أما نصر فلما جاءه الجواب لم يصدق - بادئ ذي بدء - أن الكتاب له، فقرأه أولا وسمع المتصرف يهذ بحمده، ويكيل له عبارات الثناء على كرمه ووطنيته، ثم قرأه ثانية وعيناه تكادان تتفجران تبحرا في عبارات الكاتب، ثم قرأ الظرف ذهابا وإيابا وعيناه لا ترفان، وقد قرأه أكثر من عشر مرات متوالية، حتى كبرت أمامه كلمة «بيك» إلى درجة أن كاد الظرف لا يسعها.
بك! نصر بك البيطار! بك! بك!
وقد ظل المسكين زهاء ساعة، تارة يقرأ رسالة المتصرف، وطورا يقرأ الظرف، وهو بين مصدق وغير مصدق، أهو يا ترى نصر بك البيطار، وإذا لم يكن هو فمن؟! هو نفسه.
وأخيرا، عاد إلى المسكين رشده فأيقن أنه هو نفسه نصر بك البيطار، وأن كلمة «بك» جاءته لقبا من دولة المتصرف، جزاء له على خدمته للوطن. ثم عاودته الفكرة فساءل نفسه: «أهي غلطة يا ترى من المتصرف؟ وهل يغلط المتصرف؟»
لا، لا، ليس بالمسألة غلط البتة، فالمتصرف أنعم عليه باللقب والأمر لا يحتاج إلى برهان ولا إلى شاهد حال؛ فما كتب بالحبر على الورق لا سبيل إلى التردد في تفسيره، المسألة واضحة؛ فإن الخط خط المتصرف بيده - نصر بك البيطار - لا حاجة إلى بيان وكفى.
ولم يمض ذلك النهار حتى عرف أكثر الذين يعرفهم أنه صار بيكا، فصار منزله مقصد المهنئين، ثم وصل الخبر إلى الجرائد فنشرته وذيلت الخبر بالتهنئة أيضا، وأن اللقب صادف ربه عن كل جدارة واستحقاق.
أما مالية نصر بك البيطار فلم تجتز خمسة آلاف ريال في حين حلت عليه بكوية المتصرف، وقد كان كما ألمعنا ينتظر وصولها إلى عشرة آلاف ليصير تاجرا، ولكن البكوية وحمل الجزدان لا يتفقان؛ ولهذا فبالرغم عن قلة رأس المال اضطر المسكين أن يفتح تجارة بين التجار، ثم إنه كتب إلى أهله في القرية يعلمهم بالخبر المفرح، وهناك عيد أهله عيدا عظيما، محتفلين ببكوية ابنهم نصر، وشاركهم بذلك الفرح أهل القرية، وقد أنفقوا من البارود ما يبلغ ثمنه خمسين ليرة بذلك الاحتفال.
مضى على تجارة نصر بك زهاء السنة، وقد كادت تبلع خسائره رأس ماله، لأن أكثر زبائنه عرفوا موطن الضعف فيه، فكان واحدهم إذا أراد استزادته بالدين لقبه بالبيك، وإذا أحب استنزاله بالسعر تملقه بعبارة «يا سعادة البيك»، فما كان من البيك أو سعادته يرى إلا الانصياع لإرادة زبنه الكرام؛ حتى أدى به الأمر إلى الخسارة، وفي نهاية السنة صفى أشغاله ووطن النية على العودة إلى الجزدان لئلا يحدث إفلاس بشغله، فيصير مضغة الأفواه، وهذا عار على ملقب مثله.
وقد كان لنصر بك كاتب يمسك دفاتره، وكان هذا شابا ذكيا يحتقر سيده لبكويته، وكثيرا ما اختصم الاثنان بشأنها؛ لأن الكاتب لم يناد نصرا ملقبا بالبيك إلا بعد تهديد بالطرد، ولكنه في آخر أيامه عنده ككاتب صار يكثر من تلقيبه بالبك على سبيل الفكاهة، فكان يناديه ضاحكا، وهذا مما كان يغضب نصرا، ولكنه كان يغضي عن ذلك لعلمه أن أيامه معدودة، فإقفال المحل سيكون في آخر الشهر، وحينذاك يفارقه ويتخلص منه.
في آخر أيام لتجارة نصر بك اجتمعت بكاتبه، فأنباني أن محل بيطار بك قد أقفل، فهززت رأسي تأسفا على خسارته، وقلت للكاتب إن تجارة ذلك المسكين لم يكن لها محل من الإعراب. فأجابني وهو يبتسم وقال: «الحق ليس عليه، بل على المتصرف في لبنان.» فقلت: ما دخل المتصرف بذلك؟ فأجاب وقال: «إنه غلط ولقبه بالبيك، فدخل التجارة ليعلي مقامه فانتهى أمره بالخسارة، وهذا كل ما كان.»
অজানা পৃষ্ঠা