الجزء الأول
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
أحمد الله وأسبحه عن كل ما لا يليق بكماله، وأقدسه عما يقصر عن رفيع جلاله وبديع جماله، وأستمنحه وهو المانح لكل مطلوب، وأستفتحه وهو الفاتح لمرتجي نعمه أبواب الغيوب، واشكره شكر عبد لم يشهد في الوجود سواه، وأذكره وهو الذاكر والمذكور لا إله إلا إياه، وأبرأ إليه من كل قوة وحول، وأستجديه وهو المجدي لكل حباء وطول، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المنفرد بالبقاء، والمتباعد عما حكم به على عباده من الموت والفناء، وأصلي وأسلم مدى الليالي والأيام، أكمل صلاة لائقة وأتم سلام، على من أبدع مبدع الوجود إيجادَه على أعلى كمال، ونظم به عقد الدين بن الغواية والضلال، وهو النبي العربي الذي لم ينطق عن الهوى، ولا ضل من اتبعه عن المنهج الصواب ولا غوى، محمد المبعوث من صفوة العرب المستوين على عرش البلاغة، والمحتوين من بديع المعاني على ما لم يبلغ أحد بلاغه، فجاءهم بما ألجأهم إلى الإقرار بأنه قطب مدار الإنسان، وبحور فلك الفصاحة والبلاغة والمعاني والبيان، فتالله وبالله إنه لهو المفحم والمعجز، الذي أعيا الواصفين سواء المطنب منهم والموجز، لا برحت نوافح الصلوات تحيي مرقده الشريف كل أوان، ما لاح برق أو ناح ورق أو تعاقب الملوان، وأصل ذلك بطلب الرضوان لآله وأصحابه وعلماء أمته، الناهجين منهجه الأسنى، والمعتصمين بحبل شريعته وسنته، وأسأله تعالى أن يعم جميع تابعيه بوافر إحسانه، وأن ينعم عليهم بما يجذبهم لجوده
1 / 3
ورضوانه، إنه هو المجيب لكل طالب وسائل، والقريب الذي من دعاه استمسك بأنفع الوسائل.
أما بعد فيقول العبد الفقير، والضعيف الحقير، المتبرىء من كل حول وقوة، والمتبوىء نفسه لخدمة ذوي الفضل والفتوة، الأسير الفاني، والكسير الجاني، المفتقر إلى عفو مولاه المحسان الغفار، عبد الرزاق ابن المرحوم حسن بن إبراهيم البيطار أصلح الله خلل حاله، ونشله بمنه وكرمه من نكبة أوحاله، أن أحلى ما يتحلى به جيد الإنسان، وأولى ما يتملى منه الأديب الولهان، علم يكتسي به ويكتسبه، وفضل يتزين به وينتخبه، وفائدة يبيض غابر عمره بتسويدها، وعائدة يصرف نقد أيامه ولياليه بتقييدها، ودرة ساقطة من معدن الإطلاق يلتقطها، أو قلادة من قريحته ينظمها خوف الشرود ويسبطها، أو سيرة لمن سبق يرقمها، أو رقيقة من بدائع البدائه يحررها ويرسمها:
من كل معنى ولفظ ... كخمرة في زجاجه
يسري النسيم إليه ... يبغي لديه علاجه
فإن الكامل هو الذي يشتغل بما يجله، لا بما يسقطه في أودية الهوان ويذله، وقد كنت معروفًا بجمع لآلي أخبار السادة والأعيان، مشغوفًا بالتقاط آثارهم المزرية بعقود الجمان، حتى رقمت من أخبارهم أوراقًا شتى، بيد أنني إذا أردت الوقوع على مراد منها لا أجتمع به حتى وحتى، فعن لي أن أجمعها في كتاب تعذب مطالعته، وتقرب على الطالب مراجعته، وأن أقصر الوطر، على ترجمة أعيان القرن الثالث عشر، لأن الأمين المحبي ﵀ ترجم أهل القرن الحادي، كما أن القرن الثاني قد ترجمه المرادي، فأردت أن أتطفل عليهما بديوان يكون لكتابيهما ذيلًا، وإن كنت أعلم أني لست لذلك أهيلًا، ولكن من أغرب الغريب، وأعجب العجيب، هو أني رأيت أن بعض الناس قد ضنوا بتراجمهم أن تصاغ في قالب التحوير، كأنما يطلب منهم
1 / 4
مترجمهم وافر الدراهم والدنانير، مع أني لا أقصد بذلك سوى إحياء أخبارهم، ونشر مطوي أوصافهم وجميل آثارهم، لأنهم وإن كانوا في زمانهم أشهر من نار على علم، إلا أنهم إذا لم تقيد أسماؤهم في دفاتر المآثر نثرتها الأيام في مطوي العدم:
إذا ما روى الإنسان أخبار من مضى ... فتحسبه قد عاش من أول الدهر
وتحسبه قد عاش آخر دهره ... إلى الحشر إن أبقى الجميل من الذكر
فقد عاش كل الدهر من عاش عالمًا ... كريمًا حليمًا فاغتنم أطول العمر
فاقتصرت على ذكر من وصلت إليه، وطويت غالبًا ذكر من لم أكن أعلم ما له وعليه، وحسب الطالب أن يقتصر على من وصلت إليه قوته وحوله، وأن يعلم أن ما لا يدرك كله لا يترك جله، ولم أزل أقدم في هذا العزم رجلًا وأؤخر أخرى، وأتردد في الإقدام والإحجام ولا أدري أيهما أحرى، إلى أن تذكرت ما قيل، من أن بديع الأقاويل، إن المرء ابن وقته وساعته، وكل ينفق على قدر وسعه واستطاعته، ومن كانت بضاعته مزجاة، فهو من الملام بمنجاة، وذيل العفو عليه مسبول، والكف عن زلله مرجو ومأمول، وقد قيل:
ألا ليقل من شاء ما شاء إنما ... يلام الفتى فيما استطاع من الأمر
فحققت ما كنت أردت، وأظهرت من الفكر ما أضمرت، وشرعت في كتابة هذا الكتاب، معتمدًا في التسهيل على رب الأرباب، ووسمته وسميته، بعد ما أتممته وأنهيته: حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر والأمل ممن نظر فيه، ورأى ركاكة نثره وقوافيه، أن يرحم بحسن التأويل جامعه، وأن يصون عن استماع كلامه مسامعه، والأولى أن يلتمس له عذرًا، ويسبل على ما بدا له منه سترًا، خصوصًا والفكرة غير مساعدة، وهي لمكايدة الدهر مكابدة، ومع إبداء ما ذكرت، وإظهار ما به
1 / 5
اعتذرت، فإني كلفت نفسي الصغيرة شيئًا كبيرًا، وأقحمتها في نفس الأمر أمرًا عسيرًا، محافظة على إحياء ذكر هؤلاء السادة الأفاضل، والقادة الحائزين لأعلا الشمائل والفضائل، وخوفًا من ضياعهم بلا خبر ولا خبر، مع أنه يحق لسيرتهم أن تتلى كما تتلى السور، ورأيت أن أرتبه على حروف المعجم لا على الأعوام، ليكون قريب المراجعة سهل المرام، والله أسأل أن يجعله خالصًا من شوائب الملام، وأن ينعم على جامعه ومطالعه والمسلمين بحسن الختام.
حرف الألف
الشيخ إبراهيم بن حسن بن محمد بن حسن بن إبراهيم البيطار:
الدمشقي الجد الماجد، والد سيدي الوالد، فاضل شافعي المذهب، عالم عامل طراز فضله بالعبادة مذهب، قد احتوى على مكارم الشمائل والأخلاق، واستوى على عرش اللطافة وفاق، له عزة نفس تود النجوم الثوابت نيل علاها، وعلو همة يتمنى البدر الوصول إلى حسن ثنائها وسناها، وكلام كلآلىء الصدف، وآداب كالروض الانف، ولا ريب أنه:
مورق عيدان العلا رطبها ... أبلج وجه العرف بسام
مع حكم أرق من نسيم السحر، وشيم لو أنها للنجم ما غاب ولا استتر، وأياد روائح غوادي، كنسيم الروض غب الغوادي، ولا ريب أنه من القوم الذين سعوا في مناهج التقوى، ونحوا نحو الصلاح في السر والنجوى، أخذ عن جملة من الأفاضل، وتلقى عن كثير من السادة الأماثل، وكان ملازمًا لأستاذه الفاضل، وملاذه العالم العامل، قطب دائرة الأفاضل، والآتي في تحقيقاته ومعارفه بما لم تستطعه الأوائل، مولانا الشيخ محمد بن المرحوم العلامة الشيخ عبد الرحمن الكزبري فإنه لازمه على الدوام، وانتفع به فوق المرام، وكان من جملة خاصته وأحبابه، المتأدبين بجميل آدابه، حتى اشتهر بالصلاح والعلم والعبادة،
1 / 6
وألفته القلوب فوق العادة، وكان ذا ثروة ومال من تجارته، غير أن اليد الجزارية قد أساءت في معاملته، فسلبته جل ما كان، وأخرته في الثروة عن الأقران، عامله الله بأعماله، وجازاه على ما كان من قبيح أفعاله، وكان أعلى الله علاه، وجعل الفردوس مقره ومثواه، ذا رأي صائب، وفكر ثاقب، لين الكلام، حسن المعاشرة، رفيع المقام، كثير المواصلة لأرحامه، مع حبائه لهم وإكرامه، ولد ﵁ في منتصف رجب سنة ألف ومائة وإحدى وخمسين، ونشأ في حجر والده إلى أن حظي من القراءة والكتابة على التمام، وحصل له من التفنن في العلوم نصيب وافر واحترام، ولم يزل مكبًا على دروس العلم والطاعة وتلاوة القرآن، إلى أن نشبت به أظفار المنية ففارق الدنيا من غير توان، وذلك في غرة ربيع الأول سنة ألف ومائتين وثمان وعشرين، صب الله على قبره صبيب الرحمة في كل وقت وحين، وجمعنا به في دار الإحسان، تحت لواء محمد سيد ولد عدنان.
الشيخ إبراهيم بن الشيخ محمد الباجوري قدس الله سره:
وجعل أعلا الجنان مثواه ومقره، شيخ الوقت والأوان، المستوي في فضائله على عرش كيوان، فهو الذي بهر بإبداعه، وظهر على ذوي الكمال بسعة اطلاعه، وعطل العوالي بيراعه، ومد لتناول المعالي طويل باعه، وأطلع الكلام رائقا، وجاء به متناسقا، فهو العالم العامل، والجهبذ الكامل، الجامع بين شرفي العلم والتقوى، السالك سبيل ذلك
1 / 7
في السر والنجوى، قد افتخرت به الفضائل، حتى قدمته على الأوائل، وكان لسان شمائله، يخطب على منبر فضائله:
غنيت بحلية حسنها ... عن لبس أصناف الحلي
وبدت بهيكلها البد ... يع تقول شاهد واجتلي
تجد المحاسن كلها ... قد جمعت في هيكلي
ولد ﵁ سنة ألف ومائة وثمان وتسعين ببلدة بيجور، قرية من قرى مصر المحروسة من الغم والملحوظة بعين السرور، على مسيرة اثنتي عشرة ساعة من غير استعجال، بل بسير الوسط والاعتدال، ونشأ فيها في حجر والده وقرأ عليه القرآن المجيد، بغاية الإتقان والتجويد، ثم قدم إلى الجامع الأزهر، ذي القدر السامي الأظهر، سنة ألف ومائتين واثنتي عشرة هجرية، لأجل تحصيل الآداب والعلوم الشرعية، وسنه إذ ذاك أربع عشرة سنة تمامًان ومكث فيه حتى دخل الفرنساوي سنة ألف ومائتين وثلاثة عشر عامًا، فخرج وتوجه إلى الجيزه، واقام بها مدة وجيزه، ثم عاد سنة ألف ومائتين وست عشرة، إلى المكان الأنور، والجامع الأزهر، عام خروج الفرنساوي من القطر المصري كما أفاد ذلك بنفسه، أعلى الله تعالى في فراديس الجنان مقامات قدسه، فأخذ في الاشتغال بالتعليم والتحصيل، وقد أدرك الجهابذة الأفاضل ذوي القدر الجليل، كالشيخ محمد الأمير الكبير، صاحب المقام السامي الشهير، والشيخ عبد الله الشرقاوي، والسيد داود القلعاوي، ومن كان في عصرهم، وتلقى عنهم ما تيسر له من العلوم، إلى أن صار عمدة ذوي المنطوق والمفهوم، ولكن كان أكثر ملازمته وتلقيه، وأخذه للعلم الشريف الذي كان به ترقيه، عن الأستاذ الشيخ محمد الفضالي، والمرحوم الأستاذ الشيخ حسن القويسني ذي القدر العالي، ولازم الأول بالجد والاجتهاد، إلى أن توفي ورحل إلى دار الفضل والإسعاد، وفي مدة قريبة لاحت عليه لوائح النجابة، ولبى السعد نداه بالإقبال وأجابه، فدرس وألف التآليف
1 / 8
العديدة، الجامعة المانعة المفيدة، في كل فن من توحيد وأصول، ومعقول ومنقول، منها حاشيته على متن الشمائل، وحاشيته على رسالة شيخه الفضالي في لا إله إلا الله، وحاشيته على الرسالة المسماة بكفاية العوام، فيما يجب عليهم من علم الكلام، لشيخه المذكور، وكتاب فتح القريب المجيد، شرح بداية المريد، للشيخ السباعي، وحاشيته على مولد المصطفى ﷺ للعلامة ابن حجر الهيثمي، وحاشية على مختصر السنوسي في فن الميزان، وحاشية على متن السلم للأخضري في فن الميزان أيضًا وحاشية على متن السمرقندية في فن البيان، وكتاب فتح الخبير اللطيف، شرح نظم الترصيف في فن التصريف، وحاشية على متن السنوسية في التوحيد، وحاشية على مولد المصطفى ﷺ للشيخ الدردير، وشرح على منظومة الشيخ العمريطي في النحو، وحاشية على البردة الشريفة، وحاشية على بانت سعاد، وحاشية على متن الجوهرة في التوحيد، وكتاب منح الفتاح، على ضوء الصباح، في أحكام النكاح، وحاشية على الشنشوري في فن الفرائض، وكتاب الدرر الحسان على فتح الرحمن، فيما يحصل به الإسلام والإيمان للزبيدي، ورسالة صغيرة في فن الكلام، وحاشية على شرح ابن قاسم لأبي شجاع في فقه مذهب الإمام الشافعي، قدس الله سره بمجلدين، وله مؤلفات أخر لم تكمل فلذا أضربنا عن ذكرها صفحًا. وكان ديدنه ﵀ التعلم والاستفادة، والتعليم والإفادة، حتى صار له ذلك سجية وعادة، فكان عمره ﵁ ما بين إفادة واستفادة، وكان لسانه دائمًا رطبًا بذكر الله، وتلاوة القرآن، وكان متميزًا بذلك على الأمثال والأقران، وله وله عظيم وحب جسيم لآل بيت النبي الكريم، ولذلك كان مواظبًا على زياراتهم، ومترددًا على أبوبا حضراتهم، وبالجملة فإنه ﵁ كان صارفًا زمنه في طاعة مولاه، وشاكرًا له على ما أولاه، فمن جملة نعمه عليه الانتفاع بتآليفه في حياته في كل ناد، والسعي في طلبها من
1 / 9
أقصى البلاد، والاجتهاد في تحصيلها من كل حاضر وباد، والاجتماع بها على كل مرام ومراد، وقد انتهت إليه رئاسة الجامع الأزهر، ومحفل الدين الأبهى الأبهر، وتقلدها في شهر شعبان سنة ثلاث وستين ومائتين وألف ولا غرو أنه ابن بجدتها، وأبو عذرتها، وفي أثناتها قرأ كتاب الفخر الرازي في تفسير القرآن، وحضره أفاضل الجامع الأزهر ذوي الملكة والإتقان، ولكنه لم يكمل بسبب ضعف اعتراه. وقد امتدحه مهنئًا حضرته حين آلت الرئاسة إليه حضرة المعروف بكل كمال، السيد محمد شهاب الدين فقال:
أترى الغمام بدره المنثور ... وشى رياض الورد والمنثور
أم ذي تباشير الصباح تنفست ... وجلت أشعتها دجى الديجور
كبلابل الأفراح أبدت طالعًا ... حظي الزمان بحظه الموفور
هو كوكب إيضاح بهجة ضوئه ... مغن عن المصباح والتنوير
رفعت لواء العز دولة مجده ... وسطت بصارم فضله المشهور
أكرم به حبرًا همامًا رحلة ... تطوى القفار لعلمه المنشور
أبدى الطوالع في مطالع فخره ... ولدى المواقف سار بالتيسير
زفت حواشيه ورقت وازدهت ... بمحاسن التحبير والتحرير
هو بر إفضال وبحر فضائل ... صاف عدته شوائب التكدير
كررت مدح حلاه إذ هو سكر ... تقوى الحلاوة فيه بالتكرير
هو روض عرفان تجلى عن جنى ... دان وكم ليس بالمزرور
لا غرو إن طاب الزمان بطيبه ... وشذاه عم الكون بالتعطير
يا دهر أعط القوس باريها فقد ... أفرطت في التقديم والتأخير
هذا مجلي حلبة السبق الذي ... حاز الفخار بسعيه المشكور
هو سيد الأبان سعد أوانه ... فخر الزمان ميسر المعسور
1 / 10
فرحت به الدنيا وأصبح وجهها ... فيه تلوح بشاشة المسرور
وزهت به العليا وقالت أرخوا ... أبهى إمام شيخٌ الباجوري
يا صاح حدث عن مآثره وقل ... قد صح نقل حديثي المأثور
طوبى لمن بمقام إبراهيم قد ... أدى فريضة حجه المبرور
وسعى وطاف بكعبة الطول الذي ... تمت شعائره بلا تقصير
فليهنه الإقبال وليقض الذي ... قد فات من مندوبه المنذور
وإليه أهدي بنت فكر تنجلي ... في خجلة من جفنها المكسور
غايات ما ترجوه فض ختامها ... حيث انتهت بتكامل التوقير
ثم إنه لما قربت وفاته، وكادت أن تتناهى حياته، نزل به مرض الحمام، ولازمه إلى أن استوفى من عمره التمام، توفي يوم الخميس ثامن وعشرين من ذي القعدة سنة ألف ومائتين وست وسبعين ودفن بتربة المجاورين.
الشيخ إبراهيم بن محمد بن دهمان الحلبي:
الشافعي القادري برهان الدين الفاضل الذي طوي على الفضل أديمه، والعالم العامل الذي انتشر به الكمال حديثه وقديمه، من أشرق في أوج الجمال طالع سعده، وارتقى على كاهل الكمال بنيان مجده، واسطة عقد الأفاضل، وكعبة طواف ذوي الفضائل والفواضل، الفقيه الورع الزاهد، والمحدث الصوفي العابد، ولد بدارة عزة قرية من أعمال حلب سنة خمس وخمسين ومائة وألف، ودخل أيام شبابه حلب، واجتمع بخاله الشيخ العارف أبي بكر بن أحمد الهلالي القادري وأخذ عنه الطريقة واعتنى بشأنه، ثم ارتحل إلى مصر سنة ثمان وسبعين ولازم الشيوخ في الأزهر وقرأ عليهم وحضر دروسهم وأكثر من الأخذ والاستفادة والسماع، فقرأ على أبي داود سليمان بن الجمل وهو أجل من انتفع به، والشيخ أحمد الفالوجي، وسيدي محمد بن علي الصباغ، وسيدي أبي عبد الله محمد الأمير، والشهاب أحمد بن محمد الدردير، وأبي الصلاح أحمد بن موسى العمروسي وأبي الحسن علي بن أحمد
1 / 11
الصعيدي المالكي، وحسن بن غالبي الجداوي، ومحمد بن حسن السمنبودي المنير، وأبي عبد الله محمد بن أحمد بن الحسن الجوهري، وصفي الدين محمد ابن أحمد البخاري وغيرهم، فأخذ عنهم ولازمهم وانتفع بهم، وأخذ الطريقة الخلوتية عن سيدي الشيخ محمود بن يزيد الكوراني الكردي الشافعي خليفة الأستاذ الحفناوي، وسمع على الكثير وانتفع واشتغل بالعلم والطريقة وتفوق ورأس على أقرانه، وتقدم عليهم بوافر فضله وحسن بيانه، ثم قدم إلى حلب سنة ثمان وتسعين ومائة وألف فدرس بها ولزمه الناس، وبعد مجيئه مات ابن خاله الشيخ أبو الضياء هلال بن أبي بكر الحلبي القادري في أواخر سنة ثلاث ومائتين وألف، فاستقر مكانه شيخًا في زاويتهم الكائنة بمحلة الجلرم بباب قنسرين، وأقام مجالس التوحيد والأذكار وأوقات المواعيد على العادة، ولزم أبناء الطريق واختلى الخلوات المتعددة، ومع ذلك كان لا ينفك عن الإقراء والتحديث والإفادة ونقل الشيخ الفاضل العلامة خليل أفندي المرادي في بعض تعليقاته أنه دخل حلب سنة خمس ومائتين والف فاجتمع بالمترجم المرقوم وسمع من فوائده وزاره في زاويته وسمع منه حديث الرحمة المسلسل بالأولية. ومات ﵀ بعد ذلك لا بكثير.
الشيخ إبراهيم بن الشيخ مصطفى السعدي الجباوي
بن الشيخ إبراهيم ابن السيد برهان الدين بن السيد مصطفى بن السيد سعد الدين الأصغر ابن السيد حسين بن السيد حسن بن السيد محمد بن السيد أبي بكر بن السيد علي الأكحل بن السيد سعد الدين الجباوي قدس الله سره:
ولد المترجم المرقوم في دمشق الشام في المحلة المعروفة بالميدان وذلك سنة ألف ومائتين وسبع عشرة ونشأ في حجر والده وحينما بلغ سن التمييز، تعلم القرآن العزيز، ثم اجتهد في طلب العلوم على والدي إلى أن صار له ملكة عظيمة، ومعرفة جسيمة، ثم أخذ الطريق، عن والده ذي المعرفة والتحقيق،
1 / 12
ولم يزل يجتهد في السلوك والطاعة، ويحفظ أوقاته عن البطالة والإضاعة، إلى أن انتقل والده إلى الدار الآخرة العلية، فآلت إليه مشيخة السجادة السعدية، وكانت لا تليق إلا إليه، ولا تعول إلا عليه، فرفع منارها، وأقام أذكارها، وأدب طلابها، وأتقن بناها واعرابها، وشيد أركانها، ورفع عنوانها، وكان لي تردد إليه، واعتماد عليه، حيث إنه حميد السيرة، حسن السريرة، واسع الصدر، رفيع القدر، وفي سنة اثنتين وثمانين بعد المائتين والألف تزوجت بكريمته البرة التقية، والصالحة النقية، السيدة رقية، فرزقت منها أولادًا لم يبق لي منهم سوى الولد الصالح، والشهم الفالح، السيد محمد سعد الدين جعله الله من أهل العرفان، وفتح عليه فتوح السادة الأعيان، وحفظه من كل عيب، وصانه من كل شائبة وريب، ولم يزل المترجم ملازمًا لعبادته، ناهجًا منهج سيادته وسعادته، إلى أن دعاه داعي المنية، إلى الدار الآخرة العلية، فلبى الداعي من غير تأخير، ومات فجأة وتعجل في المسير، وذلك أواخر رجب الفرد سنة اثنتين وثمانين ومايتين وألف ودفن بمدفن السادة السعدية في تربة باب الله وقبره ظاهر.
تتمة: طالما تطلبت ترجمة جده الشهم الهمام، والسيد العارف الإمام، مجمع الفضائل، وقطب الأفاضل، السيد سعد الدين الجباوي فلم أقف لها على خبر، ولم أقع لها على أثر، إلى أن رأيت روضة الناظرين، وخلاصة مناقب الصالحين، للإمام الكبير العلامة، والهمام النحرير الفهامة، العارف بالله الشيخ أحمد بن محمد الوتري قدس الله روحه، ونور مرقده وضريحه، فإنه قد ترجمها ترجمة لطيفة، مفصحة عن مرتبته المنيفة، فأحببت أن أذكرها بتمامها بدون زيادة ولا نقصان، لندرة وجودها في تراجم السادة
1 / 13
الأعيان، فقال ما نصه: ومنهم العارف بالله، المستغرق في محبة مولاه الولي الجليل الشيخ سعد الدين أبو محمد الشيباني الجباوي قدس الله سره، ورضي الله عنه. كان في بدايته مولعًا في حب الكر والفر والفروسية وانتهى إلى قطع الطريق مع جماعة من أهل حوران، وكان جده الشيخ يونس الشيباني الكبير قدس الله روحه بدمشق يدعو الله إذا خلا مع ربه بإصلاح سعد الدين أو بقبضه إليه ففي ليلة من الليالي والشيخ سعد الدين مع رفقائه وإذا بأحد عشر فارسًا على خيل بيض على طريقهم فكر عليهم سعد الدين بجماعته فلما قرب من الأول نظره شزرًا وقال " ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله " فسقط الشيخ سعد الدين إلى الأرض مغشيًا عليه، وجماعته أيضًا كل صعق وغشي عليهم أجمعين. ثم بعد برهة يسيرة أفاق فقال الفارس الأول: يا سعد الدين أنا نبيك محمد ﷺ وهؤلاء الصحابة العشرة، وأعطاه من يده المباركة تينتين نفخ عليهما فأكلهما فانكشفت له العوالم وثبت في قلبه خوف الله تعالى فصار ببركته ﵊ من العارفين، ثم إنه ترك ما كان عليه وانحدر إلى دمشق ولبس الخرقة من والده الشيخ مزيد الشيباني وانتشرت به الخرقة السعدية وعمر رواقًا في قرية جبا من أعمال دمشق وأرشد بها السالكين، وانتفع به أمة وظهر واشتهر وجرت على يديه الخوارق، أخذ الطريقة ولبس الخرقة من والده الشيخ مزيد الشيباني، وللشيخ مزيد طريقان في الخرقة، الأول عن أبيه الشيخ يونس الكبير الشيباني، وسيأتي ذكر سنده. والثاني عن الشيخ الإمام القطب الشريف السيد أحمد الكبير الرفاعي ﵁ أخذ عنه الطريقة وتشرف ببيعته سنة خمس وخمسين وخمسماية، السنة التي مدت بها للسيد المشار إليه يد جده ﷺ وقد نفخ في فمه وقال يا مزيد لك ما لنا وعليك ما علينا وأنت منا ولنا. وسند السيد أحمد الرفاعي ﵁ في الخرقة شهير في محله، وأما سند الشيخ يونس الشيباني فإنه عن الشيخ أبي مدين عن الشيخ سعيد الأندلسي عن الشيخ أبي اركات
1 / 14
لب عن الشيخ أبي البقاء عن الشيخ بكر تاج العارفين عن الشيخ أبي بكر الشهير بالمقبول الشيباني قدس الله سره عن الشيخ أبي القاسم الكركاني عن الشيخ أبي عثمان المغربي عن الشيخ أبي علي الكاظمي عن الشيخ علي الكاتب عن الشيخ العارف بالله أبي بكر الشبلي عن شيخ الطائفة العارف بالله جنيد البغدادي عن السري السقطي عن معروف الكرخي عن داود الطائي عن حبيب العجمي عن الشيخ الحسن البصري عن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه عن النبي ﷺ. مات الشيخ سعد الدين ﵁ سنة إحدى وعشرين وستماية ودفن في رواقه بجبا. ومرقده مشهور يزار ويتبرك به وله ذرية بدمشق وحوران معروفون كلهم على حال حسن وسيرة مرضية بارك الله بهم. انتهى كلام الروضة.
إبراهيم باشا بن محمد علي باشا خديوي مصر والقاهرة
غشوم ظالم، وظلوم غاشم، خليفة الحجاج في أفعاله، وناهج منهجه في أقواله وأحواله، محتو على الفساد، منطو على الإنكاد، مجبول على الغلظة والقساوة، مجعول من الفظاظة معدوم من اللطافة والطلاوة، ممتلىء منه البذا، متضلع من الأذى، لم يخلق الله تعالى في قلبه شيئًا من الرحمة فينتزع، ولم يودع الله لسانه لفظًا من الخير فيستمع، سفاك لدماء المسلمين، نباذ لطاعة أمير المؤمنين، كان يعتقد أن ذلك ليس أمرًا ذميمًا، ولا يهوله قوله تعالى: " ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابًا عظيمًا ". فإن هذا المترجم لما اشتد أزره، وقوي أمره، تولى قيادة العساكر المصرية، وصارت له الإمرة الجندية، ثم بعد ذلك وجهه والده إلى الأراضي الشامية، ليضمها إلى الحكومة المصرية، فلم يزل يسير بعساكره، متقلدًا لسيف طغيانه ومناكره، حتى حل حي عكة، وكان الوالي بها عبد الله باشا من طرف الدولة العثمانية
1 / 15
فدكها دكة أي دكة، وسبب ذلك أن عبد الله باشا وقعت بينه وبين محمد علي باشا عداوة كلية، بسبب أنه خابره بتسليمه بلاد الشام فلم يجبه إلى هذه الأمنية، وكانت وقعة الشام مع سليم باشا آنفة الوقوع، والأفكار تحكم بأن الجزاء مقطوع به لا ممنوع، فلما سمع السلطان بعداوة عبد الله باشا مع محمد علي باشا أشفق من اتحاد الشام مع الخديوي المرقوم، فأرسل للعفو عن الشام أجل مرسوم، ووجه واليًا يسمى علي باشا إلى الشام، لمداركة الأمر بغاية الاهتمام، فأرسل محمد علي باشا إلى السلطان شكاية على عبد الله باشا تطعن بعظيم شانه لعله يعزله ويجعله في مكانه، فيصل إلى مطلوبه، ويحصل من غير ضرر على مرغوبه، غير أن السلطان لم يجبه إلى مراده، ولم يوصله إلى ما تأمله في اجتهاده، فجمع إبراهيم باشا الجموع الكثيرة، وتغلب على غالب البلاد الشامية الشهيرة التي تحت ولاية عبد الله باشا كغزة والرملة والقدس والخليل ونابلس وبلاد الساحل، وحصن قلعة طرابلس وساعده أمير جبل الدروز الأمير بشير ورؤساء جبل نابلس، لكون عبد الله باشا في العام الماضي حاصر قلعة سينور وهدمها وحصل منه ضرر لأهل نابلس وكان ذلك من أسباب الغلاء الذي وقع في البلاد الشامية، فأرسل حضرة السلطان إلى والي مصر يأمره برفع عساكره عن عكا، فامتنع، فأمر السلطان بجمع العساكر العثمانية وأمر والي حلب بالتوجه إلى مساعدة عبد الله باشا، واستمر العسكر المصري يضارب عكة بحرب لم يسمع بمثله، وقد ورد كتاب من والي عكة إلى بعض أعيان دمشق يقول فيه: إن نارهم بالمدافع والقنابر لا تفتر دقيقة واحدة وإنهم يضربون اثنين وعشرين مدفعًا بفتيل واحد، وإنهم في سادس شوال اقتحموا على عكة ودخلوا من الجهات التي خربوها من السور فخرج إليهم عسكر عكة وضاربوهم بالسيوف ومن فوق السور بالمدافع والقنابر حتى أهلكوا غالب من اقتحم وامتلأ وجه الأرض من قتلاهم فانهزموا خائبين؛
1 / 16
وبسبب هذه الفتنة تعطلت الأموال الأميرية المعينة على نابلس وطرابلس وتلك الجهات لأجل ركب الحاج الشريف، فورد الأمر السلطاني في خامس عشر شوال بأن لا يخرج الحاج في ذلك العام وأمر والي الشام بأن يتوافق مع أهل البلد ويحافظ الشام، وفي ثالث وعشرين من شوال سافرت الصرة وأعيان الحج الموظفون إلى الاستانة، وجاء في هذا الشهر عباس باشا بن محمد علي باشا إلى أرض البقاع العزيز وحصن بعض القلاع هناك ليقطع الطريق على العساكر العثمانية الواردة لقتالهم، وافترق أهل جبل الدروز وتلك النواحي فرقتين فالنصارى منهم تابعوا الأمير بشير المتوافق مع إبراهيم باشا، وخالفهم الدروز وأظهروا الإطاعة للسلطان، وفي ذي القعدة توجه عثمان باشا الذي ولاه السلطان على طرابلس الشام بكل همة وجمع هناك عساكر كثيرة وحاصر طرابلس، فوصل الخبر إلى إبراهيم باشا فتوجه من عكة بجمع من عساكره المحاصرين عكة إلى طرابلس، فلما سمع به عثمان باشا خرج من طرابلس الشام لاقتضاء المقام ذلك، وتفرقت جموعه، ثم بعد ايام توجه إبراهيم باشا إلى حمص فدخلها في حادي وعشرين من ذي القعدة بلا قتال، وكان في حماه جمع من العساكر العثمانية ومعهم ثلاثة من الباشوات القواد، فلما سمعوا بوصول العسكر المصري إلى حمص ساروا إليهم، فخرج إبراهيم باشا من حمص ولحقه بعض العساكر العثمانية خارج حمص عند البحيرة، فرشقهم بالمدافع فرجعوا
عند ذلك إلى حمص وأقاموا بها، ولم يعينوا عبد الله باشا، ولم يحصل منهم في هذه المدة سوى تثبيت البلاد، وتوجه إبراهيم باشا إلى بعلبك وجاءه المدد من العساكر والذخائر، وقام بإعانته أهل الجبل من النصارى والدروز وكان قبل ذلك قد قاتل بعض الدروز بعض النصارى، فرجع إليهم إبراهيم باشا وكسر شوكتهم فأطاعوه، وخرج حسين باشا سردار من الاستانة بعساكر عظيمة، وولاه حضرة السلطان على مصر وما يليها، وفي هذه المدة كلها يظهر محمد علي باشا الطاعة للسلطان
1 / 17
ولم يصرح السلطان بخروجه عن الطاعة بل وقع التصريح بخروج إبراهيم باشا وعباس باشا طمعًا في رجوعهما عن هذا الأمر، فلما رأت الحضرة الشاهانية أن محمد علي باشا مصرٌ على قتال عكة أرسل إلى البلاد يعلن بأن محمد علي باشا معزول من المناصب، وأمر أهل البلاد بقتاله وورد الأمر إلى دمشق في نصف ذي الحجة بذلك وبتحصين البلد، فحينئذ اشتد حصار إبراهيم باشا لعكة لعلمه بقرب مجيء حسين باشا، فلما كانت ليلة الاثنين السابع والعشرين من ذي الحجة الحرام اقتحم العسكر على عكة ودخلوا إلى الأبراج على السلالم واستولوا عليها، وقبض على عبد الله باشا ووقع من القتل والنهب والسلب ما لا يحمد ولا يحصر، ولا يقال ولا يذكر، وذكر بعضهم أن جملة من قتل من عسكر إبراهيم باشا اثنا عشر ألفًا ومن عساكر عكة نحو خمسة آلاف، وكان ابتداء حصاره لها في سابع وعشرين من جمادى الثانية فكانت مدة الحصار ستة أشهر، ثم أرسل إبراهيم باشا عبد الله باشا من جهة البحر إلى الإسكندرية فلما علم محمد علي باشا بوصوله أرسل إليه يؤمنه ثم أرسل إليه أنواع الإكرام، وأحسن له المعاملة والإنعام، ووصله بالهدايا السنية، وأنزله منزلة علية، ثم وجهه إلى الاستانة المحمية، فغب وصوله وجهت عليه الدولة رئاسة الحرم الشريف في المدينة المحمدية، وكان عالمًا مطيعًا صالحًا محبًا لذوي العبادة والصلاح، وفي ثالث محرم الحرام سنة الف ومايتين وثمان وأربعين أرسل إبراهيم باشا إلى دمشق يطلب منهم أن يمكنوه من الدخول إليها فلم يرسلوا إليه جوابًا، ثم طلب ثانيًا فأرسلوا إليه أنا لا نمكنك من الدخول أصلًا، وفي ثامن المحرم جاء الخبر أن عسكره وصل إلى جسر بنات يعقوب فاستعد أهل دمشق لقتاله، واجتمع رؤساؤهم وتعاقدوا وتحالفوا على أنهم يد واحدة بعد ما كان بعضهم يميل إلى إبراهيم باشا خوفًا من انتقام الدولة من الشام بسبب قضية سليم باشا الآتية في ترجمته في حرف السين؛ وحصل لأهل البلد والقرى
1 / 18
انزعاج شديد، وشرع أهل القرى والأطراف في نقل الأمتعة لداخل السور، وكتب وزير الشام إلى الباشوات الذين في حمص ومعهم وزير حلب أن يعينوا أهل الشام بعساكر من عندهم، وأرسل إبراهيم باشا إلى بعض أعيان دمشق كتابًا مؤرخًا في تاسع المحرم يهددهم فيه، وفي آخره أن بلاد عربستان قد ملكناها بسيفنا ولا يأخذها أحد منا ما دمنا في قيد الحياة. وفي رابع عشر المحرم وصل بعض جيوشه إلى قريب من قرية داريا قرية من قرى الشام بينهما نحو ثلاثة أميال، فخرج إلى لقائهم خلق كثير من أهل دمشق فقاتلوهم قتالًا يسيرًا، ولم يقصد كل من رؤساء الفريقين إضرار الآخر، وقتل من كل فريق رجل أو رجلان، ثم رجع أهل الشام مظهرين الانكسار، ولم يبق من أهل الشام رجل خارج البلد، وبات أهل البلد تلك الليلة في كرب شديد وكل أهل محلة يحفظون محلتهم، وفي ليلة الخميس خامس عشر المحرم نصف الليل هرب علي باشا وزير الشام وعسكره والقاضي والمفتي المرادي والنقيب العجلاني ومحمد جوربجي الداراني، وجميع أبناء الترك الموظفين، وغالب وجوه الشام، وأصبحت البلدة نهار الخميس خالية من رؤسائها وأعيانها ولم يبق أحد ممن يعتمد عليه، فأرسل إبراهيم باشا إلى أحمد بيك الدالاتي ربيب يوسف باشا الكنج فأقام متسلمًا في البلد، وأمر مناديًا ينادي بالأمان، وفي ضحوة النهار دخل العسكر إلى السرايا والمرجة، ثم دخل إبراهيم باشا قبيل الظهر وطلب أن يتسلم القلعة من رئيسها علي آغا عرمان فأجابه بالامتثال وفتح الباب، فأدخل ذخيرته إليها وعسكره وقت العصر، وجاءه في ذلك النهار أمراء الدروز ومعهم خلق كثير من نصارى ودروز، وقد لطف المولى ﷾ كما هي عادته برفع القتال وبالإذعان والتسليم من دون ضرب ولا طعن ولا سفك دماء، ثم كتب إلى الهاربين أن يرجعوا إلى أوطانهم
فالذين ذهبوا إلى حمص وهم الباشا والقاضي والداراني ورؤساء المغاربة والأكراد أبوا الرجوع واستقاموا مع بشاوات العساكر السلطانية، وأما الذين ذهبوا إلى القريتين وهم المفتي والنقيب ورشيد آغا وكيلا راميني فإنهم رجعوا إلى دمشق، ثم عزم إبراهيم باشا على قتال الذين في حمص فشرع في جمع الذخائر والعساكر، وورد إليه من مصر عسكر كثير من النظام والأعراب وغيرهم، واجتمع عند عباس باشا أيضًا في بعلبك جموع كثيرة، ثم خرج إبراهيم باشا من دمشق في ثالث صفر وأخرج معه رؤساء المحلات كالرهينة، وأقام مقامه أحمد بك الدالاتي ونصب القلالق في المحلات، ثم جاء الخبر يوم الثلاثاء في ثاني عشر صفر أنه حصل بينه وبين العسكر السلطاني في حمص قتال نهار السبت تاسع صفر، وأنه قتل منهم نحو خمسة آلاف وأسر نحو أربعة آلاف وفر باقي العسكر والباشوات وكانوا نحو ثلاثين ألفًا، وأخذ مدافعهم وذخائرهم وخيامهم وسائر موجوداتهم، وكان في قلعة حمص جماعة منهم فطلبوا منه الأمان فأمنهم وأنزلهم من القلعة وتسلمها منهم، وبعث إلى متسلم الشام بأن يعلن بالنصر فأمر أهلها بالزينة ثلاثة أيام ثم توجه نهار الثلاثاء ثاني عشر صفر إلى جهة حماه وهرب متسلمها، فأقام فيها متسلمًا رشيد آغا الشملي ثم بلغه الخبر أن حسين باشا سردار وصل إلى حلب وأن الباشوات الهاربين من حمص ذهبوا إلى حلب أيضًا مع عساكرهم، فلحقهم إبراهيم باشا ونزل قبيل حلب بنحو أربع ساعات، فطلب حسين باشا من أهل حلب أن يخرجوا معه لقتال إبراهيم باشا فقالوا له نحن لا نقاتل معك ولا معه بل نحن رعية لمن غلب فإنا نخاف على أنفسنا وعيالنا، فخرج حسين باشا من حلب هاربًا هو وبقية العساكر والباشوات وترك بعض العسكر الذي جاء به وذخائره، فخرج أعيان حلب إلى إبراهيم باشا يستقبلونه وينالون أمانه، فدخلها ليلة الثلاثاء تاسع عشر صفر بلا قتال أصلًا، ثم خرج منها يوم الأربعاء السابع والعشرين من صفر إلى أنطاكية وعينتاب واللاذقية، وورد الخبر نهار السبت سابع ربيع الأول أنه استولى على حصن اسكندرونة وعلى حصن بانياس وبيلان، وكان فيه حسين باشا وحصلت مقتلة عظيمة، ثم هرب حسين باشا ومن معه من الوزراء والعساكر الكثيرة، وقد شاع أنها مائة وخمسون ألفًا، وترك جميع مهماته ومدافعه وذخائره، ثم سار إبراهيم باشا بعد ذلك إلى أدنه وقد دخلها من غير قتال في غرة ربيع الثاني وأقام بها شهرًا، ثم حاصر بركله ومن فيها من العساكر السلطانية ودخلها في غرة جمادى الأولى بعد قتال رشيد باشا، وفي آخر جمادى الثانية قدم إلى دمشق رشيد بك أميرًا عليها من قبل محمد علي باشا، وفوض إليه النظر في أمر بلاد الساحل والقدس وغزة والشام وحلب، ثم جاء الخبر في خامس رجب أن إبراهيم باشا دخل إلى قونية وكان فيها أربعة عشر وزيرًا، فلما سمعوا بوصوله هربوا ودخلها بلا حرب ولا قتال، وجاء الأمر إلى دمشق بالزينة وضرب المدافع ثلاثة أيام في كل يوم ستين مدفعًان ثم جاء الخبر في آخر شعبان أن الوزير الأعظم جاء إلى قريب من قونية، فخرج إليه إبراهيم باشا وأسره وفرق جمعه وأسر من عساكره نحو سبعة آلاف، وأرسل إلى مركز سورية دمشق الشام بعمل الزينة ثلاثة أيام ليلًا ونهارًا مع ضرب المدافع وإظهار دواعي السرور والحبور، وقد نظم أمين أفندي الجندي الشاعر هذه القصيدة مادحًا إبراهيم باشا ومتعرضًا بها لهذه الوقائع التي تقدم ذكرها، وكان بنظمها كما قيل: مكره أخاك لا بطل. ذهبوا إلى حمص وهم الباشا والقاضي والداراني ورؤساء المغاربة والأكراد أبوا الرجوع واستقاموا مع بشاوات العساكر السلطانية،
1 / 19
وأما الذين ذهبوا إلى القريتين وهم المفتي والنقيب ورشيد آغا وكيلا راميني فإنهم رجعوا إلى دمشق، ثم عزم إبراهيم باشا على قتال الذين في حمص فشرع في جمع الذخائر والعساكر، وورد إليه من مصر عسكر كثير من النظام والأعراب وغيرهم، واجتمع عند عباس باشا أيضًا في بعلبك جموع كثيرة، ثم خرج إبراهيم باشا من دمشق في ثالث صفر وأخرج معه رؤساء المحلات كالرهينة، وأقام مقامه أحمد بك الدالاتي ونصب القلالق في المحلات، ثم جاء الخبر يوم الثلاثاء في ثاني عشر صفر أنه حصل بينه وبين العسكر السلطاني في حمص قتال نهار السبت تاسع صفر، وأنه قتل منهم نحو خمسة آلاف وأسر نحو أربعة آلاف وفر باقي العسكر والباشوات وكانوا نحو ثلاثين ألفًا، وأخذ مدافعهم وذخائرهم وخيامهم وسائر موجوداتهم، وكان في قلعة حمص جماعة منهم فطلبوا منه الأمان فأمنهم وأنزلهم من القلعة وتسلمها منهم، وبعث إلى متسلم الشام بأن يعلن بالنصر فأمر أهلها بالزينة ثلاثة أيام ثم توجه نهار الثلاثاء ثاني عشر صفر إلى جهة حماه وهرب متسلمها، فأقام فيها متسلمًا رشيد آغا الشملي ثم بلغه الخبر أن حسين باشا سردار وصل إلى حلب وأن الباشوات الهاربين من حمص ذهبوا إلى حلب أيضًا مع عساكرهم، فلحقهم إبراهيم باشا ونزل قبيل حلب بنحو أربع ساعات، فطلب حسين باشا من أهل حلب أن يخرجوا معه لقتال إبراهيم باشا فقالوا له نحن لا نقاتل معك ولا معه بل نحن رعية لمن غلب فإنا نخاف على أنفسنا وعيالنا، فخرج حسين باشا من حلب هاربًا هو وبقية العساكر والباشوات وترك بعض العسكر الذي جاء به وذخائره، فخرج أعيان حلب إلى إبراهيم باشا يستقبلونه وينالون أمانه، فدخلها ليلة الثلاثاء تاسع عشر صفر بلا قتال أصلًا، ثم خرج منها يوم الأربعاء السابع والعشرين من صفر إلى أنطاكية وعينتاب واللاذقية، وورد الخبر نهار السبت سابع ربيع الأول أنه استولى على حصن اسكندرونة وعلى حصن بانياس وبيلان، وكان فيه حسين باشا وحصلت مقتلة عظيمة، ثم
1 / 20
هرب حسين باشا ومن معه من الوزراء والعساكر الكثيرة، وقد شاع أنها مائة وخمسون ألفًا، وترك جميع مهماته ومدافعه وذخائره، ثم سار إبراهيم باشا بعد ذلك إلى أدنه وقد دخلها من غير قتال في غرة ربيع الثاني وأقام بها شهرًا، ثم حاصر بركله ومن فيها من العساكر السلطانية ودخلها في غرة جمادى الأولى بعد قتال رشيد باشا، وفي آخر جمادى الثانية قدم إلى دمشق رشيد بك أميرًا عليها من قبل محمد علي باشا، وفوض إليه النظر في أمر بلاد الساحل والقدس وغزة والشام وحلب، ثم جاء الخبر في خامس رجب أن إبراهيم باشا دخل إلى قونية وكان فيها أربعة عشر وزيرًا، فلما سمعوا بوصوله هربوا ودخلها بلا حرب ولا قتال، وجاء الأمر إلى دمشق بالزينة وضرب المدافع ثلاثة أيام في كل يوم ستين مدفعًان ثم جاء الخبر في آخر شعبان أن الوزير الأعظم جاء إلى قريب من قونية، فخرج إليه إبراهيم باشا وأسره وفرق جمعه وأسر من عساكره نحو سبعة آلاف، وأرسل إلى مركز سورية دمشق الشام بعمل الزينة ثلاثة أيام ليلًا ونهارًا مع ضرب المدافع وإظهار دواعي السرور والحبور، وقد نظم أمين أفندي الجندي الشاعر هذه القصيدة مادحًا إبراهيم باشا ومتعرضًا بها لهذه الوقائع التي تقدم ذكرها، وكان بنظمها كما قيل: مكره أخاك لا بطل.
نحن الأسود الكاسره ... نحن السيوف الباتره
من أرض مصر القاهره ... سرنا وقد نلنا المنا
بارودنا شراره ... تشوي الوجوه ناره
وعزمنا بتاره ... من العدا أمكننا
نحن بنو الحرب فلا ... نخشى غبارًا إن علا
ولم نضق عند البلا ... صدرًا إذا الموت دنا
بالروح جدنا كي نقيل ... لمصرنا الفخر الجميل
ونبتغي الفضل الجزيل ... فعلًا يعز الوطنا
1 / 21
عاداتنا أخذ الرجال ... بالبيض والسمر العوال
ونارنا بالاشتعال ... لهيبها يبدي السنا
جهادنا لا ينكر ... في كل قطر يذكر
وسيفنا إذ يشهر ... للنصر يبدي معلنا
اما العلا تقديمها ... مستوجبًا تعظيمها
الشاه إبراهيمها ... أدامه المولى لنا
أبو خليل في الحروب ... لا زال كشاف الكروب
وحين يدعى للركوب ... بالبيض يغزو والقنا
لما غزونا عكة ... بالطوب دكت دكتا
وللأعادي بكتا ... هجومنا واخذنا
صبحًا علونا سورها ... وقد هدمنا دورها
أما ترى قصورها ... قد حلها هدم البنا
فزنا بفتح الطائلي ... للقدس والسواحل
والشام يا ذا الكاملي ... والله قد أعزنا
ويوم حمص لو ترى ... على العداة ما جرى
وقد علا فوق الثرى ... صرعى يقاسون الضنا
هناك أضحوا هالكين ... وفي دماهم غارقين
وانحل عقد الظالمين ... وحل للباغي العنا
ولحماة مع حلب ... سرنا وجدينا الطلب
ولم نجد ممن هرب ... إلا طريحًا بالضنا
وعند بيلان سمت ... وقائع قد عظمت
وللبغاز اقتحمت ... فرساننا وأسدنا
لما بهم غنى الحمام ... خلوا المهمات الجسام
وكل ما تحوي الخيام ... غنيمة أضحت لنا
1 / 22