وكانت مشكلة حياتنا كما رآها صاحبنا في الأربعينيات ورآها غيره، هي أننا قد تخلفنا عن الركب الحضاري في عصرنا، والمسألة هنا مسألة نسبية، فلقد كنا في السلم الحضاري على درجة أعلى بكثير أو قليل عن مجموعة من بلدان العالم، ولكننا في الوقت نفسه كنا على درجة أدنى من مواقع رواد الحضارة العصرية وصانعيها، ومن الطبيعي أن نسأل أنفسنا كيف السبيل إلى اللحاق بمواقع الريادة؟ ولكي يجاب عن هذا السؤال إجابة مؤسسة على منهج فكري سليم، كان لا بد من «فرض» - كما أسلفنا - لنبدأ به خطوات السير، وكان ذلك «الفرض» عند صاحبنا وعند غيره ممن يشبهونه نشأة ودراسة، هو أن ما قد أفلح به رواد الحضارة وصانعوها في أوروبا وأمريكا، هو نفسه ما نفلح به نحن إذا كنا حقا جادين فيما أردناه، على أن ما أفلح به القوم هناك هو مركب ثقافي ضخم كثير التفصيلات، ومن تلك التفصيلات ما هو عام ومشترك بين الأمم المتقدمة جميعا، ومنها ما هو خاص بكل أمة على حدة، فأما العام المشترك فهو «العلم» بوجهه الجديد، وذلك الوجه الجديد هو التقنيات «التكنولوجيا» بصفة أساسية، وعن ذلك تتفرع فروع كثيرة ليس هنا مكان حصرها ، لكن لكل أمة بعد ذلك جانبها الثقافي الخاص، الذي يطبعها بهوية متميزة، فليس الإنجليزي كالفرنسي أو الإيطالي، وليس الأمريكي كأي واحد من هؤلاء، على أننا لا بد أن نذكر هنا، بأن الأمريكي لحداثة عهده، ما زال حتى اليوم يجاهد في تكوين هويته الأمريكية الخاصة، لتحل محل الهويات الكثيرة المختلفة التي تلازم أصحابها ممن هاجروا إلى الدنيا الجديدة من كل أرجاء الأرض، وربما كان تخفف الأمريكي من عبء التاريخ الطويل بما يفرضه من قيود، وتخففه - بالتالي - من «هوية» خاصة محددة القسمات، هو الذي جعله أقدر من سواه على التفكير المبتكر غير المقيد بأعراف وتقاليد، ومن ثم فقد كان الأمريكي قبل غيره مسئولا عن تشكيل «العلم» في شكله التقني الجديد، ولا ينفي هذه الحقيقة أن تكون أوروبا قد شهدت على أرضها بعض البواكير على ذلك الطريق الجديد.
إذن كانت مشكلتنا هي التخلف الحضاري، هكذا رآها صاحبنا عندئذ، وكان «الفرض» المفترض لحلها، هو أن نأخذ بجانب «العلم» ولواحقه، في صورته التقنية الجديدة، على أن تظل لنا تلك الجوانب من ثقافتنا، التي نراها ضرورية للإبقاء على هويتنا القومية والوطنية، ذلك هو الموقف بكل بساطة ووضوح، ولقد صاغ صاحبنا فيما بعد هذا الموقف البسيط الواضح في عبارة «الأصالة والمعاصرة» فهو يريد لوطنه أن يعاصر الحضارة القائمة، معاصرة لا يكفيها أن تشتري معالم العصر من أصحابها، بل لا بد أن تضيف المشاركة الفعلية في صنعها وفي تجددها وتقدمها المستمرين، وربما جرت تلك العبارة نفسها «الأصالة والمعاصرة» على قلم قبل قلمه ولسان قبل لسانه، لكن اليقين المؤكد هو أن أحدا آخر لم يبذل مثل ما بذله من جهد لترسيخ هذه القاعدة، ولم يبلغ أحد من سعة التحليل لما ينبغي أن يؤخذ به ليتحقق لنا إدراك معناها إدراكا مشبعا بتفصيلاته ودقائقه، مثل ما بلغه هو من تحليل مستفيض، وأما «الأصالة» فقد أراد بها تلك الجوانب الثقافية التي نبتت أساسا في تربة الوطن، وابتدعتها عقولنا نحن، ومشاعرنا نحن، وقرائحنا نحن ابتداعا، ومن هذا «الأصيل» وذلك «المنقول المشتول» يجب أن تنسج حياتنا الجديدة لحمة وسدى.
لكن لماذا جعلنا الصيغة المقترح لها أن تكون حلا لمشكلة التخلف الحضاري «فرضا» مفترضا، ولم نزعم لها منذ البداية أنها حقيقة لها كل ما للحقائق من ثبوت وثبات؟ الجواب عن ذلك هو أن هناك بيننا من ينكر الظاهرة الإشكالية أساسا، فلا يجد في حياتنا «تخلفا» ربما وجد أن العكس هو الصحيح من وجهة نظره، إذ يرى أن حضارة العصر قد أصابت الحياة الإنسانية بالتحلل والفساد، بمقدار ما بعدت في أسسها الأولية عن نهج الدين ومبادئ الأخلاق، وإذا كان ذلك كذلك، ففكرة «المعاصرة» مرفوضة عنده، ولا يبقى بين يديه إلا ما هو أصيل، ولما كان هذا الأصيل إرثا ورثناه عن أسلافنا لزم عن ذلك أن يكون «التقدم» الحقيقي، عند أصحاب هذه النظرة، هو الرجوع إلى الماضي لنحيا فيه جنبا إلى جنب مع هؤلاء الأسلاف، أو قل - والمعنى واحد - نحيي الماضي لنحيا به ويحيا بنا، وما دامت هذه الصورة قائمة بيننا ولها أنصارها، أصبحت الصورة الأخرى التي أخذ بها صاحبنا ومن يشبهونه، أحد فرضين، بل وأصبحت تهمة «التخلف» الحضاري نفسها في حاجة منا إلى إثبات.
ودليل الإثبات عندنا - في اختصار شديد - هو أن من أهم المقومات الحضارية دائما: الدين والعلم والفن «بما فيه الفن الأدبي» فالدين مع جوانبه الإيمانية، يستتبع صورا معينة من الأخلاق والسلوك، والعلم يتبعه صناعة وزراعة وعمران، تقوم على هداه، والفن بكل فروعه يضيف إلى تلك الضرورات التي تفرض نفسها على الناس فرضا، إضافات يبدعها الفنان له وللناس، استعلاء بذواتهم عن أحكام الضرورة، وعلى هذه الأسس تقام نظم مختلفة في شتى ميادين الحياة: في الاقتصاد وفي العلم، وفي القضاء، وفي بناء الأسرة، وفي صورة الدولة ... إلخ إلخ، إلا أن «العلم» هو العنصر الوحيد بين تلك العناصر الحضارية الذي «يتقدم» بمعنى أن يجيء حاضره أصح من ماضيه؛ وذلك لأنه هو العنصر الوحيد الذي «يتراكم» و«ينمو» والحضارة اللاحقة منه تصحح أخطاء الخطوة السابقة، فعلماء اليوم لا بد أن يكونوا أكثر علما وأصدق وأدق من جميع العلماء السابقين، وأما غير العلم من سائر المقومات الحضارية والثقافية، فليس في أي منها ما يمنع أن يكون السابق أسمى منزلة من اللاحق، فماذا يمنع أن يكون السابقون، في أية عقيدة دينية، أنقى عقيدة، وأصفى رؤية، وأخلص عبادة، وأفضل سلوكا، من اللاحقين؟ وماذا يمنع أن يكون شاعر قديم أعظم شاعرية من جميع من جاءوا بعده؟ أو أن يكون مصور، أو مثال، أو معماري في عصر الفراعنة، قد بلغ في روعة فنه ما لم يبلغه أحد في سائر عصور التاريخ؟ لا، ليس هناك - من الناحية النظرية على الأقل - ما يمنع ذلك، ومن هنا كانت فكرة «التقدم» غير متحققة بحكم الضرورة في أي مجال إلا في مجال العلم، وماذا يعني ذلك؟ إنه يعني أن من لا يأخذ بالرؤية العلمية السائدة في عصره، يصبح - حتما - محسوبا على عصر سابق، ومنتميا إليه؛ لأن جواز الدخول في عصر جديد لا يتمثل في شيء قدر ما يتمثل في مشاركة العصر الجديد في روحه العلمية، إذن يصبح السؤال عن موقفنا من علم عصرنا سؤالا عن مشاركتنا في الخطوة التي تقدم بها التاريخ في عصرنا.
على اننا إذ نقول عن الأمة العربية أنها لم تشارك في علم هذا العصر مشاركة إيجابية منتجة وكاشفة، وأنها بهذا المعنى «تخلفت» بالقياس إلى حركة التقدم التي نراها في بلاد الغرب، التي هي صانعة هذه الحضارة القائمة، كما كنا نحن صانعيها في مراحل سابقة من التاريخ، فلسنا نعني فقط أن إضافاتنا العلمية الجديدة، التي أضفناها على أيدي علمائنا في بعض العلوم وأخذها عنا الآخرون ليجعلوها جزءا من الحصيلة العلمية المشتركة، إنما هي إضافات أخف مما يحسب لها حساب، بل نعني فوق ذلك ما هو أهم وأخطر، وهو اننا لم نتشرب من المنهج العلمي الجديد شيئا، فنحن بغير شك نتابع دراسة الناتج العلمي بمعظم محتواه على اختلاف موضوعاته، وذلك فيما ندرسه في جامعاتنا ومعاهدنا، وفيما يصدره علماؤنا من مؤلفات علمية وبحوث نظرية وتجريبية، إلا أننا - أولا - يغلب علينا في كل هذا المجال، الأخذ عن الناتج منه في بلاد الغرب، لا أقول عن طريق الترجمة المباشرة دائما، بل هو أحيانا كثيرة يكون نتيجة دراسة جيدة مهضومة، فتعرض المادة العلمية بعد ذلك وكأنها ناتج عربي أصيل، و- ثانيا - (وهو كما قلت أهم وأخطر) فنحن قادرون على اصطناع المنهج العلمي الدقيق عندما نكون في غرفة البحث العلمي، ولكننا كذلك قادرون على خلع الرؤية العلمية منذ اللحظة التي نترك فيها غرفة البحث العلمي، تماما كما نخلع ثياب العمل بعد عودتنا إلى منازلنا، وإلا فلو أننا من ممارساتنا للعمل العلمي ونحن في مكانه، قد أشبعنا نفوسنا بنوع العلاقات التي تجيز للباحث العلمي أن يستخلص قوانينه العلمية، ليبقى إطار تلك العلاقات في نفوسنا انطباعا لا يزول، بحيث إذا ما تركنا العمل العلمي الخالص ومكانه وموضوعه، وانتقلنا إلى تيار حياتنا اليومية بشتى صورها: الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والنقدية، وغيرها، عالجناها - لا أقول بمنهج علمي دقيق - بل برؤية علمية، وعندئذ نحس نفورا إذا ما ربطت لنا الظواهر بغير أسبابنا، أو استخدمت الكلمات الدالة على معان كبرى، مثل الحرية والديمقراطية والعدل، وما إليها، استخداما يعوزه الحد الأدنى من الدقة، ومن ثم تقع حياتنا كلها في دهماوية «من الدهماء» مهوشة تؤدي بأصحابها إلى هلاك محتوم، فلم تكن مصادفة صرفا تلك التي أخضعت بلادنا لسلطان المستعمرين، بل لا بد أن قد كان لتلك الظاهرة، التي شملتنا جميعا، ما يعللها، وربما وجدنا تعليلها في معالجتنا لشئون حياتنا معالجة انفعالية عشواء، أبعد ما تكون المعالجة عن الرؤية العلمية، التي إن لم تكن دقيقة النهج العلمي، فهي على الأقل تتحرك في إطاره، لا، بل كثيرا جدا ما جاوزنا هذا الحد، مجاوزة تورطنا بها في إعلان العداء الصريح للعلم الطبيعي بصفة خاصة؛ رغبة عميقة منا في ألا يظهر الإنسان مظهر القادر، وكأنما شرط الإيمان، كما نراه، أن يكون المؤمن إنسانا عاجزا.
إننا ما زلنا نحتفظ باسم «العلم» و«العلماء» لكننا نريد أن ننصرف بمعناه نحو من «حفظ» مجموعة من نصوص موروثة، أو غير موروثة متمثلة في كتب العلوم الحديثة، وإن يكن الموروث أرجح قيمة في ظن الجمهور العام ومن شاكله من الدارسين، ولقد وقعنا في هذا الخلط بين المعاني المختلفة لكلمة «علم» ونعني بصفة خاصة خلطنا بين معنيين أساسيين لهذه الكلمة، فنحن نطلقها على من درس موضوعه فيما ورد عنه في المراجع كما نطلقها على من درس موضوعه على الطبيعة مباشرة، فافرض - مثلا - أن موضوع الدراسة هو «العناصر» الأولية التي لا تقبل التحليل، ومنها تتركب سائر الظواهر المادية، فهنالك من يبحث عن هذه العناصر في مؤلفات أرسطو أو مؤلفات جابر بن حيان، وهناك من يبحث عنها بتحليل معملي مباشر، يحلل به المركبات إلى عناصرها، حتى يصل إلى ما ليس يقبل التحليل، فكلمة «عالم» العربية تطلق على الرجلين معا، وأما في لغات الأمم التي شاركت في البحث العلمي الحديث، فلكل رجل من الرجلين اسم يميزه، ومن هنا يظهر للناس ما بين النوعين من فوارق، فلا يخلط بينها أحد، حتى بين سواد الناس في الجمهور العام.
خلطنا نحن بين النوعين فخلطنا بين المنهجين: منهج مراجعة موضوع البحث المعين فيما كتب عنه قديما وحديثا، ومنهج التوجه إلى الظواهر الطبيعية التي يتجسد فيها ذلك الموضوع، في الحالة الأولى يكون الفرق بين عالم وعالم، مقدار ما عرف كل منهما ما هو موجود بالفعل في بطون الكتب، فهو أكثر علما إذا كان أوسع دراسة بالكتب الموجودة أولا، وبما قد ورد في كل كتاب منها عما يتصل بموضوع البحث من جهة أخرى، وأما في الحالة الثانية فالفرق بين عالم وعالم، مقدار ما «كشف» عنه كل منهما، فيما يتيح للإنسان استخلاص القوانين المطردة التي على منوالها تسلك الظاهرة بما تسلك، وليست المسألة هنا مسألة مقدار كمي، بقدر ما هي «أهمية» الكشف العلمي الذي تم على يدي كل منهما، وبهذا المقياس نفسه نوازن بين جهودنا نحن العلمية بصفة عامة، وجهود أمة متقدمة من أمم الغرب، فنجد الفرق واضحا؛ فأولا: الأغلبية الغالبة من جهودنا نحن العلمية، تقع في النوع الأول، والأغلبية الغالبة من رجال «الكشف العلمي» عن أسرار الطبيعة، تقع في النوع الثاني، وثانيا: في العلوم التي ننقلها عن الغرب لنصبح بفضلها علماء ونقوم بتدريسها لطلاب العلوم في المدارس والجامعات، نصب عليها منهج النوع الأول، لا منهج «الكشف العلمي» عن طريق النظر التحليلي التجريبي إلى الظاهرة نفسها موضوع الدراسة.
فواضح - إذن - أن ما نسميه في حياتنا ب «العلم»، شيء تتقسمه فيما بينهما فئتان: فئة تحصر علمها في الإلمام بالموروث، يجتزئ منه كل عالم على حدة ذلك الجانب الذي تخصص في الإلمام بما قد ورد في الكتب عنه، وفئة ثانية ينحصر اهتمامها في نوع آخر من المؤلفات، وهو ما يعرض شيئا من العلوم الحديثة كما قد صاغها صانعوها من علماء الغرب وأيضا يجتزئ منها كل عالم على حدة، ذلك الجزء الذي يتصل بما أراد أن يتخصص في الإلمام بما قد ورد عنه، وبالطبع لا يخلو الأمر من أفراد يجمعون في دراستهم العلمية شيئا من هذا وشيئا من ذاك، وإذا كان هذا هكذا، كانت حياتنا العلمية بنوعيها، مقصورة كلها - تقريبا - فيما هو قائم بالفعل من حصيلة العلوم المختلفة، فمن أين - إذن - تأتي مشاركتنا ومواكبتنا لركب الحركة العلمية في تجددها بما هو كشف جديد كل يوم؟ إننا، على أحسن الفروض، محتوم علينا أن نقف وراء العلماء الكاشفين بخطوة واحدة، هذا على افتراض أنه كلما كشف الغطاء عن حقيقة علمية في الغرب نقلناها عنهم في اليوم التالي، وعلى أية صورة يكون «التخلف» إن لم تكن هذه هي صورته؟
ومهما يكن من أمر، فقد كان الرأي عند صاحبنا منذ أربعينيات القرن، هو أن الموقف العام في بلادنا، تسوده نظرة لا علمية على نحو لا يدع مجالا للشك، خصوصا إذا رأينا حقيقة الموقف من وجهة نظر الجمهور، فحتى لو كان علماؤنا قد استطاعوا أن يأخذوا العلم الكشفي مأخذ الجد، فلم يكن تأثيرهم ليتجاوز أشخاصهم ليصبح فعالا في تحويل الجمهور العام نحو قدر من الرؤية العلمية، حتى ولو كان ذلك القدر ضئيلا؛ لأن الأمية نسبتها عالية، والقراءة بين من تعلموا ضيقة الحدود، فضلا عن ارتفاع الصوت الذي يناديهم في غير انقطاع لاصطناع الوقفة المستقبلة المستسلمة في غير نقد، أو اجتراء على السؤال فيما لا ينبغي لهم أن يعلموه، وهي وقفة كثيرا ما تتورط في مفارقة عجيبة، وانظر إلى الريفي في بساطته وبراءته تجده شكاكا فيما ينقل إليه عن أفراد الناس، وعن نيات الحكومة إزاءه، لكن أنبئه ما شئت من مستحيلات عن كائنات غيبية فلن يتردد لحظة في تصديق ما أنبأته به.
إنه لا عجب أن تعرض «العقل» ويتعرض في حياتنا لأزمات لا تنتهي، فللرأي العام عندنا قوة ضاغطة، لا يجرؤ على عصيانها علنا إلا مغامر، وهو رأي عام تسوده اللاعلمية كما أسلفنا، فانشر فيه من الخرافات ما شاء لك خيالك أن تنشر، وأنت في ذلك بمأمن من الخطر، بل يرجح لك أن تحمل على الأعناق لتوضع في مكانة رفيعة تتناسب مع قدرك العظيم، لكن حاول أن تلقي ضوءا على فكرة مقبولة عند الرأي العام، بحيث تحيط الفكرة بشيء من الريبة في وضوح معناها، وعندئذ لا تدري ما عسى أن يصيبك من عدم الرضا، وماذا يبقى للعقل من طبيعته إذا سلبته حرية الحركة الفاعلة، فيفرض ما شاء من فروض، وهو قول يساوي أن نقول إنه حر في تصور الأهداف، ليبحث لها بعد ذلك عن الوسائل الموصلة إلى تحقيقها، ومع ذلك فحياتنا كما يحياها جمهور الناس، ويحصنها رأي عام قادر على طمس أي صوت يرتفع ليغير صورة الحياة نحو ما يظنه الأفضل، تتصدى للفكرة الجديدة حتى ولو كانت متصلة بالعلم النظري الذي لا يمس حياة الناس العملية في شيء، فها هو ذا طه حسين وما تعرض له من هجمات الرأي العام - ولا أقول شيئا عن «العلماء» - مع أن فكرته المرفوضة كانت متعلقة بالشعر، وها هو ذا علي عبد الرازق وما تعرض له من سخط الرأي العام لفكرة قالها في مجال هو بالقطع أعلم به من الجمهور؛ لأنها خاصة بما يقوله الإسلام عن نظام الحكم، فأي عجب أن تفقد الأمة ما فقدته في هجرة العقول الممتازة من أبنائها؟
অজানা পৃষ্ঠা