قال الوزير فتاحوتب، وزير مصر وحاكم المدينة، وقاضي القضاة للملك إيسوسي: «اعلم يا مولاي، أن سراج حياتي أوشك أن ينطفئ؛ فأخذ الفناء يدب في جسدي دبيب الشيب في الرأس، وتمكن الضعف من بدني تمكن القنوط من النفس، فعادت نضرتي ذبولا، وغضاضتي محولا، وجسامتي نحولا، وقل الخير والنفع، وذهب البصر والسمع، وعقد اللسان بعد أن ختم على الجنان؛ فلا قول نافع، ولا برهان قاطع، ولا ذهن يعي، ولا بيان شافع يعيد ما مضى من عهد الفتى الألمعي.
فاسمح يا مولاي، لخادمك وعبد رحمتك وصنيع نعمتك أن يخلي منصبه لولده من بعده، ومرني أن أعلمه ما علمتنيه حنكة الشيوخ؛ فقد قيل: إنهم مهبط الوحي ومسقط الحكمة. عفا الله عنك، وأرشد بك شعبك، وهداه بهديك.»
فأجاب الأمير النبيل والملك الجليل إيسوسي، صاحب مصر السفلى: «أذنت لك أن تعلم ابنك الحكمة؛ فلعله يجيء فذا بين الأولاد، موفقا إلى سبل الرشاد، فيكون قدوة لأمثاله، يسيرون على نهجه، ويختطون خطته، ويختارون حكمته، فيهتدون في تقويم اعوجاجهم بهداه، ويسترشدون في إصلاح ما فسد من شئونهم بصلاحه وتقاه.»
فكتب فتاحوتب، وزير مصر وحاكم المدينة وقاضي القضاة، لولده يعلمه الحكمة وأدب النفس:
إذا أوتيت العلم فكن متواضعا، وجادل الجاهل بالتي هي أحسن كما تجادل قرنك، واعلم أن الإنسان جاهل مهما اتسع نطاق علمه؛ لأنه ليس للذكاء حد، وليس للفضل والفطنة نهاية، وما ملك أحد ناصية الحكمة، واعلم أن كلمة الحق لدى الحر أثمن من يتيمة الدر.
إذا جادلك حكيم عاقل، وكان أرجح منك فضلا وعلما، وأقوى حجة، وأرسخ قدما، فاخفض له جناح الذل، ولا تعرض عنه إذا خالف رأيه رأيك، واحذر أن تفوه بما يحفظه، وإياك أن تصدمه في حديثه؛ فإذا استكبر وتواضعت رفعت نفسك في نظره، واستللت بلينك من قلبه سخائم الكبر، وربما سكن إليك وأحاطك بما لم تحط به خبرا، وإذا تجادل قرينك وألفيته لا يخرج في القول عن حده، ولا يميل عن الحق إلى ضده؛ فلا تغض عنه؛ فإن الإغضاء يورث الأحقاد، ويغرس بذور العداوات.
وإذا جادلت من هو أقل منك قدرا فلا تسخر منه ولا تحتقر شأنه؛ لفقر فيه أو لضعف طرأ عليه، ولا تلحف عليه بالسؤال فيما لا يعنيك حبا في استطلاع أمره، وإذا أغضبك فلا تصب على رأسه جام سخطك؛ فما ظلم الناس شر ممن هزأ بهم، وما آلمهم شر ممن استكبر نفسه واستصغر نفوسهم، وإن خدعتك نفسك وأغرتك بالشر فاعصها واغلبها على أمرها؛ فإن هذه صفات الأبرار الصالحين.
وإن كنت، يا أيها الولد، زعيما ترشد قوما، أو قائدا تقود شعبا ؛ فكن كريم الأخلاق، حسن الشيم لا تشوب أدبك شائبة، واعلم أن الصدق أعظم النعم، وله حول وطول، ولن يخذل صاحبه، وما كان الباطل ليغلبه؛ إن للباطل جولة لا تبقى أكثر من ساعة، وإن للحق دولة تدوم إلى يوم الساعة، واعلم أن الإذعان للحق فضيلة لا تنكر، وأن الاعتداء عليه ذنب لا يغفر، ولا يعتدي على الحق إلا ذو مطمع دنيء، والطمع في الدنايا مضر بصاحبه في شرفه وماله؛ فهو يقوده إلى الشر، والشر مطية الدمار.
أما من يذعن للحق، ولا يتطلع إلا إلى ما يستطيع نيله بالحق؛ فثوابه عند الله عظيم، واغتباطه بنفسه أعظم؛ لأن الحق ميزان الحياة وأساس العدل، والعدل فضيلة كبرى كامنة في النفوس الخيرة يحث عليها الآباء الصالحون، ويوصي بها الحكماء والنبيون.
لا تكن يا ولدي سببا في إرهاب النفوس بغير حق، وحذار أن تكون نذير السوء؛ فما تحكمت نفس في أخرى بغير حق إلا ولقيت من الله شديد العقاب، واعلم أن الرجال ثلاثة: رجل يدفع بنفسه في تيار الآمال ويترك الحقيقة طوعا، ويتعلق بأهداب الخيال؛ فيكون نصيبه الخزي وعقابه الحرمان، ورجل يدعي لنفسه البطش والقوة، ويحاول أن ينال بهما ما يريد؛ فيسحقه الله بيد من حديد، ورجل يعطي السائل، ويغيث الملهوف، ويولي المعروف، ويواسي الحزين والضعيف؛ فيمده الله بروح من عنده. فكن يا ولدي كذلك الأخير، رقيق القلب رحيما بالمعوزين؛ تكن محبوبا لدى الناس، وعند الله من المقربين.
অজানা পৃষ্ঠা