وهكذا عادت أم طنوس إلى الداخلية لتعبئ بعض المال بعدما ذهب عناؤها أدراج الرياح، ولا أعلم كيف تخزن ريالاتها هذه المرة، ولعلها تركب الكار إذا أرادت أن تنتقل من بلد إلى آخر، محافظة على صحة الريالات.
كما صرنا تصيرونا
لفارس الدوار تاريخ تجاري مملوء بالحوادث؛ فقد أفلس أكثر من مرة، وأحرق محله مرات، ولكن السوريين لا يذكرون عليه شيئا من كل ما تأتى عليه؛ لأنه لم يؤذ بإفلاساته ولا بإحراقاته أحدا من السوريين، فكل الخسائر التي سببها كانت تقع على المتعاملين معه من أميركان وأجانب، ولهذا لم تجر عليه حوادثه حطا بكرامته بين مواطنيه؛ بل بالعكس لا يزال البعض يرمقونه بالاعتبار، وينظرون إليه كرجل فارس تجاري، خاض معامع التجارة فداس الصعوبات بسنابك ذكائه. نعم، وإن الكثيرين لا يزالون يصفونه بالذكي، والرجل الذي يعرف كيف يأكل الكتف. وكل هذا لأنه لم يؤذ أحدهم، بل كان يدفع ما عليه للمواطنين في الحال، أما إذا كان يأكل الديون الطائلة على الأجانب، فمن يهمه الأمر؟
ومن الحوادث التي جرت لفارس الدوار، أنه إذ كان قادما إلى محله باكرا على غير عادته منه لقي به أحد المواطنين الساكنين في الحي القريب من المحل، وللحال مال إليه ذلك المواطن بلهفة وقال له إنه عند الساعة التاسعة من مساء اليوم السابق إذ كان مارا أمام محله لاحظ النار تضطرم في المحل، وللحال استدعى رجال المطافئ فاطفئوا النار وقتلوا الحريق في مهده، فلم تمس البضائع بأذى وظل المحل سالما لصاحبه. قال هذا وقد ظن أنه سينال مكافأة حسنة على فعله إن لم تكن بالهدية فبالكلام على الأقل، إلا أن فارس الدوار لدى سماعه ذلك الخبر أخذ العرق يتصبب منه كماء القرب، وقد شعر أنه نقص وزنا لا أقل من خمسة بوندات، ولما أجاب ذلك المواطن على خبره قال له: «ويحك، لقد خربت بيتي!» ثم أتبع كلامه بضربة على جبينه، وكاد يقع كمن خارت قواه. أما المخبر فقد لاحظ أنه لم يأت عملا يرضي فارسا، فمال عنه كاسف البال كالصياد المستعين بالناس ليسحبوا معه شبكته الثقيلة، ولما يلقيها على الشط يرى حجرا فيها بدلا من السمك.
وقد كان دائما يقول في مجتمعاته مع مواطنيه السوريين إن السوري مقتول نجاحه؛ لأنه يرتجي النجاح من معاملاته مع السوري، وإن المعاملة مع الأميركان أفيد وأغزر نجاحا.
قضى فارس الدوار سنواته الأولى في عالم التجارة يأمل الربح من الشركات الكبيرة بضمانة المحال من الحرائق، إلا أنه في المرة الثالثة لم «يطابق حساب القرايا على حساب السرايا»؛ فإنه كاد يخسر كل ماله وحياته إذ أنفق ألوف ريالاته على المداعاة، وأخيرا انسحب بوسائط غانما نفسه؛ إذ كاد يزج في السجن، ولولا لطف الله لوقع بشر أعماله؛ ولهذا مال بعد تلك السنين إلى اكتساب الربح من وراء الإفلاسات والتسويات.
وفي هذه السنوات كان المحل الذي أنشأه مسجلا باسم ابنته الصغيرة، والمنزل باسم الأم احتراسا من مقدور يحل به، وما أكثر ما كان يخبئه القدر لفارس الدوار في حياته التجارية!
ومن حكايات إفلاساته، أنه في السنة الأخيرة لشغله كان محله أشبه بالمصرف؛ فقد خلا من كل بضاعة ولم يبق فيه إلا الدفاتر، وكان هو مع الكاتب والمستخدم يصرفون ساعات النهار بالتقييد والإمضاء والذهاب إلى البنوك وكسب تواقيع الجيران والأولاد والبنات وأسماء كثيرة لا أصل لوجود أرباب لها لكي تحسم سنداته في المصارف.
وفي تلك السنة ظهر لفارس الدوار إعلان في الجرائد العربية أن محله حاضر لقبول الأمانات المالية التي يدفع عليها فوائد جيدة، ويظهر أنه «كبر البلعة» لصاحب تلك الجريدة، فعقد له فصلا في باب التحرير جاء فيه: إن الثقة بمحل فارس الدوار كبيرة، وأن المواطنين يقبلون زرافات ووحدانا إلى محله ليستودعوه أموالهم، إلى ما هنالك من الكتابات المأجورة.
وقد انتهى أمر المذكور بأنه فلس آخر مرة، وأخذ بجريرة التزوير في اليوم التالي لصدور ذلك العدد من الجريدة، وقد خرج تحت كفالة مالية بمساعدة امرأته، وأنفق على دعاويه في هذا الشأن ألوفا من الريالات، وهو اليوم يشتغل سمسارا، يشتري لتجار الداخلية بمقابل معلوم من المشتري والبائع كل بسر الثاني.
অজানা পৃষ্ঠা