ أنبل أمراء طروادة ومحاربها الأعظم.
لم يكن مفهوم البطل المهيب قاصرا على الأدب فقط؛ فقد تأثر تاريخ العالم ذاته برحلة البحث عن المجد الهوميري. فكان الإسكندر الأكبر (356-323ق.م) مفتونا بما اعتبره الفضائل الرجولية للمجد في «الإلياذة»، وسعى للتأسي بأخيل كنموذج. وبحسب المؤرخ بلوتارخ (حوالي 46-120م)، احتفظ الإسكندر بنسخة من «الإلياذة» معه خلال حملاته العسكرية، حتى إنه كان ينام وهي تحت وسادته! وصار سعي الإسكندر وراء المجد نموذجا يحتذى لدى يوليوس قيصر (100-44ق.م) عندما كان يسعى لمساواة مجد روما بشخصه. وربما ينظر لهذا السعي القديم أيضا باعتباره المغذي للطموح الإمبريالي الحديث في الدول الأوروبية العظمى؛ مثل: فرنسا، وإسبانيا، وبريطانيا العظمى، وألمانيا النازية.
مع ظهور المسيحية، تحول مفهوم المجد من ميادين المعارك الدنيوية والقوة الإمبريالية إلى القيمة المثالية المتمثلة في أن الله يستحق المجد والولاء المطلقين ؛ فكان المسيحيون يرون السعي الجاهلي وراء المجد خطيئة وعبثا، وفي ذلك كتب أوجستين ما يلي:
إن هذه «الشهوة للهيمنة» تجلب شرورا كبرى لإزعاج الجنس البشري بأسره وإنهاكه. لقد هزمت روما بسبب هذه الشهوة حين انتصرت على غزو ألبا، وأطلقت على التهليل الشعبي لجريمتها اسم «المجد»؛ إذ إن «الآثم» - مثلما يقول الكتاب المقدس - «يمتدح في رغبات روحه، ويبارك الإنسان ذو الأفعال الخبيثة.»
5
كان المجد والمديح من منظور أوجستين وغيره من المسيحيين الأوائل يعودان في المقام الأول لله، ولم يكن تمجيد الله لعطاياه ونعمه وكماله شيئا خيرا في حد ذاته فحسب، بل ساعد أيضا في كبح جماح الغرور الإنساني والطموح العنيف. وبالنظر إلى أن الكثير من المسيحيين الأوائل قد تبنوا مبدأ السلام الكامل، فقد كانت هناك أيضا فرصة حقيقية في اقتطاع مفهوم المجد من ماضيه الجاهلي، غير أنه - كما أشار تولكين - لم يكن من السهل على المسيحيين التخلي عن مفهوم المجد الكلاسيكي.
في عام 1936 ألقى تولكين محاضرة في الأكاديمية البريطانية بعنوان «بيوولف: الوحوش والنقاد». كانت الملحمة البطولية الإنجليزية القديمة «بيوولف» (التي تم تأليفها فيما بين القرن الثامن والقرن الحادي عشر) تضم شتى أنواع العناصر المسيحية، ولكن تولكين أشار إلى أن هذه العناصر كانت من قبيل الزينة والزخرفة إلى حد كبير. فأسفل هذه الإشارات والمراجع المسيحية كان هناك تقليد بطولي للمجد في غاية النشاط من عصر ما قبل المسيحية؛ ألا وهو كسب المدح من خلال العنف. فبطل القصة، بيوولف، أشبه بالأبطال الكلاسيكيين منه إلى يسوع في العهد الجديد الذي لا يميل للعنف، ويحث أتباعه على أن يحبوا أعداءهم وأن يديروا لهم الخد الآخر. وبينما كان يسوع يعظ بالرأفة والرحمة والصفح والتواضع، كان تركيز بيوولف منصبا أكثر بكثير على بهجة الانتصار وتحقيق الشهرة المهيبة المجيدة.
في أرض تولكين الوسطى، هناك بالتأكيد مكان للبطولة على أرض المعركة؛ ففي رواية «الهوبيت»، يتوافق هجوم ثورين في معركة الجيوش الخمسة بشكل مباشر مع التقليد البطولي الكلاسيكي:
فجأة انطلقت صيحة، وجاء صوت نفير عبر البوابة. لقد نسوا ثورين! ... هب الملك أسفل الجبل، وتبعه رفاقه. تلاشت القلنسوة والعباءة، وصاروا لا يرتدون سوى الدرع البراقة، وقفز من أعينهم شعاع ضوء أحمر. ووسط الظلام الدامس تألق القزم العظيم مثل الذهب في نيران محتضرة.
6
وعلى الرغم من أن ثورين يموت في المعركة، فإنه يحقق المجد من خلال الهزيمة النهائية لأعدائه وبلوغ مسعاه البطولي بنجاح. وينجح ثورين في الظفر بالمجد العظيم بصفة خاصة بفضل القوة الكاسحة الهائلة التي لا بد أن يواجهها؛ مصداقا لما لاحظه شيشرون من أن «كلما عظمت المشقة؛ عظم المجد.»
7
تتجلى مثل هذه الفرص لبلوغ المجد الكلاسيكي بدرجة أكبر في رواية «عودة الملك» حين يصف تولكين ما يتضح أنه المحطة الأخيرة لأراجورن. ففي لحظة يمكن اعتبارها أعظم لحظاته، ينظم أراجورن قواته قبل بلوغ بوابة موردور السوداء. ويعرض تولكين هذه اللوحة الأخاذة لأراجورن بعد فتح البوابة مباشرة ومواجهة رجال الغرب لقوات معادية تفوقهم عددا بعدة مرات:
لم يكن أمام أراجورن سوى القليل من الوقت من أجل تنظيم معركته. وعلى التل وقف مع جاندالف، وهناك رفعت راية الشجرة والنجوم، وعلى التل الآخر على مسافة قريبة للغاية وقف رايتا روهان ودول أمروث، الحصان الأبيض والبجعة الفضية، في هدوء وقنوط. وعلى كل تل تقريبا صنع خاتم مواجه لجميع الطرق، مدجج برمح وسيف. ولكن في المقدمة في اتجاه موردور، حيث سيأتي الهجوم المرير الأول، وقف ابنا إلروند إلى اليسار وبالقرب منهما وقف الدوندين، وإلى اليمين وقف الأمير إمراهيل مع رجال دول أمروث ذوي القامة الطويلة والبشرة الشقراء، وراحوا يحصدون حرس البرج من البشر.
8
إن هذه المجموعة من المحاربين، بأسمائهم المهيبة وزيهم وشاراتهم القتالية، على موعد مع لحظة مجدهم. وحقيقة أن الانتصار يبدو مستحيلا تجعل بطولتهم أكثر تألقا وإشراقا؛ فأراجورن وشعبه سوف يكرسون أنفسهم للموت إن اقتضت الضرورة.
في رواية «الهوبيت»، يبدو أن بيلبو نفسه يحظى بالمجد من خلال القتال باستبسال؛ فترى بيلبو يهاجم العناكب المتوحشة بشجاعة وإقدام، ويتغلب عليها من أجل تحرير أصدقائه، وينجح في تحرير أصدقائه (مرة أخرى) بعد أن يتم أسرهم في ردهات ملك الجن تحت الأرض، ويتصدى لتنين فتاك مهلك، ويستخدم فطنته ومهارته ليتفوق بالحيلة على جولوم الخائن، وفي مخاطرة شخصية كبيرة يجبر ملكا متغطرسا على الموافقة على التنازل عن جزء من إرثه، على الرغم من أن هذا يكلف بيلبو ثروة.
وعلى الرغم من أن وجود كل هذه العناصر الخاصة بالمجد الكلاسيكي في أعمال تولكين الخيالية، فإنه يقدم لنا في الواقع نقدا لهذا التقليد. (2) الجمال أولا! ثم المجد!
كما أشرنا في بداية الفصل، كان أفلاطون متشككا بشأن السعي وراء المجد البطولي لأجل المجد ذاته. وربما كان هذا يعزى جزئيا لتجاربه وخبراته في الحرب البيلوبونسية (431-404ق.م) التي كانت معركة حياة أو موت بين أثينا وأسبرطة. كانت الحرب غير متصورة في وحشيتها، تاركة عشرات الآلاف من القتلى جراء العنف، والمرض، والجوع. وقاد الصراع - الذي لاقى دفاعا في البداية من قبل رجال الدولة الأثينيين باسم السيطرة الإمبريالية والمجد الخالد - إلى إبادة أثينا وانتحار الحضارة اليونانية.
عوضا عن المجد، حض أفلاطون على السعي وراء الجمال، والحقيقة، والخير؛ وهي القيم التي اعتبرها معززة للحياة بطبيعتها ومصدرا للابتكار والإبداع الأمثل. ويذهب أفلاطون إلى أنه من خلال الاستمتاع بالخير، نستطيع بشكل أفضل السعي وراء العدالة. وفي محاورته «المأدبة»، أثنى أفلاطون على قوة المجد، ولكنه أصر على أن الإبداع والإنتاجية الحقيقيين يوجدان في الاستمتاع بالجمال، وقد شبه حب الجمال بعملية التناسل على عكس حب المعركة.
لم يقم سقراط أو أفلاطون بتعليم اللاعنف التام؛ ففي طرحه عن الدولة المثالية في «الجمهورية»، اعترف أفلاطون صراحة بالحاجة إلى نظام عام ودفاع مسلح، غير أن الشيء الغائب هو نوع التباهي بالمجد الذي دفع بأثينا نحو الدخول في صراعها الكارثي مع أسبرطة. بل إن أفلاطون أوصى في نهاية كتاب «الجمهورية» بحياة هادئة مكرسة للفضيلة والحكمة وليس للسعي وراء النفوذ والمجد العسكري.
9
ومثلما رأينا، تحوي رواية «الهوبيت» وأعمال تولكين الخيالية الأخرى مكانا للمجد الكلاسيكي، ولكن المجد الحقيقي جرى تعريفه والتعمق فيه من خلال ربط أفلاطوني (ومسيحي) للمجد بالفضيلة، بما في ذلك فضائل التواضع، والرحمة، والتآلف، والإيثار .
حين يسأل ثورين جاندالف بشأن اتخاذ طريق خطر بعينه إلى مملكته المفقودة، يحذره جاندالف من ذلك قائلا :
قال الساحر: «لن يكون لذلك أي جدوى دون وجود محارب قوي، بل بطل. لقد حاولت أن أجد واحدا، ولكن المحاربين مشغولون بمحاربة بعضهم بعضا في أراض بعيدة، والأبطال في المناطق المجاورة نادرون، أو ببساطة ليس لهم وجود. فالسيوف في هذه المناطق كليلة في معظمها، والفئوس تستخدم من أجل قطع الأشجار، والدروع تستخدم كمهاد أو أغطية للصحون.»
10
يقع الاختيار على بيلبو للانضمام إلى ثورين والرفقة، ليس بصفته محاربا شديد البأس، ولكن بصفته لصا؛ مما يعد دورا كوميديا نسبيا. ومن ثم لا يمكن أن نتوقع من بيلبو تحقيق مجد في التقليد الحربي الكلاسيكي، مصداقا لما كتبه شيشرون: «الزي الحربي الذي يزين كل تماثيلنا تقريبا يعد دليلا آخر على ولعنا بالمجد في الحرب.»
11
وبعيدا عن مهمة بيبين القصيرة، كونه أحد أفراد برج حرس جوندور وفريق الهوبيت لتطهير الشاير، فإن المرة الوحيدة التي ارتدى فيها الهوبيت الملابس العسكرية في أعمال تولكين كانت عندما اتشح فرودو وسام بخوذات ودروع أوركية كبيرة الحجم بشكل مثير للضحك على سبيل التنكر في موردور.
لا تبدأ رواية «الهوبيت» بالطريقة التي قد يقدم بها ثورين نفسه؛ بالألقاب الأرستقراطية وأغان من الزمن القديم. فنحن لا نفتح الكتاب لنقرأ عن غضب ثورين وحنقه بالطريقة التي نعلم بها عن غضب أخيل في السطور الافتتاحية من «الإلياذة». ففي بداية كتاب تولكين نعلم أن الهوبيت قوم بسطاء هادئون ليس لهم أية مغامرات ولا يفعلون أي شيء غير متوقع؛ فهم يحبون أباريق الشاي، والغليون، والفطر، والجعة، والحقول المعتنى بها جيدا، والبيوت المريحة التي تشبه الجحور. وفي أول لقاء ببيلبو، يصفه أحد الأقزام بأنه يبدو «أقرب لبقال منه إلى لص!»
12
إن أقزام تولكين وجنه وبشره منجذبون لفتنة المجد والشهرة، ويبدو الأقزام على وجه الخصوص مغرمين بسمعتهم في صناعة الأسلحة، والأقداح، والقيثارات، وشتى أنواع الأشياء الثمينة. وفي بداية «الهوبيت»، بينما يغني الأقزام في الحفل المفاجئ في لاج إند، يتأثر بيلبو بامتداحهم للأشياء محل الرغبة:
بينما راحوا يغنون، شعر الهوبيت بحب للأشياء الجميلة المصنوعة باليد والدهاء والسحر يسري عبر جسده، حب عات تملؤه الغيرة، رغبة قلوب الأقزام. حينئذ استيقظ شيء مغامر بداخله، وتمنى لو ذهب وشاهد الجبال الشاهقة، وسمع حفيف أشجار الصنوبر وشلالات الماء، واستكشف الكهوف، وأمسك سيفا بدلا من عصا مشي. فنظر من النافذة ... وراح يفكر في جواهر الأقزام وهي تلمع في المغارات المظلمة.
13
إذن فإن بيلبو قادر بالتأكيد على أن يفتن بالأمجاد التي قد يظفر بها بسيف وكنز، وتغمره رهبة الثروة ومجدها حين يواجه ثروة سموج المسلوبة:
كان بيلبو قد سمع حكايات وأغاني عن كنوز التنين من قبل، ولكن لم تكن روعة مثل هذا الكنز وشهوته ومجده قد انتابته بعد. فكان قلبه عامرا ومخترقا بسحر الأقزام ورغبتهم؛ فراح يحملق دون أن يحرك ساكنا في الذهب الثمين الذي لا يحصى، ناسيا الحارس المخيف.
14
ولكن بينما يشعر بيلبو بفتنة المجد، فإنه لا يقع تحت إغرائها. وتتضح حصانة بيلبو المطلقة ضد إغراء المجد والشهرة الدنيويين في استجابته لحسرة داين على عدم حصول بيلبو على نصيب مجز من الثروة، فتأتي إجابة بيلبو زاخرة بالتواضع. ويبدو أيضا أنه يشير ضمنا إلى أن الثروة العظيمة بطبيعتها غير آمنة؛ إذ تميل لإثارة العنف:
قال بيلبو: «هذا كرم عظيم منك، ولكن في ذلك راحة لي حقا؛ فكيف ينبغي بحق الأرض أن أحمل كل هذا الكنز إلى الوطن دون وقوع حرب وقتل طوال الطريق؟! لا أعرف. ولا أعرف ما الذي ينبغي أن أفعله به حين أعود إلى الوطن! أنا على يقين من أنه من الأفضل أن يظل بين يديك.»
وفي النهاية يأخذ صندوقين صغيرين فقط، أحدهما مملوء بالفضة، والآخر بالذهب، وهو ما يستطيع حصان قوي حمله، وقال: «سيكون هذا في حدود قدرتي على التصرف فيه.»
15
حين يودع بيلبو الأقزام الذين نجوا من المعركة الكبرى، لا يودعهم وداع مقاتل صلد جازف بكل شيء من أجل خلق تحالف حقق النجاح. وتجد الأقزام يتحدثون عن مأدبة عظيمة سيقيمونها لبيلبو عند عودته، ولكن إجابة بيلبو تأتي عادية بشكل جذاب وليس بها أي لمحة بطولية:
بعد ذلك انحنى الأقزام أمام بوابتهم ، ولكن الكلمات علقت في حناجرهم. وفي النهاية قال بالين: «وداعا وحظا سعيدا أينما حللت. إذا عاودت زيارتنا، حين تعود ردهاتنا جميلة مرة أخرى، فستكون الوليمة فاخرة بحق.»
قال بيلبو: «إذا مررتم بطريقي، فلا تنتظروا حتى تطرقوا الباب! إن موعد الشاي في الرابعة، مرحبا بأي منكم في أي وقت!»
16
يقاوم بيلبو بذلك صنوف الإغراءات التي لازمت سيد مدينة البحيرة، وثورين، وسموج، والآخرين الذين يشتهون الأشياء والشهرة الدنيوية.
ولا شك أن شجاعة أراجورن المؤثرة معادلة لأفضل ما في قائمة الأبطال الكلاسيكية، ولكن لاحظ أن وقفته العظيمة قبالة بوابات موردور كانت لخلق نوع من التشتيت والإلهاء حتى يتمكن اثنان من الهوبيت الشجعان المتواضعين (بقدر يسير غير مقصود من العون من جولوم) من توجيه الضربة القاضية للعدو عن طريق تدمير خاتم القوة. ربما بدا بيلبو بقالا متواضع الحال بالنسبة للأقزام في بداية «الهوبيت»، وربما لم تبد لفرودو (وريث بيلبو) وسام (البستاني) أهمية تفوق أهمية أصحاب الحوانيت بالنسبة لسورون الشرير. ولكن يظل من الحكمة ألا تقلل من قيمة المجد الذي يمكن الفوز به من قبل أصحاب الحوانيت العاديين الذين لم تجر تنشئتهم من أجل خوض معركة أرستقراطية؛ فقد أشار نابليون ذات مرة إلى أن إنجلترا كانت أمة من أصحاب الحوانيت، غير أن هذه الأمة لعبت دورا حاسما وبالغ الأهمية في إنهاء سيطرته على أوروبا.
يتلقى فرودو وأتباعه من الهوبيت قدرا كبيرا من الإشادة والمجد في حفل تنصيب أراجورن في نهاية أحداث «سيد الخواتم»، ولكن هذه الإشادة ليست الإشادة ذات الصوت الأجش المميزة للمحاربين في التقليد الهوميري؛ فالمجد ليس إشادة بالقوة الطبيعية الخام، ولكن بالعظمة التي تتحقق على يد المتواضعين. فإنجاز بيلبو يوسع نطاق التصنيف الكلاسيكي للبطولة الموضح في المقال الكلاسيكي للمؤرخ البريطاني توماس كارلايل (1795-1881) «عبادة الأبطال».
17
يعرف كارلايل أنواعا عدة من الأبطال، بما في ذلك البطل، كصاحب صفة إلهية، ورسول، وشاعر، وقديس، وفنان، وكاتب، وحاكم. ولا بد أن تكون هناك فئة إضافية، ألا وهي البطل كهوبيت متواضع.
18 (3) تركيب وتغيير طبيعة الهوبيت
بينما ينتقد تولكين في روايته «الهوبيت» المفهوم الكلاسيكي للمجد، فإنه يحذرنا أيضا من خطر أن نكون شخصيات بيتية أكثر من اللازم، فيقول إنه لولا التجارب والمغامرات، لكان هناك القليل جدا للتحدث بشأنه:
إنه لشيء غريب، ولكن الأشياء الجديرة بامتلاكها والأيام الجديرة بقضائها سرعان ما يحكى عنها ولا يستمع إليها كثيرا؛ بينما الأشياء المزعجة والمثيرة للاضطراب، وحتى الشنيعة، تصلح كحكاية جيدة، وتستغرق قدرا كبيرا من الحكي على أي حال.
19
وتبدو الحكايات والمحادثات الجيدة هي العناصر الأساسية في توجيه جاندالف لبيلبو. لقد كان بيلبو بحاجة لمواجهة المغامرة والخطر؛ خشية أن ينزلق بشكل تام إلى الحياة المريحة الخالية من المغامرات التي يحياها جيرانه،
20
فمن دون مغامرة محفوفة بالمخاطر، ما استطاع جاندالف أن يقول (بعاطفة وتأثر): «عزيزي بيلبو! ... ثمة خطب بك! أنت لست الهوبيت الذي كنت عليه من قبل.»
21
لقد فاز بيلبو بالفعل بنوع من المجد وكرم بشكل رائع في مشيبه من قبل الجن في ريفيندل.
ولكن على عكس البطل الكلاسيكي، يحتفظ بيلبو بحب لجمال الأشياء المنزلية الصغيرة وسط كل مغامراته الخطرة والمدح الذي يحظى به. ربما يكون بيلبو قد فقد بعضا من ملاعقه الفضية الجميلة لدى عودته إلى شاير، ولكنه تعلم من بيورن درسا مهما عن القيمة المحدودة للمجد والثروة؛ فلم يكن بيورن منبهرا على الإطلاق بحب ثورين والرفقة للثروة الزائلة:
كان أغلب حديثهم عن الذهب والفضة والجواهر وصنع الأشياء بواسطة الحدادة، ولم يبد أن بيورن يعير أدنى اهتمام لمثل هذه الأشياء؛ فلم تكن هناك أشياء من ذهب أو فضة في ردهته، وعدا السكاكين كانت قلة من الأشياء مصنوعة من المعدن من الأساس.
22
ربما لم يكن تولكين يتبع أفلاطون عن وعي وإدراك في إخضاع المجد للخير والجمال، ولكن نهاية «الهوبيت» تلمح إلى تأكيد أفلاطوني على الجمال الدنيوي باعتباره السبيل لما هو مهم حقا في الحياة. فيقول جاندالف: «أنت شخص في غاية الروعة يا سيد باجنز، وأنا في غاية الإعجاب بك ، ولكنك في النهاية مجرد شخص ضئيل الحجم في عالم رحيب!»
فقال بيلبو ضاحكا: «شكرا لله!» وناوله برطمان التبغ.
23
إن هذا الحب للتبغ والوجبات والبساتين والأشياء البسيطة الأخرى هو ما يكبح جماح السعي وراء المجد المفرط.
كان سقراط وتلميذه أفلاطون سيتفقان مع ذلك. فالحديث في «المأدبة»، أشهر محاورات أفلاطون عن الحب والجمال، لا يدور على أعتاب معركة (كما هو الحال في «بهاجافاد جيتا»)، أو في معسكر حربي (كما في «الإلياذة»). فقد كان المكان عبارة عن حفل يحاول كل من المشاركين فيه التفوق على الآخرين في الحكمة وإعداد الخطب. فالجميع يشاركون في إنشاء فلسفة للحب، مع الاستثناء الشهير الذي يجسده مقاتل عنيد هو ألكيبيادس؛ إذ يظهر هذا الشاب المشهور بوسامته عاجزا عن حب الجمال حبا حقيقيا؛ فهو أفضل في الإغواء، والسعي وراء المتعة، والتعقب الشخصي للمجد، وهو طموح أفضى به في النهاية إلى تسليم أثينا لألد أعدائها؛ أسبرطة. لقد أشار أفلاطون وتولكين إلى الطريق لعالم أكثر بهجة.
24
هوامش
الفصل السادس
الفخر والتواضع في «الهوبيت»
لورا جارسيا
في بداية «الهوبيت»، يبرز بيلبو بفضل شخصيته العادية للغاية؛ فهو ميسور الحال بشكل مريح، ويعيش حياة هادئة وروتينية، ويقال لنا إنه لم يكن أحد ليصفه بالمغامر، على الرغم من الهراءات المشاعة بين بعض أقاربه لوالدته (عشيرة التوك). إنه رجل إنجليزي حقيقي من عدة نواح، يملك فضائل كرم الضيافة، والعزة، والكياسة.
يبدو بيلبو في البداية صورة للتواضع أيضا؛ إذ يفتح مخزن اللحوم خاصته لجاندالف والغرباء الثلاثة عشر الذين يحتشدون بمنزله في باج إند. ويقدم القهوة، والشاي، والنبيذ، والجعة، إلى جانب الكعك البذري، وفطائر اللحم المفروم والفواكه، وفطائر لحم الخنازير، والسلاطة، وكعك التفاح، وكعك السكونز بالزبد، والبيض، والدجاج البارد، والمخللات. ولكننا نجد أيضا أنه أينما وقع بيلبو في مشكلة خطيرة، يكون ذلك بسبب خروج إحدى صفاته الحميدة عن نطاق السيطرة بعض الشيء؛ مما يهدد بتحول إحدى الفضائل إلى رذيلة.
فإحساسه بالعزة والشموخ - على سبيل المثال - يجعله يشتعل غضبا حين يسترق السمع للقزم جلوين وهو يشكو من أن بيلبو «يبدو أقرب لبقال منه إلى لص». ويتم إخبارنا بأنه «فجأة يخطر له أن يستغني عن النوم والإفطار حتى يعتقد أنه عتي»، وهو ما يعد شرارة سخط واستياء لا يستهان بها من شخص كان يكره أن تفوته وجبة مثلما كان بيلبو يفعل. ويحذر جاندالف الأقزام قائلا: «إن بداخل هذا الهوبيت أكثر بكثير مما تعتقدون، وأكثر بكثير مما يعرفه هو ذاته.»
1 (1) الفضيلة في الأرض الوسطى
إن أهمية الفضيلة، أو الشخصية الأخلاقية، تجري كخيط عبر قصة مغامرة تولكين. من الواضح أن مقصد الكاتب لا يقتصر على التسلية والإمتاع فحسب، بل يمتد للتعليم والتوجيه، وبصفة خاصة دعم الادعاء القديم قدم سقراط (حوالي 470-399ق.م) على الأقل بأن الفضيلة تفضي إلى الازدهار، بينما تفضي الرذيلة إلى التدهور والانحدار. ويمكن تمييز النظريات الأخلاقية من خلال إجاباته على ثلاثة أسئلة جوهرية: (1) أي أنواع من الأحكام الأخلاقية هي الأكثر بساطة وجوهرية؟ (2) لم ينبغي أن أكون خلوقا؟ (3) ما الذي يجعل تصرفا ما صائبا أو خاطئا؟
فيما يتعلق بالسؤال الأول، ساند الفلاسفة اليونانيون نظرية أخلاقية تعرف الآن باسم «أخلاقيات الفضيلة»، التي جعلت الأحكام بشأن الشخصية الفاضلة أو الأفعال الفاضلة أساسية. ثمة مزاعم أخلاقية أخرى، بشأن ما هو جيد (أو قيم) والقوانين والواجبات الأخلاقية، يرجع أصلها إلى الأحكام المتعلقة بالفضيلة. فإذا كان على بيلبو واجب يلزمه بمحاولة حماية أصدقائه، على سبيل المثال، فهذا يعزى إلى كون الوفاء فضيلة. أما الغش في مسابقة ألغاز فهي أمر سيئ؛ لأن من الإثم أن تحاول أن تخدع شخصا ما.
فيما يتعلق بالسؤال الثاني، فقد ادعى أرسطو (حوالي 384-322ق.م) أن الحياة الفاضلة، بطبيعتها، هي الحياة التي تمكن أي شخص من بلوغ أقصى إمكاناته الكامنة. فالفضائل الأخلاقية هي سمات شخصية تؤدي إلى التحقيق الكامل للذات كحيوان عقلاني اجتماعي، وكل البشر بطبيعتهم يبحثون عن السعادة أو تحقيق الذات. ويرى أرسطو من وجهة نظره أنه ينبغي علينا أن نتصرف بشكل أخلاقي؛ لأن هذه هي الوسيلة الوحيدة لبلوغ تحقيق الذات، والرغبة في هذا النوع من الإشباع تقف وراء كل رغباتنا الأخرى.
وليس من قبيل المصادفة أن يعكس وصف تولكين لمنزل بيلبو الهانئ في باج إند، ولمملكة إلروند الأنيقة في ريفيندل؛ شخصية من يعيشون هناك. فحين ينزل أبطالنا إلى داخل الوادي في اتجاه منزل إلروند، يمكننا أن نسمع صوت المياه المتسارعة على الصخور الواقعة بالأسفل، ونشم رائحة أشجار الصنوبر والبلوط. ثمة وهج دافئ منبعث من النيران المشتعلة بالأسفل وغناء الجن بين الأشجار. وأخيرا نلتقي إلروند، ولا نندهش حين نعلم أنه «كان نبيلا وجميل المحيا كسادة الجن، وقويا كالمحاربين، وحكيما كالسحرة، ومهيبا كملوك الأقزام، ولطيفا كالصيف».
2
وأخيرا، وفيما يتعلق بالسؤال الثالث، تعتبر نظرية أرسطو عن الفضيلة أن الأفعال تستحق المدح أو اللوم الأخلاقي فقط بناء على النوايا والتوجهات التي تحفزها؛ فالحكم على أفعال الآخرين بأنها صحيحة أو خاطئة أخلاقيا يتطلب معرفة ما كانت «تحاول» فعله، حتى لو لم تنجح. والتصرف من منطلق دوافع فاضلة هو من قبيل التصرف الصائب، بينما التصرف من منطلق أي دافع فاسد، فهو تصرف خاطئ أخلاقيا.
في قصتنا، حين يطلق سراح الأقزام من البراميل التي كانوا يختبئون بداخلها، يواجهون صعوبة في العفو عن بيلبو لإتيانه بمثل هذه الخطة المزعجة للهروب، ويشعر قائدهم ثورين بالضيق بشكل خاص؛ حيث: «كانت هناك قشة مبتلة داخل لحيته المبتلة المترهلة، وكان يعاني من تقرح وتيبس بالغين، وتعرض لكدمات وضربات بالغة حتى إنه كان يستطيع بالكاد الوقوف أو المشي بتعثر عبر المياه الضحلة ليرقد على الشاطئ يئن ويتأوه.» ولكن بيلبو يرفض قبول اللوم على هذه النتيجة، وهو محق في ذلك؛ إذ إنه بالتأكيد لم يكن يقصد أن يشقي الأقزام؛ ومن ثم كانت إجابته المقتضبة على ثورين هي: «حسنا؛ هل أنت على قيد الحياة أم ميت؟»
3
يبدو واضحا أن تولكين، شأنه شأن أرسطو، يعمل من منطلق نظرية للفضيلة الأخلاقية؛ فأسمى إشادة لديه مدخرة للخلوقين، للشخصيات ذات الخلق، إذا جاز التعبير، وهؤلاء الأقوام يتخذون قراراتهم بالتفكير فيما إذا كانت الأفعال التي سيقومون بها أفعالا مخلصة، أو شجاعة، أم مجرد أفعال عادية للقيام بها. وغالبا ما يختار أبطالنا في رواية «الهوبيت» طريقا يعتقد الجميع حتى هم أنه من غير المحتمل أن يسفر عن نتيجة إيجابية ؛ فهو فقط الشيء الأخلاقي الذي يجب القيام به.
على سبيل المثال، حين يهرب بيلبو من كهوف الجوبلن، لا يكون لديه أدنى فكرة عما حدث لجاندالف والأقزام؛ لذا فمع تردده في العودة إلى داخل الأنفاق الجبلية المظلمة، نعلم أنه «قد حسم أمره بأن ذلك هو واجبه، وأنه لا بد أن يعود - وكم شعر بتعاسة وبؤس إزاء ذلك - حين سمع أصواتا».
4
ويسهل تعريف واجب بيلبو في هذا الموقف في إطار الفضائل؛ فالشيء الشجاع والمخلص الذي يجب القيام به في حالته هو القدوم لمساعدة أصدقائه.
5
إن شيئا مثل نظرية الفضيلة الأخلاقية لأرسطو من شأنها أن تبث الحياة في قدر كبير من قصة بيلبو، وحتى تولكين يصف المخلوقات المتعددة التي تسكن الأرض الوسطى عن طريق سرد سماتهم الأخلاقية إلى جانب صفاتهم الجسمانية. فحين نلتقي العمالقة، نجد أن «لغتهم ... لم تكن لغة الصالونات الرسمية التي لا تعرف الجدل مطلقا، مطلقا»، ويتبين أنهم فوضويون، ومولعون بالجدل، وليسوا أذكياء للدرجة الكافية. أما الجوبلن، على الجانب الآخر، فهم بارعون إلى حد ما، ولكننا نجدهم مقززين من البداية؛ إذ كانوا يجلدون ويقرصون الأقزام ويخططون لالتهام أحصنة الأقزام. ويخبرنا تولكين أن «الجوبلن قساة القلوب، وأشرار، وذوو قلوب حقودة»؛ ومن ثم يستغلون مهاراتهم لصنع أسلحة الدمار الشامل، مرغمين الكثيرين من أسراهم على العمل عبيدا حتى يموتوا من نقص الهواء والماء.
6
وليس ذئاب الورج الكبيرة الشريرة والذكية أفضل حالا، بل إنهم يتحالفون مع الجوبلن للتخطيط للهجوم على مستعمرات البشر القليلة التي لا تزال متبقية في ظلال الجبال الضبابية.
7
ولحسن الحظ، يوجد بالأرض الوسطى سكان أكثر نبلا، وأبطالنا ينتزعون - بمعنى الكلمة - من النار في مرحلة ما على يد ملك النسور وأصدقائه، على الرغم من أن «النسور ليست بالطيور الطيبة، والبعض منها جبناء وقساة، ولكن الجنس القديم بالجبال الشمالية كان أعظم الطيور أجمع؛ فقد كانوا فخورين بأنفسهم وأقوياء ونبلاء القلوب».
8
لقد التقينا إلروند بالفعل، الذي يعد نموذجا يجسد فكرة أرسطو عن «الرجل ذي الروح العظيمة»، ونثق بشكل غريزي وفطري في جاندالف أيضا، على الرغم من أن شخصيته ينبغي أن تدرك من أفعاله أكثر من الوصف المباشر له. (2) فخور أني هوبيت
تلعب الفضائل الأخلاقية بشكل جلي دورا مهما في رواية «الهوبيت»، وبشكل عام يقدم التواضع بوصفه فضيلة والفخر بوصفه رذيلة. ولكن ثمة استثناءات لذلك؛ فملك النسور يوصف بأنه شخصية متفاخرة، ومن الواضح أن هذا الوصف كان القصد منه في هذا السياق هو الإطراء (إذ تصاحبه صفات؛ مثل: «قوي»، و«كريم»). وقرب نهاية القصة، نلتقي بارد، وهو رجل ذو مهارة وشجاعة عظيمة يسقط سموج التنين بآخر سهم لديه، معلنا على مسامع الجميع: «أنا بارد سليل جيريون، أنا ذابح التنين!»
9
هذه ليست بالضبط صورة التواضع، على الرغم من أن بارد يستحق المدح والثناء بالتأكيد لبطولته.
غير أن الفخر، بعيدا عن هذه الأمثلة، يجسد بوصفه رذيلة، بل وباعتباره خلل الشخصية الفتاك الذي يؤدي إلى تدمير الأشرار؛ فنجد العناكب العملاقة تترك فريستها لملاحقة بيلبو الخفي؛ لما اعتراها من غضب وحنق بفعل تهكماته وإهاناته اللفظية، ويتمكن بيلبو من اكتشاف نقطة ضعف سموج من خلال مخاطبة غروره والثناء على حصانته الصلفة.
علاوة على ذلك، حين يصبح أبطال القصة على مقربة من الأسر أو القتل، فغالبا ما يكون هذا بسبب وقوعهم في قبضة الفخر والغرور بطريقة أو أخرى. فعندما يتحدث بيلبو إلى سموج، لا يستطيع مقاومة إغراء إبداء ملاحظة لاذعة لدى انصرافه بشأن سرقة بعض من كنز التنين. «لقد كانت ملحوظة غير موفقة؛ إذ دفعت التنين لنفث ألسنة لهب رهيبة وراءه»، وهذا الحدث هو ما أوجد المثل القائل: «لا تسخر أبدا من التنانين الأحياء.»
10
في النهاية، تتجدد شرارة الفخر لدى ثورين القزمي بعودته إلى موطن آبائه في الجبال، وهو ما يؤدي به إلى الدخول في نزاع لا داعي له مع قرويي مدينة البحيرة وجن الغابة على تقسيم كنز التنين؛ فيبدأ في الإشارة إلى نفسه بوصفه «ثورين بن ثراين، ملك أسفل الجبال»، ويمنعه مزيج من الفخر والطمع من إدراك عدالة مطالب الآخرين، بل إنه يخبر بيلبو قائلا: «إنك متشح بدرع من صنع قومي ، وهذا كثير عليك.»
11
في الواقع، يشير جون ريتليف، الباحث في أعمال تولكين، إلى أن «الفخر هو الخطيئة الأساسية في مبادئ تولكين الأخلاقية».
12
فإدخال النشاز على موسيقى إينور، وتمرد جن النولدور ضد الفالار، ووقوع جالادريل في الخطيئة، والمنفى الذي فرضته على نفسها في الجزيرة الوسطى، ومحاولة النيومينوريين التغلب على الموت بغزو المملكة المباركة، ورفض إيسيلدور الكارثي تدمير الخاتم بعد نزعه من يد السورون، ومحاولة سورون السيطرة على العالم وأن يعبد كملك إله، وفساد سارومان ورفضه الرحمة، ووقوع دينيثور في شرك الجنون واليأس الدافع للانتحار؛ كلها أمور عزاها تولكين لخطيئة الفخر.
13
على النقيض، دائما ما يكون التواضع فضيلة رئيسية في كتابات تولكين الخيالية. فعلى سبيل المثال، كان تواضع فرودو وسام الاستثنائي - قدرتهما النادرة الوجود على مقاومة إغراءات الخاتم للقوة والمجد - هو الشيء الوحيد الذي أدى إلى هزيمة سورون في «سيد الخواتم».
كان تولكين كاثوليكيا ورعا مخلصا، وتأثرت تجسيداته للفخر والتواضع بقوة بالرؤى المسيحية الكلاسيكية للفضائل والرذائل الأخلاقية. ففي الأخلاقيات المسيحية الكلاسيكية، ينظر إلى الفخر باعتباره واحدا من الخطايا السبع المميتة؛ بل يعتبر أكثر الخطايا السبع إهلاكا.
وقد كتب سي إس لويس، صديق تولكين وزميله في أكسفورد، أن الفخر هو «الخطيئة الكبرى»؛ لأنها تفصل المرء عن كل من الله وجيرانه من خلال خلق رؤية زائفة لمزايا المرء أمام الله، وتدنيس عمل الخير والبر من خلال دفع المرء لازدراء من هم أقل منه. وأضاف: «لا توجد خطيئة تجعل إنسانا مكروها بشكل أكبر، ولا توجد خطيئة نعي وجودها بشكل أقل في أنفسنا.»
14
ويعرف جون هاردون الفخر في «القاموس الكاثوليكي للجيب» بأنه «تقدير غير عادي للذات»، قد يتجلى بطرق عدة: «من خلال التباهي بالإنجازات وكأنها لم تكن في الأساس نتيجة الكرم والنعماء الإلهيين، ومن خلال التقليل من عيوب المرء أو ادعاء صفات لا يمتلكها بالفعل، ومن خلال التعالي على الآخرين أو ازدرائهم لافتقارهم ما يملكه الشخص المتكبر ، وعن طريق تضخيم عيوب الآخرين أو التركيز عليها.»
15
ولكن مثلما رأينا، لا يتحدث تولكين دوما عن الفخر بتعابير سلبية . وقد أشار لويس إلى أننا غالبا ما نمتدح الناس للشعور ب «فخر» له ما يبرره بالعائلة، أو الإنجازات، أو الإرث، أو المدرسة.
16
إذن هل يكون الفخر فضيلة تارة، ورذيلة تارة؟ إذا كان الأمر كذلك، فيبدو أننا نستخدم الكلمة بمعنيين مختلفين؛
17
فقد تعاملت نظرية أرسطو الأخلاقية مع الفخر باعتباره فضيلة، ولكن القديس توما الأكويني (1225-1274)، وهو فيلسوف كاثوليكي تبنى نظرية أرسطو باعتبارها صحيحة إلى حد كبير، اعتبر الفخر رذيلة.
لعل إحدى طرق حل هذا النزاع هي القول بأن الفخر فضيلة علمانية، ولكنه رذيلة دينية. ولكن الأكويني رفض هذا الخيار، بل ادعى أيضا أن هذا التعامل مع الفخر يتوافق مع نظرية أرسطو. ولكي نرى إذا ما كان ذلك صوابا أم لا، فإننا نحتاج لإلقاء نظرة عن كثب أكثر على المناقشات الأساسية لكلا المفكرين بشأن الفخر.
تعامل أرسطو مع الفخر في الكتاب الرابع، الفصل الثالث، من كتاب «الأخلاقيات النيقوماخوسية»، حيث رأى أنه فضيلة مرتبطة «بأمور عظيمة وجليلة» وترتبط بشكل خاص بمآثر عظيمة أو سمعة بالعظمة «الأخلاقية». يطلق بعض المترجمين على هذه الفضيلة «الفخر»، بينما يستخدم آخرون مصطلحي «النبل» أو «الشهامة». في ترجمة لدبليو دي روس، قال أرسطو: «إن الرجل الذي ينظر إليه الآن بوصفه متفاخرا هو ذلك الذي يظن نفسه جديرا بالأشياء العظيمة، جديرا بها حقا؛ لأن من يفعل ذلك مع عدم جدارته فهو أحمق، ولكن ما من رجل فاضل يتسم بالحماقة أو السخافة.»
18
إن الرجل المتفاخر على نحو من الفضيلة والعفة (وهو دائما رجل بالنسبة لأرسطو) يستحق أشياء عظيمة؛ ومن ثم يظن نفسه مستحقا لها. والأشياء العظيمة التي يقصدها أرسطو ليست أشياء مادية، ولكنها العزة والإباء، والعزة في حد ذاتها ليست مسألة شهرة أو سمعة سيئتين، ولكنها إدراك لقيمة حقيقية:
إذا تأملناه بشكل مفصل ومدروس، فسنرى السخافة المطلقة للرجل المتفاخر غير الصالح. ومرة أخرى لن يكون مستحقا للعزة والشرف لو كان شريرا؛ لأن العزة هي جزاء الفضيلة، وهي تئول للأخيار الصالحين. وهكذا يبدو الفخر أقرب لتاج يكلل الفضائل؛ إذ إنه يجعلها أعظم، ولا يكون له وجود دونها؛ لذلك من الصعب أن تكون متفاخرا بحق؛ لأن ذلك يكون مستحيلا من دون نبل الخلق وصلاحه.
19
عادة كان أرسطو يصف الفضيلة الأخلاقية باعتبارها نوعا من القيم المتوسطة بين قيمتين قصويين، حيث الطريق المعتدل، أو المتوسط، هو الفضيلة، بينما «الأكثر من اللازم» و«الأقل من اللازم» هما الرذيلتان المتناقضتان. في حالة الفخر، ثمة رذيلة واحدة تتخلل التفكير في إعطاء المرء نفسه تقديرا أعلى بكثير مما يستحق في الواقع؛ وقد أطلق أرسطو عليها «الصلف» أو «الحماقة». أما الرذيلة المضادة، فهي تقدير الذات بأقل مما تستحق، والتي يطلق عليها في ترجمة روس «التواضع المفرط».
أطلقت ترجمة مارتن أوستوالد لكتاب «الأخلاقيات النيقوماخوسية» على الفضيلة موضع النقاش «النبل» عوضا عن «الفخر»، بينما تطلق على الرذائل الموازية «الغطرسة» (أي تقدير النفس بأكثر مما يستحق المرء)، و«التصاغر» (أي تقدير النفس بأقل مما يستحق المرء). ويدافع أوستوالد في إحدى الحواشي عن استخدامه لكلمة «سمو» بدلا من الاختيار الشائع الآخر «نخوة»؛ لأن الكلمة الأخيرة لها معنى ضيق في اللغة الإنجليزية المعاصرة. ويشير إلى أن مصطلح أرسطو اليوناني
megalopsychia
يعني حرفيا «عظمة الروح»، وأن أرسطو قد استخدمه، مثلما رأينا، لوصف تاج من نوع ما يكلل الفضيلة المثالية.
20
كان أرسطو مقتنعا بأنه إذا كان شخص ما، في الواقع، يتسم بالفضيلة على نحو مثالي، فمن الملائم أن «نعتقد» أن هذا الشخص جدير بالعزة والشرف. وعلى الرغم مما قد يبدو من أن أرسطو كان يوصي بشيء قريب إلى الغرور لمن يتسمون بالنبل بحق، فقد كان سيصر على أنه «ما من عزة يمكن أن تكون جديرة بالفضيلة المثالية»؛ لذا من المستحيل لشخص صالح حقا (إذا كان له وجود) أن يبالغ في تقدير العزة المستحقة له.
21
ومع الاحترام للأشياء الخارجية من المتعة والثروة وما إلى ذلك، يتخذ الرجل ذو الروح العظيمة لدى أرسطو موقفا معتدلا تجاه هذه الأشياء؛ نظرا لقدرته على الاستمتاع بها، وقدرته في ذات الوقت أيضا على الاستغناء عنها. (3) الاعتذار وغذاء الروح
ما الذي فهمه الأكويني من رواية أرسطو ؟ لقد صعب الأمر على نفسه؛ إذ بدا في بعض التراجم أن أرسطو يتعامل مع الفخر بوصفه فضيلة والتواضع بوصفه رذيلة، بينما كانت الأمور تسير في الاتجاه المضاد تماما بالنسبة للأكويني. ولكن الأكويني اعتبر رواية أرسطو صحيحة بشكل عام، وحذا حذو «الفيلسوف» في التعامل مع الشهامة أو الفخر المستحقين تحت فئة الاعتدال العامة.
يغطي الاعتدال مجموعة من الفضائل الأكثر تحديدا، واعتبره اليونانيون واحدا من الفضائل الأساسية الأربع، إلى جانب الشجاعة والعدل والحكمة. ويتمثل دور الاعتدال في تنظيم الشهوات الطبيعية، التي من ضمنها الرغبة في الطعام، والشراب، والجنس، والعزة، والأفعال النبيلة.
وهكذا، وصف الأكويني - شأنه شأن أرسطو - التوجه الفاضل فيما يتعلق بالأفعال النبيلة بوصفه كفاحا مناسبا أو معقولا في سبيل أشياء عظيمة، وتقبل عظمة الروح باعتباره وصفا مناسبا لهذه الفضيلة. وأوضح الأكويني أن «الخير الصعب [ذلك الذي يصعب بلوغه] به شيء جذاب للشهوة، وهو تحديدا الجانب الخير، وبه كذلك شيء منفر للشهوة، المتمثل تحديدا في صعوبة الحصول عليه.»
22
والخير الصعب في هذه الحالة هو الفضيلة، أو الكمال الأخلاقي، وقد أضاف الأكويني أن ردي الفعل المعتادين اللذين نبديهما إزاء هذا الخير يتمثلان في فضيلتين متمايزتين نحتاج إليهما من أجل بلوغ هذا الخير؛ إحداهما تحضنا على مواصلة الكفاح من أجل نيل الخير، وهذه هي فضيلة عظمة الروح التي تحدث عنها أرسطو، والتي يمكن أن يطلق عليها أيضا نوع من الفخر المعقول بتحقيق هذه العظمة. أما الفضيلة الأخرى، فتمنعنا من الكفاح من أجل بلوغ نوع من التميز أو الكمال يتجاوز حدود قدراتنا، وتلك هي فضيلة التواضع.
23
ومثلما رأينا، وصفت نظرية الأكويني الأخلاقية إغراءين يمكن أن يختبرهما المرء حين يواجه بمهام صعبة، وهما: الاستسلام دون محاولة، والمغالاة في تقدير قدراته. ويساعد التواضع على منع الخطأ الأخير، وتزخر كل من الحياة العادية وقصص تولكين بأدلة على أهميته. ولكن أرسطو شدد بشكل أكبر على خطر التقليل من قدرة المرء على بلوغ عظمة الروح، ويتفق تولكين بشكل واضح مع أرسطو في هذه النقطة أيضا.
على سبيل المثال، على الرغم من أن الأقزام لم ينبهروا ببيلبو في لقائهم الأول، فإن رأيهم يتحسن بشأنه بشكل مثير بعد مواجهتهم غير الموفقة مع العناكب العملاقة؛ فحين يجد بيلبو أصدقاءه أخيرا بعد أن تفرقوا في ظلمات غابة ميركوود الحالكة، يجدهم مقيدين إلى رجل (أو قزم) بأنشوطات متشابكة كبيرة، تتدلى من الأشجار في منتصف عرين العناكب الشريرة. وبفضل ذكائه والخاتم السحري، يتوصل بيلبو إلى خطة لاستدراج العناكب بعيدا، ثم العودة مجددا لتحرير أصدقائه.
غير أن الجزء الأول من الخطة يسير على نحو رديء للغاية؛ إذ «عادوا بسرعة البرق يركضون نحو الهوبيت، ملقين خيوطهم الطويلة في كل الاتجاهات، حتى بدا الهواء وكأنه قد امتلأ بشراك متموجة.»
24
وسرعان ما فرض العناكب حصارا كاملا على بيلبو، إلا أنه يستجمع شجاعته للسخرية منهم بأغنية مهينة:
ها أنا ذا، ذبابة صغيرة مشاغبة،
وأنتم بدناء وكسالى.
لا يمكنكم الإيقاع بي مهما حاولتم،
في شباككم المجنونة.
25
يتمكن بيلبو من إحداث قطع في جزء ضعيف من دائرة الخيوط العنكبوتية بمساعدة سيفه. ومع أنه يتعرض للسعة، فإن معركة ضارية وطويلة تدور قبل أن يخرج مع الأقزام سالمين في النهاية؛ وبالطبع يشعر الأقزام بامتنان بالغ له، ويبدءون في تعليق آمالهم عليه من أجل قيادتهم. «في الواقع، راحوا يمتدحونه كثيرا حتى إن بيلبو بدأ في الشعور بأن به لمحة من مغامر جريء برغم كل شيء.»
26
ويبدو أن تولكين يقصد أن يجعلنا نتفق مع هذا الشعور وأن نفخر ببيلبو (بالمعنى الإيجابي لكلمة «نفخر») لكونه قد تأهل للدور الذي يتوقعه منه جاندالف. (4) الأبطال المتواضعون
نرى في بعض من الشخصيات الثانوية في القصة نماذج متشابهة لأبطال في طور التكوين؛ فحين يشن التنين سموج هجومه الناري العنيف على القرية، يبدأ الجميع تقريبا في الهرب من ألسنة اللهب، بالقفز في الماء الذي يحيط بالبلدة الجزيرية. حتى حاكم البلدة يترك المعركة من أجل البحث عن قاربه المطلي بالذهب؛ حتى يستطيع الهروب إلى مكان آمن.
ولكن رفقة من الرماة يصمدون. «كان قائدهم هو بارد ... أحد المنحدرين من السلالة الطويلة لجيروين، حاكم ديل ... كان يصوب آنذاك بواسطة قوس كبير من خشب الطقسوس حتى نفدت كل سهامه عدا واحد فقط. كانت ألسنة اللهب قريبة منه، وكان رفاقه يغادرونه تاركين إياه، فعقف قوسه للمرة الأخيرة.»
27
وعلى الرغم من أن أصدقاءه كانوا بالفعل «يعرفون قدره وشجاعته»، فقد كانت هذه الوقفة الأخيرة ضد التنين هي التي ينال فيها بارد المكانة التي يستحقها باعتباره يحوز مكانا مستحقا بين عظماء الروح. وحين يعلم الناس أنه ذبح التنين، يرغبون في تنصيبه ملكا عليهم، وعلى الرغم من أن بارد ليس لديه أدنى رغبة في أن يحل محل سيد مدينة البحيرة، فإننا نجده يضع خطة لكي يقود مجموعة من الرجال نحو الشمال ويعيد بناء مدينة ديل المتوارثة عن أجداده.
لعل القزمين المفضلين لدي بين جميع الأقزام هما فيلي وكيلي؛ لكونهما الأصغر بينهم، ولأنهما ليسا عرضة للافتتان بكنز التنين. فحين يرفض ثورين اقتسام الكنز مع أهل المدينة وجن الغابة، «لم يكن الآخرون ليجرءوا على انتقاده؛ ولكن معظمهم في الواقع كانوا يشاركونه الرأي، فيما عدا بومبر العجوز البدين (قزمي المفضل الآخر) وفيلي وكيلي».
28
وحين يصاب ثورين إصابة قاتلة في المعركة، نعلم أن «فيلي وكيلي هرعا للدفاع عنه بكل ما أوتوا من قوة؛ لأنه كان الأخ الأكبر لوالدتهما».
29
لا يذكر أي شيء آخر سوى ذلك عن ذلكما الاثنين، ولكننا نتأثر بشجاعتهما وإخلاصهما، وبشكل ما لا نتعجب من أنهما قد تحولا إلى أبطال حرب الآن. غير أن موتهما يعيد أيضا إلى الأذهان وصفا سابقا للمعركة الدامية: «خلف ثورين يرقد بين الجوبلن الكثير من القتلى من البشر والأقزام، والعديد من الجن الذين لا بد أنهم عاشوا لأزمنة طويلة في سعادة بين جنبات الغابة.»
30
حتى ثورين ذاته - الذي كان شخصية أكبر سنا وأكثر تعقيدا - يستسلم لإغراء لإظهار الفخر الزائف؛ إذ يقدم على الاعتقاد بأنه ورفاقه لهم الحق في امتلاك كنز التنين بأكمله، ويرفض الاستماع للجن والبشر الذين يرغبون في المطالبة بنصيبهم العادل من الغنائم، بل يفكر في الحنث بوعده بإعطاء بيلبو نصيبا من الكنز قدره واحد على أربعة عشر . وينجو ثورين من هذه الدوامة الأخلاقية الانحدارية بفضل هجوم جيش الجوبلن الذي يوحد الأقزام والبشر والجن في معركة يائسة ضد أعدائهم المشتركين.
كان الجن والبشر هم أول من ينخرطون في الهجوم، ويحققون بعض النجاح المبدئي في صد هجوم الجوبلن، ولكن في وقت لاحق من اليوم تشن موجة جديدة من الجوبلن هجوما، بمشاركة مجموعة من الذئاب و«الحرس الشخصي للبلوج، وهم جوبلن ضخام الحجم بسيوف محدبة من الفولاذ».
31
ومع اقتراب الظلام، بدأ بارد وقواته يخسرون المعركة، حين «انطلقت فجأة صيحة كبيرة وجاء من البوابة صوت نفير. لقد نسوا ثورين! ... ووسط الظلام الدامس تألق القزم العظيم مثل الذهب في نيران محتضرة».
32
دون أن يعبأ بالخطر الذي يواجهه، «انهال ثورين ببلطته بضربات قوية، وبدا أن لا شيء يضيره، وراح يصيح بصوت مرتعش كصوت بوق في الوادي:
33 «إلي! إلي! أيها الجن والبشر! آه يا قومي»!» يقود ثورين حشدا قويا ضد الجوبلن والذئاب، ولكن تأتي النجاة لأبطالنا في النهاية فقط بعون قادم من أعلى في شكل النسور، وهي نفس المخلوقات النبيلة التي أنقذت جاندالف والرفقة من النيران التي أشعلها الجوبلن في الغابة. ولا ننس أن طائرا حكيما عجوزا آخر - وهو طائر الدج - هو من يأتي لبارد بسر نقطة الضعف الوحيدة للتنين. غير أن قصة تولكين تجعلنا نشعر أن الأمر يستحق أن ندافع عن الصواب والخير حتى عندما يكون بلوغ هذا الخير صعبا، مثلما قال الأكويني؛ بل حتى عندما يشكل تهديدا لحياة المرء.
غير أن الدراما الرئيسية في القصة تتعلق ببيلبو وتحوله من شخص بيتي متشبث بالروتين وأسباب الراحة المادية، إلى بطل ينطلق في رحلة بحث (ليس بمفرده بالطبع) لذبح تنين شرير يأكل البشر. ففي بداية الكتاب، حين يخبر جاندالف بيلبو قائلا: «أنا أبحث عن شخص ما ليشارك في مغامرة أعد لها، ومن الصعوبة بمكان أن أجد أي شخص»، يسارع بيلبو بالرد عليه قائلا: «أعتقد ذلك، خاصة في هذه المناطق! فنحن قوم بسطاء هادئون لا حاجة لنا في المغامرات؛ فتلك أشياء قميئة ومزعجة وغير مريحة!»
34
ولكنه يسمح لنفسه في النهاية بأن يغرق في المغامرة ويعود إلى باج إند هوبيت مختلفا تماما، بعد أن حارب في سبيل حياته وحياة أصدقائه ضد العناكب العملاقة، والعمالقة، والجوبلن، والذئاب، والتنين القوي. وبالإضافة إلى هذه الأعمال البطولية التي تنم عن الشجاعة والمهارة، فقد واجه حنق رفاقه الأقزام في محاولة لم يكتب لها النجاح للتوسط لإحلال السلام بينهم وبين رجال داين، وهو عمل شجاع حظي بثناء وإشادة جاندالف: «أحسنت يا سيد باجنز! ... دائما ما تتضح لديك أشياء أكثر مما يتوقعها أي شخص.»
35
وعلى الأرجح تشمل كلمة «أي شخص» هنا بيلبو نفسه!
بالنظر إلى تحفظ بيلبو في البداية، قد يبدو أنه متهم بالغطرسة والغرور في محاولته الإقدام على أعمال عظيمة تتجاوز قدراته، ولكن بيلبو يمثل الغالبية العظمى من الأشخاص العاديين الذين قد لا يبحثون عن الإثارة، ولكن غالبا ما يتصدون لأعمال تنم عن البطولة والإيثار في مواجهة خطر أو كارثة. ولعلنا جميعا نملك في داخلنا أشياء تفوق توقعات أي أحد. غير أن بيلبو يعتبر بطلا على مضض، على أقصى تقدير، وحين يعود إلى وطنه يعلق سيفه فوق المدفأة ويسعد نفسه بعد ذلك ب «كتابة الشعر وزيارة الجن».
36
وخوفا من عودة بيلبو للتقدير المبالغ لنفسه، يأتي جاندالف في زيارة له، مثلما فعل في بداية القصة، ويتساءل بتأكيد نوعا ما: «أنت لا تفترض حقا أن كل مغامراتك ومهاربك كانت بفعل الحظ لا أكثر، ولمصلحتك أنت فقط، أليس كذلك؟»
37
إن نسب مثل هذا النجاح البارز للحظ أو (ما هو أسوأ) لعظمة المرء، من شأنه أن يبرز نوع الفخر المعرف أعلاه بأنه «التباهي بالإنجازات، وكأنها لم تكن في الأساس نتيجة الكرم والنعماء الإلهيين». وافتراض أن الأمور قد آلت إلى هذا المسار الجيد بفضل أهمية المرء الشخصية سيكون علامة واضحة على الفخر، فخر من النوع الذي قد يقع فيه المرء دون وعي كامل منه. وكما يتبين، لا يحتاج جاندالف للقلق بشأن بيلبو على أي حال؛ فالقصة تنتهي مثلما بدأت، بمحادثة بين صديقين قديمين. وحين يواصل جاندالف حديثه قائلا : «أنت شخص في غاية الروعة يا سيد باجنز، وأنا في غاية الإعجاب بك، ولكنك في النهاية مجرد شخص ضئيل الحجم في عالم رحيب.» يرد بيلبو ضاحكا: «شكرا لله.» ويناوله برطمان التبغ.
38
هوامش
الفصل السابع
«خاتمي الثمين»
تولكين والحديث عن مخاطر الاستحواذ
آنا ماينور وجريجوري باشام
تمزج رواية «الهوبيت» بين العديد من الأجناس الأدبية؛ فهي حكاية من حكايات الجن عن عالم سحري تقطنه كائنات سحرية؛ مثل: الجن، والأقزام، والتنانين. وهي قصة مغامرات تبرز أخطارا ورحلات هروب تقشعر لها الأبدان بوصفها جزءا من رحلة بحث محفوفة بالمخاطر عن كنز محفوظ. وهو كتاب أطفال يسعى لتعليم القراء الصغار قيما أخلاقية كاملة؛ قيما «عتيقة الطراز»؛ مثل: الإخلاص، والشرف، والشجاعة، والرحمة، والجود، والتواضع.
ولعل من أحد أوضح الدروس الأخلاقية في الكتاب هو أهمية وضع الأشياء «الثمينة»؛ مثل: الخواتم الذهبية، والجواهر المدهشة، وكنز التنين في سياق أخلاقي ملائم. ومن خلال رسمه النابض بالحياة للشخصيات الاستحواذية؛ مثل: جولوم، وسموج، وثورين، وسيد مدينة البحيرة. يحذر تولكين قراءه الصغار من مخاطر المادية المفرطة والطمع. (1) الثمن الاجتماعي للطمع
الطمع، بحسب التعريف الكلاسيكي لتوما الأكويني (1225-1274)، هو «حب جامح للثراء».
1
ونظرا لأنه ينطوي على رغبات جامحة أو مفرطة، فإن الطمع بطبيعة الحال دائما ما يكون رذيلة، أو خللا أخلاقيا.
إذن؛ ماذا يقصد أمثال جون ستوسل، وإيفان بوسكي، وجوردون جيكو في العالم حين يصرحون في تجاسر بأن «الطمع أمر جيد».
2
إنهم يقصدون أن المصلحة الشخصية ووجود رغبة واشتهاء للثروة غالبا ما تكون لهما نتائج جيدة في اقتصادات الأسواق الحرة؛ أن بفضل الطمع، تطلق مشروعات جديدة، وتخلق وظائف ذات أجر مجز، وتنقل السلع للأسواق بكفاءة، وتطور عقاقير تنقذ الأرواح، وتمول حسابات التقاعد، ويتمكن محبو الخير من المنح بجود وسخاء لقضايا تستحق.
3
ربما يكون كل هذا صحيحا، وربما كان الأكويني سيعترف به؛ فحين تحدث عن الطمع (أو «الجشع» في التراجم التقليدية)، كان يشير إلى سمة خلقية متطرفة بطبيعتها؛ أي غير متوازنة وضارة. وقد كان يركز على الحالة الداخلية لروح الشخص الجشع، وليس على آثار السلوك الجشع على المجتمع. كما أنه لم ينكر أن الطمع، شأنه شأن الحسد أو الفخر، أحيانا ما يخلف نتائج جيدة في العالم.
وبحسب الأكويني، يعد الطمع من الرذائل، أو مثلبة خلقية، لسببين: أنه يتعدى على واجبنا في حب جيراننا، ويتعدى على التزامنا بحب أنفسنا.
4
بعبارة أخرى، الطمع رغبة أو نزعة مبالغة؛ لأنه يميل إلى إلحاق تأثيرات ضارة بالآخرين وبأنفسنا.
لنتأمل كيف يمكن للطمع أن يؤذي الآخرين. أدرك الفلاسفة قبل زمن طويل أن الحب المفرط للثروة يعد سببا أساسيا للحرب، والعنف، والجريمة، والاستغلال، والفساد، والأضرار البيئية. كم عدد الحروب التي اندلعت بسبب غنيمة أو نهبة؟ وكم عدد الجرائم التي كان الدافع وراءها رغبة في كسب غير مشروع؟ وكم عدد النظم الاجتماعية الاستغلالية التي بنيت على أساس من الجشع والطمع؟
كتب القديس توماس مور (1478-1535) في رائعته الكلاسيكية «يوتوبيا»، أنه لو ألغي المال، «فما أكثر الجرائم التي يمكن اقتلاعها من جذورها! ... الاحتيال، السرقة، السطو، المشاجرات، المشاحنات، الاضطرابات، جرائم القتل، الخيانة، القتل بالسم، ومجموعة كاملة من الجرائم ... كل ذلك كان سيختفي في الحال. لو اختفى المال، فسيختفي معه الخوف، والاضطراب، والقلق، والعناء، والأرق».
5
والمشكلة، حسب اعتقاد أفلاطون (حوالي 428-348ق.م) لا تقتصر على نظم اجتماعية أو اقتصادية بعينها، بل تمتد جذورها إلى طبيعة الإنسان ذاتها؛ فقد لاحظ خلال فتراته المضطربة أن:
من واقع حب شره للذهب والفضة، سوف ينحني كل إنسان لأي فن أو اختراع، سواء أكان مناسبا أم غير مناسب، على أمل بلوغ الثراء؛ ولن يبدي أي اعتراض على القيام بأي عمل سواء أكان خيرا أم آثما وفي غاية الخسة والدناءة، فقط لو امتلك القدرة - مثل حيوان متوحش - على أكل وشرب كل أنواع الأشياء، وضمن لنفسه بكل الطرق إشباع شهوته.
6
كم من أضرار اجتماعية تتأتى من دوافع البشر الجشعة، حتى إن الفلاسفة اليوتوبيين - بدءا من أفلاطون مرورا بالقديس توماس مور وصولا إلى كارل ماركس (1818-1883) - قد طرحوا المجتمعات الاشتراكية الراديكالية باعتبارها العلاج الوحيد الممكن. ثمة مفكرون آخرون، مثل الفيلسوف اليوناني الكلبي ديوجينيس (حوالي 412-323ق.م)، والفيلسوف الصيني لاو تزو (القرن السادس قبل الميلاد)، والفيلسوف الطبيعي هنري ديفيد ثورو (1817-1862)؛ استنكروا بحدة جمع المال، وأوصوا بدلا منه بحياة من البساطة والاعتماد على النفس تتناغم مع الطبيعة. وقد كان بيورن ذاته أغلب الظن سيتفق في الرأي مع ملحوظة ثورو الشهيرة عن أن «الإنسان ثري بالتناسب مع عدد الأشياء التي يمكنه الاستغناء عنها.»
7
وكان على الأرجح أيضا سيعجبه شعار لاو تزو الذي يقول: «الثري هو من ينعم بالرضا والقناعة.»
8
وتعد فكرة أن الطمع يمكن أن يفضي إلى الصراع والحرب؛ فكرة محورية في رواية «الهوبيت»؛ فنجد أن سعي ثورين النهم وراء كنز التنين ورفضه المتعنت لاقتسام أي جزء منه مع الأطراف الأخرى المستحقة له كاد يؤدي إلى معركة عنيفة ثلاثية الاتجاه بين الأقزام، والجن، ورجال البحيرة. ولا يتم تفادي هذه المعركة إلا بسبب الهجوم الذي تتعرض له الفرق الثلاث المتناحرة من جانب الجوبلن، الذين كانوا هم أيضا مدفوعين جزئيا برغبتهم في الكنز.
9
ولا يعود ثورين إلى صوابه إلا عندما يرقد محتضرا ليدرك أن «العالم سيكون أكثر بهجة» لو فضل المزيد منا المتع البسيطة على الجواهر المتلألئة.
وإلى جانب ما يؤدي إليه الطمع من حرب، وجريمة، وعنف، فإنه يمكن أن يفسد العلاقات الإنسانية بطرق لا حصر لها. فكما يشير الكاتب صاحب أفضل الكتب بيعا هارولد كوشنر، قد يعزلنا الطمع عن الآخرين من خلال خلق تركيز أناني بل استحواذي أيضا على رغباتنا؛ عوضا عن احتياجات الآخرين.
10
وثمة أعمال أدبية عظيمة، على غرار «البخيل» لجان باتيست موليير، و«يوجين جرانديت» لهنري دي بلزاك، و«سايلاس مارنر» لجورج إليوت، و«ترنيمة عيد الميلاد» لتشارلز ديكنز ترسم صورة حية نابضة بالحياة تصف إلى أي مدى تعمد العقلية المادية المفرطة إلى عزلنا وإبعادنا عن الآخرين، بمن فيهم من أحبائنا. تذكر - على سبيل المثال - كيف يفضي بخل سكروج، في رواية تشارلز ديكنز، إلى حياة منعزلة خالية من أية بهجة، بينما يقوم باستغلال موظفه الفقير الهزيل الأجر بوب كراتشت، بجشع وطمع.
في «الهوبيت»، يعد جولوم نموذجا متطرفا للنتائج الانعزالية للاستحواذ النهم المستنزف؛ فترى جولوم يعيش وحيدا بلا أصدقاء على جزيرة وسط بحيرة متوسطية يحفها الظلام والبرد. وفي «سيد الخواتم»، نعلم أن جولوم قد امتلك خاتمه السحري بدافع من رغبة دموية، وأنه قد استخدم الخاتم في السرقة وارتكاب أفعال أخرى شريرة، وأنه في النهاية طرد من جماعته على يد جدته.
11
وقبل مواجهته مع بيلبو، يكون قد عاش وحيدا في الجبال الضبابية لأكثر من 450 عاما.
12
وخلال كل هذه الفترة، نخرت الرغبة في الخاتم عقل جولوم وأفسدت إرادته. حتى بيلبو، على الرغم من غدر جولوم الخبيث، لم يستطع أن يمنع نفسه من الشعور ب «حسرة ممزوجة بالرعب» بينما كان يتدبر في حياة جولوم الزاخرة بالحزن والوحدة والشقاء.
13
وتقدم النهاية المأساوية لحاكم مدينة البحيرة - التي تعد صادمة نوعا ما بالنسبة إلى كتاب موجه للأطفال - مثالا آخر للنتائج المترتبة على الطمع من عزلة وغربة؛ فيقال لنا إن الحاكم كان ما نطلق عليه الآن المحرك؛ هو سياسي تقدمي ذو عقلية اقتصادية أعطى «عقله للتجارة والمكوس، للبضائع والذهب»، بدلا من «الأغاني القديمة».
14
وحين تهاجم مدينة البحيرة من قبل التنين، يهرب الحاكم الجبان في قاربه المطلي بالذهب ويخلع من منصبه تقريبا من قبل أهل البحيرة («لقد اكتفينا من العجائز ومحبي عد الأموال ... فلتسقط حقائب النقود».)
15
في النهاية يتغلب جشع الحاكم عليه وينتهي نهاية سيئة. «أعطاه بارد الكثير من الذهب من أجل مساعدة أهل البحيرة، ولكن لكونه من النوع الذي من السهل أن يلتقط مثل هذا المرض، وقع تحت سيطرة داء التنين، وأخذ معظم الذهب وفر به، ومات جوعا في الخراب، بعد أن هجره رفاقه.»
16 (2) الثمن الشخصي للطمع
في الأخلاق المسيحية، يعتبر الطمع واحدا من الخطايا السبع المهلكة، بل «أصل الشر»
17
أيضا. ويطلق عليه «أصل» الشر؛ لأن امتلاك أكداس من المال - كما يشير الأكويني - يتيح للمرء ارتكاب أي خطيئة تقريبا.
18
وعلى مدى قرون، أشار الفلاسفة والمفكرون الدينيون إلى طرق عدة يمكن للحب النهم للثراء من خلالها أن يقود شخصية المرء للانحراف وإفساد روحه.
وقد أشار الفلاسفة بدءا من بوذا (560-480ق.م)، مرورا بالفلاسفة اليونانيين الكلبيين، وصولا إلى ثورو؛ إلى أن الطمع يخلق نوعا من الاعتماد النفسي، أو ارتباطا بالشيء محور رغبات المرء. ففي الولايات المتحدة ذات الطابع الريفي في القرن التاسع عشر، كان هناك بما لا يرقى للشك «القليل من الضوضاء والمزيد من الخضرة» مقارنة بما نجده الآن. ولكن حتى في ذلك الحين كان يتضح مع الوقت أن السعي وراء «الحياة الجيدة» المثقلة بالديون والاستهلاك العالي يمكن أن تصبح بمثابة سباق جرذان، يخسر فيه المرء حريته وجودة حياته على حد سواء. وفي ذلك كتب ثورو يقول:
تنقلت كثيرا في كونكورد، وفي كل مكان - في المحال، والمكاتب، والحقول - بدا لي أن الناس يكفرون عن ذنوبهم بآلاف الطرق اللافتة للنظر ... فحشود البشر يحيون حياة من القنوط الصامت ... كم من أرواح خالدة مسكينة قابلتها كانت شبه محطمة ومدمرة تحت وطأة عبئها، زاحفة عبر طريق الحياة ودافعة أمامها حظيرة مساحتها خمسة وسبعون في أربعين قدما، لا تعرف إسطبلاتها القذرة للنظافة طريقا، ومائة فدان من الأرض الزراعية، بما تتضمنه من حرث، وجز للحشائش، ومرعى وأخشاب! ... من جعلهم عبيدا للأرض؟ ... إنها حياة الحمقى، كما سيرون حين يصلون إلى نهايتها، إن لم يكن قبل ذلك.
19
في «الهوبيت» نرى الآثار المرهقة للاستحواذ والامتلاك ممثلة في كل من الخاتم وداء التنين الذي يصيب ثورين والحاكم. فنجد جولوم عبدا للخاتم؛ فهو «خاتمه الثمين» الذي يهوس به طوال النهار والليل (فقط في «سيد الخواتم»، بالطبع، نعلم مدى استعبادية الخاتم). كذلك يسبب داء التنين - وهو رغبة طاغية في كنز التنين المسحور - نوعا من الاشتهاء الاستحواذي يشوش على تفكير ضحاياه ويأسر قلوبهم. بيلبو وحده المحصن إلى حد كبير ضد هذا الداء، ومع أنه «خال من الطموح أو الطمع في الثروة» على نحو غير مألوف مثل معظم الهوبيت، فحتى هو يراوده في بعض الأحيان شعور بالافتتان القوي بالكنز.
20
أشار الفلاسفة كذلك إلى كيف أن الطمع غالبا ما «يخلق» مزيدا من الرغبات والاحتياجات مما يشبع؛ فقد لاحظ الكاردينال جون هنري نيومان أن «حياة انقضت في جمع المال هي حياة من الحرص»، أي هي حياة قلق واضطراب وهم.
21
والأشخاص الجشعون هم أشخاص حاقدون؛ فهم دائما ما يقارنون أنفسهم بالآخرين، ويحسدون من يملكون أكثر منهم، ودائما ما يساورهم القلق إزاء فقدان ما يملكون، ويفكرون ليل نهار في كيفية الحصول على المزيد.
الأسوأ من ذلك - مثلما يشير الفيلسوف المعاصر توم موريس - أن الطمع يميل، على عكس معظم الرغبات، لأن يكون مستعصيا على الإشباع؛ فمهما يملك الأشخاص الجشعون، فدائما ما يريدون المزيد. ويشير موريس إلى أن مع المال:
لا يمكن لمفهوم «الاكتفاء» أن يكون له الغلبة أبدا. ما المبلغ الكافي من المال؟ إن كل من أعرفهم ممن يملكون القليل يريدون المزيد، ولكن الأكثر إثارة في الأمر أن جميع من أعرفهم ممن يملكون الكثير يرغبون في المزيد. ذات مرة سأل أحد الصحفيين جون روكفيلر عن كم يلزم إنسانا من المال كي يعيش سعيدا، فأجاب قائلا: «أكثر قليلا مما يمتلك.»
22
ويقدم جولوم مثالا توضيحيا رائعا يبين كيف يؤدي الاستحواذ والامتلاك إلى حياة مضطربة؛ فجولوم - كما يقال لنا - «رقد لزمن طويل على الخاتم، ودائما ما كان يخشى سرقته».
23
وقد «اعتاد أن يرتديه في البداية إلى أن أتعبه؛ وحينئذ صار يحتفظ به في جعبة ملاصقة لجسده إلى أن تسببت له في تقرحات؛ والآن صار في العادة يخبئه في الصخرة على جزيرته، ودائما ما كان يعود ليمتع عينيه بالنظر إليه».
24
إن رغبته في الاستحواذ والامتلاك، المدعومة بالتأثير الفاسد للخاتم، مفهومة؛ فهو يتحدث إلى الخاتم. إنه يمنحه الطعام، إنه يمنحه القوة، إنه يمنحه حياة طويلة بشكل غير طبيعي، إنه يوفر له الأمان، إنه خاتمه الثمين وترتكز عليه حياته بأسرها، غير أنه من الواضح أن الخاتم لا يمنح جولوم السعادة، بل يجلب له التعاسة والقلق والاتكال على الغير.
وتقدم البوذية عدسة غير غربية لنتفحص من خلالها الشخصيات الجشعة أمثال جولوم. وثمة فارق كبير بين الفكر المسيحي والبوذي يظهر في مفهوم النفس؛ فعلى عكس الفهم الغربي الشائع للجسد المادي والنفس الروحانية، تكمن الرؤية البوذية في عدم وجود نفس، فيرى البوذيون أن أي مفهوم للنفس والآخر هو مفهوم خيالي ولا يتجاوز كونه مجرد تجل للعقل. ولكن بعيدا عما يؤدي إليه من النفور أو الفساد الأخلاقي على السواء، يؤكد هذا الفهم أن أفعال المرء وتوجهاته لها أهمية ضخمة. ويكمن تفسير هذا التناقض في المفهوم البوذي المحوري عن «التانها» أو التعلق أو التشبث الأناني؛ فيؤمن البوذيون بأننا:
استحواذيون، وجشعون، وحاقدون، وخائفون؛ لأننا نعتقد أن لدينا نفسا لها احتياجات ورغبات وحقوق لا بد أن تحترم وتلبى. يقول البوذيون إننا مخدوعون بشأن هذه النفس. وتعلقنا بالفكرة هو سبب كل مشكلاتنا، والسبب في تجسدنا لحياة من المعاناة مرارا وتكرارا. وحين نكف عن التعلق بفكرة النفس، يمكننا أن نتطور على المستوى الروحاني ونبلغ «النرفانا» أو السعادة المطلقة، التي تعني اندثارا لكل مظاهر الاشتهاء من شأنه أن يمنح تحررا هانئا.
25
بحسب الحقائق الأربع النبيلة في البوذية، يعد هذا الاشتهاء الأناني السبب الرئيس لمعاناة الإنسان وسخطه؛ ومن ثم فإن الفهم الصحيح للواقع (الأناتا، أو اللانفس) يجلب الحرية ويمنع المشاعر الأنانية المؤلمة، وهو يؤدي إلى كل من الحكمة (براجنا) والشفقة والرحمة (كارونا)؛ ومن ثم يسعى إلى تقليل المعاناة في العالم. ويقف ذلك على طرف النقيض من الطمع الذي - في ظل سعيه لزيادة قوة ومقتنيات نفس لا وجود لها - يرجع أساه إلى وهم.
لذلك فإن السبب المطلق وراء الأفعال المؤلمة في البوذية ليس الإثم المرتكب إراديا، وإنما الجهل (أفيديا)؛
26
فالجاهل فقط هو من يعيش بمثل هذا الأسلوب المضلل الخادع ويزيد المعاناة. وهكذا، يصبح الطمع في البوذية مظهرا للجهل والوهم؛ إنه نتاج التمرغ في وحل الجهل، الذي يتضمن بدوره الوقوع في أسر التعلق القائم على إشباع شيء ما لا وجود له حقا (النفس). وحين يحل الفهم الصحيح محل الوهم والضلال، يمكن أن تتوقف مظاهر الوهم والانخداع (مثل الاستحواذ والطمع)، وحين لا يتم بلوغ الفهم الصحيح، نصير مثل جولوم.
إذن فالطمع، من منظور تولكين، يعد خللا خلقيا كبيرا، ليس فقط لأنه يغذي الكثير من الحروب وأفعال العنف والظلم، ولكن أيضا لأنه يقدم وعدا زائفا بالسعادة؛ فالطمع مثل سراب في الصحراء، دائما ما ينحسر بعيدا تماما في اللحظة التي نعتقد فيها أننا نقترب منه. وعلى الرغم من أننا كثيرا ما نرى الأثرياء والمشاهير يحيون حياة فوضوية خارجة عن السيطرة، فإننا لا نعي الدرس الواضح من هذا أبدا. أمامك تماما، على مسافة بعيدة عنك قليلا، دائما ما يصدر السراب إشاراته وإغراءاته. (3) مساكن غريبة
لو لم يكن الطمع والاستحواذ طريقين للسعادة الدائمة والمجتمعات القوية التي تنعم بالسلام، فما الطريق لهما إذن؟! يجسد تولكين في رواية «الهوبيت» أربعة مجتمعات تنعم بالسعادة والنظام: شاير، وريفيندل إلروند، ومملكة الغابة الخاصة بجن الغابة، و«مساكن بيورن الغريبة» مع أصدقائه الحيوانات في غابة أشجار البلوط. في موضع آخر، قام واحد منا باستقصاء أسرار الجن للسعادة والمجتمعات المنظمة؛
27
لذا دعونا هنا نستعرض بيورن وبيلبو.
بيورن هو مخلوق يستطيع أن يغير شكله؛ إذ يستطيع من خلال سحره أن يغير نفسه متى شاء إلى هيئة دب عملاق. يحيا بيورن، مع أصدقائه من الحيوانات الذكية المتكلمة، حياة من البساطة الريفية الطبيعية، حيث يقوم بتربية النحل من أجل عسلها، ويتناول غذاء نباتيا، ويتجرع الكثير من شراب الميد المخمر منزليا من آنية شرب خشبية كبيرة، ويرفض صيد الحيوانات الداجنة أو البرية أو أكلها.
ومثلما يشير مايكل برانيجان في الفصل الثاني، توجد تشابهات مثيرة بين تجسيد تولكين لبيورن وبين الفلسفة الطاوية الصينية القديمة؛ فقد شدد الحكماء الطاويون مثل لاو تزو جوانج زي (369-286ق.م) على السعي وراء السعادة والسلام الداخليين من خلال حياة من البساطة، والتناغم مع الطبيعة، والسكينة، والبعد عن الكفاح، والتوفيق بين الضدين (الين واليانج).
مثل بيورن، غالبا ما كان أساتذة الطاوية الأوائل يحيون حياة منعزلة مثل المعتكفين في الغابات، مفضلين حياة من بساطة الطبيعة على تصنع الحضارة وضغوطها ونفاقها. ومثل بيورن، سعى الحكماء الطاويون إلى التغلب على الازدواجيات مثل الطبيعة والإنسان، والإنسان والحيوان. ومثل بيورن، لم يهتموا كثيرا ب «الذهب، والفضة، والجواهر، وصياغة الأشياء بواسطة الحدادة»؛
28
لأن صوت الطاو - حسب اعتقادهم - يسمع في نسمات الصيف الرقيقة ورقرقة الينابيع الجبلية، وليس وسط زئير المواقد الهادرة، أو المطارق الرنانة. ويقول لاو تزو:
ما من كارثة أعظم من الطمع؛
فهذا الذي يقنع بالقناعة يظل قنوعا دوما.
29
في رواية «الهوبيت»، لا نلقي سوى نظرة سريعة على شكل الحياة في الشاير؛ ثمة صورة أكثر اكتمالا توجد في «سيد الخواتم» وأعمال أخرى لتولكين. في هذه الأعمال نعرف أن هوبيت الشاير يعيشون حياة ريفية بسيطة في مجتمعات زراعية شديدة الترابط، وهم يجدون متعة جمة في المتع البسيطة؛ مثل: الأكل، والشرب، وتدخين الغليون، والبستنة، وحضور الحفلات، وممارسة الألعاب، وكتابة وتلقي الخطابات، وتدوين شجرة العائلة، والتجمع في حانات القرية مع الأصدقاء والعائلة.
ونظرا لما يتمتعون به من مرح، ومرونة، وكرم ضيافة، ومهادنة بطبيعتهم، فليس لدى الهوبيت حكومة للحديث عنها، ولا توجد قوانين أو جريمة تقريبا، حتى إن معظم الهوبيت لا يغلقون أبوابهم ليلا، وحتى نشوب معركة بايووتر في نهاية «عودة الملك»، لم يقدم هوبيت واحد على قتل آخر متعمدا في شاير.
30
فنظرا لعدم ثقتهم بالتكنولوجيا، وتمتعهم بحرية الامتلاك بشكل غير اعتيادي، يجمع بين الهوبيت حب عميق للشاير، وينعمون بالرضا والقناعة بحياتهم البسيطة ومجتمعاتهم غير الميالة للتغيير بشكل عام. إن حياتهم، بشكل جوهري، تشبه حياة الأميش، فيما عدا أنها تتضمن قدرا أقل من الدين ومزيدا من الجعة.
ويعد السخاء من أكثر سمات الهوبيت جاذبية وروعة؛ فالهوبيت يحبون تقديم الهدايا، بل إنهم «يقدمون» الهدايا في أعياد ميلادهم بدلا من تلقيها.
31
حتى بيلبو نفسه هوبيت سخي، وينمو على هذا الصعيد بشكل متزايد مع تواصل أحداث القصة؛ ففي بداية القصة، نعلم أن بيلبو «هوبيت ميسور الحال» يعيش بمفرده في نفق كبير ومريح للغاية للهوبيت يحوي الكثير من الغرف: «غرف نوم، وحمامات، وقباء، وغرف تخزين (بعدد كبير)، وخزانات ملابس (كانت لديه غرف كاملة مخصصة للثياب)، ومطابخ، وغرف طعام».
32
لاحظ استخدام صيغ الجمع: غرف تخزين ، ومطابخ. لا شك أنك قد فهمت الفكرة؛ لقد كان بيلبو موسرا.
كل هذا يوحي بأن بيلبو كان شخصية تلذذية بعض الشيء تستمتع بكل ما توافر لها من أسباب الراحة المادية والرفاهيات، وربما كانت به مسحة استحواذية لدرجة غير مألوفة لدى الهوبيت. لا شك أن بيلبو يتأثر أثناء «الحفل المفاجئ» بأشكال «جواهر الأقزام وهي تتلألأ في الكهوف المظلمة».
33
وفي مرحلة ما يتقمص «أسلوبه العملي» ويصر على أن يسمع بشكل مباشر وواضح عن «المخاطر، والتكاليف العينية، والوقت اللازم، والأجر، وما إلى ذلك».
34
ولكن أثناء مغامرته، ينمو بيلبو في نواح عديدة، بما فيها الكرم؛ فتنازله عن الأركنستون - وهي حجر كريم يساوي «أكثر من نهر من الذهب» - يعد فعلا ينم عن جود هائل (ناهيك عن الشجاعة).
35
علاوة على ذلك، يرفض بيلبو، بعد استعادة الكنز، أن يأخذ نصيبه الموعود من الكنز، مكتفيا بصندوقين صغيرين، أحدهما مليء بالذهب والآخر بالفضة (إلى جانب نصيب من ذهب العمالقة المدفون، الذي يستعيده هو وجاندالف خلال رحلة عودتهما إلى الشاير).
في «سيد الخواتم»، نعلم أن بيلبو قد تبرع بكل ما يملكه من كنز التنين تقريبا، وأن حفل عيد ميلاده الحادي عشر بعد المائة التوديعي كان احتفاء بهذا السخاء المفرط. وبعد ستة وسبعين عاما من عودته من رحلته إلى الجبل الوحيد، وهب بيلبو كلا من ستينج (وهو سيفه) وقميصه المدرع المصنوع من «الميثريل» لفرودو، وهي هدايا فخمة بحق؛ لأنه لولاها لما نجا فرودو من رحلته إلى موردور.
يتبين من كل هذا وضوح رسالة تولكين الأساسية: كن سخيا. استمتع بالطعام والمرح والغناء، وليس بالذهب المكتنز. أحص ثروتك بقدر ما لديك من نعم، وليس بقدر ما تملكه من مقتنيات مادية. احترم حكمة التقاليد الراسخة وطرق الحياة، ولا تفترض أن كل التغيير يكون بالضرورة للأفضل. ركز على جودة الحياة، وليس على عدد اللعب التي تمتلكها. تحر التبسيط، ثم التبسيط، ثم التبسيط.
إنها رسالة قديمة، كما رأينا، صرح بها العديد من الفلاسفة والحكماء، غير أنها رسالة جاءت في وقتها تماما.
هوامش
الفصل الثامن
حرب تولكين العادلة
ديفيد كايل جونسون
الحرب ضرورة حتمية حينما ندافع عن أرواحنا ضد مدمر سوف يلتهمنا جميعا؛ إلا أنني لا أحب السيف البراق لحدته ، ولا السهم لسرعته، ولا المقاتل لمجده، بل أحب فقط ما تدافع عنه هذه الأشياء؛ مدينة بشر نومينور.
فارامير، في «البرجان»
1
تزخر أعمال تولكين الخيالية بمشاهد المعارك والحرب،
2
وسواء أكانت هذه المشاهد للمعارك الضخمة في «السليمارية» التي أعادت صياغة الأرض الوسطى وتشكيلها بمعنى الكلمة، والبحث عن إيربور، ومعركة الجيوش الخمسة في «الهوبيت» التي أنقذت ريفيندل وشاير في النهاية؛ أم المعارك الثلاث العظيمة في «سيد الخواتم»، فدائما ما يكتب تولكين عن الحرب بمصطلحات مثيرة للمشاعر وبطولية في الغالب.
ربما تتخيل أن تولكين كان يعتنق مفاهيم رومانسية للحرب، ولكن ليس الأمر كذلك؛ فبوصفه ضابطا بريطانيا في الحرب العالمية الأولى، أصبح على معرفة وثيقة وحميمة بأهوال الحرب وخرابها. حتى تولكين ذاته حارب في معركة السوم (1916)، التي سقط فيها ما يزيد على مليون شخص ما بين قتيل وجريح، وكان من بينهم جندي نمساوي كان يدعى أدولف هتلر، والذي أصيب بجراح بفعل قذيفة بريطانية قبل ثلاثة أسابيع من إصابة تولكين بحمى الخنادق ومنعه من القتال.
وكما بين الباحثان في أعمال تولكين جانيت برينان كروفت وجون جارث، فثمة أصداء عدة لخبرات تولكين في الحرب في أعماله الخيالية. على سبيل المثال، كانت المستنقعات الميتة، بما تحمله من جثث لا حياة فيها مزقتها الحرب تبرز من برك الماء، تعكس تجربة تولكين مع رؤية آلاف الموتى على الجبهة الغربية.
3
لا يمكن لأحد ممن يقرءون قصة تولكين المفجعة عن معركة نيرانيث أرنوديد (معركة الدموع التي لا تحصى) أن يتخيل أنه كان يمجد الحرب أو يحمل عنها أفكارا رومانسية.
4
ولكن بالرغم من هذا، كان تولكين بالفعل يعتقد أن الحرب أحيانا ما يكون هناك ما يبررها أخلاقيا؛ فدفاع الروهيريم عن هيلمز ديب، وتدمير الإنتس لأيزناجارد، وحشد جاندالف لقوات جوندور للدفاع عن المدينة، وجمع أراجورن لجيش الموتى للقدوم لمساعدة ميناس تيريث، قدمت كلها بوصفها أفعالا نبيلة وبطولية. وكما يقول سام في النسخة الفيلمية من «البرجان»: «ثمة بعض الخير في هذا العالم يا سيد فرودو، وهو يستحق القتال من أجله.» لقد كان تولكين سيتفق مع هذا الرأي بكل تأكيد.
ولكن ليست كل نماذج الحرب والاقتتال في كتابات تولكين نبيلة أو واضحة أخلاقيا؛ فقد بدأت معركة الجيوش الخمسة، وهي المعركة الفاصلة في «الهوبيت»، بسبب الكنز في النهاية، وكان الموقف على النحو التالي مثلما تذكر: يموت سموج، ويحل الدمار بمدينة البحيرة، ويحاصر ثورين ورفاقه مع كنز التنين في الجبل الوحيد، فيفكر ثورين في أن الكنز ينبغي أن يكون ملكا لهم وحدهم؛ لأنه أخذ بالقوة من أسلافهم، ولكن بارد ورفاقه من أهل مدينة البحيرة يعتقدون أنهم يستحقون أن يؤدى لهم جزء من الكنز كدين.
إن بارد ليس وحده؛ إذ يدعمه ملك الجن (ثراندويل، والد ليجولاس) وجيش من جن الغابة. فالجن في الأساس ينطلقون إلى الجبل الوحيد؛ لاعتقادهم أن الكنز قد يكون بلا حراسة ومهيأ للاستيلاء عليه، ولكن بعد رؤية محنة رجال البحيرة، يقرر الجن مساعدتهم، بل القتال أيضا نيابة عنهم لمعاونتهم على استعادة جزء لا بأس به من الذهب؛ فيقوم ثورين بطلب تعزيزات، ويظهر أقزام التلال الحديدية للدفاع عن حقوق الأقزام في الكنز. ويرفض ثورين المساومة، وتستعد الجيوش للقتال.
وبينما الجيوش الثلاثة على وشك خوض الحرب والاقتتال، يظهر جاندالف ويحذرهم من أن جيشا ضخما من الجوبلن، والوارج، والذئاب، والخفافيش المصاصة الدماء على وشك الهجوم. كان الجوبلن غاضبين لموت الجوبلن الأكبر، ولكنهم مهتمون كل الاهتمام بالكنز وغزو الشمال؛ فتقرر جيوش البشر والأقزام والجن أن جاندالف على حق، فينحون خلافاتهم جانبا ويوحدون القوات. وحين تبدأ الأمور في أخذ منحى سيئ، ينقض جيش النسور الضخمة لإنقاذ الموقف، ومعهم بيورن المتحول، وبمجرد الفوز بالمعركة، يبدي الجميع مشاعر الود والتعاون ويقومون بتقسيم الكنز. لا يوجد شيء مثل عدو مشترك لحل أي نزاع.
هل كان لهذه المعركة ما يبررها؟ لنستعرض معا ما قاله الفلاسفة عن أخلاقيات الحرب لنرى إن كانت هذه الحرب ذات قيمة بالغة بحق؟ (1) الحرب! بم تفيد؟
يذهب دعاة السلام إلى أن الحرب غير مقبولة تحت أي ظروف؛ فحياة الإنسان غالية في حد ذاتها، وفي الحرب تسلب حياة البشر عمدا؛ لذا يخلصون إلى أن الحرب لا يمكن أبدا أن يكون لها ما يبررها. وغالبا ما يشير دعاة السلام إلى عدد الأبرياء الذين يقتلون في الحرب - سواء دون قصد أو غير ذلك - لتعضيد رأيهم، ويشيرون كذلك إلى أن المقاتلين في الحرب غالبا ما يكونون أشخاصا أبرياء. ففي النهاية، عادة ما يرغم المقاتلون على القتال من قبل حكوماتهم، وكانوا سيفضلون البقاء في الوطن مع أسرهم. وأخيرا يذهب دعاة السلام إلى أن العنف لا يمكن أبدا أن يحل أي شيء؛ فالحرب دائما ما تضر أكثر مما تفيد، وحتى على الرغم من أن الحرب قد تبدو أنها تحل مشكلات، فهي تخلق دائما مشكلات أكبر.
5
ولكن المعارضين لدعاة السلام لديهم إجابات معقولة؛ فهم يقولون إن حياة الإنسان غالية، ولكن ألا يعني هذا أن المرء لديه مبرره في الدفاع عنها؟ إذا كان بإمكانك أن توقف قتل الآلاف من الأبرياء في روهان ببساطة عن طريق قتل سارومان، أفلا ينبغي أن تفعل؟! وإذا لم تفعل، ألست بذلك تحط من قيمة الحياة الإنسانية؟! قد يقتل أبرياء في الحرب، ولكن أليس قتل بعض الأبرياء أفضل من ترك آلاف الأبرياء، أو شعب كامل، يقتلون؟!
ويذهب دعاة السلام إلى أنه ليس واضحا أن العنف لا يحل أي شيء «مطلقا»؛ فملايين الناس لقوا حتفهم في أوروبا إبان الحرب العالمية الثانية، ولكن لو لم يكن الحلفاء قد قاتلوا وانتصروا، لربما غزا هتلر معظم العالم وأفنى اليهود. ألم تكن هزيمة الفاشية ووقف الهولوكوست يستحق ذلك؟! وعلى الرغم من أن العديد من مقاتلي العدو أبرياء من حيث إنهم أرغموا على القتال من قبل حكوماتهم، فإنهم يحاولون قتل شخص آخر. أليس للمرء حق في الدفاع عن نفسه؟! إذا ما تعرضت دولة مسالمة لغزو، أفلا يكون لها حق في الدفاع عن نفسها؟! وألن يكون مقبولا أن تهب الدول الأخرى لمساعدتها بإجبار الغزاة على التراجع؟
قادت مثل هذه الاعتبارات الفلاسفة القدامى والمفكرين المسيحيين الأوائل لوضع نظرية الحرب العادلة، التي تضع الشروط التي يمكن في ظلها أن تكون الحرب مبررة أخلاقيا. ثمة جانبان لنظرية الحرب العادلة؛
6
الأول: «حق خوض الحرب»، وينص على الظروف التي بموجبها تكون الحرب مبررة. والثاني: هو «الإدارة الصحيحة» خلال الحرب، وينص على الوسائل التي يمكن بها أن تخاض الحرب على النحو الذي يجعلها عادلة.
حاول القديس أوجستين (354-430) التوفيق بين الحرب وتعاليم المسيح الداعية للسلم، وطورت حججه لاحقا على يد توما الأكويني (1225-1274)، وطورت مرة أخرى على يد فلاسفة وعلماء لاهوت أحدث. وعلى الرغم من وجود صور مختلفة من نظرية الحرب العادلة، فإن هناك عناصر مشتركة عديدة بين التأويلات المتعددة.
تركز معايير «حق خوض الحرب» على الهدف من الحرب؛ وهي كالتالي: لكي تكون الحرب عادلة، فلا بد أن يبدأ خوضها من قبل «سلطة شرعية»؛ فإن لم تكن أنت قائد المجموعة، فلا يحق لك أن تدعو هذه المجموعة إلى الحرب. ولا بد أن يكون وراء الحرب «سبب عادل»؛ فالغيرة الشخصية أو الغرور (مثل رفض ثورين اقتراحات بارد المنطقية)، أو اشتهاء السلطة والقوة (مثل جنون العظمة لدى سورون) ليست أسبابا عادلة للحرب. غير أن التصدي لهجوم غير مبرر أو انتزاع للسلطة (مثل مناوشات فارامير العديدة عبر جوندور) له ما يبرره.
لا بد أن يكون الهدف من الحرب «متناسبا»، بمعنى أن الفوائد المتوقعة من خوض الحرب لا بد أن تفوق الضرر الذي ستضطر لإيقاعه. في الواقع، لا بد أن تكون «واثقا بشكل معقول من أن بإمكانك الفوز بالحرب» قبل أن تخوضها؛ فإذا علمت أنك ستخسر، فسوف يحقق الاستسلام نفس الشيء ولكن مع خسائر أقل في الأرواح. لا بد أيضا أن تكون الحرب هي «الملاذ الأخير»؛ فإذا استطاعت العقوبات الاقتصادية أن تحقق نفس النتائج، فينبغي أن تستعين بها بدلا من الحرب.
ولعلنا نرى تولكين يستخدم مفهوم العقوبات الاقتصادية لمنع الحرب في الأحداث المؤدية لمعركة الجيوش الخمسة. كان داين قد وصل لتوه من الجبال الزرقاء مع جيش كبير من الأقزام، وقابل بارد رسول داين، وفي ذلك يكتب تولكين ما يلي:
بالطبع، رفض بارد السماح للأقزام بالتوجه مباشرة إلى الجبل؛ إذ كان عازما على الانتظار حتى يتم إخراج الذهب والفضة في مقابل الأركنستون؛ لأنه لم يصدق أن هذا سيحدث، إذا امتلأت القلعة مرة واحدة برفقة كبيرة ومسلحة على هذا النحو.
7
ما إن تبدأ أية حرب، تحدد نظرية الحرب العادلة قواعد لتحديد كيف يمكن أن تدار على نحو عادل. وتركز معايير «الإدارة الصحيحة» على إجراءات عسكرية محددة في الحرب؛ وهي كالآتي: لا بد أن تكون الإجراءات العسكرية الفردية «موجهة بشكل صحيح» نحو «هدف عسكري مشروع»، ولا بد أن تكون «متناسبة». ويشير التناسب في هذه الحالة إلى إجراء عسكري محدد؛ فلا بد أن تكون الفائدة المستمدة منه تفوق الضرر الذي سيوقعه، ولا بد أن يسبب القدر الأدنى من الضرر اللازم لتحقيق الهدف.
مرة أخرى، نجد أن «السلطة الشرعية» مطلوبة؛ فلا يمكن لإجراء عسكري أن يتم بشكل مبرر دون موافقة ملائمة. بالإضافة إلى ذلك، لا بد أن يكون الإجراء «ضروريا» و«كافيا» بالنسبة للهدف العسكري؛ فلا بد أن يكون الهدف العسكري غير قابل للتحقيق إلا باستخدام القوة فقط. وأخيرا، لا بد أن يظهر الإجراء العسكري «تمييزا»؛ فمهما كان الهدف، فلا يمكن أن يكون غير المقاتلين هم الهدف المقصود لأي إجراء عسكري.
غير أن المعايير ما هي إلا خطوط استرشادية؛ فلا تخبرنا المعايير مثلا بما يعتد به كسبب عادل. هناك أمثلة واضحة لما يعتد به في هذا الصدد، مثل الدفاع القومي ضد معتد مخرب. ولكن ماذا عن استرجاع وطن للأجداد من قوة محتلة رسخت أقدامها هناك منذ زمن طويل؟ وماذا عن حرب وقائية ضد تهديد خارجي خطير ولكنه غير مؤكد؟ وماذا عن إيقاف انتشار الأيديولوجيات المتعصبة التي تنكر حقوق الإنسان الأساسية؟
علاوة على ذلك، هذه المعايير الخاصة بالحرب العادلة لا ينطبق عليها مبدأ «كل شيء أو لا شيء». فإذا ما أعلن قائد دولة الحرب على قوة معتدية، في ظل علمه بأن جيشه يمكن أن يصد الغزو ولكنه سيحارب بتهور واستهتار على الأرجح؛ فقد يظل إعلانه الحرب أخلاقيا؛ كل ما في الأمر أن حربه ليست عادلة كما يمكن أن تكون. بالإضافة إلى ذلك، إذا كان أحد الجنود يعلم أن فصيلا آخر من الجيش يستخدم قوة أكبر من اللازم لتحقيق الهدف، فهذا الجندي ليس ملزما بأن يعلن أن الحرب غير عادلة، ويلقي سلاحه ويعود إلى وطنه.
يمكن لأي حرب أن تظل عادلة، ويكون لأي جندي مبرره في القتال فيها، حتى لو لم تكن تطابق كل المعايير. وكما يشير تولكين نفسه، حتى لو كان أراجورن وقوات الغرب تحت تأثير اليأس «قد قاموا بتنشئة الأورك أو توظيفهم، ودمروا أراضي بشر آخرين بمنتهى القسوة والغلظة باعتبارهم حلفاء لسورون، أو لمجرد منعهم من مساعدته، كان مبررهم سيظل حقا غير قابل للنقض».
8 (2) معركة الجيوش الخمسة
مع اعتبار هذه المبادئ التقليدية للحرب العادلة، دعونا نتساءل الآن إن كانت معركة الجيوش الخمسة لها ما يبررها. يمكن تقسيم السؤال الخاص بتبرير المعركة إلى جزأين؛ أولا: دعنا نتساءل هل كان لدى البشر أو الأقزام أو الجن مبررهم في الاقتتال على الكنز.
كان كل جيش تحت قيادة سلطة شرعية - فكان الأقزام تحت قيادة ثورين وداين، والبشر تحت قيادة بارد، والجن تحت قيادة ثراندويل - وبذلك يتم الوفاء بهذا المعيار. ولكن هل كانت ملاذا أخيرا؟ هل كانت الوسائل متناسبة؟ وهل كانت هناك فرصة للنجاح؟ في حالة البشر، تبدو الإجابة هي نعم؛ فقد تفاوضوا بحسن نية مع ثورين طويلا قبل اللجوء في النهاية إلى القوة، حتى إنهم استخدموا الأركنستون كورقة مساومة لمنع القتال.
وكما يشير ثراندويل، كان لدى قوات الجن والبشر مجتمعة فرصة ممتازة للفوز بالحرب، وبالنظر إلى أن رجال البحيرة كانوا بحاجة إلى نصيبهم من الكنز لإعادة بناء مدينتهم، كان ضرر الحرب سيصبح مبررا بحجة إعادة الإعمار (على الرغم من أنني أسلم بديهيا بأن مثل هذه الأمور من الصعب تحديدها). علاوة على ذلك، كما يشير بارد، كان جزء من الكنز قد سرقه التنين من جده جيريون حاكم ديل، وكان الأقزام هم من جلبوا هجوم التنين على مدينة البحيرة، وساعد رجال البحيرة الأقزام حين كانوا في حاجة للمساعدة؛ وكان بارد، وليس الأقزام، هو من ذبح التنين؛ ومن ثم قام بنقل الكنز.
يعد الجن حالة مختلفة قليلا؛ فبادئ ذي بدء، هم ليسوا مختلفين عن الجوبلن؛ فهم يظهرون للاستيلاء على الكنز؛ لاعتقادهم أنه بلا حراسة، ولكن بعد أن يصلوا ويرون محنة البشر، يغيرون رأيهم ويعرضون مساعدتهم. حتى ثراندويل، وهو ملك على «شعب طيب وعطوف»، يبدو أنه يعترف صراحة أنه لا ينبغي أن تخاض الحرب إلا بوصفها ملاذا أخيرا وفقط إذا كان بالإمكان الفوز بها.
9
فحين يقترح بارد مهاجمة الأقزام مع اقترابهم من الجبل، يقول ملك الجن ما يلي:
لسوف أتأنى طويلا قبل أن أبدأ هذه الحرب من أجل الذهب. لا يمكن للأقزام أن يسبقونا ما لم نشأ نحن ذلك، أو يفعلوا أي شيء لا يمكننا ملاحظته. دعونا نظل نتمنى أن يحدث شيء يجلب المصالحة. سوف تكون أفضليتنا في العدد كافية، إذا تحتم علينا في النهاية اللجوء للعنف البغيض.
10
يبدو موقف الأقزام، في المقابل، غير مبرر بالقدر ذاته؛ فلم يكن قتالهم بالتأكيد ملاذا أخيرا؛ إذ كان بإمكانهم ببساطة التخلي عن نصيبهم من الكنز الذي طلبه بارد المقدر بواحد على اثني عشر. في الواقع، يبدو أن الأسباب الأساسية لقتالهم هي الطمع والغرور، وبالتأكيد لا يدخل الأمران في عداد الأسباب العادلة. علاوة على ذلك، كان الأقزام هم من بدءوا العداوات الفعلية؛ فكما يقول جاندالف، لم يكن ثورين «يصلح لأن يكون رمزا مهيبا هكذا كملك لما تحت الجبال».
11
بعد ذلك نحتاج لأن نتساءل إن كانت معركة الجيوش الخمسة التي وقعت بالفعل مبررة. لا شك أن الجوبلن على الجانب المخطئ؛ إذ إن أيا من دوافعهم (الانتقام لمقال الجوبلن الأعظم، والطمع، والرغبة في السيطرة والهيمنة) ليست أسبابا عادلة.
غير أن البشر والجن والأقزام يخوضون حربا للدفاع عن النفس (والدفاع عن الآخرين) بشكل واضح ضد مجموعة من الغزاة الدمويين السفاحين؛ وهو ما يعد سببا عادلا تماما. وتبدو الشروط الأخرى مستوفاة أيضا ؛ فالتحالف المضطرب يعلم أنه لا مساومة مع الجوبلن الغاضبين، وأنهم جميعا سوف يقتلون ما لم يردون القتال بقتال؛ ومن ثم يبدو القتال ملاذا أخيرا ومتناسبا. وبالنظر إلى أن لديهم ثلاثة جيوش، فإن فرصة النجاح معقولة؛ لذا فإن قتالهم يبدو مبررا. ولما كان النسور وبيورن يساندون مبررهم العادل، فيبدو أن لديهم ما يبرر قتالهم أيضا.
بشكل عام، تؤكد نظرية الحرب العادلة ما كان معظمنا - ومعظم قراء تولكين الصغار - سيعتقده حول ما لمعركة الجيوش الخمسة وما عليها. لقد كان الأقزام يتصرفون على نحو خاطئ ومعيب في عدم اقتسام الكنز، وكان الجوبلن يتصرفون على نحو يفتقد العدالة في محاولتهم الاستيلاء على الكنز الذي لم يكن ملكا لهم، بينما كان الجن والأقزام والبشر يخوضون معركة عادلة ضد الجوبلن والذئاب. ولكن ثمة شيء آخر يجب تأمله، وهو: هل كان تولكين نفسه يؤمن حقا بأن الحروب يمكن أن تكون عادلة؟ (3) هل كان تولكين حقا منظرا للحرب العادلة؟
تنبثق الشكوك حول إن كان تولكين يؤيد (أو بالأحرى يؤيد بشكل كامل) مبادئ الحرب العادلة التقليدية أم لا؛ من مصدرين في كتابات تولكين: الفقرات التي تبدو مساندة للسلمية، والفقرات التي تعلي الرحمة فوق العدل أو تلقي بظلال الشك على حق المخلوقات الأخلاقية في تحديد من يستحق الحياة أو الموت. دعنا نستعرض أمثلة لمثل هذه الفقرات.
ثمة شخصيتان رئيستان في «سيد الخواتم» - توم بومباديل وفرودو باجنز - يعتنقان فيما يبدو آراء تعتبر سلمية بشكل كبير على أقل تقدير؛ فترى بومباديل، الشخصية القوية ذات الطبيعة الغامضة التي تظهر في «رفقة الخاتم»، يرفض أخذ الخاتم أو استخدامه، وكان بحسب تعبير تولكين «ينبذ السيطرة» ويتبنى «رؤية سلمية طبيعية دائما ما تتملك العقل حين تكون هناك حرب».
12
من الواضح أن تولكين يصف بومباديل باعتباره كائنا قديما مقدسا وقويا إلى حد هائل؛
13
إذن هل يصح أن نقول إن تولكين يؤيد سلمية بومباديل مثلما يؤيد سلميته؟
الإجابة لا؛ لأن تولكين يوضح أن بومباديل حالة خاصة؛ فبومباديل يزهد في كل اهتمام في المسائل المتعلقة «بمحاسن السيطرة والقوة ومثالبهما » لكي يكرس نفسه بالكامل للتأمل والاستمتاع بالطبيعة في حد ذاتها؛ وهكذا يكون مثل راهب يقطع على نفسه عهدا خاصا بهجر المتع والاهتمامات الدنيوية من أجل التركيز على أشياء أسمى.
يقول تولكين: «تتلخص رؤية ريفيندل في أن زهد بومباديل يعد شيئا من الرائع أن يجسد، ولكن هناك في الواقع أشياء لا يمكنه أن يتوافق معها؛ ويعتمد وجوده عليها. وحده انتصار الغرب هو ما سيسمح لبومباديل بالاستمرار، أو حتى البقاء.»
14
ومن ثم فإن تولكين لا يؤيد رؤية بومباديل السلمية باعتبارها مبدأ قابلا للتطبيق بشكل عام.
ثمة مثال ثان للسلمية الظاهرية في «سيد الخواتم» يتمثل في رفض فرودو استخدام الأسلحة، أو التغاضي عن العنف غير الضروري، أو الانتقام بطرد «شاركي» (سارومان) ورجاله من الشاير في نهاية «عودة الملك».
15
هل يتحدث فرودو - خادم تولكين ذو الروح البطولية، الذي يمر بمعاناة أشبه بمعاناة المسيح - هنا نيابة عن تولكين نفسه؟
كلا، وهو ما يوضحه تولكين في رسالة له:
كان موقف فرودو تجاه الأسلحة شخصيا؛ فهو لم يكن «داعيا للسلام» بالمعنى الحديث. بالطبع؛ كان مذعورا في الأساس من فكرة نشوب حرب أهلية بين الهوبيت، ولكنه أيضا (حسبما أعتقد) استنتج أن الاقتتال المادي فعليا أقل فاعلية في النهاية مما يعتقد معظم البشر (الخيرين)!
16
إذن ينظر تولكين إلى فرودو بوصفه حالة خاصة، مثل بومباديل، لا بوصفه نموذجا يحتذي به الجميع.
لقد كان تولكين مسيحيا، والفضائل المسيحية التقليدية من الشفقة والرحمة والعطف تظهر وافرة في كل من «الهوبيت» و«سيد الخواتم».
تأمل فكرة تولكين عن جولوم؛ ففي بداية «رفقة الخاتم»، حين يتحسر فرودو على عدم إقدام بيلبو على طعن جولوم حين واتته الفرصة، كانت إجابة جاندالف كالتالي:
الشفقة؟ إن الشفقة هي التي غلت يده. الشفقة والرحمة: ألا تضرب بلا داع ... كثيرون من هم أحياء يستحقون الموت، وبعض من يموتون يستحقون الحياة. هل يمكنك أن تهبها لهم؟ إذن لا تكن متلهفا أكثر مما ينبغي كي توزع صكوك الموت في الحكم؛ فحتى أحكم الحكماء لا يستطيعون أن يشهدوا نهاية الجميع.
17
ومع أن مثل هذه الملاحظات تدور بالأساس حول القتل على مستوى فردي، ويمكن تطبيقها مباشرة بشكل أكثر على قضايا مثل عقوبة الإعدام؛ فمن الممكن جدا أن تكون عقيدة سلمية. حتى لو كان المعتدي يستحق الموت لاعتدائه، فهل نحن مؤهلون «لتقمص دور الرب» كي نوزع صكوك الموت وأحكامه؟! إلى جانب ذلك، فحتى الحكماء لا يمكنهم أن يعرفوا إن كان القتال - ولو دفاعا عن النفس - سوف يجلب خيرا أسمى؛ إذن ألا ينبغي على المرء أن يقبع في الجانب الآمن ويحجم عن القتال؟!
لم يتقبل تولكين بشكل واضح نوعا ما قراءة سلمية كاملة لتعليق جاندالف، مثلما توضح نظرة عن كثب إلى الفقرة الأصلية في «الهوبيت»؛ فحينما يغلق جولوم مخرجه، يفكر بيلبو في نفسه أنه:
لا بد أن يهرب ليخرج من هذا الظلام المريع، بينما لا يزال متبقيا لديه قدر من القوة. لا بد أن يقاتل. لا بد أن يطعن الشيء الكريه، أن يقتلع عينيه من محجريهما، أن يقتله. وكان هذا يعني أن يقتله. كلا ... إن جولوم لم يهدد فعليا بقتله، أو يحاول ذلك بعد.
18
ولما لم يكن ذلك فعلا من قبيل الدفاع عن النفس، لم يكن قتل جولوم ليصبح مبررا، ولكن الفقرة توحي أيضا بأنه لو «كان» جولوم قد هدد بقتل بيلبو، أو حاول ذلك، كان سيصبح لبيلبو مبرره في قتله لو كان ذلك ضروريا لإنقاذ حياته. ومن ثم يبدو أن تولكين يعتقد أن القتل يمكن أن يكون له ما يبرره.
ثمة فقرات أخرى في أعمال تولكين تقدم دليلا أقوى على إيمانه بأن بعض الحروب كانت عادلة؛ ففي «السليمارية»، لا ينضم للمعركة الجن الطيب فحسب، بل حتى أنصاف الآلهة أنفسهم (الفالار) انضموا لهزيمة سيد الظلام مورجوث. وفي «سيد الخواتم»، ثمة شخصيات طيبة بجلاء - مثل جاندالف وأراجورن وليجولاس وسام - يرفعون جميعا الأسلحة للدفاع عن الغرب ضد سورون وجيوشه المدمرة. إن كلا من هؤلاء الأبطال كان سيتفق في الرأي دونما شك مع وجهة نظر فارامير الموضحة في الاستشهاد الوارد في بداية هذا الفصل؛ وهي أن «الحرب ضرورة حتمية بينما ندافع عن أرواحنا ضد مدمر سوف يلتهمنا جميعا».
ولكن أوضح دليل على آراء تولكين عن أخلاقيات الحرب يوجد في رسائله؛ ففي رسالة كتبها في أبريل عام 1944 إلى نجله كريستوفر الذي كان آنذاك يتدرب كطيار على قاذفة قنابل في جنوب أفريقيا، يعلق تولكين كالتالي:
إن الخراب البالغ الحمق الذي تخلفه الحرب - ليس المادي فقط، بل الأخلاقي والروحاني أيضا - يسبب صاعقة شديدة بالنسبة لهؤلاء الذين عليهم تحمله. ولطالما كانت هكذا (رغما عن الشعراء)، وسوف تظل (رغما عن مروجي الحرب ودعاتها)؛ «وبالطبع ليس المقصود أنه لم [يكن] ولن يكون ضروريا أن نواجهها في عالم شرير». ولكن كم هي قصيرة ذاكرة الإنسانية، وكم هي فانية أجيالها، حتى إنه في خلال ما يقرب من 30 عاما سيكون هناك قليل من الناس - إن وجد من الأساس - مروا بهذه التجربة المخيفة التي تنفذ وحدها إلى القلب حقا. فاليد المحترقة هي الأعلم بالنار.
19
يوضح تولكين هنا أن الحرب - مهما كانت مأساوية، ومدمرة، وتمجد من باب الحماقة - هي شر لا مناص منه في عالم شرير. وفي رسالة أخرى إلى كريستوفر، يشير إلى أن في الحياة الواقعية يوجد الكثير من الشخصيات الشبيهة بالأورك، خبيثة وقاسية، وفي الحرب عادة ما توجد هذه الشخصيات في كلا الجانبين (لا إلى جانب سورون فحسب). بعد ذلك يقول:
في الحياة (الخارجية) الواقعية يوجد البشر في كلا الجانبين؛ ما يعني أن هناك تحالفا متنافرا من الأورك، والوحوش، والشياطين، والبشر الصادقين بطبيعتهم، والملائكة. ولكن ما يصنع بعض الفارق هم قادتكم، وما إن كانوا أشبه بالأورك في حد ذاتهم! وما يدور حوله كل ذلك (أو يعتقد أنه يدور حوله). بل من الممكن في هذا العالم أن تكون (بقدر أكبر أو أقل) في جانب الخطأ أو في جانب الحق.
20
يبدو هنا أنه يلاحظ كيف أن أي حرب تخاض تتعلق بكونها مبررة أم لا، وأنه يبدو أن من الممكن أن تكون «في جانب الحق» أثناء الحرب. وفي موضع آخر يقول تولكين شيئا مشابها:
توجد حالات واضحة مثل الأفعال العدوانية القاسية البحتة، يكون فيها «الحق» من البداية على جانب واحد بشكل تام ... وعلى هذا، فسوف يظل «الحق» ملكا لا يجوز التصرف فيه للجانب المحق ويبرر قضيته على الدوام ... إن المعتدين أنفسهم هم أول من يلامون على الأفعال الشريرة التي تنبعث أساسا من انتهاكهم العدالة ... وهم على أي حال لا يملكون أي حق في المطالبة بألا يطالب ضحاياهم حين يهاجمون بالقصاص عينا بعين وسنا بسن.
21
يتضح إذن من هذا أن تولكين يؤمن بالفعل بأن الحرب - مهما كانت مأساوية ومدمرة - يمكن أحيانا أن تكون مبررة أخلاقيا.
ولكن لعل تولكين لم يتفق مع كل المعايير التقليدية لنظرية الحرب العادلة. على سبيل المثال، تنص نظرية الحرب العادلة على أن الحروب قد تخاض فقط إذا كان هناك «احتمالات قوية للنجاح»؛
22
فهل اتفق تولكين مع ذلك؟ كلا فيما يبدو؛ فقد كان من المفترض أن معركة هيلمز ديب مستعصية على الفوز بها، مثلما هو الحال مع معركة مورانون عند بوابات موردور، ولما كان تولكين يعتبر بوضوح أن هاتين المعركتين مبررتان، فقد كانت احتمالات النجاح غير ذات أهمية بالنسبة إليه (ففي النهاية يعترف جاندالف نفسه بأنه لم يكن هناك سوى «أمل أحمق» في نجاح فرودو).
23
وهكذا يبدو أن تولكين كان يختلف مع هذا الجانب من نظرية الحرب العادلة.
ولكن لا تتسرع! تقترح نظرية الحرب العادلة الاستسلام في أي حرب لا يمكن الفوز بها؛ لأن ذلك يفضي إلى نفس النتائج مع خسائر أقل في الأرواح. ولكن حين تكون الحرب مع الأورك أو الأورك-هاي، فإنك تعلم أن الاستسلام سوف يأخذ الأمور إلى منحى أسوأ. بالإضافة إلى ذلك، تشير بعض نظريات الحرب العادلة إلى أن خوض معركة ميئوس منها يمكن أن يكون مبررا، إذا كانت دفاعا عن قيم مهمة وأساسية.
24
ولما كان خوض معركة المورانون من أجل تشتيت وإلهاء سورون، بينما يلقي فرودو وسام الخاتم الأوحد في نيران جبل دوم، فإن ذلك يبدو دفاعا عن قيمة مهمة وأساسية؛ ألا وهي: حرية شعوب الأرض الوسطى الحرة. أما الدليل الأكبر على أن تولكين قد اتفق بالفعل مع هذا المبدأ، فربما يكون موجودا في تجسيده لدينيثور وهو يرسل فارامير للدفاع عن النهر في أوسجيلياث، على علمه بأن القضية ميئوس منها. يجسد دينيثور بشكل جلي في صورة المجنون. وحتى جاندالف يخبر فارامير بألا يندفع نحو التفريط في حياته.
25
ولكن الحقيقة هي أن تولكين لا يخبرنا بما يكفي لنعرف يقينا إن كان يتفق مع كل جانب من نظرية الحرب العادلة أم لا. غير أنه ما من شك في أن تولكين كان يؤمن بقوة بأن «هناك بعض الخير في العالم ... وهو يستحق أن نحارب من أجله».
26
هوامش
الفصل التاسع
هراء محض
الفن والجمال في رواية «الهوبيت»
فيليب تالون
ما الذي يمكن لرواية «الهوبيت» أن تبينه لنا عن فلسفة الفن؟ أو لعلنا قد نتساءل: ما الذي يمكن «لأحد» الهوبيت أن يخبرنا به عن هذا الموضوع؟ لو اضطر بيلبو، على سبيل المثال، أن يلقي محاضرة عن الفن في المتحف في ميشيل دلفينج، ماذا كان سيقول؟ سوف يحاول هذا الفصل الإجابة عن هذا السؤال من خلال استعراض بعض الأفكار الأساسية في فكر تولكين، ورؤية الكيفية التي تتواجد بها هذه الأفكار في «الهوبيت».
ما إن تبدأ النظر، حتى تدرك أنه من السهل أن ترى أن فلسفة الجمال (ذلك الجانب من الفلسفة المعني بالفن والجمال) أساسية لفهم عالم «الهوبيت» ورؤى صانعه. وسواء أكانت على صورة الخريطة السحرية التي يعطيها جاندالف لثورين، أو ألغاز جولوم الذكية في الظلام، أو خاتم القوة الذي يجده بيلبو، أو الطريقة الإبداعية التي ينسج بها جاندالف قصته لبيورن، أو جمال حجر الأركنستون المنقطع النظير؛ تظل الفنون سمة أساسية في القصة.
تمثل الأعمال الفنية بالنسبة لرواية «الهوبيت» ما تمثله أجهزة المراقبة والوثائق السرية لأفلام الجاسوسية؛ عناصر لا تتجزأ تقود الحبكة. إن رواية «الهوبيت» رحلة عبر عالم من الحرف، والمصنوعات البشرية، والمهارة الفنية. ومن عالمه الجزيري والروتيني داخل شاير المحصنة، يسافر بيلبو ويواجه عالما أرحب وأغرب مما استطاع يوما أن يتخيل.
بالطبع لا يعتبر الهوبيت أنفسهم جنسا شديد البراعة الفنية؛ فعلى الرغم من أن تدخينهم للغليون يوصف من قبلهم بأنه فن - بحسب قول تولكين - وكل الهوبيت يتعلمون فن الطهي؛ يبدو أن معظم حرفية الهوبيت مخصصة للجوانب العملية والراحة وحسب. ولو لم يكن بيلبو قد سافر من الشاير، لكان من المشكوك فيه أن يكون لديه الكثير لقوله عن البراعة الفنية أو الجمال، ربما فيما عدا الإشارة إلى أفضل الطرق لتعبئة الغليون، أو اقتراح أفضل ما يتماشى من أنواع الجعة مع لحم الضأن المشوي. (1) تولكين وحركة الفن من أجل الفن
ولد تولكين، الذي عاش من عام 1892 حتى عام 1973، في نهاية قرن شهد تغيرا ضخما في مفهوم الفن والجمال؛ ففي العصور الوسطى، كان الفن يعمل بمنزلة خادم للكنيسة؛ إذ كان يبين (مجازيا وحرفيا) نص الرؤية المسيحية للعالم. وبحلول القرن التاسع عشر، كانت فكرة أن الفن ينبغي أن يكيف نفسه ليتلاءم مع رسالة الكنيسة، أو أن يعمل في الأساس من أجل تأكيد القيم الأخلاقية والروحانية؛ قد تآكلت وصارت بالية منذ زمن طويل.
من خلال التغيرات التي طرأت قبل قرن على يد إيمانويل كانط (1724-1804)، لم يعد يفترض على نحو واسع أن الفن يستطيع أو ينبغي أن يعمل كأداة للتوجيه أو التحسين الأخلاقي. وفي خلال الفترة التي ولد فيها تولكين تقريبا، صار هناك افتراض واسع النطاق بأن الفن قد وجد في عالم غير مبال، أو ربما معاد للحقيقة والأخلاق. وقد عبر أوسكار وايلد (1854-1900) عن هذا المزاج السائد بشكل جيد حين علق بأن «الفن خارج عن نطاق الأخلاقيات؛ لأن عيونه مركزة على أشياء جميلة وخالدة ودائمة التغير. أما الأخلاق، فلا ينتمي لها سوى العوالم الدنيا والعوالم الأقل عقلانية».
1
غالبا ما يعرف هذا التطور، الذي شارك فيه وايلد وعبر عنه، بحركة «الفن من أجل الفن»؛ فقد تركت الأخلاق والتعليم خلفها مثلما يترك أطفال المدارس كتبهم في حجرة الدراسة حين يذهبون للراحة. لقد تحرر الفن من الاضطرار «لفعل» أي شيء. وفي ذلك كتب جيمس ويستلر (1834-1903)، رسام الأمهات الشهير: «يجب أن يكون الفن مستقلا عن كل الهراء؛ يجب أن يكون قائما بذاته ... ويخاطب الحس الفني للعين أو الأذن، دون أن يخلط هذا بالمشاعر الغريبة عنه كليا؛ مثل: الإخلاص، والشفقة، والحب، والوطنية، وما شابه».
2
واليوم تلقى فكرة تواجد الفن في عالم منعزل عن العوالم الأخرى ذات الأهمية الإنسانية قبولا واسع النطاق في الثقافة الغربية؛ فصارت عبارة «الفن من أجل الفن» تقتبس عادة كرؤية موحدة للإبداع، بل إنها شعار استوديوهات إم جي إم بهوليوود، التي شاركت في إنتاج سلسلة أفلام «الهوبيت».
اتفق تولكين مع حركة الفن من أجل الفن، ولكن لدرجة بسيطة فقط. فمثل ويستلر ووايلد، كان تولكين يؤمن بأن الفن يجب ألا ينظر إليه بشكل أساسي بوصفه شيئا عمليا أو منفعيا. على سبيل المثال، يعبر تولكين عن بغض بالغ لأشكال من الأدب - مثل القصة الرمزية الأخلاقية - تسعى لتلقين الجمهور رسالة ما.
3
وعلى الرغم من أن تولكين كان مسيحيا، فإنه لم يكن يؤمن بأن الفن ينبغي ببساطة أن يكون خادما للكنيسة؛ فقد كان يرى أن الإبداع الفني غاية قيمة في ذاته وليس مجرد وسيلة لغرض أسمى.
وبكلمات تبدو في وقعها أشبه نوعا ما بكلمات ويستلر، يكتب توليكن: «الفن والرغبة الإبداعية (أو كما يجب أن أقول: الإبداعية الفرعية) ليس لهما وظيفة بيولوجية كما يبدو، وهي جزء من الرضا بالحياة البيولوجية العادية المحضة.»
4
بعبارة أخرى، لم يكن تولكين يرى أي حاجة عملية مباشرة للإبداع؛ فما لم يبع الكثير من الأعمال الفنية، لن يضع الفن خبزا على مائدتك أو سقفا فوق رأسك.
علاوة على ذلك، بدا تولكين «يفضل» لاعملية الفن بوصفها ميزة حقيقية، مشيرا، على سبيل المثال، إلى أن الجن «فنانون بالأساس»، يكمن سحرهم في «الفن وليس القوة، الإبداع الفرعي وليس السيطرة وإعادة تشكيل الخلق المستبدة».
5
وينعى تولكين في كتاباته عن أخطار التكنولوجيا عدم تشبه البشر بالجن في هذا المقام:
تتضح هنا مأساة جميع الآلات والماكينات وإحباطها. فعلى عكس الفن، الذي يكتفي بخلق عالم ثانوي جديد في العقل، تحاول الآلات أن تخلع على الرغبة طابعا ماديا؛ ومن ثم خلق قوة في هذا العالم، ولا يمكن لذلك حقيقة أن يتم بأي رضا حقيقي. إن الآلات الموفرة للجهد لا تخلق سوى جهد وشقاء أسوأ لا نهاية لهما.
6
كل هذا يعني أن الإبداع من منظور تولكين لم يكن الشيء الأهم فيما يتعلق «بفعل» أي شيء عملي، وهو بهذه الطريقة إنما يردد أفكارا من حركة الفن من أجل الفن. (2) «متعة الإبداع»
في ذروة قوتهم وإبداعهم، نظر الأقزام إلى الفن أيضا باعتباره شيئا قيما ونفيسا بشكل جوهري؛ إذ كانوا يصنعون الأشياء لمجرد الاستمتاع. في بداية «الهوبيت»، يقومون بزيارة لبيلبو، مستقطبين إياه إلى المغامرة. وفي وصفه لما فقدوه خلال فترة إبعادهم الطويلة عن الجبل الوحيد، يحكي ثورين عن فترات أفضل مروا بها قائلا:
كانت تلك أياما جيدة ككل بالنسبة إلينا، وكان أفقرنا يملك مالا لإنفاقه وإقراضه للغير، ولديه وقت الفراغ للقيام بأشياء جميلة فقط لأجل المتعة، ناهيك عن أروع وأغرب اللعب التي لا توجد مثيلتها في العالم هذه الأيام.
7
يبدو الإبداع «من أجل ما به من متعة فقط» أيضا نشاطا تتشاركه الأجناس الأخرى في «الهوبيت»؛ فنرى جاندالف ينفث حلقات الدخان، ونسمع الجن يمارسون الغناء. وليس الساحر ببعيد عن اللعب (تذكر أيضا ألعابه النارية المشهورة)، ولا الجن. فحين يدنو الأقزام من منزل إلروند، يسمعون صوت غناء قادم من بين الأشجار: «لذا راحوا يضحكون ويغنون بين الأشجار، ويفعلون كل الهراء المحض الذي أظنك ستعتقده. ليس الأمر أنهم لم يكونوا يعبئون بشيء؛ فقد كانوا سيزيدون في الضحك لو أخبرتهم بذلك».
8
كان تولكين على نفس القدر من عدم الاهتمام بما لو كان نقاد العصر الحديث سيحكمون على كتاباته الخيالية بأنها هراء؛ فقد اخترع تولكين عالم الأرض الوسطى وظل يطوره بلا نهاية دون أدنى تصور أنه يمكن أن يكون أكثر من مجرد تسلية خاصة. وفي ذلك يكتب تولكين مضيفا: «أنا شخص غاية في الجدية ولا أستطيع التمييز بين التسلية الخاصة والواجب. أنا أعمل فقط للتسلية الخاصة؛ إذ أجد واجباتي والتزاماتي مسلية على نحو خاص.»
9
بعد ذلك بكثير يكتب تولكين معترفا بأن صديقه ورفيقه في الكتابة سي إس لويس هو من أقنعه بنشر الكثير من كتاباته، بما فيها «سيد الخواتم». «كان (لويس) وحده فقط هو من استقيت منه فكرة أن «كتاباتي» يمكن أن تكون أكثر من مجرد هواية خاصة.»
10
كان معظم زملاء تولكين في أكسفورد يعتقدون أن إبداعه الفني «محض هراء»، ولكن تولكين نفسه - مثل الجن والأقزام - كان لديه تقدير صحي للإبداع «لأجل متعته فقط». (3) «هم أيضا قد يدركون جمال الكون المادي»
غير أنه على عكس الكثير من كتاب حركة الفن من أجل الفن النظرية، يفسح تولكين مجالا لبعد أخلاقي في الإبداع الفني، مشيرا بشكل خاص إلى كيف يعد كل من الإبداع وتقدير الجمال دلالة على الصحة الأخلاقية والروحانية.
11
ففي مواضع كثيرة في «الهوبيت»، يستخدم تولكين الحساسية للجمال بوصفها نوعا من الترمومتر الأخلاقي لاختبار متى يكون لدى الشخص (أو عرق من البشر) مستوى صحي من الفضيلة أو التميز الأخلاقي.
تميل المخلوقات الطيبة في أرض تولكين الوسطى إلى أن تكون مبدعة ومستجيبة للجمال، بينما ينطبق العكس على المخلوقات الشريرة. فبعد فرارهم العصيب من العمالقة، يجد ثورين ورفاقه بعض النصال القزمية بين متعلقات العمالقة، وفي الحال يدرك جاندالف أن النصال «بأغمادها الجميلة ومقابضها المرصعة بالجواهر» لا يمكن أن تكون قد صنعت بأيدي العمالقة.
12
يشير تولكين كذلك إلى أن أغنيات الجوبلن أقرب للنعيب منها إلى الغناء، وكدلالة أخرى على «قسوة، وخبث، وحقد» الجوبلن، يذكر تولكين أنهم «لا يصنعون أشياء جميلة، ولكنهم يصنعون الكثير من الأشياء الدالة على المهارة». بل إن تولكين يشير إلى أن الجوبلن - في أغلب الظن - قد ابتكروا بعضا من الماكينات المستخدمة اليوم في قتل العديد من الناس دفعة واحدة.
13
ويتناقض هذا مع الطريقة التي يثني بها تولكين على الجن بوصفهم «فنانين في الأساس» يبحثون عن «الفن وليس القوة». إن تولكين يشير بوضوح إلى أن الإبداع الجيد إنما هو موجه لجلب الجمال والمتعة، لا الموت والدمار.
في الإبداع الفني دلالة على أن بإمكاننا أن نحب شيئا آخر سوى أنفسنا، وقد انبثق وجود الأقزام من الأساس من هذه الرغبة الجيدة في الخلق والإبداع بدافع الحب. ففي «السليمارية»، يخبر تولكين كيف أن أوليه الحداد (أحد الفالار، تلك المخلوقات الملائكية الشبيهة بالآلهة في الأرض الوسطى) أراد شيئا آخر ليحبه؛ ومن ثم خلق جنسا من البشر صغار الحجم أصلاد، يعملون مثل أوليه بالحدادة. وحين يدخل أوليه في متاعب مع إيلوفاتار - رمز الرب في الأرض الوسطى - لخلقه مخلوقات حية دون إذنه، يوضح أوليه لماذا خلق الأقزام دون علم إيلوفاتار:
لقد أردت أشياء أخرى سواي؛ كي أحبها وأعلمها، حتى يدركوا هم أيضا جمال الكون المادي، الذي تسببت أنت في وجوده. فقد تراءى لي أن ثمة متسعا كبيرا في الأردا (الأرض ونظامها الشمسي) لكثير من الأشياء قد تجد فيه البهجة، ولكنه لا يزال خاويا في الغالب ... غير أن صنع الأشياء يتم في قلبي الذي هو جزء من تكويني الذي صنعته أنت.
14
هنا يشير أوليه لماذا أراد أن يخلق الأقزام من الأساس؛ فقد كان يعتقد أن العالم قد يستفيد من وجود بعض المخلوقات الأخرى القادرة على الاستمتاع بجماله. ونظرا لتلك النية الطيبة كليا من جانب أوليه، لا يدمر إيلوفاتار الأقزام، بل يتركهم ليصبحوا أحد أجناس الأرض الوسطى.
قارن دافع أوليه بدافع سارومان حين يخلق الأخير سلالة محسنة من الأورك الخارقين المقاومين للشمس (أورك-هاي)، وسيمكنك حينها أن ترى بوضوح الفرق بين الإبداع الأخلاقي والرغبة غير الأخلاقية في السيطرة والفساد. إن أوليه يريد فقط أن يخلق بدافع من الإيثار الإبداعي والمتعة، أما سارومان «بعقله المخلوق من معدن وعجلات»، فيريد الهيمنة مهما كان قبح مخلوقاته.
15
من السهل إذن أن ترى أن التقدير الجمالي والمهارة الفنية يعدان مؤشرات أخلاقية إيجابية في عالم «الهوبيت». ويرتبط هذا برؤية القديس أوجستين للفضيلة بوصفها «ترتيبا صحيحا للأشياء المحبوبة».
16
ويبدو أن تولكين، العليم جيدا بالتقليد الذي ساهم فيه أوجستين، يتفق مع الرأي القائل بأن الأشخاص الطيبين (والهوبيت الطيبين، والأقزام الطيبين، والفالار الطيبين) يقدرون الفن الجيد، بينما تفتقر الكائنات الشريرة إلى الإحساس بالجمال. ولعل أفضل مثال لهذا من «الهوبيت» ما يقوله ثورين عن التنانين في أول لقاء له مع بيلبو:
إن التنانين تسرق الذهب والجواهر، كما تعلم، من البشر والجن والأقزام، أينما استطاعت أن تجدهما؛ وتحرس غنيمتها ما دامت حية (وهو ما يعني عمليا أبد الدهر، ما لم تقتل)، ولا تستمتع ولو بخاتم نحاسي منه، بل إنها قلما تميز العمل الجيد من السيئ، مع أنها عادة لديها فكرة جيدة عن قيمة السوق الحالية، ولا تستطيع أن تفعل شيئا بأنفسها، ولا حتى إصلاح جزء صغير تالف من درعها.
17
لا تستطيع التنانين تقدير جمال أي شيء، ولا يمكنها أن تصنع أي شيء أو حتى تصلح جزءا في دروعها. وهذا مهم على نحو خاص بالنسبة لبيلبو؛ لأنه هو الشخص الذي يقوم بتحديد مكان الثقب في درع سموج ويبلغ به طائر الدج، الذي يبلغ به بارد بعد ذلك الذي يقوم بدوره بقتل التنين بتصويب سهم نحو الثقب، الذي أهمل التنين إصلاحه نظرا لعجزه عن الإبداع الفني. والكتاب بالكامل يرتكز على الحقيقة البسيطة الخاصة بأن التنانين ليس لديها أية مهارة فنية ولا تعبأ حقا بالجمال، بل تعبأ فقط بامتلاك الثروة المادية.
ثمة شخصيات عديدة في «الهوبيت» تبتلى بداء التنين، المتمثل في اشتهاء مسعور ناشئ عن سحر لكنز التنين؛ من بينها حاكم مدينة التنين، الذي منح جزءا لا بأس به من ذهب الجبل لإعادة بناء المدينة، ولكنه يهرب به و«يموت جوعا في الخراب».
18
وبالمثل، يصبح ثورين مهووسا بجمال الأركنستون بعد أن يستعيد الأقزام ملكية الجبل. «لقد كان مثل كرة لها ألف وجه؛ كان يلمع مثل الفضة في ضوء النار، مثل الماء تحت شعاع الشمس، مثل الثلج تحت النجوم، مثل المطر فوق سطح القمر!»
19
يختلف هوس ثورين بالأركنستون عن هوس التنين أو طمع الحاكم؛ لأنه مدفوع في الأساس بجمال الشيء الذي يسعى وراءه؛ لكنه يظل يؤثر على ثورين بطريقة مماثلة. إن ثورين يفقد صوابه مؤقتا بفعل رغبته في استعادة الأركنستون (الذي يحوزه بيلبو سرا)، وهذا يبين أنه حتى الأشياء الجميلة يمكن أن تدفعنا إلى الحيد عن بوصلتنا الأخلاقية، مثلما يمكن أن تدفعنا الرغبة في خير آخر، مثل العدالة أو الحقيقة، إلى انتهاج سلوك غير أخلاقي.
ولكن لا بد من الاستمرار في ملاحظة أن ثورين يتعرض للإفساد بطريقة لا يمكن أن يتم بها إفساد تنين، أو مجرد شخص جشع؛ فرغبته في الأركنستون تتجاوز قيمته. ومثلما يقول ثورين: «أركنستون أبي ... يساوي أكثر من نهر من الذهب في ذاته، وبالنسبة إلي لا يقدر بثمن.»
20 (4) «حب الأشياء الجميلة»
في بداية «الهوبيت»، يتعرض بيلبو لمقاطعة فظة تفصله عن وجوده الزاخر بالسلام والهدوء الموروث بالفطرة من آل باجنز. ويعبر جاندالف، الذي أحدث هذا الاضطراب، عن خيبة أمله من قلق بيلبو البالغ - وهو المنتمي لعشيرة التوك (وهم قوم مغامرون) - من أن تؤخره المغامرات عن موعد العشاء. ولكن حين يخرج ثورين قيثارته الذهبية الجميلة ويبدأ في عزف أغنية عن الجبل الوحيد، ينضم إليه بقية الأقزام، وتحرك الأغنية مشاعر بيلبو:
بينما راحوا يغنون، شعر الهوبيت بحب الأشياء الجميلة المصنوعة باليد وبالدهاء وبالسحر يسري عبر جسده، حب عات تملؤه الغيرة؛ أمنية قلوب الأقزام. حينئذ استيقظ شيء مغامر بداخله، وتمنى لو ذهب وشاهد الجبال الشاهقة، وسمع حفيف أشجار الصنوبر وشلالات الماء، واستكشف الكهوف، وأمسك سيفا بدلا من عصا مشي.
21
وبالاستماع إلى الأغنية الجميلة، يتنبه بيلبو للعالم الأرحب والقيم الأعمق. وتتشابه رؤية تولكين للجمال في «الهوبيت» مع رؤية إلين سكاري، وهي فيلسوفة معاصرة في الفن؛ ففي كتابها «عن الجمال والعدل»، تجادل سكاري ضد فكرة الفن من أجل الفن قائلة بأن الجمال يوجد في عالم منفصل عن الأخلاق. فترى سكاري أن «الجمال يهيئنا للعدالة»؛ لأننا عندما نرى شيئا جميلا، فإن هذا «يرتبط بشكل قوي برغبة ملحة في حمايته، أو التصرف نيابة عنه».
22
فمن خلال الأغنية، يراود بيلبو قدر «من أمنية قلوب الأقزام»، ويشاركهم رغبتهم الجارفة في استعادة الكنز المسلوب من قبل التنين.
ربطت آيريس مردوخ (1919-1999) - وهي فيلسوفة أخلاقية وإحدى زميلات تولكين بأكسفورد - أيضا تقدير الجمال بالضرورات الأخلاقية للاهتمام بالآخرين فتقول:
في النظم الفكرية وفي الاستمتاع بالفن والطبيعة نكتشف قيمة في قدرتنا على نسيان الذات، على أن نكون واقعيين، على أن ندرك الأمور على نحو عادل؛ فنحن نستخدم خيالنا لا للهروب من العالم، بل للانضمام إليه، وهو ما يشعرنا بالنشوة والبهجة بفضل وعينا العادي البليد، وبسبب خوف ما من الواقع.
23
إن هذا النوع من الصحوة هو بالضبط ما نراه لدى بيلبو حين يستشعر جمال أغنية الأقزام لأول مرة. قبل هذا، لم يكن بيلبو يستطيع التفكير إلا في الراحة والروتين المبهج. كانت المغامرات بالنسبة له مجرد «أشياء قميئة مزعجة وغير مريحة» من شأنها «أن تجعلك تتأخر عن العشاء».
24
غير أن بيلبو بعد سماع الأغنية، يستطيع إدراك أنه قد تكون هناك أشياء أهم في الحياة. يستيقظ شيء ما بداخله، ويرغب هو في أن يجرب شيئا مختلفا عن حياته المريحة الهادئة.
ومن ثم كان بيلبو بلا شك، وهو يقف أمام قميص «الميثريل» المدرع المقرض للمتحف هناك في ميشيل دلفينج، سيقول إن خلق الجمال والفن ليس جيدا فقط في حد ذاته (على الرغم من أنهما كذلك)، وليسا مجرد دلالات على الصحة الأخلاقية (على الرغم من أنهما كذلك أيضا)؛ بل إنهما يشعلان الخيال ويوقدان في القلب رغبة في أشياء أسمى، وأنبل، وأصعب. وفي الختام، كان بيلبو بلا شك سيعترف بلطف وتأدب أن هذه ما هي إلا نافذة صغيرة على مجال الفنون الواسع؛ لأنه مجرد هوبيت صغير الحجم في عالم رحيب.
هوامش
الفصل العاشر
الهوبيت اللاعب
لماذا يحب الهوبيت اللعب؟ ولم يجب أن نحبه نحن أيضا؟
ديفيد إل أوهارا
يجتمع الرياضيون من شتى أنحاء العالم كل عامين حتى يستطيعوا اللعب معا في دورة الألعاب الأولمبية. حين تضيف تكاليف التدريب، والسفر، والمنشآت؛ تجد أن الأولمبياد تتكلف مليارات الدولارات. أضف إلى ذلك المبلغ الذي ننفقه على الألعاب الاحترافية حول العالم، وقد تبدأ حينها في التساؤل: ألا توجد طرق أهم نستغل بها تلك الأموال؟ كما تعلم، القضاء على الجوع في العالم، علاج السرطان، منح مقاعد لأساتذة الفلسفة؛ أشياء من هذا القبيل؟
ولكن فيما يبدو أن حكم التاريخ هو أن كل ثقافة تعتبر اللعب واللهو جزءا مهما من أية حياة كي تعاش على نحو جيد. لذا إليك هذا السؤال: إلى أي مدى ينبغي أن نأخذ اللعب بجدية ؟ (1) كرة القدم، والجولف، وألعاب أخرى يمارسها الهوبيت
إذا كانت «الهوبيت» تمثل أي مؤشر، فإن جيه آر آر تولكين يعتقد فيما يبدو أننا ينبغي أن نأخذ اللعب بقدر بالغ من الجدية. فهذا الكتاب، في النهاية، يدور حول أحد الهوبيت. وإذا كنت من الهوبيت، فإن جزءا لا بأس به من حياتك مكرس للاستجمام بشتى أنواعه: الألعاب، الحفلات، الألعاب النارية، النميمة، زيارة الأصدقاء والجيران، قذف الحجارة والسهام، المصارعة، الغناء، مهاجمة الفطر، شرب الجعة، ونفث حلقات الدخان.
1
صحيح أن الهوبيت «بارعون في استخدام الأدوات» ولا شك أنهم قد اجتهدوا للحفاظ على «ريفهم المنظم والمحروث جيدا».
2 (فكان على أحدهم أن يزرع ويعد كل ما يحتاج إليه الهوبيت من طعام لوجباتهم الست يوميا!) ولكن من الواضح أن هوبيت تولكين ينفقون قدرا أكبر بكثير من الوقت في الترويح والأنشطة الترفيهية مقارنة بما يفعله معظم الناس اليوم.
ولكن ليس الهوبيت فقط هم من يلعبون. فالجن يمارسون الغناء ويتجمعون في الغابة ليلا. فيما يغرم أهل مدينة البحيرة باللهو والاحتفالات (على الرغم من أن واحدا أو اثنين منهم يبدو عليه التجهم والعبوس). حتى الشخصيات التي لم تكن لتعتقد أنها تلهو مع الأطفال يحبون اللعب؛ فيشير جولوم إلى أن بيلبو يلعب لعبة ألغاز معه، ويفوز جاندالف بحسن ضيافة بيورن من خلال المزاح واللهو وسرد الحكايات. وبحلول الليل، ينهمك بيورن في اللعب أكثر مع الدببة المحليين. ولا يستطيع سموج مقاومة ممارسة لعبة ذكاء بيلبو الخطرة. ويكاد يكون كل من في «الهوبيت» - حتى الجوبلن - يمارسون الغناء والموسيقى.
بل إن تولكين يكتب عن الرياضة.
3
فيخبرنا أن الهوبيت قد اخترعوا الجولف حين أطاح بولرورار برأس جولفمبول ملك الجوبلن وتدحرج الرأس داخل حفرة أرنب. وبعد أن يغادر ثورين ورفقته ريفيندل في رحلتهم إلى الجبل الوحيد، يجدون أنفسهم في الجبال وسط عاصفة، محاطين بالعمالقة الذين «يقذفون الصخور بعضهم في وجه بعض على سبيل اللعب ، ويلقفونها ويقذفونها في الظلام حيث كانت تتحطم بين الأشجار القابعة عميقا بالأسفل، أو تتكسر إلى شظايا صغيرة بضربة قوية».
فيشكو ثورين قائلا: «يكفي هذا! إن لم نصعق، أو نغرق أو نضرب بفعل البرق، سوف يلتقطنا أحد العمالقة ويركلنا لأعلى في اتجاه السماء ككرة قدم.»
4
إن ذلك ليس مجرد دعابة جانبية في سياق الحوار؛ فهو يخبرنا شيئا مهما عن الأرض الوسطى؛ تحديدا أن الأقزام يعرفون عن كرة القدم.
لست أمزح تماما هنا. ففي الواقع إنه يخبرنا بشيء آخر؛ ألا وهو: أن حتى العمالقة يمارسون الألعاب. ولعل هذا هو ما يجعل جاندالف يعتقد أنه سيكون قادرا على العثور على «عملاق لطيف بدرجة أو أخرى» لسد «المدخل الأمامي» للجوبلن.
5
قد لا يبدو للعب أهمية في السياق الأكبر للأمور، ولكنه أيضا قد يكون أكثر ما يربط أحدنا بالآخر.
فكر في جولوم حين يلتقي بيلبو. إن وجود هوبيت يذكر جولوم بأسعد جزء من حياته السابقة، حين كان يلعب لعبة الألغاز مع أصدقائه: «كان سؤالهم وأحيانا تخمين أسئلتهم هو اللعبة الوحيدة التي لعبها مع المخلوقات المرحة الأخرى التي كانت جالسة في أنفاقها قبل زمن بعيد للغاية، قبل أن يفقد كل أصدقائه ويطرد بعيدا وحيدا، ويظل يزحف ويزحف نحو الظلام أسفل الجبال.»
6
إن مثل هذه اللحظات تجعل جولوم أقرب لشخص منه إلى وحش. فأكثر اللحظات التي نشعر فيها بالقرب من الحيوانات هي أثناء اللعب؛ فحين يلعبون يصبحون مثلنا. في الواقع، لو كان هناك شخص ما لا يلعب مطلقا، لساورنا الشك في كونه بشرا كاملا. في هذا السياق، تساءل الفيلسوف الألماني فريدريش شيلر (1759-1805): «ولكن لماذا نطلق عليها «مجرد» لعبة، في حين نعتبر أن اللعب، في كل ظرف من ظروف الإنسانية، واللعب فقط، هو ما يجعل الإنسان كاملا؟»
7
قد لا ترى في الأمر شيئا مهما؛ فالهوبيت يلعبون الجولف والأقزام يلعبون كرة القدم. إن ذلك تحديدا لا يجعل من رواية «الهوبيت» نسخة الأرض الوسطى من «سبورتس إللستراتيد». وهذا صحيح تماما، ولكن هناك المزيد من اللعب واللهو في القصة أكثر مما نسمع به. فحين كانت الرفقة في ريفيندل، يخبرنا تولكين بالمعلومات التالية:
إنه أمر غريب، ولكن الأشياء التي من الجيد أن تقتنيها والأيام التي من الجيد أن تمضيها تستغرق القليل للحكي عنها، ولا ينصت لها كثيرا، بينما الأشياء المزعجة المثيرة للاضطراب، بل والمفزعة، قد تصلح لأن تكون حكاية جيدة، وتستغرق قدرا من الحكي على أي حال. لقد أمضوا فترة طويلة في ذلك المنزل الجميل ... لكن لا يوجد سوى القليل للإخبار عنه بشأن إقامتهم ... ليتني كان لدي وقت لأخبركم ولو قليلا من الحكايات أو واحدة أو اثنتين من الأغنيات التي سمعوها في ذلك المنزل.
8
لقد أمضوا ما لا يقل عن أسبوعين في ريفيندل، ولكن لا يوجد الكثير لإخباره؛ لأن تلك الفترة قضي معظمها في الراحة والاستجمام.
إلى جانب ذلك، يتجاوز معنى اللعب ما هو أكثر من الرياضات. فكر في كل الطرق التي تستخدم بها كلمة
play
في اللغة الإنجليزية. فالعروض الدرامية المثيرة تسمى
plays (بمعنى مسرحيات)، والممثلون عادة ما يسمون في الإنجليزية
players . وحين يعزف الناس الموسيقى، نقول إنهم يلعبون على آلاتهم. كما نلعب بالصلصال
(لا غرابة في ذلك)، وبالرمال على الشاطئ، وبالأشياء على مكاتبنا. كما ننهمك في اللعب حين نمارس صيد الأسماك أو الحيوانات البرية، ونطلق على الحيوانات التي نطاردها
game (بمعنى فريسة). والكلمات المتقاطعة، وإلقاء الدعابات، والغناء، والرقص، والأعمال الفنية. كل هذه الأشياء تعد صنوفا من اللعب. (2) ما لا يندرج تحت اسم اللعب
إذن ما العناصر المشتركة بين كل هذه الأنشطة؟ لنبدأ باستبعاد بعض الأشياء التي لا تعد من قبيل اللعب. (2-1) اللعب ليس افتقادا للجدية
قد ننجذب نحو الاعتقاد بأن اللعب هو غياب للجدية، ولكن في الواقع أننا كلما انهمكنا في اللعب بقوة، صرنا أكثر جدية بشأنه. فقط فكر كيف يلعب الأطفال في ألعاب التظاهر. وإذا كنت تعزف على الجيتار في أحد الفرق، أو تلعب كرة السلة مع الأصدقاء، فأنت تتوقع ممن تلعب معهم أن يأخذوا اللعب بجدية.
كان اعتقاد شيلر عن اللعب أنه جدية مفرطة؛ إذ يقول: «إن الإنسان لا يكون جادا إلا مع المستساغ، والحسن، والمثالي؛ ولكنه مع الجمال يلعب.» إن شيلر يتعامل مع الجمال بوصفه شيئا أسمى من «المستساغ، والحسن، والمثالي»؛ ومن ثم يعتبر اللعب، الذي يركز على الجمال، شيئا أسمى من أن يكون مجرد شيء جاد.
9
إن اللعب، بشكل ما، أكثر جدية من أن يسمى مجرد شيء «جاد»؛ لذا نطلق عليه «لعبا». (2-2) اللعب ليس كسلا
لا يعد اللعب كذلك مجرد استرخاء أو كسل. فقد كتب توما الأكويني (حوالي 1225-1274)، في كتابه «خلاصة اللاهوت» أنه بينما كان «الخمول» خطيئة بشكل مطلق، كانت الراحة والاستجمام أمرين في غاية الأهمية، حتى إنه كان يعتقد أن الناس سوف يستمرون في ممارستهما في السماء.
10
على مستوى أكثر بساطة، يتدرب الرياضيون الذين يأخذون ألعابهم التي يمارسونها بجدية بكد واجتهاد بالغين من أجلها. ويعد الهوبيت مثالا آخر لهذا؛ فحين يلعبون، يلعبون بجد. ولك أن تتخيل كم التخطيط الذي تخلل حفل عيد ميلاد بيلبو في «رفقة الخاتم»، أو الجهد الشاق الذي كان لا بد من بذله لتحويل باج إند إلى المكان الاحتفالي الذي كان عليه: «كان نفق هوبيت، وهذا يعني الراحة».
11
إن الراحة الجادة لا تتأتى إلا من خلال العمل الشاق والتخطيط الدقيق. فقد قال تشارلز إس بيرس (1839-1914) إن اللعب هو المضاد الفعلي للكسل: «اللعب، كما نعلم جميعا، هو تدريب نشط وحيوي لقدرات المرء.»
12
فحين نلعب، نستدعي كل مواردنا للتركيز على ما نفعله. (2-3) اللعب ليس صبيانية
لا يعد اللعب أيضا من قبيل الحماقة أو الصبيانية، حتى لو بدا كذلك للوهلة الأولى. ويوضح تولكين هذا من خلال أكثر الجماعات لهوا في «الهوبيت»: جن ريفيندل. فحين يصل بيلبو والرفقة إلى ريفيندل، يقابلهم الجن وهم يضحكون ويغنون بين الأشجار.
يقول تولكين: «وكل الهراء المحض الذي أظنك ستعتقده. ليس الأمر أنهم لم يكونوا يعبئون بشيء؛ فقد كانوا سيزيدون في الضحك لو أخبرتهم بذلك. لقد كانوا جنا بالطبع ... حتى الأقزام الذين يتحلون بما يكفي من اللطف والأدب مثل ثورين وأصدقائه يعتقدونهم حمقى (وهو شيء من الحمق بمكان الاعتقاد فيه)، أو ينزعجون منهم.»
13
بالطبع كان هؤلاء «الحمقى» من الجن «يعرفون الكثير وكانوا مصدرا رائعا لمعرفة الأخبار»، وبحلول مغادرة الأقزام لمنزل إلروند، «كانت خططهم قد تحسنت بفضل النصائح المثلى التي أسدوها لهم.»
14
فلولا معرفة إلروند بالحروف الأيسلندية القديمة، لظل الأقزام على باب سموج يتساءلون كيف الدخول، أو لأصبحوا شواء للتنين. (3) الخير في اللعب
كثيرا ما يجد الفلاسفة أن من المفيد تعقب تاريخ فكرة ما من أجل فهمها بشكل أفضل. ولما كان اليونانيون القدماء قد منحونا كلا من الفلسفة والأولمبياد، فلنبحث في أفكارهم بشأن اللعب. في اليونان القديم، ثمة صلة وثيقة بين الكلمة اليونانية المكافئة لكلمة «لعب»
paidia
والكلمة اليونانية المكافئة لكلمة «تعليم»
paideia . فقد كان اليونانيون يعتبرون التعليم شيئا يتأتى من وقت الفراغ؛ لأن وقت الفراغ هو وقت يتم قضاؤه في السعي وراء أشياء جميلة وممتعة، وليس فقط العمل من أجل جلب الأشياء الضرورية.
دائما ما كان يندهش طلابي حين يعلمون أن الكلمة الإنجليزية
school (مدرسة) مشتقة من الكلمة اليونانية
scole ، التي تعني «وقت فراغ». قد لا تبدو المدرسة كوقت فراغ وترفيه، ولكن لو كان لدينا وقت خال من ممارسة الزراعة باعتبارها مصدر رزق ومحاربة دببة الكهوف، لما توافر لنا وقت لدراسة الأشياء لذاتها. وقد دافع السياسي الأثيني بريكليس (حوالي 495-429ق.م) عن حب الأثينيين للعب ووقت الفراغ في خطبته التأبينية الشهيرة، قائلا إن الأثينيين «أحبوا الجمال بقدر، وأحبوا الحكمة بلا هوادة.»
15
وهكذا لخص لنا بريكليس في جملة واحدة ملاحظتين مهمتين: أن اللعب يرتبط بالتعلم، وأن اللعب يعنى بالجمال.
في ظل هذا، قد يكون من المفيد التفكير بشأن اللعب في إطار الأخلاق. لعل من الأشياء التي يقوم بها الفلاسفة التمييز بين مختلف أشكال الأشياء الطيبة. فبعض الأشياء الطيبة، مثل المال، تكون مرغوبة؛ لأنها تساعد على جلب أشياء أخرى. ثمة أشياء طيبة أخرى، مثل الحب، تكون مرغوبة لذاتها وليس باعتبارها وسيلة لغاية. وبين هذين النوعين وجد نوع ثالث من الخير، مرغوب لذاته ولأنه يجلب لنا أشياء أخرى طيبة.
16
إذن لأي نوع من الخير ينتمي اللعب؟
ذهب عدد من الناس إلى أن اللعب من النوع الأول من الأشياء الطيبة؛ لأننا حين نلعب نستطيع تعلم أشياء نافعة بطريقة ممتعة. وقد كتب زينوفون (حوالي 431-355ق.م) أن أي شخص كان يريد التعلم، كان عليه تعلم الصيد.
17
بعدها، حسبما قال، لو تبقى لديك أي أموال، وجب عليك دراسة المواد الأخرى. كان زينوفون يعتقد أن الشباب، في مطاردتهم المرحة للطرائد البرية، يتعلمون كل الدروس التي يحتاجون إليها لإدراك النجاح في الحياة وفي الحرب.
على النحو نفسه، جرم الملك إدوارد الثالث ملك إنجلترا (1312-1377) ممارسة ألعاب الكرة؛ فقد أراد أن يجعل الإنجليز رماة أفضل بإرغامهم على اللعب بالأقواس بدلا من الكرات. بعد ذلك استخدم إدوارد القوس الطويل للدفاع عن الاسكتلنديين لجز زهرة النبالة الفرنسية في كريسي.
على نحو أكثر سلمية، ادعت المربية الشهيرة ماريا مونتيسوري (1870-1952) أن اللعب هو العمل الذي يؤديه الأطفال. وكثيرا ما يكون مفاد الأمر أننا إذا كنا نقضي وقتا طيبا، فإننا بذلك نتعلم. وتلك واحدة من الأفكار التي يستند إليها الكتاب على أي حال؛ إنك ستستمتع بتعلم الفلسفة من خلاله.
ذهب آخرون، مثل سقراط (حوالي 470-399ق.م)، إلى أن هناك على الأقل نوعا معينا من اللعب أقرب إلى النوع الثاني من الخير: شيء طيب لذاته بشكل صرف. وقد أخبرنا أفلاطون (حوالي 428-348ق.م) أن سقراط كان يؤمن بأن أقيم صنوف اللعب هو الفلسفة. فتكريس نفسك للتلاعب بأنبل وأسمى الأفكار أشبه بزرع حدائق جميلة ببذور الفكر.
18
والتفكير الفلسفي المرح يصبح هو الثمرة التي تجنيها.
اختلف أرسطو (384-322ق.م) مع سقراط بشأن هذه النقطة. ففي كتابه الشهير «الأخلاقيات النيقوماخوسية»، ذهب أرسطو إلى أن اللعب ليس الشيء الأسمى، بل هو مثال للنوع الثالث من الخير؛ فنظرا لأن اللعب له نوع من الجمال مقتصر عليه، فإنه مرغوب لذاته، لكنه أيضا ضروري لإعدادنا لأشياء أخرى تستحق. وبكلماته الخاصة «نحن نلعب حتى نستطيع أن نكون جادين.»
19 (4) اللعب المغامر: تعليم بيلبو
لا شك أن التعليم يدربنا ويوجهنا. وكما قال الشاعر ألكسندر بوب (1688-1744): «التعليم هو أداة تشكيل العقل المشترك/مثلما ينحني الغصن حتى تميل الشجرة في اتجاهه.»
20
واللعب جزء من التعليم. وهذا يساعدنا على أن نتفهم بشكل أكبر لماذا كان بيلبو هو الشخص - أو بالأحرى الهوبيت - المناسب للعب دور اللص.
على الرغم من أن الأقزام كانوا يتشككون في أن بيلبو لن يجيد دوره كلص، كان جاندالف يعلم شيئا لم يكونوا يعلمونه عن الهوبيت: أن «بإمكانهم التحرك بهدوء شديد، والاختباء بسهولة ... وأن لديهم مخزونا من الحكمة والأقوال الحكيمة التي لم يسمع بها البشر مطلقا أو نسوها منذ زمن طويل.»
21
من الواضح أن جزءا كبيرا من هذا يتأتى من ممارسة ألعاب؛ مثل: الغميضة، والاستماع للقصص، وغناء الأغنيات. وجزء من متعة رواية «الهوبيت» يكمن في مشاهدة كيف يكتشف بيلبو نفسه، مع كل مغامرة، كما أن حياته في الشاير قد هيأته لمغامراته على نحو جيد؛ فحين يقع الأقزام في أسر العناكب في ميركوود، نعلم أن:
بيلبو كان يجيد الرمي بالحجر ... فقد اعتاد في صباه أن يمارس رمي الأحجار نحو الأشياء ... وحتى حين صار شابا يافعا ظل يقضي قدرا لا بأس به من وقته في حلقات الرمي، ورمي السهام، والتصويب على لوحة الرمي، ورمي الكرات، ولعبة القناني الخشبية التسع، وغيرها من الألعاب الأخرى الهادئة التي تنتمي لنوعية ألعاب التصويب والرمي؛ لقد كان حقا يجيد الكثير من الأشياء، إلى جانب نفث حلقات الدخان، والألغاز، والطهي، التي لم يسعني الوقت لأخبرك عنها.
22
لقد كانت تسالي الصبا لدى بيلبو، مثلما كان الحال في الغالب «حين كان هناك القليل من الضوضاء والمزيد من الخضرة»،
23
بمثابة تهيئة للمغامرة. وليس في ذلك مفاجأة للفلاسفة في الواقع. فتجد جوزيف إسبوسيتو يصف اللعب بأنه انفتاح على الاحتمال. إن جزءا من أسباب انخراطنا في الرياضة يكمن تحديدا في عدم معرفتنا بالنتيجة. فاللعبة لا تكون لعبة إذا كانت النتيجة محسومة كليا قبل بداية اللعب. فنحن نلعب ليس فقط من أجل التمرين أو الفوز، ولكن لخوض المواجهة مع الاحتمال الذي يقدمه اللعب. فكتب يقول:
إن تسلق الصخور يعد رياضة وليس مجرد تمرين رياضي بسيط؛ لأنه يضم لحظة من الاحتمالية المتمثلة في موطئ القدم أو قبضة اليد على الصخرة اللذين قد ينهاران دون ملاحظة منك. في حين تتمثل الاحتمالية في رياضة صيد السمك في التقاط السمكة للطعم ... إن الطبيعة حين تسنح لها الفرصة للعب معنا، كما هو أيضا في رياضة القوارب الشراعية، أو ركوب الأمواج، أو صيد الحيوانات، أو التزحلق ... إلخ؛ تتجاوز هذه الأنشطة مجرد النشاط الترفيهي لتصبح مناسبات للعب الرياضي.
24
بالمثل، يقول درو هايلاند إن اللعب ينطوي على «موقف من الانفتاح المتجاوب» على الخبرات الجديدة.
25
ولعل في ذلك تفسيرا لجانب التوك المغامر لدى بيلبو. فحين يتوق التوك للمغامرة، لا ينتهجون أسلوبا بعيدا عن أسلوب الهوبيت. على العكس، فهم يأخذون حب الهوبيت للعب نحو نهايته الطبيعية: إذا كنت تحب اللعب، فهذا لأنك تحب الاحتمالات، وأعظم الاحتمالات هي تلك التي نطلق عليها «مغامرات».
لنعد صياغة ما قاله شيلر: إن حياة الهوبيت جيدة ومريحة، ولكنها تحتاج إلى بعض المغامرة لكي تكتمل. إن بيلبو لا يحفز بالثروة، أو الخوف، أو الوطنية، أو أي شيء آخر خارج نطاق المغامرة؛ إنه يواصل المغامرة لذاتها.
26 (5) اللعب بالنار: جاندالف والجوبلن
ولكن ليس كل اللعب متساويا، ويعزى هذا جزئيا إلى أنه ليس موجها بالقدر نفسه نحو الجمال. لقد ذكرت سابقا أن كل من يقطن الأرض الوسطى تقريبا يمارس اللعب. ربما لا يكون من اللائق أن أقول هذا، لكن جاندالف والجوبلن يجمع بينهما شيئان؛ الأول: هو حب كليهما للأغنيات، أما الثاني: فهو أن كليهما يلعب بالنار. وفي كلتا الحالتين بالطبع، يعتبر لعب جاندالف أفضل من لعب الجوبلن.
لنبدأ النار. يحظى جاندالف بموهبة في الألعاب النارية؛ مما يجعله محور أفضل حفلات الشاير. وأحيانا ما تكون الألعاب النارية مفيدة أيضا لأشياء مثل إلهاء الجوبلن وإحراق الوارج. ومثل ألعاب بيلبو في الطفولة، تركز لعب جاندالف على الجمال، واتضح أنه مفيد أيضا.
يحب الجوبلن الانفجارات أيضا. فنقرأ في الرواية:
إن الجوبلن قساة، وأشرار، وذوو قلوب حقودة. إنهم لا يصنعون أشياء جميلة، لكنهم يصنعون أشياء بارعة ... من غير المستبعد أن يكونوا قد اخترعوا بعضا من الآلات التي أرقت العالم منذ ظهورها، لا سيما الآلات البارعة المخصصة لقتل أعداد كبيرة من الناس دفعة واحدة؛ لأن العجلات والمحركات والانفجارات طالما أدخلت عليهم البهجة والسرور ، كما يسعدهم أيضا ألا يعملوا بأيديهم أكثر مما يطيقون.
27
إن جاندالف يلعب بالألعاب النارية لأنها جميلة؛ أما الجوبلن فيعبثون بالانفجارات فقط «لأنها نافعة». والفارق بين هذين النهجين يتعلق، مرة أخرى، بالاحتمالية. فالجوبلن لا يريدون الاحتمالات أو المغامرات، بل يريدون القيام بالأشياء بجهد أقل.
يتضح موقف الجوبلن تجاه اللعب أكثر في غنائهم. فأغنياتهم لا تضم بين كلماتها أي دهشة، أو جمال، أو غموض. إنهم يغنون ليدفع كل منهم الآخر للعمل: «مطرقة وملاقيط! مقرعة ونواقيس! ... العمل ثم العمل! ولا تتجرأ على الهرب!»
28
قارن هذه الأغنية بأغاني ريفيندل الاحتفالية المرحة، كأغنية بحارة البراميل، الذين يتغنون بالطبيعة البديعة، أو أغاني مدينة البحيرة المليئة بالأمل والتنبؤات. فالجوبلن، سواء مع الملاقيط أو في الأغنيات، يحبون المهارة، لا الجمال. (6) اللعب وفقا للقواعد: الألغاز والأخلاقيات
ثمة مبالغة في تقدير البراعة، أو على الأقل هي ليست بأهمية اللعب والجمال. إن عنوان هذا الفصل مشتق من كتاب «الإنسان اللاعب» (هومو لودينز)، وهو كتاب عن الفلسفة واللعب للمؤرخ الهولندي يوهان هويزينجا (1872-1945). يلعب عنوان كتاب هويزينجا على مصطلح «هومو سابينز»، أو الإنسان العاقل، وهو الاسم الذي نطلقه على جنسنا للتأكيد على براعتنا ومهارتنا في معرفة كيفية القيام بالأشياء. يعتقد هويزينجا أن الناس الذين توصلوا لهذا الاسم كانوا مثل الوارج ينبحون فوق الشجرة الخاطئة. فالبراعة ليست هي ما تجعلنا ما نحن عليه، بل اللعب.
زعم هويزينجا أن الفلسفة ذاتها ولدت من رحم التلاعب بالألفاظ؛ تحديدا الألغاز.
29
ففي أثينا القديمة كان الرجال الذين يطلقون على أنفسهم السوفسطائيين يعلمون الآخرين كيفية الحديث ببراعة؛ بحيث يتمكنون من الفوز بالانتخابات والدعاوى القضائية. وكان السوفسطائيون يتحدى كل منهم الآخر بالألغاز لترسيخ مكانتهم باعتبارهم مفكرين. ومن داخل تلك البيئة جاء سقراط، أول فيلسوف غربي عظيم، الذي اكتشف شيئا مهما خلف السخافة الظاهرة للألغاز.
في الألغاز، نتلاعب بالمعاني المتعددة للكلمات ونستكشف على نحو هزلي مرح الصلات بين الأشياء التي قد لا يبدو بينها رابط. بطريقة ما، تعد هذه هي بداية الميتافيزيقا (دراسة ما هو حقيقي بشكل نهائي) وعلم المعرفيات (فرع الفلسفة الذي يدرس المعرفة والاعتقاد). أيضا توفر الألغاز رؤية ثاقبة داخل الأخلاقيات، أو كيف ينبغي أن نتعايش مع الآخرين.
وتشير خطبة ثورين على فراش الموت - التي كثيرا ما يستعان بها على سبيل الاستشهاد - إلى أنه هو أيضا تعلم أن الحياة المرحة المليئة باللعب، في الواقع، قد تجعلنا على صلة بالأخلاقيات وبأفضل شكل للحياة.
30
ولعل هذا ما جعل شيلر يزعم أن «الإنسان يلعب فقط حين يكون مدركا بشكل كامل لكلمة إنسان، ولا يكون إنسانا بشكل كامل إلا أثناء اللعب.»
31
لقد كان اللعب، من منظور شيلر وأرسطو، نوعا من الخير المتوسط. فهو مرغوب في ذاته، ولكنه أيضا يوحد كل أفكارنا الأخرى. فحين نلعب، تتيح لنا مواجهتنا مع جمال الاحتمالات ربط انطباعاتنا الحسية بأفكار، وقواعد، وتعريفات أكثر عمومية. ولمزيد من التبسيط لهذه النقطة نقول إن اللعب هو ما يتيح لنا معرفة ما هو أخلاقي. فإذا كنا «هومو سابينز» (بشرا عاقلين)، فهذا فقط لأننا في المقام الأول «هومو لودينز» (أي بشر لاعبون). (7) الترويح والإبداع الفرعي
تعد هذه الرؤية للعب قريبة إلى رؤية تولكين بشكل ظاهري. ففي العديد من كتبه، يقدم تولكين صورا لمعنى أن تكون فنانا. فالفن، كما يشير، هو نوع من اللعب نحاكي فيه أسمى الخلق، الخلق الإلهي. وقد أطلق تولكين على هذه العملية «الإبداع الفرعي».
ثمة مثال لذلك نجده في «السليمارية»، حين يوضح أوليه لإلوفاتار (الإله) لما صنع الأقزام دون علم الأخير. فيصف أوليه إبداعه باعتباره لعبا: «إن صنع الأشياء يتم في قلبي الذي يشكل جزءا من تكويني الذي صنعته أنت، والطفل القليل الفهم الذي يصنع لعبة من أفعال أبيه قد يفعل ذلك دون أدنى تفكير في سخرية أو استهزاء، ولكن لأنه ابن أبيه.»
32
إن تولكين لم يكتب قصصه عن الأرض الوسطى من أجل الربح بقدر ما كتبها من أجل الترويح، أو حسبما جاء على لسانه، الإبداع الفرعي؛ ذلك العمل الإبداعي الهزلي لفنان يقلد الإله. (8) حدود اللعب
غير أن تولكين يذكرنا بأن اللعب له حدوده. على سبيل المثال، يشير الاستشهاد المذكور أعلاه من «السليمارية» إلى أنه ليس كل اللعب متساويا. فأوليه يدرك أنه لو كان سيتهكم على إلوفاتار في لعبه، لكان ذلك سببا في انحدار أوليه نفسه والحط منه، ولاستحق التوبيخ. تذكر ما قاله أرسطو: اللعب مهم، ولكنه يهدف لإعدادنا لكي نكون جادين.
وقد اتفق إيمانويل كانط (1724-1804) مع هذا الرأي.
33
فاللعب، حسبما قال، يدرب مهاراتنا، ولكن بدون العمل والانضباط لن نكتسب أية مهارات أو ننمي عقولنا أبدا. وحذر كانط من أن اللعب يحوي بين طياته مخاطر أيضا، لا سيما في الطريقة التي نتعامل بها مع الآخرين حين نلعب. فحين نلعب، لا يجب أن نعامل الآخرين كلعب، بل إن كانط قال إن منح الأطفال الأشياء التي يريدونها لا يفسدهم؛ فالطريقة الوحيدة لإفساد طفل هي أن يعامل الوالد الطفل كلعبة يلعب بها. وقد أشار كانط إلى أن هذا يعد إخفاقا في احترام الشخص الذي يصبح عليه الطفل.
إذن فالخطر الكامن في اللعب هو الإخفاق في أخذ الآخرين بالجدية التي يستحقون أن يؤخذوا بها. ويقدم لنا تولكين أمثلة عدة لهذا. فكما قال بيلبو: «لا تسخر أبدا من التنانين الحية!»
34
أو تذكر جاندالف وهو أمام أورثانس في «البرجان» حين قال: «بإمكان من يشاء منكم أن يأتي معي للتحدث إلى سارومان، ولكن احذروا! ولا تمزحوا! فهذا ليس الوقت المناسب للمزاح.» وحين سأل بيبين عن مكمن الخطر، أجاب جاندالف بأن الخطر الأعظم على أولئك الذين «يتجهون إلى باب سارومان تغمرهم السعادة.» ومن ثم يخفقون في أخذ قوة خطاب الساحر بالجدية التي ينبغي أن يأخذوها بها.
35
لقد عرف تولكين أن التلاعب بالألفاظ قد يكون ممتعا ومرحا، ولكنه يمكن أيضا أن يكون قويا وخطرا. (9) الأستاذ منهمك في اللعب
كان سي إس لويس (1898-1963)، صديق تولكين، يدري قوة الكلمات المصاغة بإتقان كأي شخص آخر، وقد قرأ «الهوبيت» وأحبها. وفي مراجعته النقدية ل «الهوبيت» عام 1937، أكد لويس على المرح الذي يتخلل أعمال تولكين. فقد كتب لويس يقول: «الهوبيت، وإن كانت مختلفة تماما عن أليس في بلاد العجائب، فإنها تشبهها في كونها عمل أستاذ منهمك في اللعب.»
36
وكما تنبأ لويس في مراجعته النقدية، فقد منحنا لعب الأستاذ عملا كلاسيكيا خالدا. فأي شهادة أعظم من تلك نحتاج إليها على أهمية اللعب؟!
هوامش
الجزء
الألغاز والخواتم
الفصل الحادي عشر
«سيد السحر والآلات»
تولكين والحديث عن السحر والتكنولوجيا
دبليو كريستوفر ستيوارت
تبرز رواية «الهوبيت» الكثير من السحر؛ بعضه غريب الأطوار، وبعضه الآخر عملي. ففي أول لقاء لبيلبو بجاندالف، يتضح جليا أنه يعرفه بالفعل من شهرته باعتباره «الساحر المتجول» المسئول عن عروض الألعاب النارية الرائعة التي يتذكرها من احتفالات قدماء التوك بليلة منتصف الصيف، وكذلك حكايات «التنانين والجوبلن والعمالقة وإنقاذ الأميرات وحظ أبناء الأرامل غير المتوقع.» كان جاندالف أيضا، بحسب ما يتذكر بيلبو، هو من «منح التوك القدماء زوجا من الأزرار الماسية السحرية كانت تثبت نفسها بنفسها ولا تنحل أبدا إلى أن تؤمر بذلك.»
1
ثمة الكثير من الأشياء الأخرى المتناثرة على مدار أحداث «الهوبيت» لها خواص سحرية، صنعت «بواسطة السحر»، أو عولجت بواسطة السحر.
2
ففي أثناء «الحفل المفاجئ» في باج إند في بداية القصة، يدخل ثورين وجاندالف في مسابقة لحلقات الدخان. وبينما كانت حلقات ثورين الدخانية عندما تطفو «حيثما كان يأمرها بأن تذهب»، كان جاندالف يرسل حلقة دخان أصغر عبر كل منها، وبعدها كانت «تتحول إلى اللون الأخضر وتعود للتحليق فوق رأس الساحر.»
3
وفيما بعد، في وسط مفاوضاته مع بيلبو بعد العودة إلى باج إند، يشير ثورين إلى «أروع اللعب وأغربها» التي كانت تصنع في الورش أسفل الجبل على يد أسلافه، «التي لا توجد مثيلتها في العالم هذه الأيام.»
4
تشمل الأمثلة للتطبيقات الأقل غرابة والأكثر عملية للسحر إشعال جاندالف طرف عصاه السحرية لتوفير مصدر ضوء في الأماكن المظلمة. وفي مواجهة بيلبو للعمالقة، تفشل أولى محاولاته الجادة لإظهار براعته باعتباره لصا حين تقول محفظة أحد العمالقة فجأة: «من أنت؟» وهو يسحبها من جيبه. وبعد هروبهم النهائي من العمالقة، بفضل كل من عودة جاندالف في التوقيت المناسب وبزوغ الفجر (الذي يجعل العمالقة يتحولون إلى حجر حسب القواعد السحرية للأرض الوسطى)، قام الأقزام بدفن قدور الذهب التي وجدوها في كهف العمالقة، «محيطين إياها بالكثير من التعاويذ السحرية» لحمايتها حتى عودتهم المرجوة. وفي ميركوود، يشعر الجميع بالارتياح لاكتشافهم أن بيوت العنكبوت المقيتة التي تملأ الغابة لا تمتد عبر الطريق الذي يسافرون عبره، سواء أكان ذلك «بسبب سحر ما»، أم أية وسيلة أخرى.
5
ثمة أمثلة أخرى للسحر تشمل نيران جن الغابة في ميركوود، التي كانت تشتعل وتتأجج ثم تخمد فجأة «بفعل السحر» كلما دخل متطفلون إلى البراري، والحروف القمرية على خريطة ثور، التي يوضح إلروند أنها «لا يمكن أن ترى إلا حين يسطع القمر خلفها، والأكثر من ذلك أنه لا بد أن يكون قمرا بنفس الشكل ومن نفس الموسم كاليوم الذي كتبت فيه.»
6
وفي المعركة مع الجوبلن في الجبال الضبابية، نجد نصالا قديمة من صنع الجن مثل سيف جاندالف (جلادميرج) وسيف بيلبو (ستينج) التي تلمع «بالغضب» كلما تواجد الجوبلن. ووسط الكنز الذي استرده الأقزام من سموج كان هناك قيثارات سحرية ظلت متناغمة على الرغم من قدمها.
7
ومثل المحاولات البشرية للتلاعب بالطبيعة من خلال العلم، يعمل سحر الأرض الوسطى وفقا لقواعد محددة للغاية. ويقال لنا في أكثر من موضع عن التعاويذ التي تعجز عن إعمال تأثيرها، مثل محاولات جاندالف المتكررة لاستخدام التعاويذ لفتح الباب الحجري الذي يغلق المدخل المؤدي إلى كهف العمالقة أو «بقايا تعاويذ الفتح المكسورة» التي حاول بها الأقزام، دون نجاح، فتح الباب السري المؤدي إلى الجبل الوحيد.
8
إن السحر في الأرض الوسطى ليس وسيلة يمكن بها «انتهاك» المبادئ التي تحكم سير العالم. إنه ليس قوة تجعلك تفعل أي شيء يمكنك تخيله. فيقال لنا في بداية القصة إن حتى جاندالف لا يمكنه أن يفعل كل شيء، على الرغم من أنه قد استطاع، بالطبع، أن «يفعل الكثير من أجل أصدقاء في موقف صعب.» إن مهارات جاندالف السحرية العظيمة هي، إلى حد كبير، ثمرة سنوات من الدراسة والممارسة المثابرة، ومواهبه الخاصة في السحر التي تتضمن النار والأنوار (مثل الألعاب النارية المبهرة التي يفتتح بها النسخة الفيلمية من «رفقة الخاتم»)، هي نتاج دراسة خاصة للمادة على مدى سنوات عدة. ويبذل جاندالف أفضل ما يمكنه بهذه المهارات كلما وجد نفسه في موقف صعب؛ مثل هروبه من الجوبلن «وسط وميض رهيب مثل البرق في الكهف»، وإنقاذه للجمع بأسره بعد ذلك بفترة وجيزة بينما كان يخمد نيران الجوبلن الرهيبة «داخل برج من الدخان الأزرق المتوهج ... الذي نثر شررا أبيض خارقا بين الجوبلن كافة»، وأكواز الصنوبر المشتعلة التي قذفها من فوق إحدى الأشجار حين كان ورفاقه محاصرين من قبل الذئاب.
9
حتى الأحداث السحرية في «العالم الثانوي» للأرض الوسطى لا بد أن تتوافق مع قوانين ذلك العالم، التي تجعل سحر تولكين مختلفا تمام الاختلاف عما يعتقد معظم الناس أنها «معجزات».
10
كان للفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم (1711-1776) تعريف شهير للمعجزة بأنها «خرق لقوانين الطبيعة.» ولما كانت التجربة هي دليلنا الوحيد في «أمور الواقع» و«الخبرة الموحدة» تكمن وراء إيماننا بقوانين الطبيعة، حسبما قال هيوم، فمن غير المنطقي تماما تصديق شهادة أي إنسان بأن معجزة ما قد وقعت.
11
وعلى الرغم من أن المعجزات الحقيقية تحدث بالفعل في الأرض الوسطى - مثل عودة جاندالف إلى الحياة في «البرجان» - فإنها نادرة بشكل جلي للغاية. فحين يخشى سكان الأرض الوسطى قوى السحر، فهذا ليس لأنهم يعتقدون أن أولئك الذين يستخدمونها قادرون على خرق قوانين الطبيعة، ولكن لأنهم يشكون (وكثيرا ما يكون شكهم في محله) في أن معرفة الآخرين بتلك القوانين تفوق معرفتهم على نحو شاسع؛ مما يمكن خصومهم من خلق تأثيرات أكثر تعقيدا وربما أكثر خطورة مما يستطيعون هم أنفسهم خلقها.
علاوة على ذلك، يمكن أن يكون السحر قويا أو ضعيفا، شأنه شأن قوى الطبيعة الأخرى؛ مثل الكهرباء، والجاذبية، والمغناطيسية. فكر، على سبيل المثال، في المشهد الذي يدور في غابة ميركوود حين يشير بيلبو على نحو مفعم بالأمل إلى أن سحر النهر المسحور ربما لا يكون قويا كفاية لإيذاء أحد إذا ما لامس أحد جزءا من حبل مبتل.
12
فالسحر له حدوده، كما الحال، حين يتم إخبارنا أن «حتى الخواتم السحرية لا تعين كثيرا في مواجهة الذئاب»، الذين «يملكون حاسة شم أكثر حدة من الجوبلن، ولا يحتاجون لرؤيتك حتى يمسكوا بك.»
13
في سياق «الهوبيت»، نعلم أيضا أنه على الرغم من أن خاتم بيلبو السحري يجعلك تختفي تماما، فإنه لا يلغي ظلك في ضوء النهار (بل يجعلك فقط «مهتزا وشاحبا»)، وهو ما يكتشفه بيلبو أثناء فراره من كهف الجوبلن. كذلك لا يلغي الخاتم السحري وجود آثار أقدامه المبتلة، أو سيل قطرات الماء المتساقطة من ثيابه، أو صوت عطساته المكتومة أثناء هروبه من جن الغابة.
14
لذا على الرغم من أن خاتما سحريا قد لا يوفر «حماية كاملة» وسط هجوم الجوبلن، «ولا ... يوقف السهام الطائرة والرماح الجامحة»، فإنه يساعد بشكل كبير «في الابتعاد عن الطريق» ومنع رأسك من أن «يقع عليه الاختيار بشكل خاص لتلقي ضربة قاصمة من أحد مبارزي الجوبلن.»
15
حتى الأقزام يقدرون فكرة أن «بعض الفطنة، إلى جانب الحظ وخاتم سحري ... تعد مقتنيات في غاية النفع.»
16
من أوائل الأشياء وأكثرها تشويقا التي نعرفها عن الهوبيت أن «هناك القليل من السحر، إن وجد من الأساس بشأنهم»، خلاف «النوع العادي الذي يساعدهم على الاختفاء بهدوء وبسرعة حين يأتي رهط كبير أحمق مثلك ومثلي متخبطين» وهو ما يعد مسألة استراق واختفاء أكثر من كونها سحرا فعليا. وبالإضافة إلى قدرتهم على التحرك بهدوء والاختباء بسهولة، يتم إخبارنا بأنهم «لا يفقدون إحساسهم بالاتجاه بسهولة تحت الأرض»، بفضل كونهم «أكثر منا اعتيادا على العبور من الأنفاق.»
17
في مقدمة «سيد الخواتم»، نعلم أن الهوبيت يحظون ب «علاقة صداقة وطيدة مع الأرض»، ولم يدرسوا السحر من أي نوع قط في الواقع. وعلى الرغم من أن الهوبيت بارعون في استخدام الآلات ويحظون بمهارة في العديد من الحرف، فإنهم «لا ولم يفهموا الماكينات التي تتجاوز في تعقيدها منفاخ كير، أو طاحونة ماء، أو نولا يدويا»، ولا «يتعجلون بلا داع.»
18
في موقفهم تجاه الماكينات والمشغولات المعدنية، يتناقض الهوبيت بشكل حاد مع الجوبلن، الذين «لا يصنعون أشياء جميلة، ولكن ... يصنعون الكثير من الأشياء البارعة.» فالجوبلن يتقنون بشكل خاص صنع أدوات لحفر الأنفاق (وهو فن لم يتفوق عليهم فيه أحد سوى الأقزام)، وكذلك الأسلحة وأدوات التعذيب. علاوة على ذلك، يعتبر الجوبلن مسئولين عن «اختراع بعض من الآلات التي أرقت العالم منذ ظهورها، لا سيما الآلات البارعة المخصصة لقتل أعداد كبيرة من الناس دفعة واحدة؛ لأن العجلات والمحركات والانفجارات طالما أدخلت عليهم البهجة والسرور، كما يسعدهم أيضا ألا يعملوا بأيديهم أكثر مما يطيقون.» غير أنه في وقت تأليف «الهوبيت»، «لم يتقدموا (حسب الاسم الدارج) حتى هذه اللحظة» مثل بشر العصر الحالي في اختراع أسلحة الدمار الشامل.
19 (1) إرادة ممارسة السحر
يقدم التهكم في تعليق تولكين عما حققه الجوبلن من تطورات في صنع الأسلحة المريعة دليلا لرسالة مهمة واحدة على الأقل تقف وراء تعامل تولكين مع مسألة السحر في «الهوبيت» وتطورت لتصبح أكثر اكتمالا في «سيد الخواتم»؛ أن مجرد «قدرتنا» على القيام بشيء «سحري» بواسطة وسائل علمية لا يعني أننا «ينبغي» أن نفعله.
كان الجوبلن صنيعة مورجوث، سيد الظلام الأول للأرض الوسطى، تهكما على الجن. لا نعرف الكثير عن تاريخ الجن في «الهوبيت»، ولكن ما نعرفه بالفعل يقدم الكثير من المعلومات. فيقال لنا، على سبيل المثال، إنه على الرغم من أن جن غابات ميركوود هم أبناء عمومة لجن الغرب الساميين، فإن جن الغابة «أكثر خطورة وأقل حكمة» من الجن الساميين، الذين ارتحلوا إلى فايري في الغرب؛ حيث «عاشوا لزمن طويل، وصاروا أعدل، وأكثر حكمة واطلاعا، واستغلوا سحرهم ومهارتهم البارعة في صنع الأشياء الجميلة والمذهلة، قبل أن يعود بعضهم إلى العالم الرحيب.»
20
يصر تولكين على أن «السحر» ليس الكلمة المناسبة تماما للبراعة الخاصة التي يحظى بها الجن. وتعد كلمة «ممارسات ساحرة» كلمة أفضل؛ لأن ما يزاوله الجن أقرب للفن منه إلى «العنصر السحري للسحر، مثلما يسمى.»
21
إن سحر الجن لا يهدف إلى إحداث تغيير في العالم المادي بقدر ما يهدف إلى خلق عالم ثانوي مواز في عقولنا من أجل البهجة، أو الإلهام، أو التوجيه.
أما السحر، في المقابل، فيسعى إلى تحقيق رغبتنا في الأشياء التي لا تقدم نفسها لنا بشكل طبيعي في سياق خبرتنا أو التي لا يمكن الحصول عليها بواسطة «قدراتنا أو مواهبنا الداخلية الفطرية»؛ ومن ثم يمكن تحقيقها فقط بوسائل مصطنعة (وحتى حينذاك يتم «دون رضا حقيقي»). وبذلك يسعى السحر، على عكس الممارسات الجذابة الساحرة للجن، «لخلق قوة» من خلال خلق تأثيرات حقيقية في العالم المادي.
22
غير أن سحر الجن هو فن «محرر من كثير من قيوده الإنسانية؛ فهو أكثر تلقائية، وأكثر سرعة، وأكثر نضجا.» وبوصفه فنا، فإن هدفه هو الإبداع الفرعي وليس «الهيمنة وإعادة التشكيل المستبدة للخلق.»
23
وهنا يكمن التناقض بين «سحر» الفيري (مثل مرآة جالادريل) و«الوسائل السوقية للساحر العلمي الكادح»، وكذلك الصلة بين النوع الأخير من السحر والتكنولوجيا الحديثة، والتي يخدم جزء كبير منها الغرض نفسه في عالمنا شأنها شأن أورك سارومان الخارقين المصممين جينيا (أورك- هاي)، أو مدق سورون السحري المسمى جروند.
24
في إحدى رسائله، يميز تولكين
magia (الخاصية السحرية) عن
goeteia (وهي كلمة يونانية تعني «السحر» أو «الشعوذة») والتي لا تسعى لخلق تأثيرات حقيقية في العالم المادي، ولكن تهدف بدلا من ذلك لخلق أوهام. (بالمثل، تعد
goeteia
أقرب لما نعني به عادة نوع الأشياء المعروضة للبيع في محال مستلزمات الألعاب السحرية، أو العروض التي يؤديها السحرة المحترفون على خشبة المسرح).
إن كليهما ليس جيدا أو سيئا بطبيعته، ولكنه يصبح كذلك باعتباره نتيجة ل «دوافع أو غرض أو استخدام» الساحر (أو العالم). والدافع السيئ لدرجة كبيرة هو «السيطرة على الإرادة الحرة للآخرين.» وتستخدم كل من قوى الخير وقوى الشر «الخاصية السحرية» و«الشعوذة»، ولكن قوى الشر تستخدم «الخاصية السحرية» من أجل «دحر كل من الأشياء والأشخاص»، بينما تستخدم «الشعوذة» بغرض «الإرهاب والإذلال». والتأثيرات المشعوذة للجن لا يقصد بها الخداع، وإن كانت قد تخدع الآخرين دون قصد. والجن أنفسهم لا ينخدعون أبدا بأعمال «الشعوذة»، بل إن جاندالف والجن يميلون إلى التقتير في استخدامهم للخاصية السحرية، التي يميلون إلى توظيفها فقط «لأغراض نافعة محددة »، مثل الهروب من الخطر (ومن الأمثلة الجيدة استخدام جاندالف المتكرر للنار والأنوار ونيران جن الغابة في رواية «الهوبيت»).
25
تنجذب قوى الشر في الأرض الوسطى للماكينات والآلات للعديد من نفس الأسباب التي تجذبهم للسحر. بل إنه بالنظر إلى أن «العلامة المميزة لأي ساحر عادي» في مقابل المشعوذ هي «الطمع في القوة الأنانية»، فإن هذا بالتحديد ما يجب أن نتوقعه.
26
إن «الدافع الأساسي» للخاصية السحرية هو «الآنية: السرعة، وتقليل الجهد، والتقليل أيضا إلى أدنى حد (أو إلى نقطة التلاشي) من الفجوة بين الفكرة أو الرغبة والنتيجة أو التأثير.»
27
إن «مأساة وإحباط جميع الآلات والماكينات التي تقبع هناك» تكمن في كونها مثل السحر، تنبثق من نفاد الصبر و«الرغبة في القوة والسلطة، وتفعيل الإرادة على نحو أسرع.»
28
ومن ثم، لما كان «العدو» في الأرض الوسطى (سورون) «دائما ما ينشغل «تلقائيا» بالسيطرة البحتة» ولا يستطيع صبرا للحصول على نتائج سريعة، فإنه يعتبر أيضا «سيد السحر والماكينات.»
29
كل هذه الفوارق ذكرت على سبيل التلميح فقط في «الهوبيت»، على الرغم من أن القصة تفترض مسبقا بشكل واضح وجود فارق بين السحر «الطيب» و«الشرير». فعناكب ميركوود، على سبيل المثال، لا يحبون «السحر الطيب» الذي يبدو أنه يتباطأ في الأماكن التي تصاحب فيها نيران جن الغابة ما يمارسونه من عربدة. وفي نهاية «الهوبيت»، يشرح جاندالف في النهاية «الأعمال الملحة في الجنوب» التي منعته من مرافقة الجمع في ميركوود. فقد تركهم لفترة من أجل حضور مجلس ل «السحرة البيض» - «سادة العلم والسحر الطيب» - ولإبعاد «الساحر الأسود»، المعروف في «الهوبيت» فقط باسم «نيكرومانسر» عن «حفرته السوداء في جنوب ميركوود.»
30
ويعد الخاتم الذي يكتشفه بيلبو بمحض المصادفة (أو هكذا يبدو) في كهف جولوم؛ هو قمة المصنوعات التكنولوجية للأرض الوسطى. وعلى الرغم من أننا في الهوبيت لا يتم إخبارنا إلا بأنه «خاتم للقوة »، فإنه يصبح فيما بعد حلقة وصل بين «الهوبيت» و«سيد الخواتم»؛ لتتم كتابته بأحرف كبيرة أثناء ذلك في اللغة الإنجليزية. و«دلالته الرمزية الأساسية» هي «الإرادة لبلوغ القوة البحتة، سعيا لأن يجعل من نفسه هدفا من خلال القوة المادية والآلية، وأيضا بالأكاذيب حتما.»
31 (لاحظ كلمة حتما).
وجزء من استمالته للبشر يكمن في منفعته في السعي الأحمق غير المدروس لبلوغ الخلود بواسطة الآلات أو السحر (وهو ما لا يختلف عن حجر الفلاسفة الخاص بعلماء الكيمياء في عصر النهضة)، والذي يراه تولكين بوصفه جانبا من جوانب «الحماقة والخبث الأقصيين» للبشر؛ الذي يقود «الصغار ليكونوا جولوم، والكبار ليكونوا من أشباح الخاتم.»
32 (يقول تولكين في موضع آخر إن «الموت والرغبة في الخلود» هما محور حكاياته عن الأرض الوسطى).
33
إن «الشر المخيف» الذي ينشأ عن التعجل لتوظيف «السحر والآلات» لتحقيق أهداف المرء إنما ينشأ «من أصل طيب ظاهريا»؛ تحديدا «الرغبة في جلب النفع للعالم والآخرين.» غير أن ما يفسد هذا الهدف في النهاية هو أن المنفعة المقصودة يجري السعي ورائها «بتعجل ووفقا لخطط من يقدم هذه المنفعة» لا بتوافق مع الغرض والتخطيط الكوني «للإله الواحد»، إلوفاتار الخالق.
34
إن جزءا من تضليل الخاتم في الأرض الوسطى، وإغراء التكنولوجيا في عالمنا، لا يكمن في الوهم، بل في وجود رؤية محدودة أو جزئية للعالم. فالعلم التطبيقي دائما ما يتم تناوله برؤية لحل مشكلة بعينها، وكثيرا ما نصبح فاقدين للقدرة على رؤية كل شيء آخر في سعينا لإيجاد حل، غافلين عن العواقب التي لا نقصدها (فكر للحظات في التقنيات الطبية المنقذة للحياة أو الهواتف المحمولة).
يكن تولكين تعاطفا تجاه دافع العلم البحت؛ السعي وراء العلم لذاته دون أدنى تفكير في «القيام» بشيء بالمعرفة المكتسبة. وفي «سيد الخواتم»، يعد توم بومباديل تجسيدا لهذا السعي المجرد وراء المعرفة؛ فهو مدفوع بدافع وحيد هو حس الدهشة، الذي يفسر بشكل جزئي موقف اللامبالاة الذي يتخذه تجاه الخاتم، الذي لا يهدف إلا للسيطرة والاستغلال، وأيضا فشله في إحداث أي تأثير قابل للتمييز والإدراك عليه .
35
في المقابل، بقي سورون، الذي تاب نوعا ما بعد الإطاحة بموروجوث، في الأرض الوسطى ولديه رؤية لإعادة تأهيل ما أدرك أنه حطام «أهملته الآلهة»، إلا أنه في النهاية صار «شيئا يشتهي القوة الكاملة»، لا يعبأ إلا بأدوات السحر أو التكنولوجيا التي يمكن أن تساعده على تحقيق مآربه الشريرة.
36
يعتبر تولكين الآلة هي الشكل الأوضح «للرغبة في تفعيل الإرادة بمزيد من السرعة» و«أكثر ارتباطا بالسحر مما هو معروف عادة.»
37
وبالتأمل في فترة القرن ونصف القرن التي مرت منذ بداية الثورة الصناعية في إنجلترا، لاحظ أن «الآلات الموفرة للجهد لا تخلق سوى جهد وشقاء أسوأ لا نهاية لهما.» علاوة على ذلك، تضمن حقيقة الحرمان الإنساني أن «آلاتنا لا تعجز فقط عن تحقيق رغبتها (ألا وهي تحسين حياتنا)، ولكنها تتحول إلى شر جديد ورهيب.» ويرى تولكين، من وجهة نظره، أن الانتقال الحتمي «من ديدالوس وإيكاروس إلى قاذفة القنابل العملاقة» هو بالتأكيد «ليس تقدما على صعيد الحكمة»، ويعتبره أحد أعراض «مرض نفسي منتشر على مستوى العالم لا يدركه سوى قلة قليلة.»
38
في عام 1945، كتب تولكين إلى ابنه كريستوفر يقول: «حسنا، يبدو أن حرب الماكينات الأولى تقترب من فصلها الأخير غير الحاسم؛ تاركة الجميع، للأسف أكثر فقرا، وكثيرين ثكلى أو مشوهين، وملايين القتلى، وشيئا واحدا منتصرا: الآلات.» وأضاف في كلمات سوف تجد صدى لدى جماهير سلسلة أفلام «ماتريكس»: «مع تحول خدم الآلات إلى طبقة مميزة، سوف تكتسب الآلات قوة ونفوذا هائلا. ترى ما خطوتها التالية؟»
39
المشكلة هي أننا في أغلب الأحيان نطور التقنيات ونوظفها بشكل أسرع من تطويرنا للموارد المفاهيمية اللازمة للوقوف على تداعياتها (فكر، على سبيل المثال، في التطورات السريعة التي تطرأ حاليا على الهندسة الوراثية أو على الإنترنت، أو في تطورات الطاقة الذرية في النصف الأول من القرن العشرين). فمثل السحر، تعمل التكنولوجيا على تسريع تأثير أفعالنا على العالم وتضخيمه، بما في ذلك تلك الأفعال التي تنبع من نوايا خاطئة أو خبيثة. ففي أغلب الأحيان، مثلما يشير تولكين، تتجاوز رغبتنا في السرعة والقوة والسيطرة قدرتنا على التفكير بشكل مسئول بشأن العواقب الطويلة المدى والقيم الأكثر عمقا:
إذا كان هناك أية إشارة معاصرة في قصصي عن الأرض الوسطى من الأساس، فهي الإشارة إلى ما يبدو لي أنه الافتراض الأوسع انتشارا في عصرنا: أنه إذا كان من الممكن القيام بشيء، فلا بد من القيام به. إن هذا الافتراض يبدو لي خاطئا كلية. وأعظم الأمثلة على أفعال الروح والعقل تكمن في «النكران».
40
فقط في الفترة الأخيرة، وفي طرفة عين، اكتسبنا نحن البشر القدرة على تغيير مناخ الأرض بشكل مثير، واستنساخ أنفسنا، وتمديد فترة الشيخوخة إلى حد كبير من خلال التدخلات الطبية، والترويج للملايين عن طريق وسائل الإعلام، والقضاء على جماعات كاملة من البشر بأسلحة الدمار الشامل. هل تماشت حكمتنا مع التكنولوجيا؟ (2) رؤية تولكين للطبيعة والعالم الحديث
يربط تولكين انتصار الآلات، الذي تم على الأرجح بفضل صعود العلم الحديث، بقمع الروح البشرية. ففي تاريخ العالم الواقعي، تطور السحر لآلاف السنين جنبا إلى جنب وفي صلة وطيدة مع ما نعتبره الآن علما. ثمة جزء متمم لا يتجزأ من كل من السحر والعلم هو فلسفة الطبيعة؛ أي فهم ما نعنيه بكلمة «طبيعة»، يختلف عن التطبيقات العملية لفهمنا للطبيعة. ويصر تولكين على أن المادية التي تقف خلف العلم الحديث، على الرغم من إنجازاتها الواضحة والمبهرة، قد خلفت أيضا تأثيرا واضحا وكارثيا بشكل متزايد على إشباع «رغبات بشرية أولية معينة» يعتقد أنها راسخة بشكل عميق داخل الروح الإنسانية، أبرزها الرغبة في اختبار شعور بالارتباط بالعالم الطبيعي و«المشاركة مع الأشياء الحية الأخرى.»
41
في هذا المقام، يقدم بيورن - وهو مخلوق قوي لا يمكن التنبؤ به يحول شكله ما بين إنسان ودب، الذي يخشاه حتى جاندالف - تناقضا حادا آخر مع انبهار الجوبلن بالآلات. فبعد هروبهم من الجوبلن في الجبال، يصل ثورين ورفاقه إلى منزل بيورن، وهو كائن «لا يخضع لسحر أحد سواه» ويبدي القليل من الاهتمام بحديث الأقزام بشأن «الذهب والفضة والجواهر وصياغة الأشياء بواسطة الحدادة»؛ إذ لا يوجد الكثير من تلك الأشياء في أي مكان بردهته. إن بيورن «يحب حيواناته وكأنها أبناؤه»، بل ويبدو أنه نباتي.
42
وتناغمه مع الطبيعة وطيد للغاية، حتى إنه قادر على تغيير هيئته من إنسان إلى دب، ويتناجى بشكل حميم مع الحيوانات الأخرى، التي يبدو أن بعضها يمتلك قوى سحرية أيضا.
والنقيض لبيورن، في قصص تولكين عن الأرض الوسطى، هو سارومان، وهو ساحر فاسد يستغل السحر والتكنولوجيا للسعي خلف أحلامه بالقوة والهيمنة. فيحول سارومان أيزينجارد إلى وجه قمر، ويخترع متفجرات شديدة الانفجار، ويستخدم الهندسة الوراثية لاستيلاد قوة مقاتلة مختارة من الأورك الخارقين؛ كل ذلك من أجل بلوغ رؤيته المنحرفة «للمعرفة، والحكم، والنظام». وعلى النقيض من صانعي خواتم القوة الثلاثة الخاصة بالجن «الذين كانوا لا يبغون القوة أو الهيمنة أو الثروة المكتنزة، بل كانوا يبغون الفهم، والصناعة، والمداواة، من أجل الحفاظ على كل الأشياء من الدنس»، كان سارومان يمتلك «عقلا من المعدن والعجلات» لا يبحث إلا عن أسرع الوسائل وأكثرها فاعلية للسيطرة على إرادة الآخرين.
43
ومثلما يوثق لين ثورندايك في كتابه المميز «تاريخ السحر والعلم التجريبي» (1958)، لم يكن السحر، بدءا من أصوله القديمة، مجرد فن مؤثر وعامل أو تقنية، بل طريقة للنظر إلى العالم وفهم علاقتنا بالطبيعة. والفكرة هي أن العالم الطبيعي (بما فيه جسم الإنسان) ليس أكثر من آلة معقدة تمثل تطورا مصيريا بالغ الأهمية في تاريخ نزاعنا مع العالم الطبيعي، وفي تاريخ ثقافتنا ككل. والبعض يعتبره سببا أساسيا لشعور الاغتراب والانسلاخ من الطبيعة الذي وقعنا في أسره خلال القرون القليلة الفائتة، على الرغم من (وفي بعض الحالات بسبب) التطورات التي طرأت على سيطرتنا التقنية على الطبيعة.
وفي هذا المناخ من الشك والاغتراب، تدعونا «الهوبيت» للتفكير فيما إذا كان في النهاية «يمكن لإنسان متعقل، بعد تفكير وتدبر ... أن يصل إلى مرحلة الاستنكار واللوم، بشكل ضمني على الأقل في صورة إسكات لأدب «الانهزامية»، والأشياء التقدمية؛ مثل: المصانع، أو المدافع الرشاشة والقنابل التي تبدو وكأنها منتجاتها الحتمية والعادية، بل وربما «الراسخة» حسبما يمكننا القول.»
44
وقد حثنا الفيلسوف الطبيعي هنري ديفيد ثورو (1817-1862) على تثمين أي مقتنيات مادية أو تقدم تكنولوجي لا بالدولارات والسنتات، بل في إطار كم «الحياة المطلوبة مبادلته بها.»
45
بالمثل، يدعونا تولكين إلى تذكر وقت ما كان فيه «القليل من الضوضاء والمزيد من الخضرة»، حين كان هناك بعض الناس، على الأقل، يتفهمون مثل الهوبيت أن في الحياة ما هو أكثر من زيادة سرعتها.
46
هوامش
الفصل الثاني عشر
داخل الهوبيت
بيلبو باجنز ومفارقة الخيال
آمي كايند
مع قرع جرس باب منزل بيلبو مرارا ومرارا، في ذلك الصباح الجميل من شهر أبريل، يزداد بيلبو اضطرابا وارتباكا. فما الذي يفترض بهوبيت أن يفعل حين يظهر أمامه ثلاثة عشر قزما دون سابق إنذار، جميعهم مقتنعون بأنه لص بارع ويقصدونه لمساعدتهم على استعادة كنزهم المسلوب من تنين مخيف؟ يوافق بيلبو على مضض - مدفوعا بتشجيع من جاندالف وإرثه التوكي المكبوت منذ زمن طويل - على الانضمام إلى رحلة الأقزام. تسير الأمور على نحو لا بأس به في البداية (على الرغم من عدم وجود منديل جيبه معه)، ولكن بعد عدة أسابيع على الطريق، يتخذ كل من الطقس وطبيعة الأرض منحى إلى الأسوأ. وفي ظل ما يعانيه من بلل، وجوع، وحنين إلى الوطن، يشعر بيلبو بالأسف على نفسه، ونشعر نحن - القراء - بالأسف له أيضا.
ليست هذه هي المرة الوحيدة التي نشفق فيها على بيلبو بينما نطالع «الهوبيت». فلا يملك المرء سوى الشعور بالأسف من أجله حين يعلق على نحو غير مريح في إحدى الأشجار، بينما الذئاب يعوون بالأسفل، أو حين يفيق وحيدا ومهجورا على ما يبدو في ظلام كهف الجوبلن الدامس، أو حين يجلس مكتئبا على عتبة الجبل الوحيد يتحرقه الحنين إلى الوطن.
وتفسح مشاعرنا بالشفقة المجال لشتى أنواع ردود الأفعال العاطفية الأخرى مع تواصل مغامرة بيلبو. فنشعر بالخوف حين يقع في أسر العمالقة الجائعين، ونشعر بالترقب والقلق بينما يتبادل الألغاز مع الجولوم، وتغمرنا البهجة حين تنقذه النسور ورفاقه من أعالي الأشجار، ونمتعض حين ينتقده ثورين لتخليه عن الأركنستون، ونشعر بالفخر حين يستجمع شجاعته ليسير عبر النفق وحده لمواجهة سموج الرهيب.
ولكن كل هذا يثير لغزا فلسفيا محيرا: كيف يمكن أن تنتابنا تلك المشاعر تجاه بيلبو - ولماذا ينبغي أن نعبأ بما يحدث له من الأساس - في حين أننا نعرف أن بيلبو مخلوق خيالي وليس له وجود إطلاقا؟ إن ردود أفعالنا العاطفية تجاه الشخصيات والأحداث الخيالية، كما قد يقول جولوم، «خادعة» للغاية في الواقع. (1) مفارقات في الظلام
يشير الفلاسفة إلى هذا اللغز ب «مفارقة الخيال»؛ كيف يمكن أن نكون عقلانيين في أن نصدر استجابات عاطفية لما هو خيالي؟ على الرغم من أنه كان هناك تلميحات إلى هذا اللغز في طرح أرسطو (384-322ق.م) عن التأثيرات التطهيرية للدراما التراجيدية، وفي تمهيد صمويل جونسون (1709-1784) لمسرحيات شكسبير، وفي أعمال صمويل تايلور كولريدج (1772-1834)، فإنه لم ينل انتباها فلسفيا كبيرا حتى منتصف السبعينيات من القرن العشرين، حين ألقي الضوء عليه من خلال أعمال الفيلسوفين كولين رادفورد وكندال والتون.
1
ويمكن عرض المفارقة بشكل واضح في إطار ثلاثة مزاعم متناقضة بشكل متبادل:
2
أولا: يستحيل تقريبا أن ننكر أننا نصدر استجابات للخيال. فحين نقرأ رواية «الهوبيت» أو نشاهد الفيلم على الشاشة، نتأثر بالشخصيات والأحداث المجسدة؛ مما يمنحنا ما سوف نسميه «شرط العاطفة»؛ أي أن يكون لنا استجابات عاطفية حقيقية وعقلانية تجاه شخصيات مثل بيلبو.
ثانيا: لكي نصدر استجابات عاطفية حقيقية وعقلانية تجاه شخص ما أو موقف ما، لا بد أن تكون تلك الاستجابات متسقة بشكل مناسب مع معتقداتنا؛ بمعنى أننا لا بد أن نؤمن بأن الشخص موجود حقا أو أن الموقف قد وقع بالفعل (والشيء الموجود أو الذي وقع في الخيال فقط لا يكون موجودا أو وقع «حقا»). ثمة طريقة أخرى للتعبير عن هذا؛ هي أن المشاعر تتطلب «معتقدات وجود». ويذهب رادفورد إلى «أنني يمكن أن أتأثر بمحنة شخص ما فقط إذا اعتقدت أن شيئا رهيبا قد ألم به. إذا لم أعتقد أن شيئا قد حدث له وأنه لا يعاني أو أيا كان الحال، فلا يمكنني أن أشعر بالأسى أو أتأثر لحد البكاء.»
3
وهذا يعطينا «شرط الاتساق»؛ فلكي تتولد لدينا استجابات عاطفية حقيقية تجاه شخص ما، لا بد أن نؤمن بأنه موجود حقا.
ثالثا: الاستجابات العاطفية التي تتكون لدينا حين نندمج مع عمل أدبي خيالي عن علم لا تتسق بشكل ملائم مع ما نعتقده؛ إذ لا يكون لدينا معتقدات الوجود ذات الصلة. قد نخلط أحيانا بين الخيال والواقع، ولكن بدون ذلك الخلط، لا نتعامل مع الشخصيات الخيالية التي ننسجها في خيالنا على أنها حقيقية. وهذا يعطينا «شرط التصديق»؛ فنحن لا نعتقد أن بيلبو موجود حقا.
يبدو كل من هذه المزاعم الثلاثة صحيحا حين يتم استعراضها كل على حدة، ولكن عندما يتم استعراضها معا، نواجه تناقضا. فمفارقة الخيال ليست سهلة على الإطلاق حتى لأولئك المغرمين بالألغاز منا. (2) الإرباك والإزعاج!
أحيانا نستطيع حل مفارقة ما من خلال إظهار أنه على الرغم من الشكل المبدئي، فإن المزاعم التي تشكل المفارقة ليست متناقضة حقا برغم كل شيء. لكن مع مفارقة الخيال، تبدو هذه الاستراتيجية غير فعالة؛ فمن الصعب أن نرى أية طريقة يمكن بها للمزاعم الثلاثة جميعا أن تكون صحيحة معا. لذا فإن إيجاد حل للمفارقة يتطلب منا رفض واحد على الأقل من المزاعم الثلاثة. ولكن مثلما أن معظم الطرق والممرات العديدة الموجودة عبر الجبال الضبابية كانت «خداعات وتضليلات لم تؤد إلى أي مكان أو إلى نهايات سيئة»، فإن أيا من خياراتنا الثلاثة لحل مفارقة الخيال لا يمهد لرحلة فلسفية سهلة.
4
من الوهلة الأولى، يبدو إنكار شرط التصديق باعتباره طريقا صخريا وعرا بشكل خاص. فكيف يمكننا أن ننكر أن لدينا استجابات عاطفية حقيقية أو عقلانية عند الاندماج في الأعمال الأدبية؟ لذلك قد يكون مفاجئا أن نعرف أن كلا من رادفورد ووالتون أنفسهما قد أقاما نفس الحجة تماما، وإن كان بطرق مختلفة. فيتقبل رادفورد فكرة أننا نخابر مشاعر حقيقية استجابة للخيال، ولكنه ينكر أنها عقلانية. أما والتون، فينكر أن اندماجنا مع الأدب الخيالي يتضمن مشاعر حقيقية على الإطلاق.
لنستعرض رد رادفورد أولا. بعيدا عما إذا كان قد قدم لنا حلا وافيا لمفارقة الخيال، قد يبدو زعمه بأن المشاعر يمكن أن تكون غير منطقية غريبا في سياقه؛ نظرا لوجود نزعة طبيعية للاعتقاد بأن المشاعر يمكن أن تكون خارج نطاق العقلانية تماما . وقد أشار الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم (1711-1776) في مقولة شهيرة له إلى أنه «لا يوجد مخالفة للمنطق في أن تفضل دمار العالم بأكمله عن أن يخدش إصبعك.»
5
لقد كان هيوم يوضح فكرة بشأن الرغبات، أو ما أطلق عليه «الميول»، ولكن قد نعتقد أن فكرة مشابهة تنطبق على العاطفة.
لنفترض أننا نتبنى «نظرية الشعور الخالص» للمشاعر التي عادة ما تنسب إلى ويليام جيمس (1842-1910)، وهي نظرية تطابق المشاعر بأحاسيس جسدية. فحين ندرك أننا في خطر، تمر أجسادنا بشتى أنواع التغيرات البدنية؛ فيتسارع النبض، وتحمر وجوهنا من الحرارة، ونبدأ في التعرق. ويرى جيمس أن الحالة العاطفية الخاصة بالخوف ما هي إلا الإحساس الجسدي الذي يصاحب كل هذه الاستجابات الفسيولوجية.
6
ولما كانت إمكانية الحكم على تلك الأحاسيس الجسمانية بأنها عقلانية أو لا عقلانية تبدو محاطة بالشكوك، فإن نظرية الشعور الخالص تشير فيما يبدو إلى أن العواطف أيضا لا يمكن الحكم عليها بكونها عقلانية أو لا عقلانية.
ولكن يبدو واضحا أننا دائما ما نصنف المشاعر بأنها عقلانية أو لا عقلانية. تأمل شخصية ياجو الشكسبيرية، ذلك الرجل الذي يتهم زوجته إميليا بالخيانة، على الرغم من عدم امتلاكه أي دليل مادي على أية خيانة من جانبها. إن هذه الغيرة تصنف بشكل طبيعي للغاية بأنها غير منطقية أو لا عقلانية. أو فكر في شخص ما يشعر بفرحة كبيرة لشيء تافه للغاية؛ مثل اكتشاف أن لديه اثني عشر منديل جيب متبقية في درجه، وليس أحد عشر فقط. إن هذا الفرح المبالغ يبدو أيضا أنه يصنف بشكل طبيعي تماما بأنه غير منطقي أو لا عقلاني.
تأمل حالة أخرى. في أحد الأيام تفيد الجريدة المحلية برصد أسد جبلي في منطقة شبه سكنية، ينقض على حيوانات أليفة صغيرة تركت بالخارج طوال الليل. من المحتمل أن تثير قراءة هذا الخبر مشاعر كثيرة؛ الخوف من الحيوان الخطير الطليق، الإشفاق على الأسر التي فقدت كلابها أو قططها الصغيرة، والقلق بشأن قطتنا الجميلة القابعة بالخارج في الفناء. ولكن هب الآن أن في اليوم التالي تفيد الجريدة أن جميع المشاهدات التي رصدت الأسود الجبلية ثبت أنها كاذبة، وأن جميع حالات الاختطاف للحيوانات الأليفة وجد أنها قد ارتكبت من قبل طلاب بالمرحلة الثانوية على سبيل المزاح، وأن جميع الحيوانات المفقودة عادت الآن إلى أصحابها سالمة دون أن تمس بأي أذى. في هذه الحالة سيصبح أي خوف لا نزال نشعر به من الأسد الجبلي غير مبرر ولا عقلاني. فلا معنى للخوف من الأسد الجبلي الذي يجول خفية في أرجاء المدينة، وقد صرنا الآن نعرف أنه لا يوجد أي أسود.
7
في محاولته لحل مفارقة الخيال عن طريق إنكار شرط العاطفة، كان رادفورد يزعم أن خوفنا من سموج أشبه بالخوف غير العقلاني من الأسد الجبلي. ففي ظل علمنا بأن سموج لا وجود له، فإن خوفنا منه لا عقلاني. يرى رادفورد أن كل المشاعر التي نخابرها عند قراءة «الهوبيت» - وكل المشاعر التي نخابرها عند قراءة أي أعمال أدبية في الواقع - غير عقلانية في هذا المقام: «إن تأثرنا بطرق معينة بالأعمال الفنية، وإن كان «طبيعيا» للغاية بالنسبة إلينا وفي غاية الوضوح في هذا المقام، إنما يدخلنا في تناقض؛ ومن ثم عدم اتساق.»
8
ثمة سبب قوي للشك في رفض رادفورد لشرط العاطفة ينبثق من الفروق التي نوجدها بين ردود الأفعال العاطفية التي نصدرها تجاه الخيال؛ ولا شك أنه لا يمكن أن ترفض «جميعا» باعتبارها غير منطقية. فعلى الرغم من أنه لن يكون من الملائم الخوف من الجني إلروند الطيب، فإن رد فعلنا المشوب بالخوف تجاه سموج يعد مسألة مختلفة تماما. فسموج، رغم كل شيء، كما يخبرنا ثورين، «دودة في غاية الجشع، والقوة والخبث.»
9
وتقدم لنا الفيلسوفة المعاصرة مارثا نوسباوم طريقة مثمرة للدفاع عن عقلانية استجاباتنا للخيال بالدفع بأن مثل هذه الاستجابات تمكننا من غرس وتنمية شخصية أخلاقية. فمن خلال الاندماج مع الخيال والأعمال الأدبية، نتزود برؤى ثاقبة في خبرات الآخرين عادة ما لا يكون لدينا مدخل إليها بشكل آخر؛ ومن ثم نصبح أكثر قدرة على تطوير مشاعرنا الأخلاقية. ويبدو من غير المنطقي أن نغفل ردود أفعالنا العاطفية تجاه الخيال باعتبارها لا عقلانية، بالنظر إلى الدور المهم الذي تلعبه في تربيتنا الأخلاقية.
10 (3) الحيرة الظاهرية
الاستراتيجية الثانية لإنكار شرط العاطفة تتأتى من تبني نظرية قد نطلق عليها «اللاواقعية العاطفية».
11
تقضي هذه النظرية بأنه على الرغم من أن لا ريب في أننا نخابر وابلا من المشاعر - الخوف، والقلق، والشفقة، والفرح - عندما نقرأ عن بيلبو، فإننا مخطئون. فكل ما نخابره ونشعر به ما هو إلا «شبه مشاعر».
المناصر الأول للاواقعية العاطفية هو كندال والتون، وهو فيلسوف خلف تأثيرا عميقا وبالغا في الجماليات - فلسفة الفن - على مدى الأربعين عاما الأخيرة أو نحو ذلك. بحسب والتون، فإن قبول شرط العاطفة يعني «أن تجيز الغموض وتتقبل الإرباك.»
12
وعلى الرغم من أننا بطبيعة الحال نشير إلى ما يصيبنا من هلع من تجسيد تقدم قوات الأورك-هاي التابعة لسارومان على الشاشة أثناء معركة هيلمز ديب، فلا ينبغي أن تؤخذ هذه الإشارة بمعنى حرفي. فقلوبنا قد تخفق بلا هوادة، وقد نعرق ونلهث، وقد تبيض براجم أصابعنا بينما نتشبث بمساند الذراع في مقاعد السينما التي نجلس عليها، ولكن - على الرغم من ذلك - من الخطأ أن نصف هذه الاستجابات اللاإرادية بأنها دلالة على هلع حقيقي. فلما كنا نفتقر إلى اعتقاد بأن الأورك-هاي يتقدمون حقا نحونا، لا يمكننا أن نشعر بالرعب منهم. وأفضل وصف لردود أفعالنا تجاه الفيلم هي أنها مماثلة لردود أفعالنا حين نلعب ألعاب التظاهر التقليدية.
ودعما لهذه النقطة، يطالبنا والتون بأن نتخيل صبيا صغيرا يلعب إحدى ألعاب الوحوش مع والده:
يتسلل الأب، متظاهرا بأنه وحش مفترس، بدهاء ومكر وراء الطفل، وفي لحظة حاسمة، يندفع نحوه بضراوة. يهرب الطفل إلى الغرفة المجاورة وهو يصرخ. إن الصرخة تخرج بشكل لا إرادي بدرجة ما، وكذلك الهروب. ولكن الطفل ... على وعي تام بأن هذا الأب «يلعب» لا أكثر، وأن الأمر برمته «مجرد لعبة»، وأن وجود وحش ضار وراءه ما هو إلا ادعاء زائف. إنه ليس خائفا بحق.
13
ومثلما تحثنا الأفلام والروايات على تخيل شخصيات بعينها والتظاهر بأن الأحداث المجسدة حقيقية، فهي تحثنا أيضا على التظاهر بأن لدينا تلك المشاعر ذات الصلة.
بالإضافة إلى تقديم حل لمفارقة الخيال، تقوم اللاواقعية العاطفية، على نحو لطيف، بحل لغز متصل بشأن استجاباتنا العاطفية للخيال. فالمشاعر عادة ما تحضنا على الفعل. على سبيل المثال، حين نشعر بالخوف من شيء ما، نميل للقيام بشيء لمحاولة تفاديه أو منعه من الحدوث. ولكن خوفنا الظاهري من تقدم جيش سارومان لا يحفزنا إلى اتخاذ أي إجراءات أو تحركات على الإطلاق. بل نجلس فحسب بشكل سلبي دون حراك على مقاعدنا. غير أن هذا الخوف لو كان مجرد ادعاء فحسب، فإن لدينا تفسيرا لطيفا لسلبيتنا، وهو أننا ليس لدينا مبرر لاتخاذ أي إجراء إذا كنا لا نشعر بخوف حقيقي.
ولكن على الرغم من حقيقة أن اللاواقعية العاطفية يمكن أن تقدم حلولا لهذه المعضلات الفلسفية، فإن هذا الأمر محاط بالشكوك إلى حد كبير. فحين تشاهد فيلم بيتر جاكسون «رفقة الخاتم» وتشعر بالألم والفاجعة لسقوط جاندالف من جسر خازاد دوم، فإن تذكيرك بأنه مجرد شخصية خيالية لا يقلل من حزنك؛ كما لا يحدث التذكير أي فارق في شعورك بالحزن ولا يجعله أقل واقعية. والخوف والقلق اللذان نشعر بهما حين نقرأ رواية «الهوبيت» «يبدوان» بالتأكيد خوفا وقلقا حقيقيين بالنسبة إلينا، لدرجة أننا نخلط بين الأول والأخير.
ردا على ذلك، يرفض أنصار اللاواقعية العاطفية، أمثال والتون، التشابه الظاهري لانطباعاتنا الذاتية، ذاهبين إلى أننا لا ينبغي أن نضلل بعجزنا عن تمييز الخوف الزائف من الخوف الحقيقي. قد لا نستطيع تمييز كيلي من فيلي من على بعد، ولكن لا ينبغي أن نستخلص أي استنتاجات عن هويتيهما من حقيقة أننا لا نستطيع التمييز بينهما. فالخوف الظاهري يبدو لنا كالخوف الحقيقي، ولكن هذا في حد ذاته ليس كافيا لجعله شعورا حقيقيا.
من الصعب أن تشعر برضا كامل بذلك الرد. حين يقترب بيلبو من الوطن في رحلة عودته، يصل إلى مكان «حيث كانت أشكال الأرض والأشجار معروفة جيدا له كيديه وأصابع قدميه.»
14
ويبدو أننا نعرف مشاعرنا بنفس الشكل ؛ لذا من الصعب تقبل نظرية توحي بأننا مخطئون بشكل منهجي بشأن صنوف الخبرات والتجارب التي نمر بها حين نندمج مع الخيال.
علاوة على ذلك، يمكن أن تظهر مشكلات أخرى أمام المؤيد للاواقعية العاطفية من خلال فحص أدق لقياس والتون على ألعاب التظاهر. فحين نندمج مع الخيال، نعجز بشكل لافت عن السيطرة على استجابتنا العاطفية. كيف يمكن أن نخفق في التأثر بمغامرة بيلبو؟ نحن لا نملك اختيارا حقا سوى الشعور بالاشمئزاز من جولوم، والخوف من الوارج البريين، والفرح بعودة بيلبو سالما إلى وطنه.
على النحو نفسه، لا يمكننا للأسف أن نحمل أنفسنا على الخوف من هوبيت الشاير. في ألعاب التظاهر، نكون أكثر حرية في استجاباتنا العاطفية. وكما جادل نويل كارول، لو كانت استجاباتنا العاطفية تجاه الخيال مجرد نتاج للتظاهر والادعاء، فلا بد إذن أنها قادرة على أن يتم «الانخراط فيها حسب الرغبة»، ولا بد أن لدينا القدرة على إثارتها وإخمادها حسبما نشاء.
15
وهكذا يبدو أننا ينبغي أن نفضل حلا لمفارقة الخيال يتيح لنا إدراك استجاباتنا العاطفية لخيال باعتبارها استجابات حقيقية. فمن غير المنطقي لغاية أن نرفضها باعتبارها نتاجا للتظاهر. ونحن بحاجة إلى النظر إلى بدائلنا الأخرى المتاحة لحل مفارقة الخيال. (4) الخروج من المقلاة إلى النار
لسوء الحظ، لا يبدو أن إنكار شرط التصديق - أي عدم تصديقنا لوجود بيلبو - مجد هو الآخر. فمن الصعب الاقتناع بفكرة أننا نصدق أن الأحداث المجسدة من خلال «الهوبيت» حقيقية، وأننا بشكل ما نسيء فهمها باعتبارها قصة رحلة واقعية. حتى عندما نغرق كليا في نثر تولكين الساحر، لا نصدق أن بيلبو له وجود حقيقي. غير أن ما يشير إليه بعض الفلاسفة أننا «شبه نصدق» أنه موجود بحق. فرغم كل شيء، تجدنا نتحدث عن «استغراقنا» في الخيال، و«الانهماك» فيما نقرؤه،
16
بل قد يكون مثل هذا الحديث ملائما بشكل خاص حين يكون عن الأعمال الخيالية، والذي من خلاله «نهرب» إلى العالم الخيالي الذي تخلقه.
يشير تولكين نفسه إلى شيء مشابه في مقاله «عن قصص الجنيات». فمن خلال الدفع بأن الهروب يعد واحدا من وظائف الخيال الأساسية، يشير تولكين إلى أن كاتب الخيال الناجح «يصنع عالما موازيا يمكن لعقلك الولوج فيه. وبداخل هذا العالم، يكون ما يسرده «حقيقيا»؛ فهو يتوافق مع قوانين ذلك العالم. ولذلك تصدقه بينما تكون بداخله.»
17
وبحسب ذلك الأسلوب في النظر إلى الأمور، يمكننا تمييز اعتقاداتنا داخل القصة من اعتقاداتنا الطبيعية. وعلى الرغم من أننا لا نصدق بطبيعة الحال أن بيلبو له وجود، يمكننا أن نصدق ذلك داخل القصة.
إن نجاح هذه الاستجابة للمفارقة يرجع إلى ما إذا كان بوسعنا أن نحظى بفهم كاف لفكرة الاعتقاد داخل القصة، أو شبه الاعتقاد، حتى لو استطعنا، قد يرجع نجاحها إلى ما إذا كان يمكن أن تنجز العمل الفلسفي الذي نريدها أن تفعله. فإذا كان لدينا معتقدات حقا - حتى لو كانت معتقدات واهية أو شبه معتقدات - بشأن الأعمال الخيالية التي نندمج معها، حينئذ يبدو أن هذه المعتقدات سوف تتجلى في سلوكنا.
أثناء مشاهدة المشاهد الأولى من «رفقة الخاتم»، على سبيل المثال، هل كنا حقا سنجلس بشكل سلبي على مقاعدنا لو كان لدينا الاعتقاد - أو حتى شبه الاعتقاد - بأن الفرسان السود مقبلون نحونا؟ ذهب والتون، على نحو مقنع، إلى أن حتى وجود مجرد اعتقاد متردد أو مجرد ظن بأن الفرسان السود في طريقهم «من شأنه أن يدفع أي شخص طبيعي بشكل جاد للتفكير في الاتصال بالشرطة أو الحرس وتحذير عائلته.»
18
حتى أقل المغامرين منا سوف يفعلون «شيئا» بالتأكيد، ولو حتى مجرد الجري والاختباء.
بالنظر إلى صعوبة رفض شرط التصديق أو شرط العاطفة، حاول فلاسفة آخرون، بدلا من ذلك، رفض شرط الاتساق؛ أي ضرورة أن التصديق بأن شيئا ما له وجود فعلي لكي تتولد لدينا استجابة عاطفية تجاهه. غير أننا قد نلحظ أن الحجة المقامة لصالح شرط الاتساق عادة ما تقام باعتبارات المشاعر، مثل الإشفاق والخوف. فحين ننظر بعين الاعتبار إلى المشاعر الأخرى، تكون الحجة أقل إقناعا بكثير. ويدعونا بيريز جوت للتأمل في مشاعر الاشمئزاز لدينا:
من الغريب القول بأن على المرء أن يعرف ما إذا كان شيء ما قد وقع حقا إذا كان سيشعر بالاشمئزاز من مجرد التفكير فيه. فلو وصفت لك بأسلوب قوي ومفصل شطيرة المربى والفأر الحي التي تناولتها على الإفطار منذ بضعة أيام، قد تشعر بالاشمئزاز دون افتراض أنني أقول الحقيقة.
19
من الطبيعي تماما هنا أن ترغب في القول بأن مجرد التفكير في الشطيرة يثير اشمئزازنا، وهذا يتسبب في ظهور نظرية كثيرا ما يشار إليها ب «نظرية الفكر». بشكل عام، يزعم واضعو نظرية الفكر أن مجرد الأفكار، وليس معتقدات الوجود، كافية لتفسير الاستجابات العاطفية. فمثلما يكون التفكير في الشطيرة كافيا لإثارة شعور بالاشمئزاز حتى على الرغم من أننا لا نصدق أنها موجودة بالفعل، يمكن للتفكير في بيلبو أن يثير شعورا بالشفقة عليه حتى على الرغم من أننا لا نصدق أن له وجودا حقيقيا.
ويؤيد بيتر لامارك نسخة من نظرية الفكر في إطار «التمثيلات الذهنية»؛ إذ «يمكن للتمثيلات الذهنية أو محتويات الفكر أن تكون السبب في مشاعر مثل الخوف والشفقة، بعيدا تماما عن المعتقدات التي قد نحملها بشأن كوننا في خطر شخصي أو بشأن وجود معاناة حقيقية أو ألم حقيقي.»
20
وهكذا يشير لامارك إلى أننا بصدد تعديل شرط الاتساق. فلكي يكون لدينا استجابات حقيقية وعاطفية تجاه شخص ما، لسنا بحاجة للتصديق بأنه موجود بالفعل؛ كل ما نحتاج لفعله هو أن نشكل تمثيلات ذهنية لموقفه.
على عكس شرط الاتساق الأصلي، يتيح لنا هذا الشرط المعدل فهم اندماجنا مع الخيال. فحين نقرأ «الهوبيت»، نتخيل المغامرة الموصوفة في القصة والشخصيات المشاركة فيها، ونستخدم خيالنا لتكوين تمثيلات ذهنية (صور ذهنية) للشخصيات المجسدة. علاوة على ذلك، تعد هذه التمثيلات الذهنية، بالنسبة إلى لامارك، مصدر مشاعرنا؛ فحين نشعر بالشفقة والخوف تجاه الشخصيات الخيالية، تكون التمثيلات الذهنية هي ما نوجه مشاعرنا نحوه. ومن ثم تقدم نظرية الفكر حلا لمفارقة الخيال.
ولكن هل ينبغي علينا أن نقبل نظرية الفكر؟ من ناحية، يبدو أن هناك شيئا صحيحا بشأن ذلك. فنحن نندمج مع الأعمال الأدبية عبر الخيال، ويبدو منطقيا أن تخيلاتنا تلعب دورا في تفسير المفارقة. على الجانب الآخر، حين نفكر بشكل أكثر إمعانا بشأن ما تلزمنا به نظرية الفكر بالضبط، يصبح القبول بالنظرية أصعب. إن الحل الذي يقدمه لامارك لمفارقة الخيال يعتمد على الزعم الجريء بأن «الخوف والشفقة اللذين نشعر بهما تجاه الشخصيات الخيالية هما في الحقيقة موجهان لأفكار في عقولنا.»
21
حين نطالع رواية «الهوبيت»، لا تكون استجاباتنا العاطفية استجابات لشخصية بيلبو نفسه - فهو في النهاية شخصية خيالية نعرف أنها لا وجود لها - ولكن للصور الذهنية التي قمنا بتكوينها له عند القراءة عن مآثره. بالمثل، يعد خوفي من سموج هو في الواقع خوفا من صورتي الذهنية لسموج.
ولكن رغم أن التنانين (لو كان لها وجود) ستكون مرعبة، فإن الصور الذهنية للتنانين ليست كذلك (أو لا داعي لأن تكون كذلك). فالصورة الذهنية للتنين، في النهاية، ليست هي ما ينفث النار، بل التنين نفسه هو من ينفث النار. لذا فأنا لست قلقا من أن صورتي الذهنية لسموج سوف تقتل صورتي الذهنية لبيلبو بهدير عنيف. إنما قلقي من أن يقدم سموج نفسه على قتل بيلبو نفسه بهدير عنيف.
تنشأ مفارقة الخيال الأساسية لأننا لا نستطيع الإجابة عن أسئلة كهذه: «ما» الذي نخافه؟ «من» نشفق عليه؟ إن المشاعر، على عكس الحالات المزاجية، دائما ما تكون موجهة لشيء بعينه؛ فدائما ما يكون لها أهداف. وكما يوضح جوت: «إن أية حالة مزاجية، مثل السعادة أو الحزن، لا تحتاج لأن يكون لها هدف مقصود؛ فبإمكان أحدهم أن يكون سعيدا أو حزينا ببساطة دون أن يكون سعيدا أو حزينا «لأي شيء». أما الشعور، في المقابل، فله هدف مقصود؛ فأنا أخاف شخصا ما، وأشفق على شيء ما.»
22
ولكن ما هو ذلك «الشيء» في حالة الخيال؟ لا يوجد هدف قائم ليخدم هذه المهمة. ولكن واضعي نظرية الفكر يقدمون مثل هذا الهدف: الأفكار (أو بشكل أكثر تحديدا، التمثيلات أو الصور الذهنية). فتفكيري في بيلبو، على عكس بيلبو ذاته، هو شيء قائم وموجود حقا. ولكن لسوء حظ واضع نظرية الفكر، لا يبدو أن هذا الشيء من النوع الملائم من الأشياء ذات الوجود لفهم ردود أفعالنا العاطفية تجاه الخيال. (5) التعايش مع الحيرة
حين واجه بيلبو أحد ألغاز جولوم، «راوده شعور بأن الإجابة كانت مختلفة تماما وأن عليه أن يعرفها، ولكنه لم يستطع التفكير فيها.»
23
قد نشعر بشيء مشابه إزاء مفارقة الخيال. فمن ناحية، بالنظر إلى مدى ما تتسم به ردود أفعالنا العاطفية من طبيعية واعتيادية، يبدو تفسيرها مسألة هينة حتما. على الجانب الآخر، يظل العثور على حل مرض للغز مسألة مراوغة.
عند هذه النقطة، أعتقد أن خيارنا الأمثل هو إلقاء نظرة ثانية على شرط الاتساق. رأينا فيما سبق أن محاولة واضع نظرية الفكر لتعديل هذا الشرط قد واجهت مأزقا. ولكن ربما كان من الخطأ محاولة التشبث بالشرط من الأساس، حتى في شكل معدل. ربما كان الأحرى بنا أن نرفض كليا. فعلى الرغم من أنه قد يكون صحيحا أن المشاعر كثيرا ما يكون لها أساس في معتقدات الوجود، فإن هذا لا يعني أنها لا بد «دائما» أن تكون مؤسسة بهذا الشكل.
في مقال مؤثر، أشار ريتشارد موران إلى أن الخيال ليس الحالة الوحيدة التي نصدر فيها استجابات عاطفية دون معتقدات الوجود المتصلة بها. فما إن نفكر مليا في النطاق الهائل لمخزوننا العاطفي العادي، «يبدو الأمر كما لو كان قدرا يسيرا نسبيا من انتباهنا العاطفي يصب في اتجاه الأشياء أو الأهداف الموجودة في الواقع الفعلي.»
24
إنني أكن لتولكين كل الإعجاب، على الرغم من أنني أعلم تمام العلم أنه لم يعد على قيد الحياة، ربما أيضا أشعر بالأسى لأن الكثير من أقرب أصدقاء تولكين قد قضوا نحبهم في الحرب العالمية الأولى، وقد أشعر بالأسف لعدم نشره المزيد من أعماله في حياته.
وكما يشير موران، فإن المشاعر مثل الندم والأسف تتعلق بالماضي؛ ومن ثم كثيرا ما تكون موجهة إلى أشياء ليست موجودة في الوقت الحالي. غير أننا لا نعتبر هذه المشاعر محيرة على الإطلاق. وقد نوجه مشاعرنا أيضا إلى أشياء أو أحداث مستقبلية ليس لها وجود حاليا؛ على سبيل المثال، قد أخشى الفيضانات التي ستأتي من ذوبان الصفائح الجليدية القطبية، بل قد يكون لدي مشاعر إزاء أشياء لا يمكن أن يكون لها وجود، مثل رحلة إلى الماضي للجلوس في اجتماع لمجموعة النقاش الشهيرة الخاصة بتولكين في أكسفورد، الإنكلينج.
بالإضافة إلى ذلك، مثلما يمكن لمجرد التفكير في شيء ما أن يولد الاشمئزاز منه، يبدو أن هناك فئة كاملة من المشاعر التي لا ترتبط بمعتقدات الوجود. ويقدم لنا موران العديد من الأمثلة:
أيا كانت لمحة التناقض التي قد تتواجد في فكرة الشفقة أو الخوف الموجهين إلى ما يعتبر مجرد شخصيات، ما من شيء على الإطلاق في فكرة الجذل والبهجة الموجهين لأحداث تعلم أنها ستجسد على المسرح، أو لقصص تتعلق بباعة ودجاج لم يكن لهم وجود حقا على الإطلاق.
25
ويضيف فيما بعد للقائمة المتعة، والملل، والاضطراب، والترقب. وكل هذه الاستجابات تبدو مستقلة تماما عن معتقدات الوجود ذات الصلة.
لحل مفارقة الخيال، كنا سنحتاج بالتأكيد لبعض التفسير الإضافي لمسألة لماذا يبدو لنا شرط الاتساق منطقيا إلى هذا الحد، ولكان من اللطيف أيضا لو كان لدينا تفسير بديل للعلاقة بين مشاعرنا ومعتقداتنا. ولكن التفكير مليا في اعتبارات مثل تلك التي يعرضها موران إنما يوفر لنا على الأقل حلا ما للمفارقة التي نحن فيها. قد نظل في حيرة وارتباك، ولكن على الأقل يمكن أن تتوافر لدينا بعض الثقة في أن الحيرة والارتباك اللذين نشعر بهما حقيقيان برغم كل شيء.
هوامش
الفصل الثالث عشر
الفلسفة في الظلام
الهوبيت والهرمنيوطيقا
توم جريموود
تخيل أنك استيقظت ذات يوم لتجد رسالة صغيرة كتبها أحد ملوك الأقزام المنفيين، يطلب منك فيها بشكل واضح مقابلته في حانة قريبة خلال عشر دقائق. إنها ليست رسالة واضحة بشكل خاص، بل إنها تترك العديد من النقاط الأساسية غامضة نوعا ما . قد تتساءل عما تعنيه الرسالة إجمالا. وقد تجازف، مثل بيلبو، وتتبع التعليمات بغض النظر عن ذلك. ولكنك أيضا قد تتوقف وتسأل نفسك الآتي: كيف لي أن أعرف ما تعنيه هذه الرسالة؟ ما الذي يحدد معنى الرسالة؟ وكيف لي أن أعرف أنني قد وجدت المعنى الصحيح؟
لو كنت ستسأل نفسك هذه الأسئلة، فسوف يتبادر إلى ذهنك نظرية التأويل، أو ما يطلق عليه الفلاسفة «الهرمنيوطيقا». تطرح الهرمنيوطيقا، التي عادة ما ترتبط بتفسير النصوص، أسئلة جوهرية عن كيفية تفسيرنا للمعنى من خلال أي شيء أو وسيط (الكتابة، الحديث، الغناء، الرسم، التمثيل، وما إلى ذلك).
تستكشف هذه الأنواع من الأسئلة، في الهوبيت، من خلال بيلبو وجولوم في الفصل المعنون «ألغاز في الظلام». في سياق الفصل، تحاول كل شخصية التفوق على الأخرى في لعبة ألغاز. وفي أثناء سير اللعبة، يتعرض بيلبو وجولوم للتحدي على عدة مستويات للفهم. فلا بد أن يفهما أين هما، ومن هو الآخر، والأهم من كل ذلك أن يقوم كل منهما بحل ألغاز الآخر. يعرض كل لغز مجموعة متنوعة من التأويلات المحتملة، ولكن وفقا لقواعد اللعبة، لا يوجد سوى إجابة واحدة صحيحة. ومثل فلاسفة التأويل الارتجاليين، يصارع بيلبو وجولوم مع المشكلة القديمة الخاصة بكيفية تعيين معنى محدد للغة غامضة أو مبهمة. (1) قواعد الألغاز
قد تكون رسالة ثورين سهلة كفاية لفهمها دون تدخلات من الفلسفة. ولكن لو كنت واجهت رسالة مختلفة، بدت أنها تلعب على وتر خفة اللغة، فقد يستحق منك الأمر التوقف للتفكير بشأن الإجابة. تأمل هذا السؤال الذي يطرحه جولوم على بيلبو:
ما الشيء الذي له جذور لا يراها أحد،
وأطول من الأشجار،
ويمتد لأعلى وأعلى،
ولكنه لا ينمو أبدا؟
1
هذا اللغز عبارة عن سؤال، ولكن على عكس معظم الأسئلة، لا يزودنا بإطار مرجعي واضح من شأنه أن يتيح لنا إجابة مباشرة وفورية. بوسعنا أن نرى هذا السؤال يسأل عن شيء له مواصفات شجرة ولكنه ليس بشجرة. والكيفية التي نفسر بها مثل هذا السؤال، والكيفية التي نعرف بها حين نتوصل إلى الإجابة الصحيحة، سوف تتضمنان إنشاء إطار مرجعي لأنفسنا.
ولكي نجعل من هذا مهمة أقل ضخامة «وضبابية»، توجد، لحسن الحظ، قواعد معينة في لعبة ألغاز بيلبو وجولوم قد تساعدنا في هذا المقام. فاللعبة، في النهاية، «مقدسة وعتيقة».
2
يشترك في اللعبة شخصان (فلن يكون للعبة معنى إذا لعبها شخص واحد بمفرده)، يعطي أحد المشاركين لغزا للآخر. ويكون للغز حل يعرفه من يطرحه.
بالطبع، في بداية اللعبة، على الأقل، لا يطلب بيلبو أو جولوم من الآخر ببساطة أن يخمن ما يفكر فيه دون أي دلائل أو مفاتيح (في موضع لاحق من المناقشة، حين يطلب بيلبو من جولوم أن يخمن ما في جيوبه، تلوى هذه القواعد، إن لم تحطم، ولكننا سوف نتعامل مع تلك المشكلة لاحقا). ومفتاح نجاح اللغز يكمن في إخبار الجمهور بهذه الإجابة بينما تتمنى ألا يخمن الجمهور هذه الإجابة. تأمل محاولة بيلبو الأولى:
ثلاثون حصانا بيضا على تل أحمر،
في البداية يقضمون،
ثم يضربون الأرض بأقدامهم،
ثم يقفون بلا حراك.
3
نظرا لأنه لغز، نعرف أن بيلبو لا يتحدث في الواقع عن ثلاثين حصانا - وإلا كانت الإجابة ببساطة هي «الخيول»، وهو ما من شأنه ألا يجعل منها لعبة - وإنما عن شيء مشابه للثلاثين حصانا. بعبارة أخرى، يبدو أن الهدف من الرسالة هو «توصيل» إجابة ما - وهي في هذه الحالة «الأسنان» - وعدم «توصيل» أية إجابة في ذات الوقت. فقط حين يتعذر اللغز على الفهم يكون قد نجح باعتباره وسيلة توصيل. باختصار: يوجد معنى، ولكن المعنى متخف (أو «غير معلوم»). بهذه الطريقة، يمارس اللغز نوعا محددا من الحيرة الساخرة في مهمة الفهم. (2) هدف بيلبو: القصدية
توجد قضيتان متصلتان على المحك في لعبة الألغاز. الأولى هي حاجتنا لمعرفة الإجابة على اللغز، وهذه القضية تحسم بشكل واضح وبسيط للغاية عن طريق من يطرح اللغز؛ فأية إجابة تقدم ينبغي، من الناحية الفنية، الحكم عليها إما بالخطأ أو الصواب بواسطة طارح اللغز. القضية الثانية تتمثل في الجانب التأويلي الأكثر تعقيدا قليلا. فقبل أن يمكننا حل اللغز، نحتاج لفهم معنى الكلمات وكيفية عملها في اللغز. وهذه الخطوة تفترض مقدما أن لدينا فكرة ما عن ماهية «المعنى» فعليا.
ولعل الإجابة الأكثر بديهية ستتمثل في «رسالة تعني ما انتوى مؤلفها أن تعنيه.» ومن ثم يكون الهدف من التأويل هو اكتشاف ماهية تلك النية من الأساس. ويطلق على النظرية القائلة بأن معنى أية رسالة يطابق نية مؤلفها اسم «القصدية». ومن أشهر المدافعين عن القصدية هو المعلم وأستاذ اللغة الإنجليزية السابق بجامعة فيرجينيا إي دي هيرش الابن.
إن جوهر شخصية بيلبو، كما نعلم، يدور حول البديهة والمنطق السليم، وتركيزه على نوايا رفيقه في لعبة الألغاز يكمن وراءه سبب وجيه. فقد كان لديه شك في أن جولوم يريد أن يلتهمه. والواقع أنه يوافق فيما يبدو على ممارسة لعبة الألغاز فقط لشراء بعض الوقت بينما يحاول التعرف على هوية جولوم ومدى خطورته. ومن ثم كثيرا ما لا تكون الأسئلة التي يطرحها عن ألغاز جولوم من نوعية «ما الذي تعنيه هذه الكلمات؟» بل «ما الذي «يقصد» هذا المخلوق أن تعنيه الكلمات؟» في هذه الحالات يكون فهم نص اللغز مثله مثل فهم مرجعية الكلمات المقصودة، وهو الأمر الذي يكون أكثر سهولة تماما لسببين: (1) أن الإجابات على ألغاز جولوم القليلة الأولى تعكس إلى حد ما بيئته المباشرة - «جبل»، «ظلام»، «أسماك» - و(2) أن بيلبو كان قد سمع الكثير من الألغاز من قبل، ربما في بيئة أقل عداء؛ حيث كان قادرا على التحقق من مقاصد صاحب اللغز.
غير أن هناك مشكلة واضحة فيما يتعلق بالتعامل مع مقصد المؤلف بوصفه المحدد للمعنى، مثلما يكتشف بيلبو. فإذا كانت الوسيلة الوحيدة للتثبت من معنى لغز ما هي من خلال مقصد المؤلف، فكيف لنا أن نعرف يقينا مقصد المؤلف؟ هناك بعض الإجابات الممكنة لهذا السؤال.
ربما يمكننا ببساطة أن نسأل المؤلف عما يقصده. ولكن هذا ليس خيارا متاحا لبيلبو، للأسف، وكان من شأنه أن يدمر الفكرة من وراء اللعبة برمتها، بل قد لا يكون هذا خيارا يعتمد عليه تماما لأي شخص؛ إذ إنه لكي تستوعب رسالة المؤلف، نطلب من المؤلف أن يقدم لنا رسالة أخرى. وهذا أمر رائع إذا كنا ببساطة قد أخطأنا السمع أو طلبنا توضيحا من المؤلف. ولكن إذا كانت الرسالة الثانية تفتقر للوضوح مثل الأولى، فقد يجد المرء نفسه في شيء أشبه بدائرة مفرغة.
عوضا عن ذلك، في حالة غياب المؤلف أو عدم استعداده للإفصاح عن مقصده، فقد نحاول تحديد المقصد بأنفسنا من الدلائل المتروكة في كل من الرسالة وسلوك المؤلف أو تاريخه. ويبدو أن هذه هي الاستراتيجية التي وقع عليها اختيار بيلبو حين يسأل جولوم: «حسنا، ما هذا؟ ... الإجابة ليست قدرا يغلي، مثلما يبدو أنك تعتقد من الجلبة التي تحدثها.»
4
إن اللغة من منظور هيرش دائما ما تكون أداة للمستخدم، ولا يمكن أن تصنع أو تحدد المعنى بمفردها. ففي النهاية، لو كانت اللغة تحدد نفسها بنفسها، لما ظهرت بيننا كل هذه الخلافات المتعددة بشأن التأويل. وفي ذلك يقول: «إن أي سلسلة متتابعة من الكلمات لا تعني شيئا محددا إلى أن يقصد أحدهم شيئا بها، أو يفهم منها شيئا.»
5 (3) فسر لي هذا، بروفيسور هيرش
إن المقصد من وراء نظرية هيرش، من مناح عدة، توفير بعض اليقين والثقة في تفسير النصوص. ولكن من قبيل «الخداع» أن نتحدث بدراية مطلقة في هذا السياق، حتى لو كانت القصدية هي الطريقة الأكثر شيوعا للتفكير بشأن المعنى إلى حد بعيد. ويبدو أن بيلبو نفسه يكتشف عن طريق المصادفة والمعلومات العامة أكثر من تخمين مقاصد جولوم الخفية. إن لغز جولوم الخامس صعب على بيلبو، ومجرد التفكير في دافع جولوم - من رغبته في التهام الهوبيت - لا يبدو مجديا:
هذا الشيء يلتهم كل الأشياء:
الطيور، الوحوش، الأشجار، الأزهار؛
يقرض الحديد، ويقضم الفولاذ،
ويطحن الأحجار بأسنانه كطعام له،
ويذبح الملك، ويدمر المدينة،
ويدك جبالا شاهقة.
6
في هذه الحالة، يبدو أن اختيار جولوم لصيغة اللغز يزيد من خوف بيلبو. فحين يواجه المرء كلمات تشير إلى التهام كل الأشياء، من الطيور إلى الجبال، يتلفظ بها آكله المستقبلي المحتمل، قد تتجاوز مضامين الكلمات حدود اللعبة. ثمة تتابع محظوظ للأحداث هو وحده ما يمكن بيلبو من تخمين الإجابة الصحيحة: «الوقت.»
في الواقع، يعترف هيرش بأن الكلمات أحيانا ما يكون لها معنى من نوع ما منفصل عن مقصد المؤلف؛ فثمة كلمات بعينها سوف تثير ردود أفعال متعددة من مختلف القراء أو المستمعين. ومثلما نعلم من ردود أفعال جيملي وليجولاس البالغة الاختلاف تجاه كهف أجلاروند البراق، سوف تعني كلمة «كهوف» شيئا لقزم وشيئا آخر مختلفا تماما لجني.
7
وبحسب هيرش، هناك فارق بين «المعنى» الذي يتحدد بشكل خالص من قبل المؤلف (ويقصد به في هذه الحالة إجابة اللغز، مثلما يحددها جولوم) و«الدلالة»، التي تعني «معنى» رسالة ما لقارئ أو مستمع معين (فحواها أو مدلولها). في ضوء هذا، يبقى معنى أي نص ثابتا لا يتغير، ولكن دلالته تختلف من شخص لآخر.
غير أن الفيلسوف مونرو بيردسلي (1915-1985) ذهب إلى أن القضية ليست ما إذا كان معنى الرسالة ومقصد المؤلف متصلين، أو ما إذا كان معنى الرسالة يعد دليلا كافيا على مقصد المؤلف؛ نظرا لأن جميع نظريات التأويل تقر بأن الموقف كثيرا ما يكون كذلك. القضية هي ما إذا كان معنى الرسالة ومقصد المؤلف «واحدا ويمثلان نفس الشيء.»
8
من منظور، كان سيبدو أن قدرا كبيرا من فهم بيلبو قد يكون قائما على دلالة ألغاز جولوم أكثر من معناها المقصود.
علاوة على ذلك، يعترف هيرش بأن اللغة، وإن لم تكن مصدر «المعنى»، فإنها مصدر «الوضوح». فلا يمكن لمؤلف أن يدعي ببساطة أن الكلمات التي يستخدمها تعني أي شيء يرغب في أن تعنيه. فلا يمكنني أن أجعل عبارة «مشجع فريق بالتيمور رافينز» تعني «شخص أبله عديم العقل»، بصرف النظر عن ولاءاتي. علاوة على ذلك، قد تكون النصوص التي لها عدة مؤلفين، مثل تقارير اللجان، والأحكام الدستورية، بل والكثير من الألغاز والدعابات، مفهومة واضحة تماما ولكن ليس لها أي «مقصد أساسي» مشترك.
9
ولكن إذا كانت اللغة مشتركة في هذا المقام، ألا يؤثر ذلك على فكرة أن المؤلف هو المقرر «الأوحد» لمعنى النص ؟ (4) جولوم وجادامير
لا تنكر هذه الانتقادات الموجهة لمفهوم القصدية أن الألغاز لها مؤلف، أو مقصد، أو إجابة، بل إن الانتقادات تشير إلى أن تأويل المرء للغز ما لا يمكن أن يختزل إلى مجرد استخلاص مقصد المؤلف. فبينما قد يحدد صاحب اللغز حل اللغز، تنطوي طريقتنا في تفسير الرسالة بحيث يمكننا التوصل إلى ذلك الحل على تقدير أوسع نطاقا لطريقة صياغة المعنى وتوصيله.
مع وضع ذلك في الاعتبار، يمكننا أن نرى في إجابات جولوم على لغزي بيلبو الثاني والثالث انعكاسا لأسلوب مختلف قليلا في التأويل:
عين في وجه أزرق
رأت عينا في وجه أخضر.
قالت العين الأولى: «تلك العين تشبه هذه العين،
ولكن في مكان منخفض
وليس في مكان مرتفع.»
10
يعد هذا اللغز أكثر تعقيدا من الأمثلة السابقة. ف «العيون» و«الوجوه» مصطلحات إشكالية تماما. أولا: إن نزعتنا لقراءة السمات البشرية في العالم من خلال الأدب، والأساطير، وما إلى ذلك، تعني أن هاتين الصورتين المجازيتين تسريان بشكل أوسع على أي عدد من الأشياء في العالم من صورة الحصان أو الشجرة الأكثر تحديدا.
ثانيا: كما يتبين، يشير اللغز فعليا إلى نوعين مختلفين من الأشياء (الشمس وزهرة أقحوان) بنفس الصورة الوصفية. وبدلا من محاولة فهم دافع بيلبو لاستخدام مثل هذه الكلمات، الذي قد يؤدي إلى سيناريوهات لا حصر لها تتضمن خبرة المؤلف مع العيون والوجوه، يربط جولوم نص اللغز بخبرته الخاصة مع العالم:
كان قابعا تحت الأرض لزمن طويل للغاية، وكاد ينسى هذا النوع من الأشياء ... استعاد جولوم ذكريات عصور وعصور وعصور مضت، حين كان يعيش مع جدته في نفق في ضفة بجوار أحد الأنهار. وقال: «يا خاتمي الثمين، إنه يعني الشمس وهي تشرق على زهور الأقحوان، إنه يعني ذلك.»
11
في هذا المقام، يتبع جولوم نمطا للتأويل طرحه على الأرجح أكثر فلاسفة الهرمنيوطيقا تأثيرا في القرن العشرين، هانز جورج جادامير (1900-2002). يرى جادامير أن تفسيراتنا دائما ما توضع في سياق تاريخي معين. فنحن نفكر في إطار خبراتنا ومعرفتنا المكتسبة؛ مما يزودنا بمجموعة من التحيزات تمكننا من فهم الشيء محل التأويل.
والمعنى المقصود لمفهوم التحيز هذا ليس المعنى السلبي المتمثل في التعصب اللاعقلاني ضد شخص أو شيء ما، بل يعني «التحيز» هنا مجموعة الميول التي تدرك من خلالها شيئا ما باعتباره ذا معنى. فتعليمنا، على سبيل المثال، يعلمنا القراءة بلغة معينة؛ ومن ثم يهيئنا لرؤية أشكال وعلامات معينة كحروف وكلمات. لو لم نكن تعلمنا بهذه اللغة لما استطعنا أن نفهمها.
يرى جادامير أن تحيزاتنا هي ما تجعل الفهم ممكنا. فنحن في عملية تأويل دائمة للعالم؛ ومن ثم نستطيع تعديل وتطوير تحيزاتنا وتوسيع آفاق فهمنا. وهكذا فإن فهمنا ليس مجرد عملية إعادة بناء للفكرة الأصلية الكامنة خلف الرسالة، التي توجد ضمن سياقها أو أفقها التاريخي. إنما «الفهم» هو عبارة عن حوار بين المفسر والشيء موضع التفسير واندماج أفقين معا. بعبارة أخرى، أن «تفهم» يعني أن تفهم نفسك في إطار الموضوع.
12
في الواقع إن جولوم ليس مخلوقا له واقع تاريخي، بل مجرد شخصية خيالية. ومع ذلك، يقوم فهمه لألغاز بيلبو على التاريخ «الخيالي» لوجوده والأفق الذي يمنحه هذا إياه. بينما يبدأ بيلبو اللعبة بتحديد معنى اللغز في إطار مقصد جولوم - علما بأن المعنى محدد بالإجابة التي قررها جولوم مسبقا - يحاول جولوم نفسه فهم كل لغز بإعمال الفكر في خبرته.
ترى قصدية هيرش أن كلا من المؤلف والقارئ ينظر إليهما باعتبارهما كيانين مستقرين نسبيا، ولكن نظرية جادامير عن الهرمنيوطيقا تدرك أننا نتكون بشكل جزئي عن طريق اندماجنا وانصهارنا مع آفاق الفهم الأخرى. فنحن لا نخضع ببساطة لفكرة ما، بل نفهم تلك الفكرة داخل إطار خبرتنا. ومن ثم يستطيع جولوم تخمين الإجابة على لغز جولوم:
صندوق بلا مفصلات، أو مفتاح، أو غطاء. ولكن كنزا ذهبيا يقبع مخفيا بداخله.
13
وهو يفعل ذلك بالتفكير مليا في خبرته مع:
السرقة من أعشاش الطيور قبل زمن طويل مضى، والجلوس أسفل ضفة النهر يعلم جدته مص ... «البيض!» قالها بصوت كالهسيس: «إنه البيض!»
14
حين نواجه رسالة تثير أفقا ليس لنا دراية به - ككتاب فلسفي كتب في القرن السابع عشر أو لغة الجن التي كانت دارجة «حين كان العالم كله رائعا» - لا نغادر مواقعنا الفردية، ونقبع كما نحن في آفاقنا في الحاضر.
15
ولكن سيكون من الخطأ، وفقا لجادامير، أن نحاول توفيق الرسالة بشكل تام داخل آفاقنا الفردية؛ لأننا حينئذ نكون بصدد رؤية كل شيء كما نريد أن نراه.
من الممكن بالتأكيد أن يكون ذلك ممتعا لبعض الوقت. ولكن لا بد أن نتذكر أن آفاقنا الفردية، المكونة من جميع خبراتنا وتجاربنا، هي في الأساس أطر مرجعية متغيرة ومتقلبة. لو سبق لك الدخول في حديث مع شخص ما لا يرى الأمور إلا بطريقته، ستعرف مدى أهمية أن نرى آفاق فهمنا باعتبارها شيئا نتشاور بشأنه وليس شيئا نفرضه فرضا.
في المقابل، تعتبر محاولة إعادة بناء الأفق الأصلي برمته عبثا أيضا؛ لأن ذلك من شأنه أن يفرغ الرسالة من مدلولها بالنسبة إلينا. وبحسب جادامير، كان ذلك هو خطأ هيرش الجوهري؛ فمن خلال حصر المعنى داخل مقصد الكاتب وحده، لا نضع اعتبارا لتغير دلالة المعنى من شخص لآخر. ولكننا لا نصل ببساطة إلى أية رسالة بمعزل عن العالم. ومن ثم يعتبر دور الاندماج الشخصي مع رسالة ما أساسيا، كما نرى مع جولوم:
كانت هذه النوعية من ألغاز الأرض العادية الدارجة مرهقة له. وكانت تذكره أيضا بتلك الأيام حين كان أقل وحدة وحقارة وقبحا، وكان هذا يثير غضبه.
16
ليست بالمفارقة البسيطة أن يتعين على جولوم، الذي يصور على مدى قصص تولكين باعتباره فردا وحيدا بغيضا، أن يبحث عن الفهم من خلال حوار مع شخص آخر. غير أن جولوم يتحدث باستمرار خلال الحوار؛ ليس لشخص آخر، ولكن إما ل «أناه» الثانية، سميجول، أو لخاتمه «الثمين» العزيز.
إن نموذج جادامير للحوار، في الواقع، ليس مقتصرا على محادثة فعلية بين شخصين. فنموذج الحوار ليس سوى نموذج لتفسير كيفية حدوث الفهم، وهو يصف، باعتباره نموذجا، البنية التي تتكون فيها أية مواجهة مع الشيء موضع الفهم، سواء أكان هذا عملا فنيا، أم كتابا، أم شخصا آخر، أم شخصا صغير الحجم يطلق ألغازا. (5) ماذا في جيب بيلبو؟
غير أن هذا النموذج للحوار يتضمن التزامات معينة، مثلما تنطوي لعبة الألغاز على قواعد معينة، كنا قد أوجزناها فيما سبق . إن الحوار، بحسب جادامير، يكتسب معنى بفضل نوايا المشاركين الحسنة؛ التفهم المشترك لفكرة أن شخصا ما لديه شيء ليقوله وآخر يرغب في فهمه. ولكننا رأينا بالفعل كيف يخلق هذا مشكلات للنظرية القصدية للمعنى.
منذ اللحظة التي يطلب فيها بيلبو من جولوم أن يخمن «ماذا في جيبي؟» يبدو التواصل فيما بين الاثنين في انهيار. فالنية الحسنة للحوار شبه غائبة مع انزلاق الطرفين إلى الصياح بأسئلة متكررة. وهذه النهاية التي تصل إليها اللعبة تثير تساؤلين: (1) هل لغز بيلبو الأخير نزيه تماما؟ (2) كيف لأسلوب جولوم التأويلي أن يساعده أو يعوقه في تحديد الإجابة؟
من ناحية، من وجهة النظر القصدية، يوجد مقصد داخل السؤال وإجابة للغز؛ ومن ثم يكون للسؤال معنى على الأقل. فهناك شيء في جيب بيلبو «بالفعل»، وهذا الشيء ذو دلالة ضخمة للقصة، ليس فقط فيما يتعلق ببيلبو وجولوم، بل بالأرض الوسطى ذاتها. بالإضافة إلى ذلك، فهو ليس شيئا لا يعرفه جولوم؛ فهو خاتمه، الذي سيكتشف فقدانه بعد قليل. ومن ثم يعلن بيلبو أنه قد فاز بالمنافسة بنزاهة (على الرغم من اعترافه بأن القوانين القديمة قد لا تعتبر لغزه الأخير لغزا حقيقيا).
من ناحية أخرى، ترى نظرية جادامير الحوارية للتأويل أن لغز بيلبو الأخير يخل بحس الحوار الذي يكسب أي تأويل معنى. بعبارة أخرى، ليست حقيقة أن هناك إجابة هي التي تفسد اللعبة فيما يبدو، ولكن حقيقة أن بيلبو قد أفسد روح النية الحسنة المبدئية السارية في اللعبة ذاتها. فسؤاله مجرد استفسار، وليس عبارة خبرية تقدم دلائل أو إشارات أو تنقل رسالة ما دون تأكيدها بشكل بالغ الوضوح. ولذلك تداعيات لفكرة اللعبة الأساسية؛ إذ يترك جولوم دون أفق لدمجه مع آخر. إذن ليس من المستغرب أن يوائم جولوم هذا السؤال ويفسر الرسالة في إطار خبرته بشكل بحت.
ونتيجة لذلك، حين يصل جولوم في النهاية إلى الحقيقة كما نعرفها - أن بيلبو قد «سرق» منه «خاتمه الثمين» - فإن ذلك يعد «صحيحا»، بشكل ما، فقط إلى حد أن جولوم قد صنع تلك الحقيقة من حواره الداخلي. إنه لا يستطيع أن يثبت بشكل موضوعي أن الخاتم بحوزة بيلبو، ولكن هذا لا يهم بالنظر إلى أسلوبه التأويلي. فجولوم، كما رأينا، ليس مقيدا بالنظر إلى معنى لغز بيلبو باعتباره متطابقا مع مقصده؛ لذا فهو له مبرره في التوصل إلى هذا الاستنتاج بمفرده. (6) الخروج من المقلاة
قد يدخل الفلاسفة في جدال عنيف بشأن ما إذا كان بيلبو قد فاز حقا بلعبة الألغاز أم لا. ولكن هدف هذا الفصل ببساطة كان يكمن في توضيح كيف أن لعبة الألغاز قد أطلقت مجموعة من المشكلات فيما يتعلق بمسألة التأويل، حتى في إطار قواعدها الراسخة نسبيا. فمشكلة التأويل لا تتوقف بمجرد انتهاء الألغاز الرسمية. فمن الفصل الافتتاحي ل «الهوبيت»، حين يواجه بيلبو وصول مجموعة من الأقزام المتطفلين وإن كانت زيارتهم متوقعة، يواجه بيلبو على مدار الكتاب تحديات بسيناريوهات مختلفة، التي لا بد أن يقوم بتأويلها وفهمها من أجل البقاء.
وسواء أكانت محيرة أم لا، كثيرا ما تكون الكلمات كالشخص المراوغ المخادع، يمكن أن تعني شيئا لشخص، فيما تعني شيئا مختلفا تماما بالنسبة إلى شخص آخر. حتى عبارة بسيطة مثل «صباح الخير!» يمكن أن تثير لساحر في حكمة جولوم مشكلات في الفهم: «هل تتمنى لي صباحا سعيدا، أم أنك تقصد أنه صباح سعيد شئت أم لم أشأ، أم تشعر بشعور طيب هذا الصباح، أم أنه صباح تسعد بالتواجد فيه؟»
17
كما مع العديد من فروع الفلسفة، كثيرا ما يكون أسلوبنا الدارج تجاه فلسفة التأويل مفترضا وليس مفندا (في الواقع، إن بيلبو لا ينبهر بتلاعب جولوم بالألفاظ). ولكن بينما قد يبدو من قبيل الغطرسة والادعاء أن نتحدث عن تأويل كتاب أطفال مثل «الهوبيت»، من المهم أن تدرك أن التأويل بالمعنى التفسيري شيء مستمر وقائم طوال الوقت، والكيفية التي نفسر بها المعنى ترتبط بشكل وثيق بتقاليد وافتراضات فلسفية معينة.
لا يمكننا مطلقا أن نوجد في موضع نرى منه العالم «كما هو في واقعه» خارج إطار تأويلنا (حتى لو استطعنا ذلك، سيعيدنا التعبير عن ذلك لأي شخص آخر إلى حيث بدأنا؛ إذ سيضطر بدوره لتأويل ما نقول). بينما تقرأ هذا الفصل، ربما ستكون بالفعل قد وضعت العديد من الافتراضات التأويلية الأساسية بشأن معنى النص، وكيف يمكن إثباته (هل معنى النص هو ذلك الذي قصدت، أنا المؤلف «المخادع»، أن يعنيه؟ أم هل هو ما تراه أنت، القارئ، أنه يعنيه؟ أم أنه شيء آخر؟)
في المقابل، نظرا لأنني أكتب هذا من أجل أن تفهم ما أحاول أن أقوله، فإنني أيضا أقيم افتراضات معينة بشأن طبيعة التواصل. على سبيل المثال، أنا أكتب باللغة الإنجليزية، حتى تزداد احتمالات أن يفهمني جمهور يتحدث تلك اللغة، تماما مثل روك الغراب، الذي يتحدث بالخطاب الدارج إلى الأقزام على الجبل الوحيد.
ولما كان الموقف كذلك، فإن من الصحيح أيضا أن مواقف معينة سوف تلفت انتباهنا إلى مفاهيمنا المفترضة عن المعنى والفهم بشكل أكثر حدة من غيرها. فحين نواجه رسالة غير واضحة أو غامضة، فنحن إذن داخل لعبة ألغاز، وكثيرا ما يبرز منهجنا التأويلي بشكل جلي.
هوامش
الجزء
الذهاب والعودة من جديد
الفصل الرابع عشر
بعض الهوبيت يملكون كل الحظ
راندال إم جنسن
كان للفيلسوف الروماني سينيكا (حوالي 4ق.م-65م) تعليق شهير قال فيه إن «الحظ هو عندما تتلاقى المعرفة مع الاستعداد.» قد يكون ذلك صحيحا بالنسبة للرواقيين، ولكنه ليس كذلك فيما يبدو بالنسبة للهوبيت.
لا يملك بيلبو أية معرفة سابقة بأي من الأماكن التي على وشك أن يزورها، ولم يستغرق أي وقت قط للتعرف على العالم الأرحب إلى أن بدأ بالفعل في مغامرته. أما بالنسبة للاستعداد، فينطلق بيلبو في مغامرته الخطيرة دون قبعته، وعصا المشي خاصته، ومنديل جيبه. وعلى الرغم من أنه يمضي باحثا عن كنز، نجده ينسى نقوده باستهتار تاركا إياها في المنزل.
غير أن الاختيار يقع على بيلبو باعتباره العضو الرابع عشر المحظوظ لمجموعة الأقزام، وحسب تعليق ثورين، يثبت أنه «يملك من حسن الطالع ما يجاوز النصيب المعتاد منه بكثير.»
1
فنجد بيلبو ورفاقه يهربون بشق الأنفس من أن يصبحوا هلاما للعمالقة، حين يعود بيلبو من البراري «في آخر لحظة»،
2
وبالكاد يتجنبون السحق بفعل الصخور المتساقطة في الممرات العالية للجبال الضبابية.
3
ينقذ الحظ المحض بيلبو حين يتوصل بغير قصد إلى الإجابة الصحيحة «الوقت!» لواحد من ألغاز جولوم، في حين أنه كان يقصد فقط أن يطلب مزيدا من الوقت للإجابة.
4
ولحسن الحظ يخرج يديه من جيبيه قبيل أن يأتي جولوم بتخمين «اليدين» كإجابة على لغز بيلبو غير المقصود «ماذا لدي في جيوبي؟»
5
و«بالحظ البحت» يتعثر دوري في بيلبو وهو نائم كجذع شجرة في ليل غابة ميركوود حالك الظلام.
6
وفي وقت لاحق من ذلك المساء، يستيقظ بيلبو في اللحظة التي كان فيها أحد العناكب الضخمة على وشك أن يغطيه بخيوطه ويأخذه من أجل العشاء.
7
وفي سراديب ملك الجن، يختبر بيلبو «حظا من نوع غير مألوف» حين يحتسي الحراس «شراب عنب مسكرا» بشكل استثنائي عن غير عمد، ويغرقون في سبات عميق؛ مما أتاح لبيلبو الاستيلاء على مفاتيحهم.
8
الأهم من كل ذلك، يجد بيلبو، في لحظة تبدو مفعمة بالحظ، خاتما صغيرا في الظلام وسط تيه كهوف الجوبلن الذي يبدو بلا نهاية. ما الفائدة من حدوث شيء كهذا؟ بواسطة هذا الخاتم السحري فقط يتمكن بيلبو من إنقاذ نفسه من جولوم والجوبلن، وتخليص رفاقه من براثن العناكب الجائعة والجن الأفظاظ، ويباغت سموج، وينجو من معركة الجيوش الخمسة.
في الواقع، إن للحظ أهمية كبرى في رائعة تولكين الكلاسيكية المحبوبة. وفي هذا الفصل سوف نخوض، نحن المتآمرين الزملاء، مغامرة خاصة بنا؛ لنرى ما الكنز الفلسفي الذي يمكن العثور عليه من خلال التدبر في الطبيعة والأهمية الأخلاقية للحظ. لن تكون لنا حاجة لمواهب لص، والعديد من الفلاسفة الخبراء بانتظارنا في حانة جرين دراجون. (1) أرسطو ولغز الحظ
غالبا ما كان الفيلسوف اليوناني العظيم أرسطو (384-322ق.م) يتناول أي موضوع فلسفي بطرح سلسلة من الأسئلة أو الألغاز حوله. وبحسب تعبيره الشهير عن ذلك: الفلسفة تبدأ بالاندهاش أو ربما «بالألغاز»، في معالجته لموضوع الحظ (
tuche
باليونانية). لاحظ أرسطو أننا بينما نتحدث كثيرا عن الحظ بتفسيراتنا العادية لما يحدث في العالم من حولنا، ينكر بعض الفلاسفة حقيقة الحظ،
9
بل إننا كلما فكرنا بشأن الحظ قد يزداد ارتيابنا في أننا لا نعرف ما نتحدث عنه. إذن ما هو الحظ على أي حال؟
قدم أرسطو ثلاث رؤى أساسية سوف تعيننا على حل بعض من الألغاز التي سنواجهها؛ الأولى: هي أن حدوث شيء لمعظم الوقت أو طوال الوقت لا يعد مسألة حظ؛ فالأحداث المحظوظة غير مألوفة، ومن ثم غير متوقعة بشكل عام. الثانية: أن الحظ ليس سببا مستقلا قائما بذاته، ولكنه يوجد، بدلا من ذلك، في أسباب «متزامنة». الثالثة: أن الشيء يمكن أن يكون محظوظا (أو غير محظوظ) لأي شخص، فقط إذا كان خارج نطاق سيطرة الشخص. يمكن توضيح كل من هذه النقاط الثلاث بالبحث في الوقائع والأحداث المحظوظة في رحلة بيلبو.
تذكر مرور بيلبو أسفل الجبال الضبابية وعبر تيه كهوف الجوبلن، خاصة خروجه المثير عبر الباب الخلفي ذي الحراسة المشددة. حين يروي بيلبو قصة هروبه على رفاقه يرغبون بشكل عفوي في معرفة كيف فعل ذلك. كانت إجابته الاستهلالية: «أوه! فقط تسللت، كما تعلمون، بحرص وهدوء شديدين.» إجابة غير مرضية لهم، وهي كذلك بحق.
10
لا شك أن بعضا منهم لم ينظر إلى بيلبو بنظرة احترام جديدة فحسب، مثلما يخبرنا تولكين، بل أيضا اعتبروه هوبيت محظوظا للغاية. ولو أن الأحداث قد وقعت بالفعل مثلما رواها بيلبو، لكان بالفعل محظوظا بشكل غير عادي!
لو كان لشخص في قامة بيلبو أن يندفع راكضا في كهف يعج بالأعداء، متفاديا إياهم وقافزا فوقهم، لكان أمسك به. فمن غير المألوف إلى حد بالغ أن يتفادى شخص ما الأسر في مثل هذه الظروف؛ ومن ثم كان سيصبح من الملائم تماما أن تنظر إلى الأمر بوصفه مسألة حظ؛ حظ حسن للهارب، وسيئ للآسرين. غير أننا لم نكن لننظر لأسير مطاردة كهذه باعتباره ضحية «للحظ» السيئ، على الرغم من أنه كان سيصبح أمرا مروعا بشكل بشع له؛ لأن أسره كان سيصير أمرا متوقعا. وكما نصت رؤية أرسطو الأولى: لا يوجد الحظ فيما يحدث لكل الوقت أو معظمه. فحين يلم بشخص ما حدث عادي قابل للتوقع، سواء كان فيه منفعة أو ضرر أو كان محايدا؛ لا يكون الأمر مسألة حظ. فنحن نستدعي الحظ في تفسيراتنا حين يقع شيء مفاجئ.
إن قصة بيلبو بالطبع، كما نعلم، ما هي إلا كذبة بسبب ما بها من نقص وحذف بالغ. تخيل أنه كان أكثر صدقا وصراحة وأخبر جمهوره عن الخاتم السحري الذي وجده. فلو أنه حينئذ قد مضى يوضح كيف خرج من الباب الخلفي لما جنحوا تماما لاعتباره محظوظا «لهروبه من الحراس»؛ فلا أحد كان سيفكر قائلا: «كم هو محظوظ أنهم لم يروه أو يمسكوا به!» فنجاح شخص غير مرئي في تفادي مخلوقات لم تستطع رؤيته ليس فيه ما يثير الدهشة مطلقا. في الواقع، إن الأشخاص غير المرئيين يمكنهم - بشكل شبه دائم - أن يذهبوا حيثما شاءوا دون أن يكتشف أمرهم، ما لم يكن هناك تنين، أو بومباديل، أو فارس أسود موجودا بالجوار. ربما كان بيلبو محظوظا للغاية لعثوره على الخاتم، ولكن بالنظر إلى أنه قد وجد الخاتم، يكون تفاديه للحراس ليس مسألة حظ.
كيف تمكن بيلبو من حشر نفسه عبر الشق بالغ الصغر في باب الجوبلن الخلفي؟ مرة أخرى، قد نشير بشكل عفوي إلى الحظ باعتباره إجابة على هذا السؤال. وهذا الأسلوب في الحديث قد يوحي بأن الحظ هو نوع من الأسباب، أو قوة سحرية أحيانا ما تجعل الأشياء تحدث في العالم. تخيل أن بيلبو قد وجد خاتما سحريا يجلب للمرء الحظ، مثل شراب الحظ المسحور في قصص هاري بوتر: كلما وقعت في مأزق ترتدي الخاتم ببساطة، ويساعدك بشكل ما من خلال التدخل في النظام الطبيعي للأشياء. في حالة بيلبو، قد تكون قوة الحظ جعلت الفتحة تتضخم بشكل سحري على سبيل المثال، غير أنه حشر جسده عبر الباب؛ ومن ثم لم يكن هناك «حظ» سحري البتة!
ثمة لغز أرسطي يترصدنا هنا؛ فبينما نرى بيلبو محظوظا بالفعل، لا يبدو أن لدينا مجالا للحظ في تفسيرنا لهروبه؛ فالحظ يبدو كأنه قد اختفى لو حاولنا أن نفسر ما حدث بشكل دقيق؛ فهو لا يضيف أي شيء إلى التفسير السببي، غير أنه على الرغم من أن معظمنا لا يعتقدون بشكل جاد في خواتم الحظ السحرية (أو أشربة الحظ، أو أي شيء من هذا القبيل)؛ فإننا، مع ذلك، نتحدث عن الحظ كثيرا إلى حد ما. ولا شك أن كل هذا الحديث عن الحظ ليس مجرد هراء.
تحل رؤية أرسطو الثانية هذا اللغز بوصفها للحظ بأنه شيء يوجد حين «تتصادف» العوامل المسببة معا؛ لذا فلا غرابة في أننا نتحدث عن الحظ والمصادفة في نفس الوقت. غير أن أرسطو كان يقصد شيئا آخر أعمق بعض الشيء مما نقصده. لقد تمثلت فكرته في أن الحظ ليس عاملا مسببا «إضافيا» للعوامل التي تفسر كيفية إحداث تأثير ما. فالحظ ليس نوعا من السحر، وإنما يوجد الحظ أينما يتزامن عاملان مسببان عاديان تماما بطريقة ما غير متوقعة.
في البداية، يبدو حظ بيلبو حسنا؛ نظرا لأن الباب الخلفي كان مغلقا دوما حتى على الرغم من أن الجوبلن قد لمحوه. فغالبا ما يترك الناس الأبواب مواربة. ويكمن حظ بيلبو الظاهر الحسن هنا في أن أحد الجوبلن قد ترك الباب مواربا نوعا ما في الوقت المناسب تماما، وفي الوقت الذي كنا سنتوقع فيه أنه قد أغلقه بسبب الاضطراب والقلق الدائر في الكهوف. يا لها من مصادفة سعيدة الحظ لبيلبو!
غير أن حظه يبدو بعد دقائق معدودة سيئا بشكل مذهل؛ لأن الشق الذي في الباب لم يكن سوى شق أصغر نوعا ما من عرض جسده. والسبب وراء ضخامته أنه هوبيت - «كائن يميل للبدانة عند منطقة المعدة» - وأنه معتاد على الاستمتاع بست وجبات يوميا كلما أمكن. وهكذا تتضافر أمامنا الآن مجموعتان من العوامل المسببة؛ إحداهما تتضمن الجوبلن وبابا، والأخرى تتضمن هوبيت ونظامه الغذائي، بطريقة توحي بأن شيئا مذهلا يحدث. فالشق يبدو كمكان ملائم تماما - بشكل مأساوي - ليلقى الهوبيت نهايته الحزينة! كم مرة يواجه المرء فتحة بالحجم المناسب تماما بحيث يستطيع أن يقحم نفسه بداخلها؟! لقد اتخذ حظ بيلبو منحى نحو الأسوأ، ولكن - كما يتبين - ينعم بيلبو بحسن الحظ بالرغم من كل شيء؛ إذ يتبين أن الشق كان يتسع بما يكفي بالكاد كي يمر منه حين يدفع نفسه بكل ما أوتي من قوة، ولو أن الشق كان أضيق ولو ببوصة واحدة لتخلى عنه الحظ كما نقول.
إن هذا النوع من المصادفة، بالنسبة لأرسطو، هو مكمن الحظ. إنها مسألة العلاقة بين العوامل المسببة، وليس مسألة عامل مسبب مستقل بذاته؛ فنحن نصف شخصا أو شيئا ما بأنه محظوظ (أو غير محظوظ) حين يكون تفاعل الأسباب غير متوقع، حين يكون ما نراه طبيعيا تماما؛ ومن ثم مفهوما دون استدعاء أية قوة سحرية للحظ، ولكنه لافت؛ تحديدا لأننا نحظى بنفع أو نمنى بضرر حيث لم نكن نتوقع ذلك. تلك طريقة مفيدة للتفكير بشأن الحظ، وتظهر أيضا مدى التوافق الجميل بين رؤيتي أرسطو الأوليين؛ فالحظ يتألف من تزامن غير متوقع للأسباب. ولا يكون الحظ شيئا حقيقيا إذا كنا ننظر إليه باعتباره نوعا من السحر، ولكنه يكون حقيقيا تماما حين يفهم كتزامن للأسباب.
لماذا لا يريد بيلبو أن يخبر أصدقاءه بشأن الخاتم؟ يوجد - على الأرجح - الكثير من الأسباب، إلا أن تولكين يخبرنا بواحد منها: «كان بيلبو في غاية السعادة بإطرائهم حتى إنه ابتسم بينه وبين نفسه ولم يقل شيئا أيا كان بشأن الخاتم.» كان إطراء جاندالف والأقزام على بيلبو نابعا مما يرونه «عملا في غاية البراعة».
11
وإطراؤهم الفياض يقوم على الاعتقاد بأن بيلبو نفسه مسئول عن هروبه، حتى لو أنهم يظنونه محظوظا أيضا، فهم لا ينكرون أن هروبه (على الأقل كما يصفه بيلبو!) قد أظهر براعة وقدرا من المهارة الحقيقية.
ولكن - كما نعلم، وكما يظن جاندالف - الحقيقة هي أن هناك في القصة أمرا آخر؛ فقد كان الفضل في هروب بيلبو يرجع - إلى حد كبير - إلى الخاتم؛ ومن ثم فهو لا يستحق الإطراء بشكل ما؛ لأنهم يطرون عليه لشيء لم يكن مسئولا عن حدوثه، فقد كان هروبه في الأساس نتاجا لمصادفة سعيدة الحظ إلى حد كبير، ألا وهي العثور على خاتم صغير للغاية في كهف كبير للغاية وحالك الظلام. ولم يكن هذا الاكتشاف ليعزى إلى براعة بيلبو، بل إنه لا ينسب لبيلبو من الأساس، فقد كان الأمر خارج نطاق سيطرته تماما؛ مما يجعله مرشحا مناسبا للحظ، وفقا لرؤية أرسطو الثالثة.
إن الحظ لا يسيطر على الأمور إلا حين نفقد السيطرة على ما يحدث؛ فنحن لا نصنع حظنا في النهاية، وما يقصده الناس عادة حين يقولون شيئا كهذا هو أنهم يرتبون الأمور بحيث لا يوجد مجال للحظ كي يتدخل، وليس أنهم يتحكمون في الحظ نفسه بشكل ما. فغالبا ما ينظم جاندالف الأحداث، وعادة ما يكون لديه الخبرة والقوة للتعامل مع أي شيء يعترض طريقه، بينما بيلبو كثيرا ما يتصرف من منطلق يأس أو وفقا لهوى ما. يتسم جاندالف بالمهارة ويستمتع بإخبار الناس بذلك.
12
أما بيلبو، على النقيض، فهو محظوظ في الأغلب؛ لأن الأحداث عادة ما تخرج عن سيطرته. (2) أنواع الحظ وفق رأي ناجل
عرف الفيلسوف المعاصر توماس ناجل أربعة أنواع من الحظ، ثلاثة منها يمكن رؤيتها بشكل عملي في «الهوبيت».
13
تحدد هذه الأشكال من الحظ طرقا مهمة مختلفة يمكن من خلالها أن يخرج شيء ما عن السيطرة.
يكمن «الحظ الظرفي» في الظروف التي نجد أنفسنا فيها؛ فبيلبو يجد نفسه في الكثير من المصادفات سعيدة الحظ في «الهوبيت»، مثل عندما تقفز سمكة على أصابع قدمه؛ مما يتيح له تخمين الإجابة الصحيحة لأحد ألغاز جولوم الأكثر صعوبة.
يتعلق «الحظ البنيوي» بسمات الشخص؛ كالمكانة في الحياة، والخلفية العائلية، والصفات الوراثية وما إلى ذلك. وقد استخدم جون رولز (1921-2002) مفهوم اليانصيب «الطبيعي» - وهو إجراء مدفوع بالحظ بشكل واضح وبديهي - للتركيز بشكل درامي على مدى خروج مثل هذه الأشياء عن سيطرتنا.
14
فنجد بيلبو هوبيت ميسور الحال يحمل اسم عائلة باجنز ذات السمعة الطيبة، وقدرا من مزاج عشيرة التوك. إنه لم يختر أيا من هذا، ولا يملك سيطرة على أي منه؛ فالأمر بحق مجرد نتاج للمصادفة البحتة دون أية سيطرة عليه.
يتعامل هذان النوعان الأولان من الحظ مع ما يجلبه شخص ما لسيناريو محدد. أما النوع الثالث «الحظ المحصل»، فيتعلق بالمنحى الذي تتخذه الأمور، فيبدو أن لدينا قدرا معينا من السيطرة على ما نقرر القيام به، ولكننا لا نتحكم في كل شيء يتأتى منه.
بوسعنا أن نرى أنواع الحظ الثلاثة جميعا في واقعة كهف الجوبلن؛ فالأمر يدخل في عداد الحظ البنيوي أن يكون بيلبو هوبيت؛ ومن ثم صغير الحجم بما يكفي للتسلل عبر باب الكهف الموارب. أما فيما يتعلق بكون الكهف الذي تمضي فيه المجموعة الليل قد تصادف أن كان «المدخل الأمامي» للجوبلن، فهذا يدخل في نطاق الحظ الظرفي؛ وهو نوع من الحظ العاثر أيضا كما قد نظن، فيما عدا أن ذلك لو لم يحدث لما بدأ تسلسل الأحداث الذي يقود بيلبو إلى العثور على الخاتم. ومن يعرف أي أمور بشعة ربما كانت قد ألمت بالأرض الوسطى لولا تلك اللحظة المحورية الحاسمة؟ ربما لا يكون واضحا بشكل مباشر إذا ما كان الحظ الظرفي من قبيل الحظ الجيد أم السيئ. وأخيرا، تعتبر مسألة كون اكتشاف بيلبو للخاتم قد أدى إلى السقوط النهائي والقاطع لسورون سيد الخواتم الشرير من قبيل الحظ المحصل؛ فليس لبيلبو أية سيطرة على كيفية اختيار فرودو أن يستعين بالخاتم.
إذن، فهويتنا، وأين نجد أنفسنا، وما يحدث لنا وبسببنا أمور يمكن أن تكون جميعا مسألة حظ. فمثل بيلبو، قد نكون حيث نحن (وما نحن عليه) بسبب سلسلة من الأحداث خارجة عن نطاق سيطرتنا إلى حد كبير، وقد لا نستحق الكثير من الإشادة لأي «عمل بارع» تمكنا من إنجازه. يمكن أيضا أن تكون الأمور قد سارت على نحو مختلف تماما بالنسبة لنا، يا لها من فكرة مزعجة! ومثل بيلبو، قد نغرى بالانصراف عن هذه الفكرة والاستمتاع بالاعتقاد بأننا أكثر تحكما في الأمور مما نحن عليه فعليا؛ فلو لم نكن مسيطرين كيف سيؤثر ذلك على مفهومنا عن أنفسنا؟ فهل نحن محظوظون وحسب؟ (3) الطيب، والشرير، والمحظوظ
كان لدى ثورين أوكينشيلد ، كما نعلم، مسحة من نزق وسوء الطباع؛ فهو قزم متفاخر يتشارك مع بني جلدته شهوة الذهب والكنوز الأخرى. بعد موت سموج، كان عليه حقا أن يصغي لمطالبة بارد بنصيب من الكنز («كلمات منصفة وحقيقية»، كما يقول تولكين)،
15
غير أن ثورين يرفض الاعتراف بما يعد مطلبا مشروعا بشكل واضح. هل ينبغي أن ننظر إلى هذا بوصفه كشفا عن أن له شخصية فاسدة، وأنه في أعماقه جشع وأناني؟ أم ينبغي أن ننظر إليه باعتباره فعلة ذميمة لا تتفق مع شخصية ثورين، وسوف يندم عليها لاحقا، كما قد يوحي خطابه على فراش الموت («أتمنى لو تراجعت عن أقوالي وأفعالي عند البوابة»)؟
16
أو ربما قدر من الاثنين؟
هل ينبغي أن تعتمد تقييماتنا الأخلاقية للناس وسلوكهم على الحظ، ولو بشكل جزئي على الأقل؟ هل يمكن أن نلوم ثورين لتشبثه المفرط بالذهب، بالنظر إلى أن طبيعته القزمية هي مسألة حظ بنيوي، وأنه واجه حظا ظرفيا سيئا بوقوعه ضحية للعنة داء التنين؟
17
هل ينبغي أن نحتقر الجوبلن لسلوكهم الشرير، بالنظر إلى أنهم قد حالفهم الحظ السيئ بأن ولدوا جوبلن وليس هوبيت، أو أقزاما، أو جنا؟ إذا كان لا ينبغي للأخلاق أن تعتمد - بشكل أكثر من اللازم - على الحظ، والجوبلن هم الخاسر الأكبر في اليانصيب الطبيعي، ألا ينبغي أن يؤثر ذلك على نظرتنا لهم؟ لا شك أن الجوبلن مصدر خطر وتهديد، ولكن قد لا ينبغي أن «يلاموا» على ذلك.
ماذا عن بيلبو؟ هل يفعل الصواب حين يأخذ حجر الأركنستون من مخبأ كنز سموج؟ حين يرى الحجر، لأول مرة، يؤخذ بجماله إلى حد أنه يضعه في جيبه دون أن يخبر أحدا. في لحظة حدوث ذلك، يدخل في صراع مع نفسه بشأن ما يفعله؛ فعلى الرغم من محاولته تبرير تصرفه بفكرة أنه قد تلقى وعدا بأن بإمكانه أن يأخذ نصيبه من الكنز، يساوره «شعور غير مريح» بأن هذه الجوهرة ليست مجرد جزء من الكنز لكي تقسم.
18
يبدو تصرف بيلبو سيئا في هذا الاستحواذ السري، لا سيما في ظل علمه بمدى اشتهاء ثورين لهذا الإرث المفقود، ولكن تلك الفعلة وحدها هي ما تجعله فيما بعد يستطيع إعطاء الأركنستون ل «بارد وملك الجن» على سبيل الهبة؛ تلك الهبة التي تؤجل العداوات التي تهدد بإشعال الحرب بين الجن والأقزام والبشر. ولكننا قد نتساءل بشأن هذا التصرف أيضا، مثلما يفعل بارد؛ إذ ليس واضحا أن الحجر ملك لبيلبو كي يهبه. هل بيلبو لص؟ إن أسلوب تفكيرنا بشأن الأهمية الأخلاقية للحظ المحصل سيكون له تأثير خطير على ما نفهمه من هذين التصرفين الخطيرين اللذين أتى بهما بيلبو: أخذ الأركنستون في الخفاء، ثم التسلل لإعطائه لأعداء رفاقه.
إن كلا التصرفين محفوف بالمخاطر؛ فأخذ الحجر يفضي إلى مشكلة لبيلبو حين يراه ثورين بوصفه خيانة. وبينما يؤدي تسليم الحجر إلى بارد وملك الجن إلى إرجاء الصراع الوشيك، كان من الممكن أن يسير الأمر عكس ذلك بسهولة، بالنظر إلى مدى سرعة تصاعد انفعالات ثورين. يختلف الأمر لو كان لدى بيلبو سبب وجيه للاعتقاد بأن الأمور سوف تئول لما آلت إليه. وحينئذ يمكن أن نتساءل عما إذا كانت الغاية تبرر الوسيلة؛ ذلك اللغز الأخلاقي المعروف لنا جميعا. ولكن حين أخذ بيلبو الحجر، لم يخطر حتى بباله أي من الأحداث الآتية؛ فقد كان مفتونا وحسب بالجوهرة المتلألئة. وعلى الرغم من أنه تمنى لو أن إعطاء الأركنستون ل «بارد وملك الجن» سيحسن بطريقة ما الموقف الرهيب المتصاعد؛ فقد كانت خطة هزيلة ومستبعدة.
هل فعل بيلبو الصواب لمجرد أن كل شيء اتخذ منحى جيدا، حتى على الرغم من أن هذه النتيجة الجيدة لم يكن من الممكن التنبؤ بها بشكل منطقي؟ أم هل فعل بيلبو الشيء الخطأ، على الرغم من النتائج الجيدة التي أفضى إليها؟ من المؤكد أن الأخير يعتبر احتمالا حقيقيا، أليس كذلك؟ فمن الممكن أن يأتي شخص ما بشيء خطأ للغاية، ولكنه قد اتخذ المنحى الأمثل. إذا اعتبرنا أن مخطط بيلبو غير شريف وسيئ الإعداد، إذن فقد نظن أنه قد فعل الشيء الخطأ، حتى لو كانت نواياه طيبة وتصادف أن أفضت تصرفاته إلى نتيجة مرغوبة؛ فلا يمكن للحظ أن يجعل أي تصرف مقبولا أخلاقيا. وعليه تنظر الأخلاق إلى الحظ ببعض الريبة، فيما يبدو، وتنزع الإطراء والمدح عن أولئك الذين يقامرون حين تكون المخاطر في أوجها. ولكن هل يمكن للأخلاق أن ترفض الحظ رفضا تاما؟ (4) من الأفضل أن تكون محظوظا وصالحا
إن فكرة أن الأخلاق تمنحنا حصانة، بطريقة مهمة، ضد شراك الحظ ومهالكه لها تاريخ طويل؛ فقد قال أرسطو (حوالي 470-399ق.م) في مقولة شهيرة وردت في محاورة أفلاطون «الاعتذار» إنه «لا يمكن لرجل صالح أن يحل به أذى سواء في الحياة أو في الموت».
19
وذهب أفلاطون (حوالي 428-348ق.م) إلى أن شخصا عادلا خير من شخص مجحف حتى لو كان الأول يعاني شتى أنواع سوء الحظ، والأخير محظوظا لأقصى حد.
20
أما الأشهر على الإطلاق في هذا المجال، فهو الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1724-1804)، الذي أنكر أن قيمتنا الأخلاقية يمكن أن تتأثر بالحظ على الإطلاق؛ فقد ذهب إلى أن «الإرادة الحسنة ليست حسنة بسبب ما تؤثر عليه أو تحققه ... فلا يمكن للنفع أو انعدامه أن يضيف أي شيء لهذه القيمة أو ينزع منها أي شيء».
21
والإرادة المثالية لدى كانط «مستقلة»؛ إذ تعتمد جودتها وخيريتها فقط على تلقائيتها، وليس على أي عوامل خارجية.
وعلى الرغم من أن شتى أنواع الأمور يمكن أن تحدث، وتحدث بالفعل، للناس، سواء هنا أو في الأرض الوسطى، فليس بالضرورة أن تتشكل إرادة الشخص، ومن ثم قيمته الأخلاقية، بها. إن الحظ يؤثر بالتأكيد على سعادتنا، ولكن ليس له أي تأثير على قيمتنا بوصفنا بشرا؛ فنحن نسعد حين يكون الحظ حليفنا، ونبتهج بحسن حظ الآخرين، إلا أن كانط أنكر أن الناس يستحقون «تقديرنا» الأخلاقي لمجرد أن الأمور تصادف أن صبت في صالحهم. إن كانط يرسم صورة جذابة، وتعكس - بطرق عدة - إدراكنا لما «ينبغي» أن تكون عليه الأمور، أو كيف «نرغب» أن تكون.
غير أنه من الممكن الدفع بأن هذه الصورة مضللة؛ أولا: لأن وجود الحظ البنيوي يجعل من الصعب الدفاع عن فكرة الكانطية بأن الإرادة لا تخضع أيضا للحظ. ألا تتأثر الإرادة بجينات المرء، ونشأته المبكرة وما إلى ذلك؟ على الرغم من أن ذلك لا يظهر في الهوبيت مثلما يظهر في أي موضع آخر، فإن نسب شخصيات تولكين وأصلها يتسمان بالرقي؛ فجذور حاضرهم تكمن في ماضيهم، غير أننا نتجاهل دلالة كل ذلك التاريخ وأهميته إذا تعاملنا مع كل شخصية منها بوصفه إرادة عقلانية خالصة محصنة ضد مثل هذه العوامل.
ثانيا: في كل من عالم تولكين وعالمنا، لا تبدو الإرادة محصنة ضد الحظ الظرفي. فإرادة أية شخصية يمكن أن تنكسر أو تفسد بفعل الظروف المحيطة. فكر في ثورين أو تولكين، أو فكر في بورومير، أو ثيودين، أو دينيثور في «سيد الخواتم». لقد كان بعضهم - على الأقل - رجالا صالحين دمرتهم الأحداث والقوى الخارجة عن سيطرتهم. إن البشر الصالحين «يمكن» أن يحل بهم أذى، ليس جسديا فحسب، بل أخلاقيا أيضا. والنتائج السعيدة لتصرفات البشر تؤثر «بالفعل» على حكمنا عليهم، حتى لو كان ينبغي ألا تؤثر.
لنواجه الأمر، نحن نحب بيلبو ونقدره حق التقدير، على الرغم من حظه المذهل. في الواقع، إنه أشبه ببطل، وإن كان من غير المرجح أن يكون كذلك. غير أن الأمور كان يمكن بسهولة أن تتخذ منحى مختلفا لو تحول حظ بيلبو الحسن إلى حظ سيئ. ماذا لو أن برميلا راشحا قد أدى إلى غرق قزم أو اثنين، أو ثلاثة عشر؟ ماذا لو كانت محاولة بيلبو الخرقاء لنهب العملاقة قد تسببت في موت نصف المجموعة؟ ماذا لو كان بيلبو قد تعثر أثناء هروبه من سموج واحترق بأنفاس التنين النارية المتقدة؟
لا يمكننا إنكار وجود الحظ في مغامرة بيلبو،
22
ولكن لا يمكن أيضا إنكار أنه يستحق الثناء الذي نريد أن نمنحه إياه؛ فنحن، كما يتبين، نثني على الناس ونلقي باللائمة عليهم لأشياء ليست تحت سيطرتهم بشكل تام. وهذا يعني أن علينا الاعتراف بأن الأخلاق عرضة للتأثر بالحظ برغم كل شيء. وعلى الرغم من أن بعض الجن والبشر والأقزام والهوبيت في قصة تولين ربما كانوا أفضل أو أكثر حظا من البعض الآخر؛ فإن كلا منهم يستحق نصيبا من كنز التنين.
هوامش
الفصل الخامس عشر
عزاء بيلبو
القضاء والقدر وحرية الإرادة في الأرض الوسطى
جرانت ستيرلنج
حين كنت طفلا، كان لدي رجل أرنب كان من المفترض أن تجلب لي حسن الحظ، ولكنها لم تجد نفعا إلى حد كبير، وهو ما لا ينبغي أن يكون مفاجئا؛ لأن من الواضح أنها لم تجلب للأرنب أيضا حظا طيبا للغاية. ولكن حتى رجل الأرنب الجالبة للحظ بحق لن تكون مجدية مثل تمتع الفرد بحظ سعيد منذ مولده.
ثمة شيء واحد يتفق عليه الجميع بشأن بيلبو؛ ألا وهو أنه محظوظ. ويتكرر ذكر حظه في «الهوبيت». فلا يشير تولكين إلى الحظ العظيم الذي يحالفه في دوره بوصفه راويا فحسب، بل إن الكثير من الشخصيات تفعل ذلك أيضا؛ فتجد ثورين يعتقد أن بيلبو «يملك من حسن الطالع ما يجاوز النصيب المعتاد منه بكثير»، ويقول جاندالف للهوبيت إنه «بدأ في التساؤل إن كان حظك سيدعمك حتى في أوقات الصعاب.» وحتى بيلبو ذاته يتحدث عن ثقته بحظه أكثر مما اعتاد، مطلقا على نفسه «مرتدي الحظ» في حديثه الحذر مع سموج (يقال إن تلك هي الطريقة المثلى للتحدث إلى التنانين).
1
بالإضافة إلى ذلك، تتخذ الكثير من مغامرات بيلبو مناحي محظوظة للغاية؛ فيصل إلى ريفيندل أثناء المرحلة المناسبة تماما من مراحل القمر لقراءة الحروف القمرية على الخريطة. وعندما يهرب بيلبو ورفاقه من جوبلن الجبال الضبابية يكتمل القمر مانحا إياهم الضوء من أجل الرؤية. كذلك يختار بيلبو مساعدة الأقزام على الهرب من سجون ملك الجن عن طريق النهر، الذي كان الطريق الوحيد المناسب للمرور من ميركوود إلى إيزجاروث، على الرغم من أنه لم يكن يعرفه. ويصل عند باب التنين قبيل يوم دورين، وهو اليوم الذي يمكن فيه أن ينكشف ثقب مفتاح الباب السري، والذي يأتي مرة واحدة كل عدة سنوات. ومرارا وتكرارا تتخذ الأمور المنحى المناسب بما يتيح لأعضاء المجموعة النجاة والاستمرار في البحث عن نهاية ناجعة. وفي الكثير من هذه الحالات يحالف الحظ مغامراته الباسلة. (1) ماذا كان في جيبه؟
اللحظة المحورية للقصة بأكملها هي عندما كان بيلبو تائها في ظلمات أنفاق الجوبلن أسفل الجبال الضبابية، و«أخذ يزحف بحثا عن طريق جيد إلى أن وقعت يده على ما بدا أنه خاتم صغير من معدن بارد ملقى على أرضية النفق. كانت تلك نقطة تحول في مشواره، ولكنه لم يدرك ذلك».
2
في هذا الحدث، يتبدل كل شيء آخر؛ فبدون الخاتم لا يستطيع بيلبو الهرب من الجوبلن أو العناكب، ولا يستطيع إنقاذ رفاقه من الجن، ولا يستطيع التسلل بهدوء نحو سموج ليكتشف الرقعة المكشوفة أسفل بطنه. لقد كانت هذه بحق نقطة تحول في حياته! بالطبع نكتشف في «سيد الخواتم» أن هذا الخاتم ليس سوى «الخاتم الأوحد»؛ لذا يعد هذا الحدث بالغ الأهمية بالقدر نفسه بالنسبة للحبكة الكلية لهذا العمل العظيم (يمكننا القول بأن اكتشاف الخاتم كان نقطة تحول في حياة تولكين كذلك). ولكن حتى هنا، في «الهوبيت»، حيث تقتصر وظيفة الخاتم على السماح لبيلبو بأن يختفي حينما يشاء، كانت الرحلة ستنتهي بكارثة مريعة لولا عثور بيلبو على هذا الخاتم.
يبدأ الأقزام في احترامه بعد ذلك مباشرة، حين يجدون أن «لديه قدرا من الفطنة إلى جانب الحظ، وخاتما سحريا، والأشياء الثلاثة جميعا تعد مقتنيات في غاية النفع».
3
وفيما يبدو أن الحظ ليس الشيء الوحيد المؤثر، وهي نقطة يشدد عليها جاندالف أيضا؛ فمع حلول الوقت الذي تدرك فيه طبيعة الخاتم الحقيقية، قرب بداية «سيد الخواتم»، يقول: «لا أستطيع التعبير بأبسط من القول بأن عثور بيلبو على الخاتم كان «مقصودا»، و«ليس» من قبل صانعه.»
4
ولو أنه كان «مقصودا» أن يعثر بيلبو على الخاتم، لو كانت هناك قوة ما تعمل خلف الكواليس للترتيب لهذه النتيجة؛ إذن فأعظم وقائع «الحظ» في حياة بيلبو يتبين أنها ليست حظا على الإطلاق.
لو كان جاندالف محقا، فقد كان مقصودا أن يجد بيلبو الخاتم الأوحد، ولكن من الذي قصد ورتب لهذه النتيجة؟ لقد علمنا أنه ليس صانع الخاتم - سورون سيد الظلام - ولكن إذا لم يكن سورون، فمن إذن؟ بالتأكيد لم يكن بيلبو ذاته أو جاندالف. لا يمكن أن يكون سوى شخص يملك القوة التي تمكنه من إحداث تلك المصادفة الظاهرية باعتبارها جزءا من مخطط أكبر للأمور.
والإجابة البديهية على هذا السؤال هي: أن اكتشاف بيلبو للخاتم الأوحد هو أحد تجليات يد الله؛ الذي يدعى إرو إيلوفاتار في أرض تولكين الوسطى. في الواقع يتحدث تولكين بوضوح عن ذلك في رسائله.
5
لقد كان إرو هو من قدر لبيلبو أن يجد الخاتم، وأراد للخاتم لاحقا أن ينتقل إلى فرودو من أجل رحلة البحث العظيم في «سيد الخواتم».
ولكننا الآن نواجه مشكلة. لقد رتب إرو فيما يبدو لأن ينزلق الخاتم من إصبع جولوم بينما كان يخنق أحد عفاريت الجوبلن. لقد حدث هذا من أجل السماح لبيلبو بالعثور على الخاتم، كما كان «مقصودا» أن يفعل، ولكن هذه الخطة الإلهية يمكن أن تنجح فقط لو أن إرو يستطيع التنبؤ بأن بيلبو سيكون بالفعل في ذلك النفق في ذلك اليوم.
إذن فالمشيئة الإلهية تتطلب معرفة مسبقة إلهية. فلا بد أن يكون لدى إرو القدرة على رؤية أحداث المستقبل بشكل موثوق بطريقة تتيح له التلاعب بالحاضر للحصول على النتائج التي يعتزم إحداثها.
ولكن كيف يكون ذلك ممكنا؟ لقد كان وجود بيلبو في ذلك النفق في ذلك اليوم نتيجة لاختيارات فردية عدة قام بها الكثير من الأشخاص. حتى مع تنحية تلك الاختيارات التي اتخذت منذ وقت طويل جانبا (مثل موافقة الأقزام على السماح للص رفيق جاندالف بمرافقتهم من الأساس)، فقد كان على بيلبو اختيار اتباع جاندالف بعيدا عن مخبأ الجوبلن الأعظم. واضطر جاندالف لتولي مهمة الإنقاذ، واضطر دوري للموافقة على حمل بيلبو على ظهره، واضطر جولوم لأن يختار لي عنق «الحقير الصغير البغيض». لقد اضطر ثورين والأقزام الآخرون والجوبلن جميعا لاتخاذ قرارات معينة، في أوقات معينة، من أجل وضع بيلبو في هذه البقعة.
ولكن لو كان إرو يعلم مقدما بأن كل هذه الاختيارات سوف تتخذ، لبدا إذن أن الاختيارات قد أمليت مسبقا. وهذا يعني أنها لا يمكن أن تكون اختيارات حرة. فلو أن إرو كان يعلم أن بيلبو سوف يكون في تلك البقعة تحديدا في ذلك النفق قبل أن يتوجه حتى في هذا الاتجاه بفترة طويلة (والتي لا بد أنه كان يعرفها؛ إذ إنه قد رتب لأن ينزلق الخاتم من إصبع جولوم قبلها بساعات)، فمن البديهي أن جولوم لم يكن حرا لكي يختار أن يقتل عفريت الجوبلن، ولم يكن بيلبو حرا لكي يختار الهرب، ولم يكن جاندالف حرا ليختار إنقاذ أصدقائه بإغراق الجوبلن بالشرر الناري، وما إلى ذلك.
6 (2) مشكلة المعرفة الإلهية المسبقة
يرى الفلاسفة أن الصراع البادي بين معرفة الله (أو إرو) المسبقة بما سيحدث وحرية المخلوقات في الاختيار؛ يطلق عليه «مشكلة المعرفة الإلهية المسبقة». تتلخص المشكلة في التالي: (1)
يعرف الله كل شيء. إنه «يعلم» ما سوف يحدث؛ فهو لا يضع مجرد تقييم لما قد يحدث مثلما قد تفعل أنت أو قد أفعل أنا. (2)
إذا كان الله يعلم كل شيء؛ فلا بد أنه يعلم ما سوف أفعله غدا (أو في أي وقت في المستقبل). (3)
إذا كان الله يعلم ما سوف أفعله غدا؛ فإن تصرفاتي إذن محددة سلفا، ولا يمكنني أن أتصرف بأي شكل آخر سوى ما يتنبأ به الله (فلو فعلت لكان الله مخطئا. وهو الأمر المستحيل، وفقا للعبارة الأولى). (4)
إذا كانت أفعالي محددة سلفا؛ فأنا إذن لا أملك إرادة حرة. (5)
إذا لم تكن لدي إرادة حرة؛ فلا يمكن أن أكون مسئولا عن أي شيء أفعله؛ بما أنني لم أستطع أن أفعل العكس.
دخل الفلاسفة في صراع مع هذه المشكلة منذ ظهور فكرة الإله العليم بكل شيء. ويبدو أن أولئك الذين يؤمنون بالله يضطرون للتخلي عن فكرة أنه يعلم المستقبل، وإلا تخلوا عن فكرة أن لدينا إرادة حرة؛ مما يعني أن عليهم التخلي عن فكرة المسئولية الأخلاقية.
قام بعض الفلاسفة بتجربة الاستراتيجية الأولى محاولين حل هذه المشكلة بإنكار إحاطة الله بكل شيء؛ فذهب «علماء اللاهوت الصيروي»؛ أمثال: ألفريد نورث وايتهيد (1861-1947)، وتشارلز هارتشورن (1897-2000)، و«علماء التوحيد المنفتح»؛ أمثال: كلارك بينوك (1937-2010)، إلى أنه بما أن المستقبل لم يحدث بعد، فلا يوجد شيء بشأنه كي يعرفه الله.
7
فلا يمكن أن تحيط علما بشيء إلا إذا كان حقيقيا، ولا توجد حقائق بشأن المستقبل بما أن المستقبل لا يزال مفتوحا. غير أن الله يظل عليما بكل شيء؛ لأن الإحاطة بكل شيء علما تعني أنك تعلم «كل» الحقائق، وفي هذا الإطار لا يستلزم ذلك معرفة بالمستقبل؛ وبذلك يظل مفهوم حرية الإرادة مصونا.
ليس واضحا إن كانت مثل هذه الاستراتيجية يمكن أن تصلح للاهوتيين المعاصرين الآخرين الذين يواجهون مشكلة المعرفة الإلهية المسبقة. لا شك أنها تخلق مشكلات عديدة. على سبيل المثال، يقبل المؤمنون المتدينون وجود معرفة مسبقة حقيقية في حالة النبوءات، وليس واضحا كيف لنبوءة حقيقية (بوصفها مضادا للتقدير الترجيحي) أن تتواجد في ظل مخطط التوحيد الانفتاحي. يبدو أيضا أنها تتضارب مع الصفات التي يؤمن الكثير من علماء اللاهوت بأن الله يمتلكها؛ مثل: الثبات، وعدم القابلية للتبدل. فمعرفة الله ستتغير حين يصير المستقبل حاضرا، ولكن صفة الثبات توحي بأن الله لا يتغير أبدا.
وأيا كان الحال في ذلك السياق اللاهوتي، فلن تصلح هذه الاستراتيجية للاهوتيي الأرض الوسطى؛ لأن معرفة إرو تمتد للمستقبل. في واحدة من قصصه الأخيرة التي لم تحظ بالكثير من القراء؛ وهي «بحث في التعبير عن الأفكار»، يقارن تولكين معرفة إرو المسبقة الحقيقية بالقوى التنبؤية لهؤلاء الذين لا يستطيعون رؤية المستقبل. إن عقلا سوى عقل إرو «يمكنه معرفة المستقبل فقط من عقل آخر. آه! ولكن هذا يعني أنه لا يعرفه إلا من عقل إرو في النهاية، أو من عقل وسيط رأى لدى إرو جزءا من هدفه.»
8
وبذلك لم يترك تولكين خيار إنكار المعرفة الإلهية المسبقة مفتوحا.
وعلى أي حال ، يبدو أن التوحيد الانفتاحي يقوض أساس المشيئة الإلهية، وكان تدخل إرو الإلهي هو ما سبب لنا هذا الصداع من الأساس. فإذا كان لا يمكن أن يكون لدى إرو معرفة مسبقة لأن المستقبل مفتوح؛ إذن فلا يمكنه أن يرتب الأمور لبيلبو كي يجد الخاتم، ولا يمكن لتكشف المخطط الإلهي أن يسير بالشكل الذي يبدو أنه يسير به.
إذن سيكون علينا البحث عن حل آخر. حاول بعض الفلاسفة حل المشكلة بإنكار فكرة عدم امتلاكنا إرادة حرة ما دامت أفعالنا مقدرة سلفا؛ فقد زعموا أن حرية الإرادة تتوافق مع كون أفعالنا مقدرة سلفا (وهي نظرية أطلق عليها ببراعة: «التوافقية»). أنكر آخرون أن غياب حرية الإرادة من شأنه أن يحررنا من المسئولية الأخلاقية، مؤمنين بأنه حتى إذا لم يكن لدينا إرادة حرة فلا يهم؛ لأن المسئولية الأخلاقية لا تزال ممكنة. وقد دافع فلاسفة مثل ديفيد هيوم (1711-1776) عن مثل هذه الآراء إلى جانب العديد من المفكرين المعاصرين؛ مثل: هاري فرانكفورت، ودانيال دينيت.
9
تحيط شكوك جمة بما إذا كان أي من الاستراتيجيتين يمكن أن تنجح؛ فيذهب النقاد إلى أنه لا شيء مما يمكن أن يطلق عليه بشكل عقلاني حرية الإرادة يمكن أن ينطبق على كائنات تقدر أفعالها سلفا بشكل راسخ لا تغيير فيه حتى قبل قرون من مجيئها إلى هذه الحياة.
10
وليس واضحا أيضا كيف يمكن أن نكون مسئولين أخلاقيا عن أفعال محددة سلفا بشكل كامل. (3) الحرية والموسيقى
أيا كان ما قد يدعيه الفلاسفة بشأن العالم الواقعي، فلن يحاول تولكين حل مشكلة المعرفة الإلهية المسبقة بإنكار وجود نوع من حرية الإرادة يحوي خيارات واقعية للتصرف في «الهوبيت»، بل يقول تولكين إن البشر يملكون «هبة الحرية»، التي تعد «فضيلة تشكل حياتهم وسط القوى والفرص الكائنة في العالم، بعيدا عن «موسيقى الآينور» التي تعد بمنزلة القدر لكل الأشياء الأخرى».
11
ولكن ما هي تحديدا «موسيقى الآينور التي تعد بمنزلة القدر لكل الأشياء الأخرى»؟ يشير تولكين هنا إلى نسخته الأدبية من قصة الخلق، التي يمكن أن نجدها في «أينوليندليه: موسيقى الآينور» في روايته «السليمارية». في هذه القصة يؤدي الآينور (وهم كائنات ملائكية) سيمفونية كونية تحوي بداخلها قصة العالم المستقبلية، التي يخلقها إرو فيما بعد. ونتيجة لهذا، جرى التنبؤ بالأحداث التاريخية بهذا الانسجام والتوافق الإلهي ، بحيث تعمل اختيارات الآينور في كيفية عزفهم لسيمفونيتهم باعتبارها نوعا من القدر أو المصير للعالم؛ فيما عدا البشر، الذين يملكون إرادة حرة تتيح لهم التصرف بطريقة غير مثقلة بما تمليه القطعة الموسيقى.
12
ولا يتم إخبارنا بأن البشر (والهوبيت) لديهم إرادة حرة عموما فحسب، بل يتم إخبارنا أيضا أن بيلبو بالذات يملك إرادة حرة؛ فقد استطاع، على سبيل المثال، أن يختار البقاء بالمنزل وعدم مرافقة الأقزام مطلقا. وفي قصة تولكين بعنوان «البحث عن إربور»، يروي فرودو محادثة خاضها مع جاندالف بعد سنوات عديدة من عثور بيلبو على الخاتم.
في هذه المحادثة، يردد جاندالف تعليقاته الواردة في «سيد الخواتم» قائلا: «في ذلك الزمن البعيد قلت لهوبيت ضئيل ويملؤه الخوف: «لقد كان «مقصودا» أن يعثر بيلبو على الخاتم، و«ليس» من قبل صانعه؛ ولذلك كان «مقصودا» أن تكون أنت من يحمله.» وربما أكون قد أضفت: «وكان «مقصودا» أن أرشدك لكلتا هاتين النقطتين».» فيجيب فرودو: «صرت أفهمك الآن بشكل أفضل قليلا من ذي قبل يا جاندالف، على الرغم من أنني أعتقد أن بيلبو، سواء كان «مقصودا» أم لا، ربما رفض أن يترك الوطن، وكذلك أنا. لم يكن يمكنك أن تجبرنا.»
13
إذن، من الواضح، بالنسبة لتولكين، أن إرو يستطيع حقا أن يرى المستقبل، وأن يضع خططا وفقا لمعرفته المسبقة، وفي نفس الوقت يملك بيلبو (مثل الأشخاص الآخرين الذين يمثلون جزءا من تلك الخطط) حرية اختيار السلوك الذي ينتهجه. وهكذا نعود مجددا لمواجهة مشكلة قدرة إرو على معرفة المستقبل كاملا، حتى عندما يملك الناس إرادة حرة. كيف يكون ذلك ممكنا؟ (4) حل تولكين البوثي
ثمة بذور لحل آخر محتمل لمشكلة المعرفة الإلهية المسبقة غرسها الفيلسوف الروماني بوثيوس (حوالي 480-524م) في عمله الكلاسيكي «عزاء الفلسفة»، الذي ألفه بينما كان في السجن في انتظار الإعدام بتهمة جائرة.
14
ذهب بوثيوس إلى أن البشر لا يملكون سوى ذرة صغيرة من وجودهم، في أي زمن؛ إذ إن ماضيهم قد ولى بالفعل، ومستقبلهم لم يأت بعد. وفي اعتقاده أنه لا بد أن ذلك لا ينطبق على الله؛ فالله له الوجود المطلق. لذا فلا بد أن يكون لديه كل واقعه دفعة واحدة، وليس مجزأ على مدار الزمن.
ولكن لا بد أن ذلك يعني أن الله خارج إطار الزمن، وغير خاضع للتغيير، فنحن البشر نعيش لسنوات، ويتقدم بنا العمر، ونتغير كل يوم، ولنا ماض وحاضر ومستقبل. أما الله، بحسب اعتقاد بوثيوس، فليس كأحد منا، والفارق ليس مجرد مسألة طول الزمن؛ فالزمن لا يسري على الله من الأساس؛ فليس له «ماض وحاضر ومستقبل»، بل فقط «حاضر آني» مخلد لا يتغير.
15
كيف يساعد ادعاء بوثيوس بأن الله خارج إطار الزمن في حل مشكلة المعرفة الإلهية المسبقة؟ هب أن بيلبو يعلم أن بارد الرامي يتناول عشاءه لأنه يشاهده يفعل ذلك. إن معرفته بأفعال بارد وتصرفاته لا تضع إرادة بارد الحرة محل شك البتة؛ فالمعرفة بحدث يقع في «الحاضر» لا تثير أي إشكاليات فلسفية بشأن الحرية، ولكن إذا كان الله خارج إطار الزمن، كما يعتقد بوثيوس، إذن فبإمكان الله أن يرى المستقبل؛ فهو، من منظور الله فقط، ليس في المستقبل، ولكنه يحدث «الآن»؛ ومن ثم فالله لم تكن لديه معرفة «مسبقة» بالمعنى الحرفي تماما.
تخيل أن لديك نسخة فيلمية من فيلم بيتر جاكسون «الهوبيت» تعرض أمامك. بإمكانك أن تنظر إلى المشاهد في بداية الفيلم ونهايته في آن واحد. تلك هي الكيفية، بشكل عام، التي استوعب بها بوثيوس رؤية الله للكون. فلما كان الله خالدا ويوجد خارج إطار الزمن؛ فبوسعه أن يرى في لمحة واحدة أبدية لا زمن لها، أحداثا تقع على بعد آلاف السنين، مشاهدا إياها وكأنها جميعا تقع في اللحظة نفسها.
لعلك تقول إن كل ذلك جيد وعظيم بالنسبة لبوثيوس، ولكن ما علاقته بتولكين؟ في الواقع، هناك مؤشرات واضحة على أن هذا كان الحل الذي توصل إليه تولكين لمشكلة المعرفة الإلهية المسبقة، في كل من عالم اليوم الواقعي وفي الأرض الوسطى الخيالية في «الهوبيت».
ثمة إشارات إلى أن تولكين قد تبنى الحل البوثي في مواضع كثيرة مختلفة. لنعد، على سبيل المثال، إلى موسيقى الآينور. إن هذه القطعة، مثلما يقال لنا، تعزف في ردهات لا زمنية. حين يختار بعض من الآينور (من بينهم الفالار، ملائكة الطبقة العليا؛ مثل إلبيريث التي يغني لها الجن) دخول العالم الجديد الذي خلقه إرو يقال إنهم «دخلوا في بداية الزمن».
16
لعل المناقشة الأكثر مباشرة لهذا الموضع توجد في قصة «بحث في التعبير عن الأفكار». تركز هذه القصة على مسألة كيفية نقل الأفكار في الأرض الوسطى؛ حيث يستخدم تولكين أحد سادة المعرفة والعلم من الجن؛ هو بنجولودا من جوندولين، باعتباره المؤلف المفترض. بحسب سيد المعرفة، «دخل الفالار إلى الكون المادي وزمن حرية الإرادة، وهم الآن داخل الزمن، طالما أنه مستمر، ولا يستطيعون أن يدركوا شيئا خارج نطاق الزمن إلا عن طريق ذاكرة وجودهم قبل بدايته؛ فبإمكانهم أن يسترجعوا الأنشودة والرؤية. وهم بالطبع منفتحون على إرو، ولكنهم لا يستطيعون أن «يروا» أي جزء من عقله كلما شاءوا.»
17
لاحظ أنه من الواضح أن هناك أشياء خارج إطار الزمن، وأن الكائنات - مثل الفالار الموجودين داخل الزمن - لا يستطيعون رؤية تلك الأشياء. وعقل إرو، بشكل ضمني، واحد من تلك الأشياء.
في موضع لاحق من تلك القصة، يعرض تولكين التعليق التالي عن النقطة التي يثيرها سيد المعرفة بشأن قدرة الفالار على معرفة المستقبل:
يستفيض بنجولودا هنا ... في هذه المسألة المتعلقة ب «الإدراك المتأخر»؛ فيؤكد أنه ما من عقل يعلم ما لا يوجد بداخله ... فلا يوجد جزء من «المستقبل» هناك؛ لأن العقل لا يستطيع أن يراه ولا سبق له أن رآه؛ بمعنى أن أي عقل كائن داخل الزمن. ومثل هذا العقل لا يمكنه معرفة شيء عن المستقبل إلا من خلال عقل آخر كان قد رآه، ولكن هذا يعني المعرفة من إرو فقط في النهاية، أو من عقل وسيط يكون قد رأى لدى إرو جزءا من هدفه (مثل الآينور الذين هم الفالار الآن في الكون المادي). وهكذا لا يمكن لمخلوق مجسد أن يعرف شيئا عن المستقبل إلا بتوجيه مستمد من الفالار، أو عن طريق وحي قادم مباشرة من إرو.
18
إن أسلوب تولكين المباشر والسلس في الكتابة، المستخدم في رواياته، نادرا ما يتجلى في كتاباته الفلسفية، وليست حالتنا هذه استثناء من القاعدة. لكن بينما قد يلتمس العذر للقارئ لاعتقاده بأن تفاصيل هذه الفقرة غامضة إلى حد كبير، إلا أن هذه الفقرة تبدو واضحة بشكل كبير على أقل تقدير؛ فقد كان تولكين يرى أنه ما من عقل يوجد داخل الزمن يستطيع أن يرى المستقبل. وهذا يعني أن الوسيلة الوحيدة لمعرفة المستقبل هي التعرف عليه من عقل رآه (ومن ثم لا بد أن يكون خارج الزمن). وهذا يعني أن كل المعرفة الخاصة بالمستقبل تأتي في النهاية من إرو.
ربما تكون العقول الكائنة داخل الزمن (سواء عقول الفالار الأقوياء، أو الهوبيت العاديين؛ مثل: بيلبو، أو المثقفين المحليين) قادرة على التكهن بالمستقبل - بشكل دقيق بدرجة ما - باستقرائه من أدلتها واستنتاجاتها، ولكن تلك ليست معرفة مسبقة إطلاقا. وحده عقل إرو اللازمني هو الذي يستطيع رؤية المستقبل مباشرة. وقدرة إرو على رؤية المستقبل بينما يحدث بشكل لا زمني قد تمنحنا وسيلة للهروب من مشكلة المعرفة الإلهية المسبقة. ولما كان إرو يرى كل الأشياء في حاضر لا زمني، استطاع الكشف عن خطته الإلهية في حياة سكان الأرض الوسطى.
هل يحل النهج البوثي المشكلة حقا؟ تلك مسألة جدلية مثل كل شيء آخر في الفلسفة. فالبعض يتساءل إن كانت الفكرة منطقية أو متوافقة مع الصفات الأخرى التي يعتقد أن الله يحوزها. ويعتقد آخرون أن المعرفة اللازمنية تثير مشكلات مماثلة لمشكلة المعرفة المسبقة؛ إذ تبدو «ثابتة» بالقدر نفسه،
19
ولكن بعض النقاد يقرون بأنه حتى مفهوم اللازمنية غريب للغاية عن أسلوب تفكيرنا العادي، لدرجة أن من الصعب التأكد من أن مثل هذه الاعتراضات لا يمكن حلها.
20
وعلى أي حال، يبدو واضحا أن تولكين كان يظن أن الحل البوثي قد نجح، وأن هذا قد انطبق على الأرض الوسطى.
وهكذا نعود لنقطة البداية. إن «مغامرات ومهارب» بيلبو، كما نرى، لم تحدث «بمحض الحظ» من أجل «مصلحة بيلبو وحده»، ولكنها كانت مرتبة من قبل إرو من أجل مصلحة الجميع. إن النبوءات الحقيقية تأتي من عقول ألهمها هذا الإله اللازمني الذي يحيط علما بما هو قادم، ولكن لعل بيلبو محظوظ حقا برغم كل شيء؛ محظوظ باختياره ليلعب مثل هذا الدور العظيم في خطة إلهية، فيقال لنا إنه «ظل في غاية السعادة حتى نهاية حياته، التي كانت طويلة بشكل غير عادي.»
21
وما من رجل أرنب يمكنها أن تمنح أي شخص حظا أكبر من ذلك.
هوامش
الفصل السادس عشر
الخروج من المقلاة
الشجاعة واتخاذ القرار في الأرض المقفرة
جامي كارلين واطسون
في بداية أحداث رواية «الهوبيت»، يشق ثورين والرفقة طريقهم عبر القفر، ويطرقون بقعة وعرة، فيهوي أحد خيولهم، الذي يحمل معظم مؤنهم، في النهر. وبينما هم عالقون بين المطر والبرد والجوع يلاحظون ضوءا قادما من بعيد، ويبدءون في التساؤل عما إذا كان عليهم تتبعه. وتسير المناقشة على النحو التالي:
قال البعض إنه ليس أمامهم سوى الذهاب واستطلاع الأمر، وكان أي شيء بالنسبة لهم أفضل من عشاء قليل، وإفطار أقل، وملابس مبتلة طوال الليل.
وقال البعض الآخر: «هذه المناطق غير معروفة، وأقرب ما تكون للجبال. قلما يرتاد المسافرون هذا الطريق الآن، والخرائط القديمة لا جدوى لها؛ فقد تغيرت الأمور للأسوأ، والطريق بلا حماية، بل إنهم نادرا ما كانوا يسمعون عن الملك هنا، وكلما كنت أقل فضولا بينما تمضي في طريقك، قلت المتاعب التي قد تواجهها.» وقال البعض: «في النهاية نحن أربعة عشر فردا ...» ثم بدأ المطر في الهطول بغزارة بشكل أسوأ من أي وقت مضى، وبدأ أوين وجلوين في العراك.
وكان ذلك ما حسم الأمر.
1
كان القرار محفوفا بالمخاطر. هل كان محفوفا بالمخاطر «بشكل بالغ»؟ إن كل قرار، تقريبا، نتخذه ينطوي على قدر من الشك والمخاطرة؛ هل هذه الطائرة آمنة؟ هل ينبغي أن أسحب أموالي من البورصة؟ هل هذا الشخص الذي يضيء إشارة الانعطاف سوف ينعطف حقا؟ هل سيعد لي عامل القهوة قهوتي بشكل صحيح؟ غير أن قليلين منا هم من يخوضون مخاطرات كالتي يخوضها بيلبو.
إن بيلبو شخصية غير اعتيادية؛ لأنه هوبيت لديه شغف بالمغامرات. فكل المغامرات تتطلب مجازفات، والمغامرون عادة ما يشاد بقدراتهم على التغلب على الخطر وتحمل المشقة، لا سيما عندما يكون ذلك لأجل غرض نبيل، ولكن أفضل المغامرين، كما يبدو، هم هؤلاء الذين يعدون الأفضل في حساب المخاطر. فإذا اتسموا بالرعونة والطيش، فلن يكونوا مغامرين لزمن طويل للغاية، وإذا بالغوا في تحري الحذر، فلن يبلغوا أهدافهم النبيلة.
في «الهوبيت»، يخوض بيلبو ورفاقه مخاطر عظيمة لما يبدو أنها أهداف قيمة، وينظر إليهم على نطاق واسع باعتبارهم أبطالا (على الأقل بين غير الهوبيت)، ولكن هل قرارات بيلبو محسوبة جيدا وشجاعة، أم أنها رعناء ومتهورة؟ قليل منا هم من يعرضون حياتهم للخطر دون أي سبب مقنع للغاية، والبعض منا بالطبع لا يمكنه أن يتخيل ذلك. إذن كيف يمكن أن نعرف، بشكل موضوعي، إذا ما كان شخص ما يتصرف بجبن، أم بشجاعة، أم بتهور؟
يستطيع الفلاسفة أن يخبرونا بالكثير عن مبادئ التفكير المنطقي. بعض التفكير يكون شكليا بشكل بحت، كما في المنطق الرمزي أو الرياضيات البحتة، ولكن معظمه عملي للغاية؛ كما في تحديد أي مرشح سياسي تصوت له، أو أي سيارة مستعملة تشتريها. وقد منحنا الاقتصاديون وعلماء النفس دلائل بشأن سمات وملامح ظروفنا التي ترتبط باتخاذ قرارات منطقية. ومن خلال تعريفنا ببعض استراتيجيات التفكير، وتوجيهنا لكيفية ملاحظة هذه السمات بدقة، يمكن للفلاسفة مساعدتنا على اتخاذ أفضل قرارات ممكنة، حتى في خضم الشك وعدم اليقين.
يعتبر «التفكير الأخلاقي» نوعا فريدا من التفكير؛ إذ يختلف عن المنطق أو الرياضيات الشكليين بشكل بحت. فالتفكير الأخلاقي تفكير عملي؛ لأنه يهدف لنتيجة بعينها؛ هي - تحديدا - تقرير الشيء الصواب الذي يجب القيام به. في طرحه عن الفضيلة الأخلاقية، حدد أرسطو (384-322ق.م) رذيلتين ؛ هما: الجبن والحماقة. وميزهما عن الفضيلة الموازية لهما؛ وهي الشجاعة.
2
سيتفق معظمنا في الرأي، بنهاية رواية «الهوبيت»، على أن بيلبو شجاع، وسيوافق كثيرون أيضا على أن ثورين متهور في بعض الأحيان، وتتباين بديهياتنا حين يتعلق الأمر بالحكم على المولعين بالرياضيات الخطرة؛ مثل متسلقي الصخور أو هواة قفز القاعدة، ولكن معظمنا - على الأقل - سيتفق بشأن ما هو على المحك في هذه الحالات؛ ألا وهو حياتهم! وحين نقارن الأهداف بما هو على المحك في أي مغامرة بعينها، ثمة سؤال يظهر تلقائيا: هل الأهداف تساوي المخاطر؟
مستعينا بمغامرات بيلبو سوف أوضح طريقتين لتحديد إذا ما كان فعل ما منطقيا؛ هما: نظرية المنفعة المتوقعة، والاحتمال الشرطي. وسوف نستعين بهاتين النظريتين لتقييم مدى جودة تفكير بيلبو وسط مجموعة متنوعة من النتائج المريبة. بعد ذلك سنرى كيف يمكن الحكم على النتائج وفقا لرؤية أرسطو عن الشجاعة. ربما يكون الهوبيت الآخرون محقين في أنه أحمق، وربما لا. وربما ستجمع بعض أدوات اتخاذ القرار لتحزمها معك في مغامرتك القادمة. (1) الألغاز، والأزمات، والحظ، يا إلهي!
لكي ترى لماذا يكون التفكير وسط الشك وانعدام اليقين بهذه الصعوبة، تأمل قضية الألغاز. حين يتعثر بيلبو بمخبأ جولوم يجد نفسه متورطا في لعبة ألغاز وحياته على المحك. كانت الألغاز صعبة الحل؛ لأنها تتطلب اختيار إجابة محددة من بين مجموعة لا نهائية من المعلومات باستخدام مجموعة من الدلائل المبهمة لا أكثر.
على سبيل المثال، يسير اللغز الثاني الذي يطرحه جولوم على بيلبو كالتالي:
بلا صوت يبكي،
بلا أجنحة يرفرف،
بلا أسنان يقضم،
بلا فم يتمتم.
3
هناك، فيما يبدو، أشياء كثيرة للغاية يمكن أن تضاهي هذا الوصف: الزمن، العمر، الحب، باب سلكي ذو صرير مزعج، معدة مضطربة، هبوط في سوق الأوراق المالية. حسنا، ربما الأخيرة من باب المبالغة. ولكن فكرة أي لغز بالطبع هي إيجاد الشيء «الأكثر» ملاءمة لمفاتيحه، والأهم أن يلائم ما «يفكر» فيه صاحب اللغز على النحو الأمثل. في هذا الموقف، كان بيلبو - لحسن حظه - قد سمع شيئا شبيها لهذا اللغز من قبل ، ولحسن الحظ قدم لجولوم الإجابة التي كانت في عقله: الرياح.
لسوء الحظ، غالبا ما لا يكون هناك وسيلة لتقليل الإجابات المحتملة للغز ما إلى عدد يمكن التعامل معه، وبعض الألغاز تتطلب من المجيب أن تكون لديه معلومات قد لا تكون متاحة له. تخيل فقط لو أن أحدهم أعطى بيلبو لغزا عن فيسبوك! حين يطرح جولوم لغزا عن الأسماك على بيلبو، نعلم أنه «كان لغزا محيرا لبيلبو المسكين، الذي لم تكن لتربطه أية صلة بالماء قط، لو كان ذلك بوسعه».
4
السبب الوحيد وراء توصل بيلبو إلى الإجابة الصحيحة هو أن سمكة قفزت من الماء لتستقر على أصابع قدمه. وكان ذلك من حسن حظ بيلبو!
لسوء الحظ، غالبا ما تعطينا الحياة، شأنها شأن الألغاز، دلائل ومفاتيح غامضة بشأن النهج الذي ينبغي أن نتبعه في تصرفاتنا. ومن أجل اتخاذ قرارات سليمة، نحتاج لمعلومات أكثر من تلك المتوفرة في الألغاز. نحن لا نحتاج لأن يتوفر لدينا كل المعلومات ذات الصلة عند اتخاذ القرارات المهمة، ولكن أحيانا ما نكون بحاجة لقليل من العون. وهناك - على الأقل - شيئان يجعلان التفكير أيسر: المعلومات ذات الصلة، وإجراءات اتخاذ القرار.
تتألف «المعلومات ذات الصلة» من حقائق سياقية ترتبط بقرارنا الذي نتخذه. فقبل إلغاء قانون يلزم قائدي السيارات بارتداء أحزمة الأمان، نحتاج لمعرفة العواقب المحتملة لعدم ارتداء أحزمة الأمان، ونحتاج للرجوع إلى إحصائيات حوادث السيارات لنرى إذا ما كان ارتداء حزام الأمان يقلل حقا من خطر الوفاة أو الإصابات الخطيرة، ونحتاج لمعرفة إذا ما كانت الولايات الأخرى قد ألغت قوانين ارتداء حزام الأمان، وما النتائج التي ترتبت على ذلك، إذا كانت ألغتها. بالطبع ستكون جميع المعلومات إحصائية، والاستدلالات المستمدة من هذه الإحصائيات فيما يتعلق بمستقبل مجتمعنا لن تكون أكيدة بشكل مطلق. لن يتسنى لنا معرفة ما سوف يحدث يقينا، ولكن ستكون لدينا فكرة أفضل عما قد يحدث إذا تم إلغاء القانون.
لسوء الحظ، عادة ما لا يتمكن الفلاسفة من توفير الكثير من المعلومات ذات الصلة.
5
لأجل ذلك، سوف تحتاج للجوء لخبراء المجال. أما إجراءات اتخاذ القرار، على الجانب الآخر، فهي من صميم اختصاصهم.
6 «إجراءات اتخاذ القرار» هي استراتيجيات التفكير التي تساعدنا على استخلاص النتيجة الأقرب من المعلومات ذات الصلة المتوافرة لدينا. وهناك الكثير من إجراءات اتخاذ القرار المختلفة، وسوف يعتمد تحديد الإجراء الذي تحتاج إليه على المعلومات التي تريدها. وتكون الإجراءات بسيطة ومباشرة نوعا ما حين تكون المعلومات مؤكدة، كما في الرياضيات أو المنطق. أما حين تكون معلوماتك منقوصة أو تعتمد على أحداث أخرى، فتزداد الإجراءات تعقيدا. والقرارات التي تواجه المغامرين أمثال بيلبو تتخذ بشكل شبه دائم وسط جو من عدم اليقين بشأن عواقب القرارات المتاحة.
ثمة نموذج كلاسيكي للتفكير وسط ريبة وشك يطلق عليه «معضلة السجينين». يعرف الهوبيت بالطبع بأنهم يكونون لصوصا متخفين إذا شاءوا ذلك. تخيل أنك هوبيت، وافترض أنك وشريكا لك في السرقة قد قبض عليكما بواسطة الشرطة وجرى استجوابكما في غرفتين منفصلتين. يقدم لك معتقلوك خيارين: يمكنك إما الاعتراف على شريكك أو الامتناع عن الكلام. ولسوء الحظ، تعلم أن عواقب كل خيار، في هذه الحالة، تعتمد على الاختيار الذي يتخذه شريكك؛ فإذا اخترت أن تعترف عليه ورفض هو ذلك فسوف يطلق سراحك فيما سيقضي شريكك عشر سنوات في الأنفاق المغلقة (الأنفاق التي يتخذها رجال شاركي سجونا في «سيد الخواتم»). بالمثل، إذا اعترف هو ورفضت أنت؛ فسوف يطلق سراحه ويحكم عليك بعشر سنوات. أما إذا اعترف كلاكما، فسوف تذهبان إلى السجن لخمس سنوات، وإذا رفض كلاكما الاعتراف وتم تحويل قضيتكما إلى القضاء، فسوف يذهب كلاكما إلى السجن لمدة عامين. ولتقييم هذه الخيارات بشكل أوضح، يمكننا تمثيلها بالنموذج التالي:
في هذا المخطط البياني للقرار، لا توجد وسيلة «للتأكد» من اختيار شريكك. أنت تعرف أنه إذا تمسك كلاكما بالصمت أمام الاستجواب، فيمكنكما الإفلات بعامين فقط في السجن. ولكنكما تواجهان الاحتمال المؤسف: أن شريكك سوف يعترف عليك (وهو احتمال غير جذاب للغاية بالنسبة لهوبيت)، وسوف تضطر لقضاء «عشر» سنوات في السجن بينما ينعم هو بالحرية. بدون القدرة على التحدث إلى شريكك، كيف تحدد التصرف الأمثل؟
ثمة واحدة من أقدم وأشهر الأدوات الخاصة بالتفكير وسط الريبة والشك يطلق عليها «نظرية المنفعة المتوقعة». تتمثل الفكرة الأساسية لهذه النظرية في التالي، حين تعلم باحتمالية حدوث نتائج كل اختيار في قرار ما، وتعلم مدى تقديرك لكل نتيجة، سوف تخبرك عملية حسابية بسيطة أي قرار سيصب في صالحك.
7
وتعتبر «شجرة القرار» هي الطريقة الأكثر بديهية وحدسية لاستخدام نظرية المنفعة المتوقعة، وتصلح للكثير من إشكاليات القرار البسيطة. وسوف نبدأ في تطبيقها على معضلة السجينين، وبعدها سنرى كيف استطاع بيلبو تطبيقها بشكل جيد.
إذا كنت أواجه معضلة السجينين، فعلي أن أتخذ القرار بناء على عواقبه «بالنسبة لي»؛ فإدراك ذلك يتيح لي التركيز على المعلومات ذات الصلة. لدي خياران (انظر الشكل التالي)، لكل خيار يوجد احتمال بنسبة خمسين بالمائة أن شريكي إما سوف يعترف أو يرفض الحديث. إذا اعترفت واعترف هو؛ فسوف أقضي خمس سنوات في السجن، وإذا اعترفت ورفض هو الاعتراف؛ فلن أحصل على أي حكم بالسجن، وهكذا.
لمعرفة أي اختيار هو الأمثل بالنسبة لي، لا أحتاج سوى ضرب احتمال وقوع النتيجة (إذا كانت الفرصة متساوية، تكون هذه الاحتمالية بنسبة خمسين بالمائة) في مدى تقديري للعواقب (وتقديري، في هذه الحالة، هو قضاء أقل عدد من السنوات في السجن). بعد ذلك أقوم بجمع النتائج لكل عاقبة محتملة.
تمثل الإجابات متوسط عدد السنوات التي سأضطر لقضائها في السجن لكل قرار. ولما كنت راغبا في الحصول على أقل عدد ممكن من السنوات، فمن مصلحتي أن أعترف. (2) في ضوء العمالقة: نظرية المنفعة المتوقعة
الآن، كيف كان يمكن لكل هذا أن يساعد مسافرينا في «الهوبيت»؟ تذكر المعضلة التي يواجهها ثورين والرفقة حين يرون الضوء في البراري. هل ينبغي أن يستكشفوا الضوء أم يبقوا وسط البرد والبلل؟ جميعنا يعرف كيف سارت القصة: يقررون اتباع الضوء، ثم يتم الإمساك بهم ويوشك العمالقة على التهامهم. وبفضل عودة جاندالف، تفلت المجموعة من التحول إلى عشاء للعمالقة. لنر إذا ما كانت نظرية المنفعة المتوقعة كانت ستقودهم إلى المصير نفسه.
في البداية، سوف ننشئ شجرة قرار (انظر الشكل التالي). ما احتمالات أن يقع المسافرون في مأزق إذا اتجهوا صوب الضوء؟ يسهل حساب نظرية المنفعة المتوقعة إلى أقصى حد من مجموعة قيم متفق عليها. وهذا هو الأسهل من منظور فردي (فمن يعلم ما تقدره أفضل منك؟)
8
لذا دعنا نركز على بيلبو.
لا بد أن يقرر بيلبو مدى احتمال أن يقع في متاعب إذا ما اتجه صوب الضوء. حتى لو لم نكن نعرف النسبة المئوية بالضبط؛ فهم متفقون على أن الذهاب يعرضهم لخطر أكبر مما لو بقوا؛ لذا فأيا كانت النسبة المئوية التي نعينها للمتاعب بالنسبة للخيار رقم 1، فستكون أكبر من أي نسبة نعينها للمتاعب بالنسبة للخيار رقم 2. لنحددها الآن ب 50٪ بالنسبة للخيار رقم 1، و10٪ للخيار رقم 2. فيما بعد، سوف نرى كيف يؤثر تغيير تلك النسب على النتيجة.
ما النتائج الأخرى المحتملة لكل خيار؟ بالنسبة للخيار رقم 1، تتمثل الاحتمالية الأخرى في أنهم سيجدون مكانا جافا ودافئا للنوم به، وسوف يحصلون على شيء لتناوله. وبما أننا نحدد نسبة 50 بالمائة لاحتمال مواجهة متاعب؛ فإن احتمال عثورهم على طعام ومأوى يساوي 50 بالمائة أيضا. أما بالنسبة للخيار رقم 2، فالبديل هو احتمال بنسبة 90 بالمائة أنهم سيظلون مبتلين وشاعرين بالبرد والجوع.
الآن نحتاج لتقدير التكاليف والفوائد التي يحددها بيلبو لكل نتيجة، وهو ما يسمى أيضا قيمة كل نتيجة. وتلك هي الخطوة الأصعب؛ فعليك أن تحدد أرقاما للنتيجة «وفقا لمدى حبك أو كرهك لكل نتيجة محتملة». وهذا يعتمد كليا عليك، وبوسعك أن تعين أي أرقام تراها مناسبة، ما دمت تضع في ذهنك أن الأرقام الموجبة تمثل الفوائد، والأرقام السالبة تمثل التكاليف. ويكون هذا أسهل كثيرا مع الحالات التي تنطوي على أموال أو وقت؛ حيث يسهل تعيين قيم عددية.
على سبيل المثال، تخيل أن جافر جامجي (والد ساموايز من «سيد الخواتم») يفتتح حانة لبيع جعته الشهيرة. إذا كان يبيع باينت مقابل خمسة وعشرين سنتا للكوب الواحد، ويتكلف خمسة عشر سنتا لإعداده؛ فإن تحليل التكلفة-الفائدة (الفائدة مطروح منها التكلفة)، أو القيمة المتوقعة، يساوي عشرة سنتات.
الآن، اعتبر أنه يستغرق ثماني ساعات في الحانة كي يبيع خمسة باينتات من الجعة. على ذلك تكون قيمته المتوقعة خمسين سنتا. ولكن هناك تكلفة إضافية؛ ألا وهي وقته الذي يقدره ، كما نتمنى، بأكثر من ستة سنتات للساعة الواحدة (وهي حاصل قسمة القيمة المتوقعة على عدد الساعات). ولكن كيف يعرف تقديره لوقته؟ ذلك قرار شخصي. إن الكثير من الناس يسعدون بكسب ثمانية دولارات في الساعة إلى أن تعرض عليهم وظيفة جديدة ويصبح أجرهم اثني عشر دولارا في الساعة، ففجأة لا يستطيعون أن يتخيلوا العمل مقابل ثمانية دولارات مرة أخرى.
لنقل إن بيلبو يقدر المتاعب ب −100 (فهو هوبيت في النهاية)، فيما يقدر الجفاف والدفء والطعام ب +20. لنقل أيضا إنه يقدر البلل والبرد والجوع ب −20. قد تشعر بقدر من عدم الارتياح إزاء تعيين أرقام لقيم حدسية. في هذه الحالات، حيث تعين القيم بلا تفكير، يمكن أن تظل المنفعة المتوقعة سارية. كل ما نحتاج إليه هو تحديد فجوة كبيرة نوعا ما بين ما نقدره وما لا نقدره. دعنا الآن نجرب عمليتنا الحسابية:
في هذه العملية الحسابية، على الرغم من أن البقاء يعد خيارا سيئا؛ فإن الاتجاه صوب الضوء خيار «أسوأ».
ربما تكون قد لاحظت مشكلة محتملة هنا. في معضلة السجينين، كانت القيم العددية (احتمالية الاعتراف أو الرفض وعدد سنوات السجن المتوقع لكل قرار) متاحة أمامنا؛ فكان من السهل تطبيق نظرية المنفعة المتوقعة والحصول على إجابة واضحة للمشكلة. أما بيلبو، فعليه «تخمين» النتائج المحتملة «و» احتماليات وقوعها، ثم وضع أرقام يعتقد أنها تعبر عن قيمة تقديره للنتائج. إن تغيير الاحتمالية أو القيمة بقدر طفيف من شأنه أن يؤدي إلى نتيجة مختلفة تماما. فإذا قدرنا، بالنسبة للخيار رقم 1، احتمالية وقوع متاعب بأقل من 50٪، أو قدرنا فوائد الدفء والإطعام بأكثر من 20٪، فإن القرار يسير في الاتجاه المضاد، ونفس الشيء بالنسبة للخيار رقم 2. وهذا يبين أن «معلوماتنا المبدئية لا بد أن تكون أدق ما يمكن».
لسوء الحظ، لم يكن هناك فلاسفة في الأرض الوسطى لتقديم العون. ما الذي يمكن لبيلبو أن يفعله بمتغيرات غامضة بشكل يتعذر معه حسابها؟ يوجد عدة بدائل، ولكن تبسيط المشكلة يعد أسلوبا مفيدا بشكل خاص.
9
فمع التركيز على مجموعة أكثر محدودية من النتائج، سيكون قرار بيلبو أسهل في اتخاذه؛ فبدلا من التركيز على الدفء والمأوى والبرد والجوع والمتاعب، كل في نفس الوقت، يمكنه التركيز على نتيجة واحدة، وربما تكون نتيجة مهمة لدرجة أنها تعتم على المخاوف الأخرى؛ مثل المتاعب.
إذا كانت احتمالات الوقوع في المتاعب أعلى في قرار الاتجاه صوب الضوء من قرار البقاء، واحتمالات تحقيق الهدف النهائي (ألا وهو استرداد كنز الأقزام) لا تتأثر كثيرا في أي من القرارين، فربما ينبغي أن تعاني المجموعة قليلا من المطر والبرد بدلا من خوض مخاطرة لا داعي لها. ومن السهل أن ترى أن احتمالات الدخول في متاعب أعلى بالنسبة للخيار رقم 1 من الخيار رقم 2، سواء استخدمنا أرقاما حقيقية أو أرقاما مجردة.
يمكن أن يزيد تبسيط العمليات الحسابية للمنفعة بشكل كبير من قدرتك على تعظيم المنفعة المتوقعة لفعل ما. فإذا كانت المتاعب، بالنسبة لبيلبو، هي حقا مصدر القلق المحوري إزاء الاتجاه صوب الضوء، كان ينبغي عليه وعلى المجموعة أن يتخذوا قرارا مختلفا. بطبيعة الحال عند النظر إلى شيء حدث بالفعل نكون متيقنين مما آلت إليه الأمور. والآن ندرك أنه بفضل الحظ فقط نجوا جميعا من العمالقة الأفظاظ. (3) لعب الغميضة مع جن الغابة: الاحتمال الشرطي
في بعض الأحيان نرغب في معرفة ما هو أكثر من احتمال حدوث شيء ما؛ إذ نرغب في معرفة احتمال حدوث شيء ما علما بأن شيئا آخر قد حدث بالفعل. وهذا ما يسمى «الاحتمال الشرطي». يخبرنا الاحتمال الشرطي باحتمالات وقوع الحدث «س» في ظل (أو بشرط) وقوع الحدث «ص».
10
على سبيل المثال، إذا بدأت في سحب بطاقة من مجموعة عادية من أوراق اللعب (ينقصها الجوكر)، ما احتمالات أن أقوم بسحب بطاقة الملك علما بأنني قد سحبت بطاقة ملك بالفعل من قبل؟ لما كنا نعلم بالفعل كل المعلومات ذات الصلة، فمن السهل تحديد الاحتمال الشرطي لهذا الحدث. نحن نعلم أن هناك اثنتين وخمسين بطاقة في أي مجموعة أوراق لعب عادية، ونعلم أن هناك أربعة ملوك؛ لذا فبينما يكون احتمال سحب بطاقة ملك هو 4 / 52، أو 7,7 بالمائة ، فإن احتمال سحب بطاقة ملك علما بأنني قد سحبت واحدة بالفعل هو 3 / 51، أو 5,9 بالمائة.
لعل أكثر سمات الاحتمال الشرطي إثارة أنه لا يهم إذا ما كانت الأحداث مترابطة أم لا. فإذا كانت الأحداث مترابطة، مثلما كانت حين لم نقم بإعادة الملك، فإنها «تابعة». أما حين لا تكون مترابطة، فهي «مستقلة». في حالة سحب الملوك من مجموعة أوراق لعب، افترضنا أننا لم نقم بإعادة الملك الأول. ولكن ماذا لو كنا قد فعلنا؟ في تلك الحالة، لم يكن احتمال سحب ملك في المرة الثانية ليختلف تماما عن احتمال سحب ملك في المرة الأولى.
11
ما الاستفادة التي يجنيها مسافرونا المتعبون من الاحتمال الشرطي؟ كان سيساعدهم، بشكل أساسي، على تجنب أي خطأ في التفكير بشأن ترابط الأحداث. تذكر مواجهتهم الثانية مع الأنوار في إحدى الغابات ليلا. كان قد تم توجيه تحذيرات صارمة للرفقة من كل من بيورن وجاندالف من البقاء على الطريق عبر ميركوود. ولكن الجوع والعطش والأمطار جعلهم يضعفون أمام أول إغراء يواجههم، والذي يتمثل في أضواء تشبه المشاعل أسفل الأشجار.
يستيقظ بومبور، بعد سبات استمر لعدة أيام بسبب سحر النهر المسحور، من أحلام اللهو والطعام، على اكتشاف أن المجموعة عادت مرة أخرى للبلل والجوع. وحين يبدأ المسافرون في رؤية الأضواء في الغابة، يصيح بومبور في دهشة: «يبدو وكأن أحلامي تتحول إلى حقيقة.»
12
ربما يكونون، عند هذه النقطة، قد ترددوا، متذكرين ما حدث من أسر العمالقة لهم في آخر مرة اتجهوا صوب الأضواء في الغابة المجهولة. ربما افترضوا أنه نظرا لوقوعهم في متاعب جراء اتباع مجموعة من الأضواء، فسوف يقعون في متاعب مرة أخرى جراء اتباع مجموعة أخرى. أو لعل من المفترض أن تكون هذه المجموعة الجديدة من الأضواء أكثر أمانا؛ لما كانت احتمالات مواجهة حظ عاثر مع الأضواء مرتين على التوالي هزيلة حتما. ولو أنهم قد اتخذوا قرارهم بناء على أي من هذين الأساسين، لوقعوا فيما يعرف باسم «مغالطة المقامر».
والمغالطة هي خطأ في التفكير والاستدلال. وتنطوي مغالطة المقامر على افتراض أنه لا بد من وجود صلة أو رابط بين حدثين مستقلين؛ أي غير مترابطين سببيا. على سبيل المثال، تقدر احتمالية استقرار عملة ذات وجهين على الصورة عند قذفها ب 50 بالمائة. ما احتمالية استقرارها على وجه الصورة علما بأنها قد استقرت على وجه الصورة حين قذفت في المرة السابقة؟ تظل 50 بالمائة. ماذا بعد أن استقرت على الصورة مائة مرة؟ تظل 50 بالمائة. إن هذا يعزو إلى أن كل قذفة مستقلة عن كل قذفة أخرى. وغالبا ما يطلق على خطأ التعامل مع الحالات المستقلة على أنها متصلة اسم مغالطة المقامر؛ لأن المقامرين أحيانا ما يفترضون أنه إذا كان حظهم عاثرا على مدار الليلة، «فلا بد» أنه سيتحول قريبا. على العكس، المقامر الذي يحالفه الفوز بشكل متواصل قد يظل في مكانه لمدة أطول قليلا، مفكرا (بشكل يفزعه): «سوف أفوز مرة واحدة أخرى، ثم سأغادر.»
لحسن الحظ لا يرتكب مسافرونا المحبطون هذا الخطأ؛ فهم يترددون لأنهم لم يتلقوا تحذيرا قويا للغاية من بيورن وجاندالف من الانحراف عن الطريق. وجاء تفكيرهم متوافقا إلى حد كبير مع المنفعة المتوقعة التي عرفوها من الاحتمال الشرطي. إن الخيار رقم 1؛ ألا وهو اتباع الأضواء، محفوف بالمخاطر. فنجد ثورين يشير قائلا: «لن يكون لأية وليمة أية جدوى لو لم نعد منها أحياء.» ولكن الخيار رقم 2، البقاء على الطريق، ليس أفضل؛ إذ يرد بومبور قائلا: «ولكن بدون وليمة لن نظل على قيد الحياة طويلا على أي حال.»
13
ينطوي كلا الخيارين على مخاطرة بالغة، ولكن الاحتمالات أفضل في الخيار الأول عنها في الخيار الثاني؛ لذلك يتفقون على إرسال جواسيس لاستكشاف الأضواء. إن الاحتمال الشرطي مفيد أشد الفائدة حين تكون الأحداث مترابطة، وفهم آلية عمله مفيد في تجنب المغالطات. (4) الانطلاق بجرأة، ولكن ليس بجرأة مبالغ فيها
ما علاقة التفكير وسط الشك وانعدام اليقين بالشجاعة؟ كما نعلم جميعا، تكشف بعض القرارات عن شخصية المرء. وكان أرسطو يعتقد أن شخصيتنا مؤلفة من حالات نفسية متنوعة، تتطور على مدار الزمن استجابة لانفعالات أو عواطف معينة؛ كالخوف أو الغضب .
14
وتتسم حالة الشخصية بالفضيلة والعفة عند الاستجابة على نحو ملائم لانفعال أو شعور ما. ويمكننا الاستجابة للانفعالات بطرق فاضلة أو غير فاضلة. وقد أطلق أرسطو على حالة الشخصية المذنبة أو المعيبة «رذيلة». وهناك نوعان من الرذائل: إذا لم يصل فعل ما لحد الفضيلة؛ فتلك رذيلة «نقص». أما إذا تجاوز الفعل ما هو مطلوب للفضيلة، فتلك رذيلة «مغالاة»؛ فالفضيلة بمثابة حد «متوسط»، أي نقطة وسط بين رذيلتين.
أوضح أرسطو أن الشجاعة هي الفضيلة المتوسطة بين نقص الجبن ومغالاة التهور. والانفعال الذي تعد الشجاعة استجابة له هو الخوف. وقد ذهب أرسطو إلى أن الشخص الشجاع ليس الشخص الذي يخلو من الخوف، ولكنه الشخص الذي يتصرف بشكل ملائم في مواجهة الخوف، لا سيما الخوف من الموت،
15
فكتب يقول:
إذن فالرجل الجبان، والرجل المتهور، والرجل الشجاع يعنون بنفس الأشياء، ولكن استجابتهم نحوها مختلفة؛ إذ إن الأول والثاني يقعان في دائرة الإفراط والتفريط، بينما الثالث يلزم المنطقة الوسطى؛ وهي الموضع الصحيح. والرجال المتهورون يتعجلون ويرجون المخاطر قبل وقوعها، ولكنهم يتقهقرون حين يصبحون بداخلها، بينما الشجعان يكونون أشداء في لحظة التحرك، ولكن يلتزمون الهدوء قبلها.
16
وعلى الرغم من اعترافه بأن «الشيء المريع ليس واحدا لكل الرجال.» ومن ثم سوف تختلف أنواع الأفعال التي تصنف كأفعال شجاعة من شخص لآخر بدرجة ما؛ فقد ذهب أرسطو إلى أن الشخص الشجاع ينشغل في الأساس بالشيء الأكثر ترويعا؛ وهو الموت، وبخاصة الموت النبيل.
17
يواجه بيلبو والرفقة الموت في مواقف عدة في «الهوبيت». فهل يظهر بيلبو استجابة ملائمة لاحتمالية الموت؟ هل يستوفي شروط أرسطو للشجاعة؟ ثمة طريقة لمعرفة ذلك هي النظر إذا ما كان بيلبو يتصرف بناء على أفضل الأسباب المتاحة في ظل وجود نتائج غير مؤكدة. فإذا كان يسعى وراء الخطر حين تكون المخاطرة فادحة وغير منطقية؛ فهو متهور، وإذا كان يهرب حين تكون المخاطرة منطقية؛ فهو جبان.
إن بيلبو يخبر شعور الخوف بشكل واضح لا لبس فيه؛ فتجده يصيح مثل غلاية الشاي، ويهتز كهلام ينصهر حين يعلم لأول مرة برحلة الأقزام الخطرة. وكان «منزعجا أشد الانزعاج» حين واجه فكرة سرقة لحم الضأن المشوي الخاص بالعمالقة،
18
وشعر بدوار وأغلق عينيه حين حمله أحد النسور عاليا.
19
وفي مرات كثيرة تمنى لو عاد لوطنه سالما في نفق الهوبيت المريح القابع تحت الأرض خاصته.
بالإضافة إلى ذلك، لا يقدم بيلبو بجسارة وجرأة في المواقف التي تتطلب حذرا، وإذا فعل أي شيء فإنه ينكمش خوفا إلى أن يحتم عليه الموقف أن يتصرف. عند الاستعداد لمغادرة منزل بيورن، يسأل بيلبو جاندالف إن كان عليهم حقا أن يجتازوا غابة ميركوود، فيوضح له جاندالف أن جميع الطرق الأخرى أسوأ بكثير. وعليه فإن الخوف من البدائل هو الذي يضعهم على أقل الطرق خطورة. وفي أغوار الجبل الوحيد، وتحت ضغط اختيار الطريق الذي سيسلكونه، يشرح بيلبو ببساطة شديدة قائلا: «شخصيا ليس لدي أي آمال على الإطلاق، وأتمنى لو عدت سالما إلى وطني.»
20
علاوة على ذلك، تتسق قرارات بيلبو، إجمالا، مع أفضل المبررات والأسباب المتاحة؛ فقد رأينا أنه كان عليه هو والمجموعة أن يدعوا ضوء العمالقة وشأنه؛ إذ كانت احتمالات الوقوع في المتاعب ستقل كثيرا بتحمل المعاناة خلال الليل. ونعلم أنه لم يكن ليخاطر بالتلصص على سموج لو كان قد «عرف المزيد عن التنانين وأساليبهم المخادعة»،
21
ولكن - بالطبع - لم يكن لديه تلك المعلومات.
رأينا أيضا أنه كان من المنطقي بالنسبة لبيلبو ورفاقه أن يتبعوا ضوء جن الغابة، على الرغم من حقيقة أنه قد قادهم إلى قبضة العناكب. بالإضافة إلى ذلك، يجازف بيلبو بحياته لإنقاذ رفاقه من العناكب، ومن حصار جن الغابة، وفي المعركة مع الجوبلن في الجبال الضبابية. وفي كل حالة من تلك الحالات، كان بإمكانه أن يستخدم خاتم جولوم ويختفي عن الأنظار ويفر من الخطر، ولكنه كان يقدر حياة رفاقه وهزيمة الجوبلن بوصفها أهدافا نبيلة تستحق المجازفة بالموت.
الأهم من كل ذلك، يقدم لنا تولكين لمحة إضافية عما فهمه الهوبيت حقا حين سار بيلبو بمفرده في أعماق الجبل الوحيد، وبدأ في الشعور بوجود سموج:
كانت تلك هي النقطة التي توقف فيها بيلبو. كان الانتقال من هناك هو أشجع شيء فعله على الإطلاق؛ فكل الأشياء المذهلة التي حدثت بعد ذلك لم تكن شيئا مقارنة به. لقد حارب المعركة الحقيقية في النفق بمفرده قبل أن يرى الخطر الهائل الذي ينتظره.
22
وهكذا يستوفي بيلبو في هذه المواقف المعايير الكلاسيكية للفعل الشجاع، ولكن هل يمكننا القول بأنه شخص شجاع، وأنه يمتلك فضيلة الشجاعة؟ بحسب أرسطو، ليس من السهل دائما الجزم بذلك.
كان أرسطو - على الأرجح - سيوافق على أن بيلبو قد تصرف بشجاعة وإقدام في المواقف القليلة التي تناولناها. ولكن قد يكون هناك مرات أخرى يتصرف فيها بتهور أو جبن. فما الذي ينبغي أن نقوله عن شخصية ما حين يتصرف صاحبها بشكل متناقض، مثلما يفعل معظمنا؟
ذهب أرسطو إلى أن شخصيتنا تبنى بمرور الوقت. ولكي يحوز المرء فضيلة من الفضائل، لا بد أن يمارسها. إن رفع الأثقال في صالة الألعاب الرياضية لمرة واحدة يعد تمرينا جيدا، ولكنه لا يجعلك قويا. فلكي تكون قويا، لا بد أن تمارس رفع الأثقال مرات كثيرة على مدى عدة سنوات. والتوقف عن التمرين لأسبوعين سوف يوقف تقدمك. الشيء نفسه، بالنسبة لأرسطو، ينطبق على «عضلاتنا» الأخلاقية؛ فلكي نصبح ذوي فضيلة، لا بد أن نقاوم إغراء التصرف على نحو سيئ. فكلما تحرينا الفضيلة في تصرفاتنا في وجه المقاومة الأخلاقية، اقتربنا أكثر من اكتساب الفضيلة.
لذا بدلا من أن نقول ببساطة إن بيلبو شجاع، يمكننا القول بأنه قد تصرف بشجاعة، وأنه يكتسب فضيلة الشجاعة. ولكن هناك إغراء أكبر وأعظم ينتظر بيلبو في «سيد الخواتم»، ومرة أخرى سوف يجد نفسه يفقد ما هو «أكثر من الملاعق» بكثير.
23
هوامش
الفصل السابع عشر
الذهاب والعودة مجددا
أغنية للبراءة والخبرة
جو كراوس
قرأت رواية «الهوبيت» مؤخرا بصوت مرتفع لابني ، اللذين كانا آنذاك في السادسة والثامنة من العمر، إلا أنني لا أعلم إن كنا قد سمعنا نفس الكتاب. صحيح أن ثلاثتنا قد شققنا طريقنا معا من الشاير، عبورا بميركوود وصولا إلى الجبل الوحيد، إلا أن تجربتي كانت مختلفة عن تجربتهما. لقد كنت أقرأ الكتاب للمرة الثامنة أو نحو ذلك، ولكنه كان جديدا بالنسبة لهما.
حين كانا بصدد التعرف على أنفاق الهوبيت، كنت أنا أعلم أن بيلبو سوف يغادر من أجل مغامرته من فوره. وحين كانا يتدربان على قراءة قائمة الأسماء للأقزام الثلاثة عشر، كنت أنا أعرف أن ثورين وفيلي وكيلي لن ينجوا. وحين تهللا لعودة بيلبو في النهاية، كنت أعلم أنها مجرد نهاية مؤقتة؛ فقد كنت أعرف من «سيد الخواتم» أن خاتم بيلبو «الثمين» كان يمثل شرا في غاية القوة لدرجة أنه سيستنزفه، تاركا إياه بجروح بالغة حتى إنه لم يستطع أن يجد المداواة إلا بالتراجع إلى ريفيندل، ثم بمغادرة الأرض الوسطى في النهاية.
بينما كانا يخوضان في قصة كنت قد أكدت لهم أنها تستحق الإصغاء، كنت أنا أعود لجزء سابق من أجل قصة أكبر، فصل صغير في التاريخ الطويل لأرض تولكين الوسطى. لقد أردت مشاركة الكتاب معهما؛ لأنني تمنيت أن يستمتعا به. ولم يكن هناك وسيلة أستطيع أن أخبرهما بها كيف أن الكتاب يبدو مختلفا لشخص يعرف أنه في موضع آخر في الملحمة يعذب مورجوث أبناء هورين، أو يذبح الملك العراف أهل أرنور في بيوتهم، أو أن تدمير الخاتم الأوحد يحمل معه هلاك الجن الأخير.
بعبارة أخرى، تسير «الهوبيت» بطريقتين مختلفتين ومتضاربتين اعتمادا على كم الخبرة التي تضفيها على قراءتك لها؛ فهي تشكل أفضل مقدمة بالنسبة لشخص لا يعرف شيئا عن عالم تولكين؛ إذ إنها تفترض عدم وجود إلمام أو معرفة بالأعمال الأخرى، ولما يظهر بها من أثر لصيغة مغامرة من مغامرات الجنيات. أما للقراء الذين يعرفون تولكين، فهي تقدم دعوة مضادة. وعند هذه النقطة، يكمن التحدي في استعادة شعور البهجة البسيطة المرتبط بما يمكن أن يبدو كقصة للأطفال ، وتوفيقها مع رواية «سيد الخواتم» الأكثر كآبة وقتامة وحكايات العصور الأولى للأرض الوسطى. بمعنى أنها تدعو القراء المحنكين لمحاولة العودة إلى حالة من البراءة النسبية. إنها تناشدنا العودة إلى البداية بوعي كامل بالنهاية.
تأمل، على سبيل المثال ، الوعد المنقوص قرب بداية «الهوبيت»: «هذه قصة تحكي كيف خاض أحد أفراد عائلة باجنز مغامرة ليجد نفسه يفعل ويقول أشياء غير متوقعة تماما. ربما يكون قد فقد احترام الجيران، ولكنه فاز؛ حسنا سترى إذا ما كان قد فاز بأي شيء في النهاية.»
1
اقرأ بحس من البراءة، وستجد أن الفاصل الذي في الجملة يبدو وكأنه يعد بحكاية تقليدية من نوعية «في يوم من الأيام»، مشيرا بشكل ضمني إلى أنه ما علينا إلا أن نضطجع في مقاعدنا ونستمتع بقصة مرحة ومسلية.
ولكن اقرأ بما يتوافق مع ما نعرفه عن بيلبو - من أن الخاتم يبدأ في استنزافه، وأن «واحدا من الباجنز» يصير هدفا لمطاردة منظمة في «سيد الخواتم» - وستجد الفاصل أكثر قتامة ومدعاة للتشاؤم، فيبدو أنه يتساءل إن كان بيلبو قد فاز بأي شيء حقا في النهاية. فمغامراته تكلفه براءته، وربما قادته إلى حياة أكثر كآبة واضطرابا من تلك التي كان سيعيشها لو كان قد أغلق بابه أمام أولئك الأقزام بينما كانت الفرصة لا تزال متاحة له.
إذن فوضع أحد الأسئلة التي تطرحها «الهوبيت» في سياق فلسفي هو الطريق لفهم البراءة في ضوء الخبرة المكتسبة لاحقا. إن العنوان الفرعي الذي يحمله الكتاب هو «ذهابا وعودة»، ولكن الأمر يستحق أن نتساءل إن كان بيلبو - على الأقل ذلك الشخص الذي كان في غاية القلق من ألا يجد أطباقا نظيفة في صباح ذلك التجمع غير المتوقع - يعود حقا من مغامراته. إن بيلبو يفعل الصواب من منظور الفطرة السليمة.
أما من منظور نفسه، فنجد أن قرار بيلبو بخوض المجازفة يكلفه الكثير من السعادة التي كان يعرفها؛ فهو يتخذ اختيارا في الصباح بالانطلاق مع الأقزام، وعلى كل الخير اللاحق الذي يجلبه اختياره لجيرانه الأبرياء والمكروهين أحيانا، فإنه يجلب عليه كارثة شخصية تكفي لأن تحتم علينا التساؤل عما إذا كانت قصصه وكنزه يكفيان كتعويض. بعبارة أخرى، إن بيلبو يقايض على براءته مقابل كل خبراته اللاحقة، ولكنها صفقة أحادية الاتجاه؛ فليس بوسعه معرفة البنود التي يوافق عليها قبل أن يتمم المبادلة، ولا يمكنه الرجوع فيها طالما قد بدأ. (1) الذهاب ولكن دون عودة مطلقة
كان شعراء الرومانسية الإنجليز في نهاية القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر يعتقدون أننا لا يمكننا أن نفهم بشكل صحيح ما عاصرناه من خبرات إلى أن نمعن التفكير فيه في ضوء البراءة التي كلفنا إياها: فذهب ويليام وردزوورث (1770-1850) إلى أن الشعر الحقيقي هو نتاج «المشاعر المسترجعة وسط الهدوء.» مثلما كتب في تمهيد «القصائد الغنائية»؛ التي تعد بشكل أساسي أيقونة الحركة الرومانسية؛ إذ كانت مصدر العديد من «أعظم الأعمال الناجحة» في هذا العصر؛ فالشعر ليس تجربة بقدر ما هو استرجاع لتجربة. يمكن أن يكون هذا الاسترجاع تجديديا - إذ يمكن أن يعيدنا إلى التجربة الأصلية - أو قد يؤدي بنا إلى شعور بابتعادنا عن ماهيتنا التي كنا عليها.
كان وردزوورث في غاية التحمس إزاء العملية، حتى إنه طرح ما يشبه وصفة لكتابة الشعر، مشجعا الشعراء المبتدئين على محاولة إعادة معايشة الأشياء التي حركتهم وأثرت فيهم حتى استطاعوا أن يكتبوا عنها، فكتب يقول: «تظل العاطفة موضع تأمل وتفكير إلى أن يبدأ الهدوء، بواسطة نوع من ردة الفعل، في التلاشي تدريجيا، وتبدأ عاطفة أخرى، قريبة لتلك التي كانت موضع التأمل قبل ذلك، في النشوء تدريجيا، وتصنع لها وجودا فعليا في العقل.»
2
قد يستغرق الأمر قليلا من الوقت لكشف غموض كل هذا، ولكن الخلاصة أن وردزوورث ومعاصريه من شعراء الرومانسية كانوا مهتمين بمدى ما طرأ عليهم من تغيير باعتباره نتيجة لما مروا به. بعض من أشعارهم أخذهم إلى الماضي؛ مما أتاح لهم الشعور مجددا بما كانوا يشعرون به في شبابهم، غير أن الكثير منها كانت تقيس حجم الخسارة التي شعروا بها خلال تحولهم مما كانوا عليه من صبا إلى ما صاروا عليه من رجولة. وفي أغلب الأحيان كان الحزن يتفوق على الاحتفاء، وفشلوا في تحقيق أمنية العودة إلى حالة من البراءة النسبية. بعبارة أخرى، كانوا غالبا ما يتساءلون إذا ما كان النضج ليس نوعا من الجرح لم يستطيعوا أن يبرءوا منه.
تأمل ، على سبيل المثال، «أبيات كتبت في مطلع الربيع»، إحدى قصائد مجلد «قصائد غنائية» التي يتذكر فيها وردزوورث جدولا صغيرا يقع خارج قرية ألفورد. من خلال التأمل في مدى التغير الذي حدث للمكان خلال العقود منذ كان يعيش هناك في طفولته، قارن الشاعر تجربته مع الطبيعة بالأشياء التي تعلمها:
ببديع صنعها صار للطبيعة وصال
مع الروح التي تسري بداخلي
وأدمى قلبي التفكير
فيما صنعه الإنسان بالإنسان.
3
بمعنى أن البهجة التي كان يستشعرها على ضفاف الجدول كانت شيئا نقيا، شيئا جعلته الطبيعة جليا واضحا أمامه بينما كان طفلا. في ذات الوقت، أدرك أنه قد سمح لنفسه خلال مجرى حياته بنسيان يقين الطفولة. وفي سياق تحوله إلى رجل ناضج، صنع من نفسه شيئا مختلفا، شيئا أثار ذهوله لكونه أقل مما كان عليه. لقد دفع ثمنا للنضج والكبر، وبينما قد يكون قد فات الأوان للقيام بأي شيء حيال ذلك، إلا أنه على الأقل قد كتب القصيدة باعتبارها وسيلة لاستعادة بعض مما فقده.
إذا كان مثل هذا الشعر الرومانسي يبدو بعيدا بعض الشيء عن الشاير، فيجدر بنا أن نشير إلى أن العديد من النقاد يعتبرون تولكين نفسه أقرب للرومانسية. فعلى غرار وردزوورث، يميل تولكين إلى فكرة أننا نكتشف ذواتنا الحقيقية وسط الطبيعة وليس وسط الآخرين؛ وتتجلى هذه الفكرة على وجه الخصوص في الطريقة التي يعثر بها بيلبو على جانبه التوكي المغامر الكامن بداخله فقط بعد أن يلج إلى البرية.
كذلك مثل الرومانسيين، يملك تولكين اهتماما خاصا بالثقافة «الشعبية»؛ أي الأغنيات وحكايات الجنيات والأساطير التي تحتفظ بها المجتمعات غير المتعلمة، بل إنه يزعم في بعض المناسبات أنه قد بدأ مشروع الأرض الوسطى برمته من أجل خلق عالم يستطيع أن يقدم فيه لغاته المتعددة المبتكرة، ويصنع ثقافة شعبية خيالية يمكنها أن تعمل بمثابة الوطن للمخلوقات التي حلم بها. إذن فمشروعه ككل، بطرق ما، يعد محاولة لاسترداد شعور مفقود، أكثر براءة، بالقدرة على الإعجاز.
حتى بيلبو ذاته يثبت أنه شخصية رومانسية إلى حد ما؛ فعلى مدار أحداث «الهوبيت »، بينما يجازف ويغامر من مكان لآخر، يكن بداخله تقديرا للروائع العظيمة التي يشاهدها، ويجد وسيلة للاستماع إلى صوته الداخلي. وقرب النهاية، حين يدرك أن طمع ثورين لم يعرضه هو فقط للخطر، بل عرض شبكة الجن والبشر والأقزام بأكملها للخطر، يعقد العزم على التحرك في الوقت الذي يصاب فيه الآخرون بالشلل، فيسأل نفسه، وليس الآخرين، عن الشيء الصائب الذي يجب القيام به، ثم يفعله.
في ضوء ذلك، تعد مناورة بيلبو المحنكة سياسيا - إلى حد كبير - نتاجا للبراءة التي احتفظ بها. وكما يقول ثورين في حديثه بينما يحتضر: «إن لديك من الخير أكثر مما تعرف، يا طفل الغرب الطيب؛ فأنت قدر من الشجاعة وقدر من الحكمة امتزجا معا بدرجة ما. لو أن مزيدا منا يقدر الطعام والمرح والغناء على الذهب المكتنز؛ لكان العالم أكثر سعادة.»
4
على الرغم من أن ثورين يقصد توجيه تلك الكلمات في صورة مجاملة واضحة، فإنها تعكس تناقضا غريبا؛ فالإشارة إلى بيلبو بأنه طفل إنما يؤكد أنه «غير» محنك، أي شخص لا يدرك القوى التي تلاعب بها ليحقق نجاحا مبهجا، ربما تحقق عرضا. وفي الإيحاء بأن بيلبو لا ينبغي أن يقدر الذهب المكتنز، يعتذر ثورين عن توريط بيلبو من البداية. فقد كان الوعد بإعطائه نصيبا من المكاسب هو الوسيلة التي استخدمها ثورين في الأساس لإقناع الهوبيت بالانضمام إلى الرفقة.
إذن في النهاية، وبعد أن فات الأوان للقيام بأي شيء سوى المدح والثناء، يرى ثورين في بيلبو استيعابا للمباهج البسيطة الطفولية التي كبتها بداخله. وحتى على إدراكه بالانتصار العظيم الذي حققه لعشيرته من الأقزام، يرى ثورين في بيلبو فضائل تجعله يتساءل إن كان من الأفضل لو لم يكن قد بدأ المغامرة من الأساس.
ومن خلال رؤيتها في هذا الضوء، تعمل الصفحات الاستهلالية من رواية «رفقة الخاتم»، بشكل جزئي، على إظهار مدى الشر الكامن بالخاتم. حين نلتقي بيلبو مجددا، نجده قد سئم العالم الذي طالما أسعده كل السعادة؛ فتبدو الشاير صغيرة، ويبدو أصدقاؤه القدامى تافهين، واستقر على أن لا شيء سيجلب له السعادة سوى مغامرة أخرى. بعبارة أخرى، لقد صار يقدر ما حدث له أكثر من تقديره لخبرات عالمه الحالي وتجاربه.
الأمر الأكثر رهبة ما يجده في نفسه من عجز عن التخلي عن الخاتم، فيتشبث به مفضلا ذلك الشيء الذهبي على الحب الذي يشعر به تجاه جاندالف وفرودو، وفقط حين يدعوه عن غير عمد «خاتمي الثمين» - تلك الكلمة التي يضطر جاندالف لتذكيره بأنها كلمة جولوم في الأساس - يشعر بمدى انفصاله وابتعاده عن نفسه.
وما يزيد من تعقيد ذلك الموقف حقيقة أننا يفترض، بحسب تولكين، أن نفهم أن بيلبو هو المؤلف الأساسي لقصته. فعلى الرغم من أن «الهوبيت» تروى بصيغة الغائب، يبتكر تولكين تاريخا وقصة للنص نفسه، تبدأ بقيام بيلبو بكتابة معظم ما يصبح «الكتاب الأحمر للمسيرة في الغرب»، الذي يعد الأساس للنسخة النهائية التي بين أيدينا.
5
وكجزء من ذلك، نعلم أن بيلبو أيضا قد كتب العديد من الأغنيات من «الهوبيت» و«سيد الخواتم»، وأنه كاتب ناجح لدرجة أن أراجورن نفسه يتعاون معه في مؤلفاته.
وحين نلتقي به مرة أخرى في منزل إلروند في «رفقة الخاتم»، نجد بيلبو لم يعد مجرد شخص ذي إحساس رومانسي؛ بل محاكاة ساخرة لشاعر رومانسي فاشل استسلم للحزن والحنين للماضي. لقد استنزف بيلبو بمسألة تدوين ماضيه لدرجة أنه دائما ما يعتذر عن مشاركة الجن في مرحهم ولهوهم ليبقى وحيدا مع القلم والمخطوط. إنه يتغير بشكل جلي إلى الأسوأ على بعض المناحي نتيجة لتجاربه.
6 (2) بعض من يهيمون على وجوههم يضيعون، أو النضج أمر صعب
كان ويليام بليك (1757-1827)، أحد الشعراء المعاصرين لوردزوورث، أقرب من أي من الشعراء الرومانسيين الآخرين لوصف فلسفة الخبرة؛ فكان يرى أن هناك حالتين أساسيتين: براءة الطفل وخبرة الكبير. وعلى الرغم من أن تلك المقارنة قد تبدو عادية، فكر في أنها تربط بين نقيضين آخرين أكثر شيوعا: الطفولة بالرشد، والبراءة بالإثم.
لم يكن بليك يقول إن جميع البالغين آثمون - وبوصفي أبا، أستطيع أن أؤكد لك أن ليس جميع الأطفال أبرياء - ولكنه دمج الاثنين من أجل إبراز الثمن الذي ندفعه مقابل خبراتنا وتجاربنا. ليس بالضرورة أن يكون الأمر أننا نزداد سوءا كلما نضجنا وتقدم بنا العمر، ولكن النضج يكلفنا حالة منحتنا علاقة أكثر طبيعية بالعالم؛ أي إن البراءة لها النوع الخاص بها من الحكمة، ولا يمكن أن نعي قوتها إلى أن يفوت الأوان؛ إلى أن نمتلك ما يكفي من الخبرة للنظر إلى حالة أصبحت مغلقة أمامنا.
استكشف بليك الحالتين في اثنين من أشهر أعماله؛ وهما عبارة عن ديوانين أطلق عليهما «أغاني البراءة» و«أغاني الخبرة». إذا كان قد سبق لك دراسة الشعر، فمن المحتمل أن تكون فد صادفت بعضا منها، فيتساءل في قصيدة «الحمل» على سبيل المثال: «أيها الحمل الصغير، من صنعك؟»
7
ويصبح هذا الاهتمام أكثر تعقيدا في قصيدة «النمر»: «أيها النمر! أيها النمر! المتألق كوهج النار/في غابات الليل/أي يد، أي عين خالدة/أمكنها صياغة تماثلك المرعب ذاك؟»
8
إن كل سؤال يطرح يسأل عن نفس الشيء: «من أين تأتي؟» غير أنه في حالة الحمل، ذلك المخلوق الذي يقارن بالمسيح في براءته، لم يكن الشاعر يتوقع إجابة. فما هذا سوى أسلوب للحديث إلى طفل رضيع، نسخة شعرية من سؤال «من وهبك هاتين العينين الصغيرتين الجميلتين؟!»
أما «النمر»، فهو شيء مختلف؛ فهو مخلوق خطير قادر على إيذاء الآخرين، مخلوق يثير الذعر عندما ننظر إليه. ليس واضحا إن كان من المفترض أن تدور القصيدة عن النمور مثلما نعرفها، أم عن حلم بمخلوق أكثر شرا وشيطانية، ولكن ما نعرفه أننا لا نستطيع بهذه السهولة أن نهرب من سؤال من أين يأتي، فهذا ليس كحديث الأطفال في شيء؛ بل بحث جاد في طبيعة الشر. وقد تساءل الشاعر بعد ذلك «هل من خلق الحمل هو من خلقك؟» وهو سؤال يحمل مضامين مزعجة.
9
فإذا كانت الإجابة بنعم، إذا كانت نفس القوة الإلهية التي صنعت الحمل البريء هي التي خلقت النمر، إذن فتلك القوة ليست حانية وحكيمة كما نريدها، وإذا كانت الإجابة بلا، إذا كانت قوة أخرى قد تمكنت من خلق شيء كهذا ، إذن فهناك قدرة مخيفة على الشر سارية في الكون.
لا يكمن الفارق الأهم بين ديواني «أغاني البراءة» و«أغاني الخبرة» في موضوعهما، ولكن في منظورهما؛ فالديوان الأول يتألف من قصائد عن طفل يكتشف العالم ويحاول تسميته. أما الديوان الثاني فيتألف من تأملات فيلسوف؛ تلك التساؤلات المزعجة التي خطرت للشاعر بينما كان ينضج ويرى المزيد من العالم.
نشر بليك الديوانين معا في النهاية باعتبارهما مجموعة واحدة. وجزء من خبرة قراءة القصائد يكمن في اكتساب إحساس بالكيفية التي تتناقض بها كل مجموعة مع الأخرى وتكملها في نفس الوقت؛ فديوان «أغاني البراءة» يحوي بداخله بساطة جميلة، إلا أنه لا يكتسب قوته الأهم والأوقع إلا في ضوء المنظور الأكثر كآبة لديوان «أغاني الخبرة». وتحوي القصائد الأولى حكمة خالدة لا تتجلى إلا بالخبرة والتجربة؛ وهي أن هناك بهجة في العالم من حولنا، بهجة نفقدها بوصفها ثمنا لاستكشاف ما يكمن وراء ما يمكننا اكتشافه بشكل مباشر.
يعتبر الحديث عن بليك ملائما تماما عند التفكير بشأن تولكين؛ لأن بعض النقاد، على الأقل، يعتبرونه واحدا من مصادر إلهام تولكين.
10
وعلى الرغم من عدم وضوح ذلك من القصائد الأقصر، فقد استخدم بليك قصائده النثرية الأكثر طولا لابتكار كون كامل من الرموز والشخصيات تمثل تساؤلات بشأن طبيعة الخبرة الإنسانية في عالم أكبر بكثير من أنفسنا؛ فقد كتب عن صنوف غريبة وملائكية وشيطانية من الشخصيات تسمى ثيل ويوريزين وأهانيا، وأنتج طبعات مصورة زاخرة بالصور من أعماله؛ مما ساعد على تقدم علم الطباعة الحجرية بقيامه بذلك.
قرر بليك التوقف عن اختراع لغاته الخاصة، ولكن مجال مشروعه - ناهيك عن معانيه الدينية الضمنية الإضافية - جعله يبدو لبعض القراء مصدر إلهام لمشروع تولكين الذي أفنى فيه عمره. لا أقول إن قصيدة «النمر» كانت النموذج الملهم لسموج، ولكن هناك عناصر كثيرة مشتركة بينهما؛ فكلاهما مخلوق يهدد الأبرياء، ووجوده في حد ذاته يدفعنا للتساؤل: كيف يمكن للشر أن يتواجد جنبا إلى جنب مع الخير؟ أي عين أو يد خالدة أمكنها أن تمنحنا خيرات الفردوس (أو الشاير) ونعمه ، وفظائع الحرب العالمية الثانية (أو سورون)؟
تتجلى مثل هذه التساؤلات بشكل أكثر وضوحا في أعمال تولكين اللاحقة، ولكن بوسعنا أن نراه يبدأ في إثارتها في «الهوبيت». تأمل، على سبيل المثال، طريقته في تقديم إلروند: «في تلك الأيام التي تدور فيها قصتنا كان لا يزال هناك بعض الناس انحدرت أصولهم من كل من الجن وأبطال الشمال، وكان إلروند سيد المنزل قائدهم.»
11
أي إنه يحاول أن يجعلنا نرى إلروند كشخصية في قصة بيلبو الخيالية، وأيضا كتجسيد للقصص التاريخية الأكثر عمقا وكآبة، التي قام - بالاشتراك مع نجله كريستوفر - بتجميعها في النهاية في صورة رواية «السليمارية». تبدو تلك المقدمة الموجزة، التي تعد أول إشارة منشورة لإلروند، جامعة بين خصائص متناقضة بشكل غريب؛ فهي أكبر من أن يستطيع أي قارئ جديد لأدب تولكين أن يستوعبها، إلا أنها أيضا غامضة ولا تقدم أي جديد لأي شخص قرأ «سيد الخواتم» بكثير من الاهتمام.
وتكمن معضلة تولكين في وصف الظهور الأول لإلروند في السرد؛ فمن مؤلفات تولكين الأخرى، نعلم أن إلروند يجاوز الستمائة وخمسين عاما، وأن جدته الكبرى كانت مليان، وهي كائن إلهي من جنس المايار، وأن أباه، إرينديل، هو ما نعرفه الآن بكوكب الزهرة. ولا يمكننا أن نقدر ماهية هذا الكائن الاستثنائي دون اكتساب حس بمجال «حكايات العصور الأولى للأرض الوسطى»، ولكن لا يمكننا أن ندخل «حكايات العصور الأولى» دون أن نختبر سحر «الهوبيت» أولا، وننمي الاهتمام اللازم لمواصلة القراءة.
بعبارة أخرى، لا يمكننا أن نتصور إلروند في أول لقاء لنا به، غير أنه بمجرد أن تتوافر لدينا الخبرة اللازمة لاكتساب إحساس بأهميته لقصة الأرض الوسطى الأوسع نطاقا، نكون قد فقدنا المنظور البريء - بريء في إطار معنى بليك للكلمة - الذي خاطبه الوصف؛ فلا يمكننا أن «نذهب» و«نعود» في نفس الوقت. (3) الكفاح من أجل الحداثة مرارا ومرارا
بدأ رالف والدو إيمرسون (1803-1882)، الذي يعد أشهر الشعراء الرومانسيين الأمريكيين، نشاطه بتفاؤل ممزوج بالنشوة إزاء إمكانية اكتشاف معنى جديد للنفس في الطبيعة؛ ففي الكثير من مقالاته ومحاضراته الأولى طرح ما أحب أن يطلق عليه «إعلان الاستقلال الفكري»، من خلال إصراره على أن أمريكان القرن التاسع عشر بإمكانهم اكتشاف «علاقة جديدة بالكون» إذا ما طرحوا ما تعلموه جانبا، واعتمدوا على حكمتهم الفطرية الخاصة، وأعلنوا أنفسهم أحرارا من كل التوقعات.
12
لم يكن لدى إيمرسون صبر لتحمل الحزن الذي أحيانا ما كان يحل بالشعراء الرومانسيين الإنجليز؛ فدعا الناس لنسيان ما كانوا يعتقدون أنهم يعرفونه، والوثوق بقدرة الخبرة الجديدة على تشكيلهم وتحويلهم لشيء جديد؛ شيء ذي قيمة على المستوى الفني والفكري للحرية السياسية التي فازت بها الثورة الأمريكية قبل جيلين.
في إطار البراءة النسبية لسنواته الأولى باعتباره الفيلسوف والشاعر الأمريكي الأبرز، غالبا ما كان يبدو إيمرسون على استعداد للمجازفة بكل شيء عرفه في تجربة فكرية تلو الأخرى. كانت مقالاته معروفة بصعوبتها، إلا أن معظمها يتبع نهجا واحدا؛ ألا وهو معالجة موضوع معاصر بعينه ثم التدرج وصولا إلى فكرته المعتادة. من السهل أن تتوه في جمل فردية من أعمال إيمرسون، ولكنها جميعا تشير إلى نفس الادعاء الملح، وهو أن النفس قابعة في منتصف الكون، وأن لدينا القدرة على اكتشاف نفس جديدة فقط لو وهبنا أنفسنا الحرية.
في واحدة من أغرب الصور المجازية في الأدب، في نهاية الفصل الأول من كتابه «الطبيعة» يعلن إيمرسون: «في الغابة، نعود إلى الصواب والإيمان؛ فهناك أشعر بأن لا شيء يمكن أن يصيبني في الحياة؛ لا خزي، لا فاجعة (تترك لي عيناي سالمتين) لا تستطيع الطبيعة إصلاحها؛ فحين أقف على الأرض الجرداء - يغمر رأسي الهواء المرح، وتنتصب قامتي وسط الفراغ اللامتناهي - تتلاشى كل النرجسية الوضيعة؛ فأنا عين شفافة، أنا لا شيء ولكن أرى كل شيء.»
13
يحاول إيمرسون، على أحد المستويات على الأقل، أن يصف معنى للبراءة يختلف عن معنى بليك؛ فبدلا من إدراكها باعتبارها شيئا نفقده بالضرورة مع تقدمنا في العمر، يراها شيئا يمكننا الاجتهاد من أجل امتلاكه حتى ونحن كبار راشدون. ومع ذلك، فنحن ندفع ثمنا لهذا الامتلاك. وهذا الثمن هو اليقين الذي تمنحه الخبرة لغالبيتنا؛ فنحن نرغم أنفسنا، في بعد واحد على الأقل، على أن نصير أبرياء من جديد؛ فننحي جانبا، طواعية، ما نظن أننا نعرفه من أجل شيء جديد بشكل مثير. إن الصورة رائعة ومزعجة؛ فهي لا تحلل نفسها بسهولة إلى ادعاء واضح، إلا أنها تظل وصفا مشهورا، وكثيرا ما يستشهد به. إذا كنت تريد الأصالة والجدة؛ فها هي.
إن العين الشفافة بوصفها صورة تحررية لها معان ضمنية بالنسبة لبيلبو، بالطبع؛ إذ إن ذلك هو ما يصير عليه بدرجة ما كلما ارتدى الخاتم في إصبعه، وبمجرد أن يكون شخصا يستطيع رؤية الآخرين فيما لا يمكن رؤيته هو شخصيا، يكتشف أجزاء من العالم لم يكن قد رآها من قبل قط. ففي أول مرة يرتدي فيها الخاتم، يجد أن لديه الفرصة لطعن جولوم في ظهره، ولكن في واحدة من لحظات الرحمة والعفو العظيمة في أعمال تولكين، يقاوم هذا الإغراء.
يقول النص: «تفجر في قلب بيلبو نبع من التفهم المفاجئ، شفقة ممتزجة بالهلع: لمحة خاطفة للحجر الذي لا ينتهي، لتلك الروح الباردة، راحت تتسلل وتهمس له».
14
في مواجهته الأولى والأكثر براءة مع الخاتم، يمنحه اختفاؤه لمحة خاطفة داخل إنسانية مخلوق آخر. إن القدرة على أن يرى ولا يرى - القدرة على أن تكون، بمصطلحات إيمرسون، بريئا في مواجهة ما تواجهه - تحرره وتتيح له إظهار الرحمة بطريقة يثبت، كما يتبين من نهاية «سيد الخواتم»، أنها ضرورية لسقوط سورون.
في هذا الإطار، يكون من المزعج أن نفكر في أن صورة العين الشفافة، في «سيد الخواتم»، لا تخص هوبيت، بل تخص سورون نفسه؛ فتلك العين البشعة التي لا تطرف، والعقل المبتكر الذي استخدم الخاتم لخلق نفس جديدة أكثر قوة وقادرة على أن تحكم الأرض الوسطى بأسرها، هي كائن مجسد شرير، ولكنها أيضا رمز للخبرة، لليقين الذي يتأتى من دهور من التخطيط للوصول إلى هدف واحد.
إن سورون يتباهى بقدرته على رؤية الجميع في جميع الأوقات، وهذا يثير الرعب على مستويين؛ الأول: أنه يزعم معرفته بما تفعل. الثاني: أنه يزعم معرفة من أنت. ومعرفته بك، أو قدرته على تخمين متى تكون أكثر عرضة للتأثر بإيحاء الخاتم أو إغراء القوة، إنما تهدد بوضعك في إطار معين. إن سورون يعتمد على قدرته على إذكاء رغبتك في الثروة والقوة والسيطرة، وأسهل الأشخاص الذين يخضعون لسيطرة وإيعاز خاتمه هم أولئك الذين يشاركونه رغباته. ويستغرق الأمر بالنسبة للآخرين فترة أطول، ولكن السم يكون أكثر خبثا؛ فهو يلتهم إحساس النفس بالبراءة لدى من هم على شاكلة فرودو أو بيلبو، مستبدلا بتلك الفضيلة الطفولية رغبة سورون. وكما نرى بعد ذلك، فإن الفاجعة الكبرى التي يتحملها فرودو هي الفاجعة الداخلية التي تضع براءته في مواجهة مع إصرار الخاتم على إيقاظ المستبد الذي بداخله.
في «الهوبيت»، لا يعي بيلبو تماما القدرة الكامنة داخل الخاتم على الشر، غير أننا حين نعاود قراءة الكتاب بعد قراءة «سيد الخواتم»، يكون من الصعب ألا نراها. إن بيلبو الذي يستدرج العناكب بعيدا هو شخص كوميدي ومرح، ولكن مع اكتساب مزيد من الخبرة ب «تولكين» - مع معرفة أن بيلبو سوف يشعر يوما ما بالارتباك والانزعاج بينما يدخل العالم المعتم - من الصعب ألا نراه كما قد نرى ماري كوري؛ فعلى كل جسارته، وعلى كل قدرتها الرائعة على الابتكار، إلا أنهما يعبثان بشيء مشع؛ شيء يكلفهما ثمنا أعمق وأكثر كآبة مما يمكن أن تتحمله براءتهما. (4) العودة مجددا إلى البداية
حين اختار تولكين «ذهابا وعودة» بصفته عنوانا فرعيا لكتابه، كان يدرك بشكل شبه مؤكد أنه يحاكي الكلمة اليونانية
nostos ، التي عادة ما تترجم «العودة إلى الوطن». كان اليونانيون يرون العودة إلى الوطن سببا للاحتفال، وتأتي كلمتهم في اللغة الإنجليزية باعتبارها أصلا لكلمة
nostalgia (بمعنى الحنين)، غير أنه بوسعنا أن نرى في ذلك غموضا أكثر كآبة. بمعنى أن مشكلة الحنين أنه يحتفي بما «كان» على حساب ما هو «كائن». إنه شكل من أشكال الحزن، ثمن غالبا ما ندفعه لقاء إقدامنا على المغامرة والمجازفة من الأساس.
إن بيلبو الذي يقضي أيامه في الكتابة في منزل إلروند يغلبه الحنين، حتى إنه - وللمفارقة - لا يستطيع أن يرى، ولو بطريقة واحدة حاسمة، أنه لم يعد إلى الوطن الذي غادره. لقد غيرته خبراته، التي أبرزها عبء حمل الخاتم في العقود التي تلت مغامراته مع الأقزام. لقد جردته من الحكمة الطفولية البريئة التي أدركها فيه ثورين، البراءة التي جعلته، على الأقل خلال فترة أحداث «الهوبيت»، يتخيل أنه قد استطاع العودة.
بعد أن فرغت من قراءة «الهوبيت» مع ولدي مباشرة، بدا ابني الأكبر ريتشي يطالب بأن ننتقل إلى «سيد الخواتم». كنت سعيدا بخوض المحاولة، وتمكنا من اجتياز الطريق حتى موريا دون أن نتجاوز مشهد سقوط جاندالف ولقاء الرفقة بجالادريل، ولكن عند هذه النقطة قال ماكس - ابني الأصغر - إنه قد اكتفى، ولما ألححنا عليه لمعرفة الأسباب، قدم أسبابا متباينة، من قبيل أن القصة كانت مملة، وأنه فقد أثر الشخصيات المختلفة، وأنه خائف مما قد يعنيه موت جاندالف، وأنه أحس أنه لا يزال هناك المزيد من الأشياء المخيفة قادمة. حاولت أنا وريتشي أن نبقي على شغفه مستدرجين إياه عبر فصل أو اثنين، إلا أنه رفض الاستمرار معنا في الرحلة في النهاية.
أحب الاعتقاد بأن ماكس قد أدرك جزءا مما تخبرنا به رواية «الهوبيت». ثمة مكافآت لترك المرء وطنه ثم العودة إليه، ولكن هناك ثمنا باهظا لذلك أيضا، وأحب الاعتقاد بأن ماكس قد أحس، على أثر حزنه لموت ثورين وفيلي وكيلي في نهاية الجزء، أن قراءة «سيد الخواتم» سوف تقتضي منه مواجهة المزيد من الموتى، والمزيد من الهلع، وشعورا أكبر بالشر العميق الذي يمثله الخاتم.
لا أدعي أن طفلي ذا الستة أعوام كان لديه الوعي لإدراك واحدة من أعقد رؤى تولكين، بل أقصد أن تولكين يبدو، ولو بشكل جزئي، أنه قد استوعب واحدة من الحقائق التي يعلمها معظمنا عندما كنا في سن السادسة، ثم دخلت طي النسيان بشكل ما. إن منازلنا الأولى تحقق لنا الرضا والإشباع لأنها تحافظ علينا بكل مشاعرنا وأحاسيسنا الطفولية البريئة. وحين نغادرها نخاطر ببراءتنا؛ فنحن نقايض شيئا لا يمكننا استعادته قط بعدم اليقين.
ربما علينا نحن من ترك الطفولة وراءنا، نحن من قرأ ما هو قادم بعد «الهوبيت»، أن نصغي للصغار الذين يعلمون بطريقة تعلو عن الوصف أن لا عودة للطفولة. ربما علينا أن نفكر أنه على الرغم من أن بيلبو «قد ظل في غاية السعادة حتى نهاية حياته»
15
ربما كان سيصبح أكثر سعادة لو أنه - على افتراض أن جاندالف قد عثر على شخص آخر ليحارب التنانين - قد ظل في منزله المريح تاركا تجربة المغامرة لشخص آخر.
هوامش
المساهمون
المؤلفون المتميزون الذين شاركوا في هذا العمل
جريجوري باشام:
أستاذ جامعي ورئيس قسم الفلسفة بكلية كينجز كوليدج في بنسلفانيا، حيث يتخصص في فلسفة القانون والتفكير النقدي. قام بتحرير كتاب «هاري بوتر والفلسفة» (2010)، وشارك في تحرير «سيد الخواتم والفلسفة» (2003)، و«سجلات نارنيا والفلسفة» (2005)، وشارك في تأليف كتاب «التفكير النقدي: مقدمة للطالب» (2010).
مايكل برانيجان:
يشغل كرسي جورج وجين بفاف للأخلاق والقيم الأخلاقية بكلية سانت روز بألباني، بمدينة نيويورك. يشغل أيضا منصبا مشتركا بمعهد ألدن مارش للأخلاق الحيوية بكلية طب ألباني. وهو متخصص في كل من الأخلاق، والأخلاقيات الطبية، والفلسفة الآسيوية، ودراسات العلاقات ما بين الثقافات. كتب العديد من المقالات، ومن ضمن كتبه: «نبض الحكمة: فلسفات الهند والصين واليابان» (1999)، و«بناء التوازن: كتاب تمهيدي عن القيم الآسيوية التقليدية» (2009)، و«أخلاقيات الرعاية الصحية في مجتمع متنوع» (2001، مشاركة في التأليف)، و«القضايا الأخلاقية في الاستنساخ البشري» (2000، تحرير)، و«التكنولوجيا الحيوية عبر الثقافات» (2004)، و«الأخلاق عبر الثقافات» (2004). وعلى سبيل الترفيه، يمارس العزف على البيانو، وركوب الكاياك عبر المحيطات، والفنون القتالية.
إريك برونسون:
أستاذ زائر بقسم العلوم الإنسانية بجامعة يورك في تورونتو. قام بتحرير كتاب «الفتاة ذات وشم التنين والفلسفة» (2011)، و«البوكر والفلسفة» (2006)، و«البيسبول والفلسفة» (2004)، وشارك في تحرير «سيد الخواتم والفلسفة» (2003).
لورا جارسيا:
باحثة مقيمة في قسم الفلسفة بكلية بوسطن، حيث تتخصص في فلسفة الدين والميتافيزيقا. وهي تكتب أيضا عن الجنس، والزواج، والمساواة الشخصانية؛ متبنية النظرة الراديكالية التي تذهب إلى أن الثلاثة متناغمة ويدعم بعضها بعضا بشكل تبادلي.
توم جريموود:
يدرس في جامعة لانكستر والجامعة المفتوحة ويحمل درجة زمالة بحثية فخرية بجامعة كومبريا. تركز أبحاثه على العلاقة بين التأويل، والغموض، والأخلاق، وكتب عن هذا في مجالات عديدة، من بينها فقدان الشهية العصبي في القرون الوسطى، وفريدريك نيتشه، وسيمون دي بوفوار، و«الضياع»؛ إلى جانب مقالات في دوريات مثل بريتش جورنال فور ذا هيستوري أوف فيلوسفي، ودورية أنجلاكي، وجورنال فور كالتشرال ريسيرتش.
راندال إم جنسن:
أستاذ في الفلسفة بكلية نورثويسترن، بمدينة أورانج بولاية أيوا. تشمل اهتماماته الفلسفية علم الأخلاق، والفلسفة الإغريقية، وفلسفة الدين. ألف فصولا عديدة تربط الفلسفة والثقافة الشعبية، من ضمنها مقالات في كتاب «باتلستار جالاكتيكا والفلسفة»، و«الرجل الوطواط والفلسفة»، و«المكتب والفلسفة». يعطي بانتظام دورة دراسية عن كتابات جيه آر آر تولكين وسي إس لويس.
ديفيد كايل جونسون:
أستاذ مساعد في الفلسفة بكلية كينجز كوليدج في بنسلفانيا. تضم تخصصاته الفلسفية فلسفة الدين، والمنطق، والميتافيزيقا. قام بتحرير «الأبطال والفلسفة: اشتر الكتب، تنقذ العالم» (2009)، و«تقديم الفلسفة من خلال الثقافة الشعبية» (2010، بالاشتراك مع ويليام إروين)، و«البداية والفلسفة: لأنه ليس مجرد حلم على الإطلاق» (2011). ساهم أيضا في كتب عن «ساوث بارك»، و«فاميلي مان»، و«ذي أوفيس»، و«باتلستار جالاكتيكا»، وكوينتن تارانتينو، وجوني كاش، و«الرجل الوطواط»، «تقرير كولبير»، و«دكتور هو»، والكريسماس. قام كايل بتدريس العديد من الفصول عن علاقة الفلسفة بالثقافة الشعبية، من ضمنها دورة دراسية خصصت ل «ساوث بارك»، وأخرى خصصت ل «ستار تريك».
آمي كايند:
متخصصة في فلسفة العقل، وتدرس في كلية كليرمونت ماكينا في كاليفورنيا. ظهرت أبحاثها في دوريات مثل دورية فيلوسوفي آند فينومينولوجيكال ريسيرتش، ودورية فيلوسوفيكال ستديز، ودورية فيلوسوفيكال كوارترلي، وكتبت أيضا من قبل عن موضوعات الفلسفة والثقافة الشعبية، مثل «باتلستار جالاكتيكا»، و«ستار تريك»، و«هاري بوتر»، و«آنجيل».
دينيس نيب:
يدرس الفلسفة والدراسات الدينية في شرق جبال كاسكاد الضبابية بكلية بيج بيند الأهلية، بمدينة موسيس ليك، بواشنطن. ظهرت مقالاته السابقة في «توايلايت والفلسفة»، و«أليس في بلاد العجائب والفلسفة»، و«الفتاة ذات وشم التنين والفلسفة».
جو كراوس:
أستاذ مشارك في اللغة الإنجليزية والمسرح بجامعة سكرانتون في بنسلفانيا، حيث يقوم بتدريس الأدب الأمريكي والكتابة الإبداعية ويدير برنامج التخرج مع مرتبة الشرف. شارك في تأليف كتاب «فوضوي بالمصادفة» (2000)، وظهرت أعماله في العديد من المجلات والدوريات من بينها مجلة ذي أمريكان سكولار، ودورية كالالو، ودورية ريفرتييث، ودورية سنتينيال ريفيو، ومجلة مومينت، وأجزاء أخرى من سلسلة الثقافة الشعبية والفلسفة.
كريج ليندال-إربن:
حصل على درجة البكالوريوس في الفلسفة من كلية ريد ببورتلاند، أوريجون، وقضى سنوات عديدة في مجال الكمبيوتر، بصفته صاحب شركة لبرمجيات الكمبيوتر ومديرا تنفيذيا لشركات كمبيوتر كبيرة. كان في السابق ناشرا ورئيس تحرير لجريدة أسبوعية.
آنا ماينور:
أستاذ مساعد في اللاهوت بكلية كينجز كوليدج في بنسلفانيا. حصلت على درجة الدكتوراه في اللاهوت والروحانيات من الجامعة الكاثوليكية بأمريكا، ودرجة الماجستير في تاريخ الدين من جامعة سيراكيوز في نيويورك. قامت بتدريس دورات دراسية في الأديان العالمية، وروحانية الجسد، والمتصوفات من النساء.
ديفيد أوهارا:
أستاذ مشارك في الفلسفة والكلاسيكيات بكلية أوجستانا في ساوث داكوتا. شارك في تأليف كتاب «من هوميروس إلى هاري بوتر: كتيب الأساطير والفانتازيا» (2006)، و«نارنيا وحقول أربول: الرؤية البيئية لسي إس لويس» (2008). ونظرا لأنه يحب الألعاب والرياضة، فإنه يلعب في فرق كرة الخادعة، وكرة الركل، والجولف التابعة لكليته.
جرانت ستيرلنج:
أستاذ مشارك في الفلسفة في جامعة إلينوي الشرقية، ومتخصص في الأخلاقيات وفلسفة القرون الوسطى. من بين مؤلفاته «الحدسية الأخلاقية ونقادها» وهو يشارك حاليا في تأليف كتاب «ما هو مذهب النشاط القضائي؟» وهو يدرس دورة تدريبية عن الأفكار الفلسفية في أعمال تولكين، وقدم أوراقا بحثية ونشر مقالات عن الموضوع ذاته.
دبليو كريستوفر ستيوارت:
أستاذ في الفلسفة بكلية هوتون التي تقع في قرية ريفية صغيرة في شرق نيويورك، حيث لا يوجد الكثير من الضوضاء فيما تكثر الخضرة. وعلى الرغم من شغفه بتاريخ وفلسفة العلم وامتلاكه سيارة، فإنه يشارك تولكين ازدراءه لكل من مصابيح الشارع الكهربائية و«ضوضاء محرك الاحتراق الداخلي، ورائحته الكريهة، وعنفه، وتهوره».
تشارلز تاليافيرو:
أستاذ في الفلسفة بكلية سانت أولاف في مينيسوتا، قام بتأليف وتحرير أربعة عشر كتابا، من ضمنها «الصورة في العقل»، والذي ألفه بالاشتراك مع الرسامة الأمريكية جيل إيفانز، وساهم في الأجزاء الأخرى من سلسلة الفلسفة والثقافة الشعبية.
فيليب تالون:
أستاذ ملتحق في الفلسفة والدين بمعهد أسبري اللاهوتي في كنتاكي. وهو مؤلف كتاب «شعريات الشر» (2011)، والمحرر المشارك لكتاب «فلسفة شرلوك هولمز» (الذي سيصدر قريبا).
جامي كارلين واطسون:
أستاذ مساعد في الفلسفة ورئيس قسم الدين والفلسفة بكلية يونج هاري بجورجيا. شارك روبرت أرب في تأليف «تبسيط الفلسفة» (2011)، «المحتوى الجيد في التليفزيون: فهم الأخلاق من خلال التلفاز» (2011)، و«التفكير النقدي: مقدمة للتفكير السليم» (2011)، وساهم في مجموعة متنوعة من مؤلفات سلسلة الثقافة الشعبية والفلسفة، من ضمنها مقال «الوحش الذي بداخلي: الشر في رؤية كاش المسيحية للعالم» في كتاب «جوني كاش والفلسفة»، و«من أجل الحب: الحب والصداقة في المكتب»، في كتاب «المكتب والفلسفة».
অজানা পৃষ্ঠা