হেরোডোট: একটি খুব ছোট ভূমিকা
هيرودوت: مقدمة قصيرة جدا
জনগুলি
خضع الملك الإسبرطي كليومينس أيضا للقصاص؛ إذ أصيب بالجنون كما يقول هيرودوت، فربطه أقاربه في عمود التشهير، فهدد حارسه حتى أعطاه سكينا أخذ يمزق بها جسمه، بادئا بمقدمة الساقين وصاعدا إلى الفخذين والوركين، ثم مات في النهاية عندما بدأ يقطع بطنه شرائح. كانت هناك نظريات عديدة متداولة حول ماهية الخطيئة التي اقترفها بالضبط وتسببت في سقوطه. ويقول هيرودوت إن رأيه الشخصي أن كليومينس حل به ما حل لأنه رشا كاهنة دلفي لمساعدته على إطاحة منافسه الملك ديماراتوس (الرجل ذاته الذي عمل فيما بعد مستشارا لخشايارشا). كما تدين تدان.
إن الكلمة التي يستخدمها هيرودوت لوصف العقاب الذي حل على كليومينس وبانيونيوس هي
tisis «وتعني القصاص»، وهي مفهوم إغريقي أساسي يركز على الحفاظ على التوازن في العالم. وكما يقول أناكسيماندر الذي كان من فلاسفة ما قبل سقراط: «كل شيء ينال قصاصه على مر الزمن.» ويبين لنا «تاريخ هيرودوت» كيف يشتمل القصاص على ما يريده خشايارشا من الأثينيين (أولا دفع ثمن هزيمة أبيه في ماراثون ثم عقابهم على خسائر الفرس في أرتميسيوم)، وأيضا على الطريقة التي يحفظ بها التوازن في عالم الحيوان، وهكذا يظل عدد أفراد الأفاعي منخفضا؛ لأن الأنثى تلدغ رقبة الذكر لحظة القذف فتقتله، لكن الصغير الذي ينتج عن هذا اللقاء الجنسي يقتص من الأم، فيأكل رحمها كي يخرج منه. إن مفهوم القصاص عند هيرودوت أكثر تعقيدا بكثير منه عند خشايارشا؛ فبالنسبة لهيرودوت، يمتد القصاص التعويضي إلى الحفاظ على توازن الطبيعة، مقللا عدد الضواري ومكثرا عدد الفرائس (الأرانب والطيور ونحن).
إن انشغالا مماثلا بالتوازن هو الذي يثير حماس هيرودوت لمزاد الزواج البابلي، ويجره إلى التنويه إلى أنه على الرغم من أن اليونان هي صاحبة المناخ الأفضل وبفارق كبير، فإن الأصقاع القصوى من العالم تتمتع بالأندر والأحب، وفي بعض الحالات الأكبر (لاحظ من جديد صيغ أفعل التفضيل)؛ فالحيوانات الشرسة الضخمة توجد على الأرجح عند أطراف الأرض، والذهب يوجد بكميات عظيمة في كل من الهند شرقا وإثيوبيا جنوبا، وتتميز شبه الجزيرة العربية بغناها بالبهارات لدرجة أن البلد بأكمله أشبه بفردوس لتنشق الروائح. لكن اليونان، مركز عالم هيرودوت حرفيا ومجازيا، هي صاحبة المناخ الأفضل، وهي مكان يمكن أن يعيش فيه المرء فعلا، وهي النقطة المرجعية للعالم بمعناه الأوسع.
إن الإخلال بالتوازن هو الذي يطلق - أكثر من أي شيء آخر في سرد هيرودوت - سلسلة الأحداث التي نسميها التاريخ، وغالبا ما يتخذ هذا الإخلال هيئة تجاوزات من نوع أو آخر؛ فكاندوليس ينتهك الناموس أولا بافتتانه بزوجته، وهذه عاطفة مخلة بالنظام بالنسبة لملك حتى في إطار آصرة الزواج، وثانيا بإطلاعه جيجس على زوجته العارية، وينتهك جيجس الناموس بمشاهدته الملكة وبقتله الملك، ويتوق كرويسوس، سليل جيجس، إلى ما هو أكثر من نصيبه المخصص له، فيعبر نهر هاليس ليقاتل قوروش، فيخسر إمبراطوريته، ويتجاوز قوروش بدوره المدى، وهو في أوج انتصاراته الكثيرة واعتقادا منه أنه لا يقهر، بعبوره نهر أراكس لقتال الماساجيتاي الشرسين فيقتل على يد الملكة تومايريس. ويضحك خشايارشا ساخرا من النواميس (الإغريقية) الغريبة، ويرغب في انتهاك التنوع الطبيعي للثقافات، ويضع خطة يوسع هو وجيشه بموجبها رقعة الإمبراطورية الفارسية لتغطي العالم كله، وتكون حدودها سماء زيوس نفسه، «بحيث لا تطل الشمس على أرض خارج حدودنا.» ويقول ل «مستشاريه» (الذين لا يبدي إلا اهتماما ضئيلا بمشورتهم): بمساعدتكم «سأجتاز أوروبا من طرفها إلى طرفها وأجعل البلاد كلها بلدا واحدا.» وهذا تجاوز من الدرجة الأولى بالنسبة لهيرودوت، الذي يجل أشد الإجلال التنوع اللانهائي للعالم متعدد الثقافات الذي يرغب خشايارشا في تسويته وتوحيده، لدرجة أنه كرس قسما كبيرا من كتابه للإثنوجرافيا. إن هيرودوت، الذي سعى إلى تحطيم جدار سوء الفهم الذي أدى بالإغريق إلى نبذ النواميس الأجنبية باعتبارها متدنية، والذي استحدث جنسا أدبيا هجينا جمع بين التحليل السياسي الموضوعي والحكايات الشعبية، وقف على الرغم من ذلك صامدا في مواجهة تجاوز أنواع معينة من الحدود؛ وأعني الحدود التي مكنت مختلف العرقيات من الاستمرار داخل نطاق نواميسها الخاصة بها، واستنكرت أفعالا مثل طعن أبيس أو إقامة جسر على الهلسبونت. قارن أولماشي، شخصية أونداتجي، الذي يقع في غرام زوجة رفيق له رسام خرائط وهي تقرأ قصة جيجس بجوار نار مضرمة، فيجد نفسه مضطرا لتجاوز الحدود المتعارف عليها والدخول في علاقة كارثية معها، علاقة ستؤدي في النهاية إلى مقتل أطراف المثلث الثلاثة. يكتب أونداتجي قائلا: إن عشق أولماشي لكاثرين «يرغب في تدمير كل القواعد الاجتماعية، كل آداب المعاشرة»، باختصار كل النواميس.
بما أن أعظم محاولة للإخلال بالتوازن في عالم «تاريخ هيرودوت» هي العدوان الفارسي، فليس بمستغرب أن هيرودوت يشتمل حكايات عديدة حول موضوع المستضعفين الذين أنقذهم مكرهم من القهر على أيدي من هم أقوى منهم. ويهوى هيرودوت بشدة أن يحكي كيف أحبط الفوكيسيون غارة شنها الثساليون؛ إذ إنهم استباقا لهجوم فرسان الثساليين المعروف عنهم بث الرعب في القلوب، حفروا خندقا عميقا ووضعوا فيه قدورا كبيرة فارغة وغطوها بطبقة رقيقة من التراب وسووا السطح، وعندما عدا الثساليون الواثقون بخيلهم شانين هجومهم، تعثرت خيلهم في القدور وانكسرت أرجلها. وثمة عمل مماثل ينم عن سعة الحيلة مكن الملكة البابلية نيتوكريس من الحيلولة دون دخول الميديين المعادين مدينتها، حيث حولت مسار الفرات بحيث صار النهر - الذي كان من قبل مستقيما - شديد التعرج ويمر في واقع الأمر بقرية واحدة ثلاث مرات منفصلة في ثلاثة أيام مختلفة، ونجحت صعوبة الرحلة الناجمة عن ذلك في الإثناء عن محاولات الملاحة في المجرى المائي المتعرج.
غير أن براعة الفوكيسيين ونيتوكريس لا تساوي شيئا بجانب البراعة التي تجسدها الحكاية المعقدة التي تدور حول الحاكم المصري رامبسينيتوس واللص الذكي؛ فقد حكت لهيرودوت مصادره المصرية أن رامبسينيتوس أمر ببناء غرفة من الحجارة ليحفظ فيها كنزه العظيم، لكن جهوده حققت نتيجة متناقضة؛ إذ وضع الرجل الذي استعان به لبناء الغرفة حجرا بطريقة تسهل على ابنيه خلعه بعد موته، وعندما مات البناء، فعل الابنان بالضبط ما أمرهما به أبوهما، وهكذا اختلسا كنز الملك شيئا فشيئا ونقلاه إلى حوزتهما، ولما رأى الملك كنزه يتناقص، نصب فخا وأوقع في الحقيقة أحد الشقيقين، فقال الشقيق الذي وقع في الفخ لشقيقه: اقطع رأسي حتى لا يقضى عليك أنت أيضا إذا تعرفوا علي! وقد فعل الشقيق ما اقترحه عليه شقيقه.
بعد أن هزم الملك من جديد، علق الجثة مقطوعة الرأس على جدار وأمر الحراس بضبط أي شخص يرونه يبكي بالقرب منها، فجعت أم الشابين - ويحق لها - فأمرت الذي نجا منهما بأن يستعيد الجثة، وقد فعل، وذلك بأن تظاهر بأنه يسكب بعض الخمر بالقرب من الموقع، فلعق الحراس الخمر بينما تظاهر هو بالغضب عليهم، فحاول الحراس تهدئته، وبمرور الوقت كانوا جميعا يحتسون الخمر معا في مرح، وأخيرا فقد الحراس الوعي فتمكن اللص من فك الجثة وإعادتها إلى أمه.
لم ننته بعد؛ إذ تقول القصة - كما يروي هيرودوت وإن كان يؤكد لنا أنه لا يصدقها - إن رامبسينيتوس جعل ابنته تمارس البغاء على أن تستفسر من كل واحد من زبائنها عن أذكى حيلة احتال بها وأعظم جريمة ارتكبها، وها نحن أمام مجموعة أخرى من أفعل التفضيل (يوجد قدر كبير من الاستفسار في «تاريخ هيرودوت» حتى في القصص التي من الواضح أنه لا يجزم بصحتها). وجاء لصنا لزيارة المرأة الشابة ومعه ذراع كان قد قطعها من جثة رجل مات حديثا، وعندما طرحت عليه الأسئلة المعتادة، تباهى بقطع رأس شقيقه بعدما علق في فخ الملك المنصوب في الخزانة واستعاد جثة شقيقه بإسكار الحراس، وعندما حاولت الأميرة القبض عليه، أعطاها ذراع الرجل الميت بدلا من ذراعه ولاذ بالفرار؛ فأعجب رامبسينيتوس بعبقرية اللص أشد الإعجاب لدرجة أنه اقتفى أثره وزوجه ابنته.
تتواءم هذه الحكاية الشعبية الجذابة مع مواضيع هيرودوت الأكبر على مستويات عديدة، كانتصار الدهاء والشجاعة على السلطة والمكانة، واستعادة التوازن الذي يتأتى بإعادة توزيع الثروة، وانقلاب الحظ. ويذكرنا الملك الذي يعير أهمية كبيرة جدا لثروته بكل من كرويسوس وخشايارشا، لكن التنوع اللانهائي لنص هيرودوت يصبغ القصة بجو من المرح بالتأكيد، بحيث يفرح الجميع في النهاية (طبعا باستثناء الشقيق سيئ الحظ الذي مات، والذي تحثنا الأحداث على إغفاله). إن الدهاء عنصر أساسي بالنسبة لهيرودوت. ولا ننس أن مكر تيميستوكليس بلا شك هو الذي كان محوريا في الانتصار الإغريقي، مما مكن أمة فقيرة ليس لديها إلا قليل من الجنود من هزيمة الإمبراطورية الفارسية الجبارة، وقد تكهن الأكاديميون بأن هيرودوت سعى في تصويره تيميستوكليس إلى تجسيد كل من تألق أثينا الفكري وتحويل عصبة ما بعد الحرب التي كانت تقودها تحويلا مدروسا حتى أصبحت إمبراطورية لها.
অজানা পৃষ্ঠা