وانقضى ذلك النهار وأنا كالمأخوذ، فكلما فطنت لما حدث أمامي أضحك لنفسي كالمأخوذ، ولا أزال كذلك إلى هذا اليوم.
والمستر جورج يحفظ كثيرا من الأمثال التي يدعم بها أحاديثه، وكثيرا ما يعزو حوادث خطيرة لنفسه، كأنها حدثت له وهي في بطون التاريخ القديمة، يسمع بها فتلذ له، فإذا جاءها دور يناسب المقام الذي يكون فيه يسرد قصتها، جاعلا نفسه بطلها.
وهو يعتقد بذكاء السوري المفرط ودائما يتأسف لكون السوريين غير متعلمين، وإلا لفاقوا على كل الأمم بذكائهم. ومن أمثلته على ذلك أنه استطاع أن ينجح في بلاد غريبة كان يجهل لغة أهلها، وقد جاء إلى أميركا بساعده وحده، فداس الصعوبات الكثيرة وتغلب على المعاكسات، فنال حظا وافرا من الثروة. أما تأسفه الشديد، فلأنه دخل ميدان أميركا خلوا من العلم، فلو أنه كان عالما لكانت ثروته أضعاف ما هي عليه اليوم.
وكثيرا ما ينظر إلى المتعلمين من السوريين فيرى معظمهم معدمين، فيهز رأسه أسفا لما ضيعوه من الحظوظ مع أنهم حاصلون على الأساس الذي يستطيعون أن يبنوا عليه التقدم العظيم في عالم التجارة.
قال: يأتي السوري المتعلم إلى أميركا فيتأفف من كل مهنة، لا يرضى يبيع بالكشة ولا بالجزدان، وإذا اشتغل في محل لا يكاد مقعده يسخن تحته حتى يترك المحل هازئا بأصحابه.
وقد حدث بهذا الرجل حادث أدى إلى نفوره من كاتب في محله؛ وذلك أنه جاء يوما إلى الكاتب فنصح له أن يهين نفسه إذا كان يريد الصعود إلى قمة النجاح، وأعطاه مثالا على ذلك نفسه، فقال له إنه لو لم يحمل الكشة سنوات على ظهره كالحمار، ويقطع الأميال كل يوم مشيا على قدميه لما حصل على مركزه التجاري، ولما كان يشتغل في محله كثير من الناس المتعلمين كالكاتب المنصوح له. ثم زاد على ذلك أنه لو كان مثل الكاتب متعلما، وجاء إلى أميركا لكان بلا شك بمصاف أغنياء شارع «وول». أما الكاتب وقد كان خريج كلية يشتغل عند المستر جورج ليرى له بابا لمستقبله، ولم يكن يرى ذلك الباب مفتوحا في خلال عشر سنوات، فأجابه: «ولكن، أقسم لك يا مستر جورج، إنه لو جئت حضرتك إلى أميركا متعلما مثلي لكنت كما أنا تشتغل لغيرك من الذين جاءوا إلى أميركا لا علم ولا معرفة، فلم يبالوا بحمل الأثقال على ظهورهم وصعدوا سلم النجاح درجة درجة حتى وصلوا إلى أوج مقامهم.» أولئك لو كانوا متعلمين لاكتفوا بعلمهم، وأنفوا من الأشغال الأولية التي لا يأنف منها من كان مثل حضرته. وقد قال له أيضا إنه يجب أن يشكر الله لكونه ليس متعلما، وإلا لما كان غنيا كما هو اليوم.
وقد انتهت تلك المحادثة عن طرد المستر جورج لكاتبه؛ لأن هذا قال له أخيرا: هذه سنة الله في خلقه، لنا علم، وللجهال مال.
عارف الجميع
لعزيز سيار ميزة عن باقي البشر؛ فهو يعرف كل من يراه، فإذا رآك حياك وسلم عليك، وسألك عن صحة أفراد العائلة، ويحكي لك قصة عن المرحوم جدك الذي تعرف عليه في الشام مثلا، وأن المرحوم أباك كان من أعز أصدقائه.
عزيز سيار هذا مخلوق عجيب، وبالأخص بتواريخه التي يفصلها عن حياة هذا وحياة ذاك، وكثيرون لأول وهلة ينصاعون إلى حديثه لتصديقهم أقواله عن معرفته بالمرحوم فلان، وصداقته القديمة لهذا ولذاك، ومواصلته فلانا وآخر.
অজানা পৃষ্ঠা