বুদ্ধির স্বপ্ন: গ্রিক যুগ থেকে রেনেসাঁ পর্যন্ত দর্শনের ইতিহাস
حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة
জনগুলি
وليست أقوال هرقليطس محيرة ومربكة بهذه الدرجة، بيد أن ثمة شكلا من أشكال التناقض تقريبا في الأجزاء المائة والثلاثين التي قدر لها البقاء من كتابه. وقد قال أحد المعلقين على كتابات هرقليطس عن أحد تلك الأجزاء الذي جاء مباشرا لا غموض فيه ولا التباس: «إن خلو هذا النص من أي شكل من أشكال الإبهام يلقي بظلال الشك على مدى صحته.»
ولا يعني هذا أن هرقليطس كان يتعمد أن يحيك ألغازا لا مغزى لها ولا هدف من ورائها، فكتاباته على مجملها لا تسبب لنا الضيق أو التبرم بقدر ما تصيبنا بشيء من الإثارة والتشوق؛ لأن هناك غالبا شيئا جديدا يسعى إلى الإفصاح عنه. كما أن ثمة مغزى وهدفا من وراء أسلوبه الغامض، فقد قال: «إن الطبيعة تؤثر الخفاء وتحبه.» وهو ما يعني أن الأمور ليست في باطنها كما يبدو ظاهرها، بل إن حقيقة الأمور في رأي هرقليطس تكون دائما على عكس ما تتبدى لنا. ولا تمثل بعض ألغازه التي يبدو فيها التناقض واضحا للعيان إلا طريقته الخاصة في التعبير عن هذه الحقيقة. وقد صوب أرسطو في رسالته عن البلاغة سهام النقد إلى التراكيب اللغوية الغامضة التي يستخدمها هرقليطس، ولو قدر لهرقليطس أن يرد عليه لأجابه أن العالم نفسه هو الذي يعتريه الغموض. وبذلك نجد ترابطا شديدا بين الشكل والمضمون عند هرقليطس؛ فالطبيعة ذاتها هي منبع الألغاز، وهي حقيقة استخدمها فيما حاكه من ألغاز بهدف الشرح والتوضيح. •••
ولم يكن هرقليطس كأي من سابقيه، فالاهتمامات التي شغلته والمواقف التي تبناها جعلته بمنأى عن أهل ملطية وأتباع فيثاغورس؛ فعلى عكس فيثاغورس، الذي سماه «أمير الدجالين»، لم ينشئ هرقليطس مدرسة من أي نوع طيلة فترة حياته، بل إنه لم يتبع أيا من المدارس التي كانت قائمة آنذاك. والحقيقة التي لا خلاف عليها أنه كان متكبرا ومزدريا لمن حوله، وهو ما قد يساعدنا على فهم السر وراء غموض أسلوبه. وربما أحب أن يظن أنه يعبر عن حكمته كما كان يفعل الوسطاء الروحيون في دلفي كانوا كما قال: «لا يفصحون ولا يبهمون ولكن يعطون إشارة.» ويقال إنه وضع النسخة الوحيدة من كتابه في أحد المعابد لتكون بمنأى عن أيدي العامة والرعاع، وقد حدث ذلك في وقت ما في أوائل القرن الخامس قبل الميلاد بعد وفاة فيثاغورس بفترة قصيرة في مدينة أفسس (التي تقع على بعد بضع وثلاثين ميلا شمال مدينة ملطية) حيث كان هرقليطس أحد أعضاء الأسرة المالكة الممتدة.
هرقليطس.
وعلى الرغم من قربه من موطن علماء الطبيعة الأوائل كانت دوافع هرقليطس تختلف عن دوافع طاليس وأناكسيماندر وأناكسيمينس اختلافا كبيرا. ولا يسعنا أن ننكر أنه اتبع طريقتهم في الحديث عن العناصر المادية التي أقر أنها تتغير وتتبدل بفعل العمليات اليومية. وهو في هذا كان أقرب إلى منهج الملطيين منه إلى منهج الفيثاغوريين؛ حيث يبدو أنه لم ترقه فكرة الاعتماد على الأرقام ودورها في تفسير الطبيعة، كما أن قواعد الفيزياء والفلك المتخبطة التي اعتمد عليها الملطيون لم تكن ليكتفى بها، فلم يساهم في هذه المواضيع أو غيرها من العلوم بشيء يذكر. ويبدو أيضا أنه لم يؤمن بما قاله الملطيون عن أن الكون نشأ كله من مادة واحدة وخلق في لحظة واحدة، بل كان يؤمن بأزلية وجود الكون؛ وبذلك فهو لم يبحث قط عن أصل الأشياء إذ لم يعتقد يوما أن ثمة أصلا لها، واستعاض عن ذلك بقوله: «أنا خرجت للبحث عن نفسي.»
لم يقل أحد من الملطيين بذلك الكلام من قبل؛ فقد كان البحث في العالم الخارجي شغلهم الشاغل حتى لم يجدوا متسعا من الوقت والجهد والاهتمام للنظر فيما في داخل أنفسهم. أما هرقليطس فقد شغل نفسه بالبحث في العالمين، وحيث إنه كان يؤمن أن المبادئ التي تحكم العالمين تنبع من مشكاة واحدة فقد رأى أن البحث عن سر العالم الأول لا يكون إلا عن طريق البحث في العالم الآخر، وهذا ما دعا البعض إلى اعتبار هرقليطس عالم النفس الأول في البشرية، فربما كان المفكر الأول الذي بحث في النفس البشرية ليس من المنظور التقليدي للنفس على أنها نفحة سماوية بثت الحياة في الجسد فحسب، بل على أنها تلعب دورا في عملية التفكير والإدراك لدى الإنسان. وقد كان هرقليطس على دراية فائقة بمدى غموض هذه النفس المفكرة فقال: «لن تتمكن من اكتشاف حدود هذه النفس مهما أمعنت في البحث.» ولذلك شرع في رحلته الاستكشافية داخل النفس البشرية مستخدما أسلوب الاستبطان لوصف بعض ما يعتلج في أعماق النفس الداخلية، فنجده يتحدث عن الأحلام والمشاعر والشخصية (وقد قال في شأن الشخصية: «إن شخصية المرء هي قدره»).
ولا يعني هذا التحول إلى النموذج الاستبطاني أنه تخلى عن طريقته الموضوعية في البحث التي تميز بها علماء الطبيعة عن علماء اللاهوت صناع الأساطير. فهو لم يهتم بالنفس الداخلية دون الظواهر الخارجية؛ حيث شدد على أهمية الدلائل التي نتلقاها عن طريق الحواس (فقال: إن كل ما نستقبله من البصر أو السمع أو ما نتعلمه من خلال التجارب يندرج في قائمة اهتماماتي). وكل ما يسوقه من أمثلة وأوصاف توضيحية تدعم كلامه تجعلنا نضعه في معسكر المفكرين العقلانيين بدلا من إدراجه مع زمرة الشعراء المبدعين، بل إنه يحذر صراحة من الثقة في شهادة الشعراء لا سيما عند الحديث عن «الأشياء المجهولة».
ولم يكن البحث الدقيق في العوالم الداخلية والخارجية هو كل ما في الأمر بالنسبة لهرقليطس؛ فهو يرى أننا لا يمكننا أن نعول على ما ندركه عن طريق الحواس أو بأي شكل آخر ما لم يكن لدى المرء فهم صحيح للمبادئ التي تحكم الطبيعة والتي يشير إليها هرقليطس ب «المبادئ» أو «النظريات» أو «الصيغ» التي تحكم الأشياء. وقد وصل ما قدمه فيثاغورس من علم إلى طريق مسدود لأنه لم يحطه ب «المبادئ» الصحيحة فقد كان علمه «علما غزيرا، ولكنه كان كالسراب الخادع.» ويبدو أن الجميع عدا هرقليطس قد ضلوا ضلالا بعيدا حيث قال هرقليطس: «إن الناس قد خدعوا في التعرف على كل ما يظهر لهم، تماما مثل هوميروس الذي كان أكثر اليونانيين حكمة.» وفي بعض كتاباته يشبه هرقليطس الناس بالبهائم والسكارى والنائمين والأطفال (موضحا أن أفكارهم تشبه دماهم)؛ ذلك أنهم جميعا لا يطبقون «المبادئ» الحقيقية التي يقول عنها: «إن الناس يفشلون دائما في فهمها سواء قبل سماعها أو حتى حال نفاذها إلى آذانهم.»
إذن ما هو هذا الذي استطاع هرقليطس رؤيته وإدراكه وعجز الجميع عن الوصول إليه؟ للأسف بعد كل هذه الضجة وهذا اللغط من المحبط أن نتوصل إلى أن هرقليطس لم يكن لديه سر واحد أو أمر عظيم يمكن تلخيصه بسهولة في عبارة موجزة، وبدلا من ذلك خلط مجموعة من الأسرار ذات الصلة والتي يمكن تلخيصها في شعارين اثنين. أول هذين الشعارين هو فكرة الصراع والكفاح التي يدور كل شيء في الكون في فلكها، وهذا يتضح في قوله: «إن الأشياء جميعها تنشأ بفعل الصراع بينها.» وهذا يعني أن خلف حالة الانسجام والتناغم التي تظهر عليها الأشياء يتغير كل شيء بشكل مستمر ولا يثبت على حال أبدا؛ إذ توجد حالة من الصراع بين الأضداد وحرب ضروس تدور بينها جميعا، إلا أن هذه الأضداد هي الشيء نفسه في الوقت ذاته، وهذا هو الشعار الثاني لديه، فكما يقول: «إن الأشياء كلها واحدة.» وهذه الحقيقة المزدوجة هي ثمرة رحلة البحث عن نفسه التي قادها بنفسه. ولا عجب إذن في أنه وجد التعبير عن هذه الحقيقة بشكل مبسط يعد ضربا من المستحيل.
ويرى هرقليطس أن هذه الأفكار عن الصراع والتغيير ووحدة الأشياء ليست سوى جزء من صورة واحدة، وأن هذه الأفكار مستقاة جزئيا مما صادفه في رحلته الاستبطانية ومن خلال ملاحظاته للطبيعة كذلك. ولكي نتمكن من فهم المشهد الذي يرسمه من الأفضل لنا أن نقسم هذه الصورة إلى أجزاء عدة ونتناول كلا منها على حدة. ولنبدأ بفكرته حول «التغير المستمر» ثم بعد ذلك فكرة الصراع (والدور المحوري الذي تلعبه النار فيها)، ثم ما يقوله بشأن الأضداد وكيف أنها تعتبر الشيء نفسه، ثم نحاول في النهاية تركيب الصورة ووضع هذه الأجزاء جنبا إلى جنب.
অজানা পৃষ্ঠা