لكن هنالك في حياة الناس جوانب لها أهميتها وخطرها، ليس فيها ذلك التخصص العلمي الذي ينحصر في مادة بحثية معينة كالرياضة والفيزياء والكيمياء، وغيرها، وتلك الجوانب تتناول فيما تتناوله مجموعة «الأفكار» التي هي حاملات «القيم»، والذي يعنى بالنظر فيها وتحليلها ونقدها، يشترط فيه نوع آخر من المعرفة والتدريب، فليس من يفكر بالمنهج الفلسفي في موقف الناس من الحرية والديمقراطية والسلام، والتعاون بين الأفراد وبين الشعوب، يحتاج بالضرورة إلى أن يكون من علماء الرياضة أو الفيزياء، لكنه في الوقت نفسه يفيد كثيرا إذا استخدم منهج النقد المنهجي الذي يستخدمه العلماء في فلسفة العلوم.
من هنا جاءت الدعوة الجديدة لأن تكون الفلسفة منهجا بغير موضوع، ومنهجا هو منهج التحليل الذي يرد الفروع إلى جذوعها، ويرد الجذوع إلى الجذور، وذلك يفسر لماذا أطلق على عصرنا عصر «التحليل»، ففهم الإنسان لشيء أو لفكرة أو لنظام من النظم لا يكون إلا بتحليله أولا إلى عناصره الأولية، ثم معرفة على أي صورة تتركب تلك العناصر بعضها مع بعض، وليست هذه العملية الضرورية لفهم الإنسان لشيء أو لفكرة بنت عصرنا من حيث الولادة والنسب، فقد كانت جزءا هاما في منهج ديكارت، الذي يعد فاتحة النهضة الأوروبية على المستوى النظري، إلا أن العصور تتميز بما يسودها ويملأ أرضها وسماءها وليس بفكرة شاردة ولدت ثم بقيت مقصورة على قلة قليلة في أركان مجهولة، ومنهج التحليل في ميادين العلوم وميادين الحياة الثقافية بصفة عامة، قد اتسع في عصرنا ليصبح علامة مميزة له دون سوابقه، حتى لأصبح «المثقف» في حساب عصرنا، هو ذلك الذي يقف من الأفكار السائدة وقفة ناقدة على منهج التحليل.
ولكن ما الذي نحلله، وكيف نحلله، إذا أردنا أن نجيد الفهم لفكرة معينة؟ جواب ذلك هو: أن نحلل التركيب اللغوي الذي يحملها، وبهذا الجواب نكون قد وصلنا بك إلى أهم ركيزة ترتكز عليها ثورة الفكر الفلسفي في عصرنا، فالفكرة هي لغتها، هل تأذن لي أيها القارئ بأن أعيد هذا القول البسيط الذي نزعم له أنه يحمل في جوفه ثورة فكرية شاملة؟ إذن فلنقل مرة أخرى: الفكرة هي لغتها، إنه مألوف لنا أن نقول عن اللغة إنها «وعاء» يمتلئ بما يملؤه به، كأنه في وسع الإنسان أمام جملة معينة، كقولنا «إن الحرية حق للإنسان ينبع من فطرته فيفرغها من عصارتها، ثم يعود فيملؤها إذا شاء، كما نفعل بكوب ماء.» لا، ليس هذا هو واقع الأمر، بل جوهر الأمر - كما ترى - هو أنك إذا نظمت عددا من مفردات اللغة نظما يجعلها جملة، كنت بذلك قد نسجت فكرة، وليس للفكرة وجود من وجهة نظر الآخرين الذين توجه إليهم الخطاب، إلا أن تكون متجسدة في لغة تؤديها، وإذا كان هذا هكذا، وهو هكذا بكل اليقين، إذن فتحليل الفكرة المعينة هو هو نفسه تحليل عبارتها اللغوية، وعندئذ تجد نفسك أمام جسد مجسد، هو الجملة اللغوية التي تسمعها منطوقة، أو تراها مكتوبة، فما عليك بعد ذلك إلا أن تقوم بعملية تشريح لهذا الجسم اللغوي الذي تسمعه أو تراه، لتمعن النظر في أعضائه كيف تلاحم بعضها مع بعض، وهنالك تستطيع أن ترى من طبيعة الروابط بين تلك المفردات، هل يتكون معنى؟ وإذا تكون المعنى، فهل هو صحيح بمطابقته للواقع الذي جاء ليشير إليه، ماذا ؟! أتقول «معنى»؟ فمتى يكون للجسم اللغوي «معنى» ومتى لا يكون؟ ماذا تقول يا رجل؟! وهل هنالك جملة لغوية أقر سلامتها علم النحو غير ذات معنى؟! ... نعم، نعم، يا صديقي، هنالك مثل هذه الجملة الصحيحة نحوا وتركيبا، والخالية معنى، بما يعد ألوفا ألوفا، ومن أجل الشفاء من مرض الأقوال الخاوية، كأنها الجعجعة، التي لا ينتج عنها طحين، عني صاحبنا بشرح الموقف وتوضيحه، ليعرف من يهمه الأمر كيف يفرق بين الضأن والماعز فيما ينطق المتكلمون وما يكتب الكاتبون، وربما كان ذلك هو نفسه ما أثار على صاحبنا غضب الغاضبين، فقد كانوا يؤثرون لأنفسهم أن يرسلوا الكلام إرسالا لا يسبقه رقيب ولا يلحقه حسيب.
لعلك تذكر ما تحدثنا به في حديثنا السابق عن «الصدق» وكيف تختلف معانيه في أربعة من أهم ميادين القول، وهي: العلوم الرياضية، والعلوم الطبيعية بما فيها العلوم الاجتماعية، ثم في مجال الدين، ومجال الأدب والفن، على أن معاني «الصدق» التي تباينت بين تلك الميادين الأربعة، تلتقي كلها في أساس مشترك، وهو أن يكون في كل حالة صادقة طرفان متطابقان، ومن تطابقهما يأتي «الصدق» على اختلاف طبيعة تلك الأطراف باختلاف ميادين القول، والذي نود أن نلفت إليه النظر الآن، هو أن سياق حديثنا هنا منصب فقط على جانب العلوم الطبيعية من المجال الأول، ولقد أدى التغاضي عن هذا التخصيص إلى سوء فهم وسوء تفاهم، كان لهما من الآثار السلبية ما لم نكن نتمنى حدوث شيء منه، إذن فلنكرر التحذير مرة أخرى لعلنا نفلح في توجيه الانتباه الوجهة التي نقصد إليها، وهي أن كل ما نذكره هنا من ضوابط المعنى التي تقتضيها دقة الفكرة المعينة عند عرضها، مراد به نوع واحد من الأنواع الأربعة، وهو نوع الكلام الذي يتبادل به الأفراد أفكارهم حين تكون تلك الأفكار دائرة حول أمور الواقع الحسي، وهي الحالة التي تختص بها العلوم الطبيعية، كما تختص بها شئون الناس في حياتهم العملية، عندما يتحدثون أو يكتبون عن وقائع الحياة اليومية الجارية، أي إن أيا من ضوابط المعنى التي نذكرها هنا، لا يقصد بها العلوم الرياضية، ثم لا يقصد بها ما يقال أو يكتب في مجال الفكر الديني، أو في مجال الأدب والفن؛ لأن هذه الضروب من ضروب القول لها معايير صدقها الخاص، التي ذكرناها موجزة في الحديث السابق.
وبعد هذا التنبيه والتحذير، نقول: إن الشرط الضروري لكي تكون الجملة اللغوية صادقة في معناها لا بد لها من وسيلة يراجعها بها المتلقي على واقع معين هو الواقع الذي جاءت تشير إليه، فإذا قيل - مثلا - إن نسبة الأمية في مصر تبلغ نحو ثلاثين في المائة من عدد الذين تضعهم أعمارهم في مراحل التعليم، وجب أن تكون هنالك الوثائق الإحصائية التي يعتمد عليها، أو قيل إن متوسط الدخل السنوي للمصري هو كذا، أو قيل إن عدد السكان سيصل إلى كذا في السنة الفلانية، أو قيلت حقائق عن بترول مصر ومعادنها وحركة السياحة وغيرها وغيرها، كل هذه وأمثالها ترد في حياة الناس، على المستويات المختلفة العلمية والسياسية وأحاديث الناس الخاصة، وكثيرا جدا ما يريد المدقق أن يراجع القول على مرجعه في عالم الواقع فلا يستطيع، وحتى إذا استطاع وجدته قانعا بالمراجعة التقريبية، بغير تحليل ولا تفصيل.
على أن هنالك حالات كثيرة من الأقوال الصادقة، ذوات الإسناد الواقعية، شريطة أن نفهم «الواقع» فهما لا ينحصر في وقائع العالم الخارجي، بالمعنى المألوف، فهنالك - أولا - أقوال المؤرخين فيما يكتبونه من تاريخ، فهم بالطبع يشيرون إلى أحداث مضت ولم يعد لها وجود نراه نحن ونلمسه، فكيف نفسر «صدق» الجملة التاريخية؟ إن التحقيق هنا وسيلته الوثائق وغيرها من آثار الماضي، وما يمكن استدلاله منها استدلالا صحيحا، وعلماء التاريخ يعرفون كيف يتحققون من حجية وثائقهم ومراجعهم، فكأنهم بذلك يستندون إلى الواقع الفعلي الماثل بين أيدينا.
هنالك أقوال قد ترد مشيرة إلى كائنات، لا هي من كائنات الواقع الحاضر، ولا هي وقعت فعلا فيما مضى، وإنما هي كائنات ابتدعها خيال الأدباء فيما أبدعوه، فلم يشهد التاريخ رجلا حقيقيا اسمه «هاملت» وكان أميرا للدنمارك، لكنه من مبدعات شكسبير، وليس بين الطيور في عالم الطير الحقيقي طائر يكون هو «الرخ» الذي أشارت إليه حكايات ألف ليلة وليلة، فإذا تحدث متحدث عن أمثال هذه الكائنات، فعلى أي أساس من الواقع الحقيقي يجيء الحكم بصدق القول أو بعدم صدقه؟ الجواب هو: إن ما هو «واقع» يرجع إليه هنا هو العمل الأدبي الذي ورد فيه الاسم الذي هو مدار التحقيق، فمسرحية «هاملت» هي مرجع الصدق فيما يزعمه متحدث عن هاملت، وحكايات ألف ليلة وليلة هي «الواقع» الذي يقاس إليه الصدق فيما يقوله قائل عن طائر الرخ، وهكذا فالقاعدة العامة - إذن - هي أن يحكم بالصدق أو بالانحراف عنه، بناء على السياق الحقيقي الذي وردت فيه العبارة المراد التحقق من معناها ونصيب ذلك المعنى من الصواب.
وهنالك حالة ثالثة، تضاف إلى أقوال المؤرخين، ومبدعات الأدباء، وهي حالة التصورات التي يمكن للإنسان أن يتصورها بدقة تامة في تفصيلاتها، لكنها لم تتجسد قط في وجود واقعي لا في الحاضر، ولا في الماضي، ولا هي وردت في كتاب، مثال ذلك أن يتخيل فرد من الناس خطة يهم بتنفيذها في رحلة سياحية، أو أن ترسم الدولة خطة لما تنوي إقامته من منشآت خلال فترة زمنية معينة، فها هنا يكون كل ما بين أيدينا «تصور» ذهني محض، فأين يجد الفاحص مشروعية صدقه؟ الجواب هو أن مشروعية الصدق تكمن في «إمكان» الحدوث الفعلي إذا حانت له فرصة الخروج من عالم الإمكان إلى عالم الواقع، وأنه لما يميز «الخيال» البناء عند الإنسان الناضج، من خيال الطفولة والمراهقة، بل ومن خيال الحالم أحلام النوم أو أحلام اليقظة، هو أن الخيال في الحالة الأولى خيال أقرب إلى رسم خريطة يهتدي بها المسافر في رحلة سفره، وأما الخيال في الحالات الأخرى، فهي تمويهات وهلوسات قد تمتع صاحبها، لكنها خلو من قابلية التنفيذ.
هكذا كان صاحبنا في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، قد أدرك مقدار ما تخلفت به أمثلة وحاول تشخيص الداء حتى رآه ماثلا أمام عينيه، وهو أنه داء من أفلتت منه حقيقة عصره، وهي حقيقة تتمثل أوضح ما تتمثل في الكشف العلمي عن قوانين الكون، ثم تغيير واقع الحياة بناء على أساس الرؤية العلمية، فيصبح السؤال هو: إن أمتنا أمة يغلب الوجدان على رؤيتها، ولا تفرق بين ما قد خلق ليرضى عنه القلب والعاطفة، وما خلق للعقل وإرادة التغيير، فأطلق العربي قلمه كاتبا ولسانه ناطقا بما تستريح له الآذان، بقدر ما ضيق المجال أمام العقل ووسائله في دقة التفكير وإحكام التخطيط.
فإذا كان صاحبنا قد أصاب في تحديده لموضع الداء، كان أول السير على طريق النهوض، دعوة مفصلة نحو علمية عصرنا، لتوضع في مجالها، تاركة لفروع الحياة الثقافية الأخرى ميادينها.
অজানা পৃষ্ঠা